الذين يُعيِّنُهمُ الإمامُ في الاستنِفار، وإذا لم يكن شيءٌ من ذلك فهو على أصل الكفاية، ولا نَسْخَ على هذا في شيءٍ من الآيات، بل هو راجعٌ إلى الأحوال، وما يجبُ في مقاومة الكفار، وهذا الأرجح، والله أعلم؛ لأن النَّسخ لا يُصارُ إليه إلا بتوقيفٍ أو اضطرار لا يمكن معه الجمع بين الأمرين، ويعلم مع
ذلك المتأخّر، فيكون هو الناسخ، وإلاَّ فلا.
وعلى كلا القولين، فلم يُختلف في أنَّ فرض الجهاد استقرَّ في الجملة على الكفاية، يحمله من قام بهِ من المسلمين عن سائرهم، هذا هو المشهور المعروف الذي عليه جماعة أهل العلم (١) .
_________
(١) قال الإمام الشافعي في «الأم» (٤/١٧٦):
«قال الله ﵎: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾ [البقرة: ٢١٦]، مع ما أوجب من القتال في غير آية، قال: فكان فرض الجهاد محتملًا لأن يكون -كفرض الصلاة وغيره- عامًا، ومحتملًا لأن يكون على غير العموم، فدل كتاب الله وسنة نبيه ﷺ على أن فرض الجهاد إنما هو على أن يقوم به من فيه كفاية للقيام به، حتى يجتمع أمران:
أحدهما: أن يكون بإزاء العدو والخوف على المسلمين من يمنعه.
والآخر: أن يجاهد من المسلمين من في جهاده كفاية؛ حتى يسلم أهل الأوثان، أو يعطي أهل الكتاب الجزية.
فإذا قام بهذا من المسلمين من فيه كفاية له، خرج المتخلف منهم من المأثم، وكان الفضل للذين وُلُّوا الجهاد على المتخلفين عنه، قال الله ﵎: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿وَكُلًاّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ [النساء: ٩٥] . قال الشافعي: فبين إذ وعد الله القاعدين غير أولي الضرر الحسنى: أنهم لا يأثمون بالتخلف، ويوعدون بالحسنى في التخلف؛ بل وعدهم بما وسع لهم من التخلف الحسنى، إذا كانوا مؤمنين لم يتخلفوا شكًا ولاسوء نية، وإن تركوا الفضل في الغزو. قال الشافعي: ولم يغز رسول الله ﷺ غزاة علمتها إلا تخلف عنه فيها بشر، فغزا بدرًا وتخلف عنه رجال معروفون، وكذلك تخلف عنه عام الفتح وغيره من غزواته.
وقال في غزاة تبوك، وفي تجهيزه في الجمع للروم: «ليخرج من كل رجلين رجل، فيخلف الباقي الغازي في أهله وماله»، قال الشافعي: ففرض الجهاد على ما وصفت، يُخرج المتخلفَ من المأثم القائمُ فيه بالكفاية، ويأثمون معًا إذا تخلفوا معًا» ا. هـ كلامه ﵀. =
1 / 27