İman, Bilgi ve Felsefe
الإيمان والمعرفة والفلسفة
Türler
إذن فسينظم كومت العقائد. ومعنى ذلك أنه سيحل إيمانا مبنيا على الحجة والدليل محل الإيمان الموحى به والذي خبا ضوءه. ولن يكون ذلك الإيمان المتعقل مشابها في شيء للديانة الطبيعية التي قامت في القرن الثامن عشر، فإن تلك الديانة لم تكن إلا نوعا مختلا ضعيفا من أنواع الإيمان بما فوق الطبيعة تظهر الفكرة الدينية من خلال منطقه الميتافيزيقي عن الألوهية. أما الإيمان المتعقل فيستمد أصوله ومسوغات وجوده من العلم الوضعي، (الواقعي). ويومئذ لا يكون التنافر الذي يرى بين كلمتي (الإيمان) و(الدليل) إلا تنافرا ظاهريا وإن كان ما سيوضع من القواعد يراد به أن يكون موضع (إيمان)، نظرا لما يجب للأغلبية العظمى من الناس من الأخذ بالنتائج التي قررتها الفلسفة الوضعية. وسيبقون دائما قلائل أولئك الرجال الذين يجدون من الوقت ويصلون من كمال العلم إلى ما يمكنهم من فهم هذه النتائج واستقصاء أدلتها. أما من سوى هؤلاء فلن يكون منهم لها سوى الخضوع والاحترام. ولكن الفارق بين هذا الإيمان المتعقل وبين ما عرفته الإنسانية إلى يومئذ من آي الدين أن الأول لا يحوي شيئا لم يثبت بعد تمحيصه بالطريقة العلمية ولا شيء فيه يخرج عن دائرة المعلومات النسبية، وأن كل ما فيه يمكن في لحظة إثباته أمام كل ذي بصيرة يستطيع تتبع ما يدلي به من الحجة والدليل.
وهذا النوع من الإيمان حاصل بالفعل فيما يتعلق بعدة حقائق علمية. فجميع المتمدينين يؤمنون اليوم بنظرية (النظام الشمسي
Système Solaire ) التي يرجع الفضل في اكتشافها إلى كوبرنيك وكبلر ونيوتن، وقل منهم من هو بحيث يفهم الإيضاحات التي بنيت النظرية عليها. ولكنهم يعلمون أن ما هو موضع إيمانهم هذا هو موضع علم وبحث عند الآخرين، وأنه يكون كذلك بالنسبة لهم لو أنهم وصلوا من العلم لما يؤهلهم له. إذن فليس معنى الإيمان هنا التنازل اختيارا عن تعقل طريقة تفوق مدى العقل، بل التسليم الذي لا يضيع على صاحبه حق التعقل. وأساس هذا التسليم أن ليس في وسع إنسان في كل لحظة أن يستعمل حق النقد. ومن رأي كومت وجوب قصر هذا الحق في العمل عند أضيق حدوده. وإن كان الأصل وجوده لكل رجل ذي بصيرة ما بقي. وعلى ذلك يكون معنى الإيمان المتعقل هو هذه الفكرة: (لو أن الناس جميعا كانوا بحيث يستطيعون استقصاء آياته لوصلوا جميعا وبلا استثناء لفهم مبادئه ونظرياته، ولسلموا بها كلهم).
فيجب إذن ألا تكون كلمات (العقيدة) و(الإيمان) مثارا هنا لشبهة. فإن ما اشتغل به كومت من (تنظيم العقائد) لم يشمل منها إلا ما كان ممكن التوضيح والاستظهار. وهو هنا متفق مع فكرة سان سيمون الذي كان يعتبر الديانة كأساس من أسس النظام السياسي، ثم إن كومت - في أول حاليه على الأقل - لم يدخل في الإيمان شيئا من المسائل الغيبية أو العواطفية أو غير العقلية التي تنطوي عليها هذه الكلمة عادة، وتجعلها لذلك معارضة في أغلب الأحيان للتعقل، بل قصد بالإيمان كل ما يعتقده الإنسان خاصا بأي مسائل يمكن أن يصل إليها علمه. وانما حدا به إلى ذلك ما ظهر من عدم اكتفاء العقل الإنساني بتلك التفاسير المثلية أو الميتافيزيقية التي كان يعلمها الفلاسفة والقساوسة الناس عن العالم وعن الإنسان، والتي كانت موضوع العقائد إلى حينئذ. فاتخذت الفلسفة الوضعية طريقا غير ذلك الطريق، وجعلت تحل العرفان بقوانين الحوادث محل هذه التفاسير. ومن ثم أصبحت المسألة عند كومت ... الوصول من طريق العقل لإقامة مجموعة حقائق خاصة بالإنسان والجمعية، والعالم يسلم بها الناس جميعا.
وقد وقر في نفس كومت على أثر ذلك فكرتان: أولاهما: أن الأفكار والعقائد والتصورات الخاصة بهذه الأمور كانت في ذلك اليوم فوضى، والثانية: أن حالتها الطبيعية المعقولة أن تكون منظمة.
أما النقطة الأولى فغنية عن كل دليل. ويكفي أن يلقي الإنسان نظرة على الجمعية الخاصة ليعلم أن الاضطرابات التي تهز جوفها وتهددها بالخراب، إذا هي لم تهتد إلى أساس ثابت يقوم بناؤها عليه ليس مرجعها أسبابا سياسية فحسب، بل هو نتيجة اضطراب خلقي يرجع هو الآخر إلى اضطراب فكري منشؤه عدم وجود قواعد مشتركة بين كل العقول وعدم قيام مبادئ وعقائد يسلم بها الناس جميعا. وليس يكفي لوجود جمعية إنسانية وبقائها وجود شيء من الشبه بين العواطف، كلا ولا قيام المصلحة المشتركة بين أفرادها، بل يجب مع هذا وقبل كل شيء وجود اتفاق فكري تحققه مجموعة عقائد مشتركة.
