فصل ثم نقول لهم: إذا قرأ القارئ القرآن وحصل له الثواب، أحصل له الثواب على فعل فعله أو على غير فعل ؟ فإن قالوا: على غير فعل فعله وجب أن يكون هذا الثواب يحصل للساكت كما حصل للقارئ، وهذا لا يقوله عاقل. وإن قالوا: على فعل فعله، صح أن الذي فعل القراءة، أو السماع إلى القراءة، والمقروء المتلو الذي هو كلام الله ليس بفعل لأحد، وكذلك المسموع ليس بفعل لأحد؛ فصح الفرق بين الأمرين فافهم.
وأيضا فإنه يجوز إذا أعرب القارئ القراءة، ومكن ما يجب تمكينه، ووقف فيما يجب الوقوف عليه، وبدأ بما يجوز البداءة به، وقطع ما يجوز القطع عليه، ووصل ما يجوز وصله، فجائز أن يقال فلان حسن القراءة، جيد القراءة، وإذا كان بالعكس من ذلك جاز أن يقال: فلان ليس بحسن القراءة ولا جيد القراءة، ولا يجوز أن يقال المقروء غير حسن ولا جيد، بل المقروء حسن، سواء كانت القراءة حسنة أو غير حسنة فافهم الفرق بين الأمرين.
ثم نقول لهم خبرونا: أليس الله تعالى فرض علينا القراءة في الصلاة ؟ فإذا قالوا: بلى. قلنا: أفرض علينا شيئا نفعله أو غير شيء نفعله ؟ فإن قالوا: فرض علينا شيئا نفعله. قلنا: وما هو هذا الشيء ؟ فلا بد أن يقولوا: القراءة. قلنا فقد صح أن القرآن موجود قبل القارئ له وقراءته في الصلاة، ثم أمره تعالى بأن يقرأ: أي يفعل فعلا يسمى قراءة ففعل العبد صفة العبد لا صفة الرب، هذا بمنزلة قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله " أليس المذكور غير الذكر الذي هو فعل الذاكر المأمور بفعله، فكذلك القراءة فعل القارئ والمقروء القرآن، ثم نقول لهم أليس كلام الله تعالى موجود بوجوده، قديم بقدمه قبل أن يخلق خلقا، فلا بد من نعم. فنقول: فهل يصح وجود القراءة من القارئ قبل وجوده ؟ فلا بد من لا. فنقول ما كان موجودا قبل القارئ فهو القرآن الذي هو كلام الله، وما وجد من القارئ بعد أمره بالقراءة فهو فعله لا محالة، وهذا قدر لا يخفى على بشر سليم العقل.
فإن احتجوا على أن الكلام القديم يوصف بالصوت والحرف، بقوله تعالى: " حتى يسمع كلام الله " قالوا والذي يسمع إنما هو صوت وحرف، وقد نسبه إليه، فدل على أنه متكلم بصوت وحرف. فالجواب من وجهين: أحدهما: أن يقال لهم: ما أنكرتم أن تكون هذه الآية حجة عليكم، وذلك أن كل عاقل يقول: إن المشرك لا يسمع كلام الله بلا واسطة، وهي قراءة القارئ، فلا بد من وجود القراءة التي هي حروف وأصوات، فيحصل لهذا المشرك السماع حينئذ لكلامه تعالى، فحصل معنا عند ذلك مسمع اسمع كلام الله بإسماع أوجده، وهي قراءته التي هي حروف وأصوات، ومسموع وهو كلام الله تعالى الذي لا يجوز أن يكون حروفا وأصواتا، لأن الحروف والأصوات يتقدم بعضها على بعض، وصار هذا بمنزلة من أسمعنا الله بذكره، بأن قال: يا ألله. قلنا: حصل معنا مسمع وهو الذاكر، وإسماع أسمعنا به المسموع، وهو المذكور، فالإسماع يقع بحروف وأصوات، فيجوز لكل أن يقول: إن الله المذكور هو حروف وأصوات.
الجواب الثاني: أن المراد بهذه الآية ما هو سماع الحروف والأصوات، إنما المراد بهذه الآية: حتى يتدبر كلام الله ويفهم ما فيه. لعله يرجع عن شركه ويهتدي، فالحروف والأصوات لا تهدي، إنما الذي يهدي هو القرآن الذي هو كلام الله تعالى. دليله: قوله تعالى: " إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم " .
جواب ثالث: وهو أن يقال لهم: إذا كان الكلام القديم أصواتا وحروفا.
والكلام المخلوق الذي من الشعر والخطب أصواتا وحروفا، فقد صار الكلام القديم كالكلام المخلوق، وهذا القول يوجب أن يكون كل كلام قديم أو محدث سواء لأن الحرف والصوت في قول القائل إذ أخبر عن قول اللعين فرعون: " أنا ربكم الأعلى " فاعبدون، فصورة الحروف في قول فرعون أنا ربكم، كصورتها في قراءة القارئ " وأنا ربكم فاعبدون " ، فصح أن الحروف والأصوات ليست كلام فرعون، ولا الرب تعالى، فالحرف والصوت يعبر به عن كلام فرعون، ويقرأ به كلام الله تعالى، فصح، أن الحرف والصوت أداة يقرأ بها الكلام القديم، لا أن الحرف والصوت نفس الكلام القديم.
Sayfa 45