فإذا رأيت جمعية من الجمعيات يعمل فيها فساد مزمن لا تظن أن طرق العلاج السياسية تنتج في شفائه، فاعلم أن السبب الأصيل لذلك الفساد إنما هو اختلال النظام العقلي، وأن المفاسد الأخرى ليست إلا مظاهر لهذا الاختلال. وتلك في رأي كومت هي حال جمعيتنا الحاضرة؛ فلم تبق تحكمها سلطة عقلية ولا روحية، وبلغت من ذلك حتى فقدت مجرد الشعور بانحلال تلك السلطة. فلم يبق بين العقول نظام مشترك تقره ولم يبق النقد السلبي الهادم مبدأ، إلا أتى عليه وأقام الفرد نفسه الحكم الأوحد في كل مسائل الفلسفة والخلق والسياسة والدين يأخذ منها ما يشاء، ولو لم يكن عنده من العلم ما يؤهله لهذا الاختيار، ويحسب أن ما أخذ به ليس أقل مما أخذ به سواه، وأنه لا يصدر إلا عن نفسه. وهذا التشتت بين العقول (أو ما يقول عنه كومت أخيرا هذه الثورة فيها) هو ما نسميه حالة الفوضى.
ولكن مثل هذه الحال هي الحال العادية الصرفة للجمعيات الإنسانية. وإن الحال النظامية لا تظهر إلا نادرا وبصفة استثنائية. وهذا زعم فاسد الأساس، ولو أنه صح يوما لما بقيت الجمعيات ثم لما تقدمت، وإنما الصحيح أن أزمنة الفوضى العقلية هي أزمنة استثنائية، وأن الناس في كل جمعية عادية يربطهم معا خضوع عام لمجموع معين من المبادئ والعقائد. والتاريخ شاهد يؤيد هذا الرأي. فإن جمود مدنيات الشرق الأقصى مرجعه الأول ما يمتازون هم به عنا من الثبات العقلي. وقد اطمأنت الجمعيات القديمة (اليونانية والرومانية) إلى فكرة معينة عن الإنسان وعن المدنية وعن العالم لم يطرأ عليها طول مدة بقاء هذه الجمعيات إلا قليل من التغيير. ثم كان للمسيحية في أوروبا سلطة عجيبة في مدى القرون المتوسطة، فأقام النظام الكاثوليكي (الذي يعتبر منتهى ما تصل إليه الحكمة السياسية) بناء من العقائد اطمأنت له كل النفوس، وأسلمت قيادها له وانحلال هذا البناء أقوى من معظم الشرور التي نتخبط في حمأتها. من ذلك يتبين أن الفوضى العقلية حال غير عادية، ومرض سماه كومت (لمرض الغربي) ولو طال أمد هذا المرض لأصبح قاتلا فإما أن تستسلم الجمعية له فتهلك، وإما أن تعاود العقول توازنها بالخضوع لمبادئ مشتركة والتسليم بها.
من ذلك يظهر أن مسألة إعادة نظام العقائد تزدوج، فيصبح ثمة من جهة مسألة فلسفية صرفة ترمي إلى إقامة مجموعة مبادئ عقائد صالحة ليسلم بها الناس جميعا، ومن جهة أخرى مسألة اجتماعية تبحث في الوسيلة لجمع العقول والأذهان إلى هذا الإيمان الجديد، على أن هذه الفكرة ليست إلا ظاهرية. فإن حل المسألة الأولي يجر حتما إلى حل المسألة الثانية؛ ذلك لأن صفة النظام عند المجموع أساسها الأول ما في نفس كل فرد من الاضطراب، وانقسام العقول فيما بينها أصله انقسام كل عقل على نفسه. فلو أن عقلا واحدا أمكنه أن يقيم التوازن في نفسه لانتقل هذا التوازن بفضل المنطق وحده إلى ما حوله ومن جاوره. وإذن متى أنشئت الفلسفة أصبح أمر تحقيق الباقي موكولا ليد الزمن. وحسبنا بحث الأفكار والعقائد القائمة في إحدى النفوس، والنظر فيما يلزم لإحلال التوازن محل الفوضى فيها بمعنى أن يحل فيها «توازنا منطقيا كاملا».
لما أراد ديكارت أن يبلو معلوماته بمبدأ الشك لم يحتج إلى أكثر من تعرف المصادر التي جاءت هذه المعلومات عنها. وكذلك فعل كومت. فإنه لما أراد تحقيق التوافق المنطقي لآرائه اكتفى بالنظر في الطرائق التي أوصلتها إياه، حتى إذا اكتشف أن أيا من بينها لا تتفق مع سواها كان قد وجد سبب الاضطراب العقلي، ومنشأ المفاسد التي تثقل كاهل الجمعية الحاضرة، وكان كذلك قد وجد الدواء. والدواء هو السعي لاستبعاد هذا التناقض؛ فإن الوحدة والتوافق هما أول ما يتطلبه الفكر الإنساني بطبيعته، والفهم متناسق بفطرته فلا يكتفي بآراء محشودة في الذهن ولا تتفق مع المنطق، ومهما يكن التناقض مجهولا من صاحبه فإن ذلك لا يمنعه من أن يحس به، وكل فكرة عندنا تستدعي وجود مجموع أفكار مرتبطة بها وصلت إلينا من نفس الطريق الذي وصلت منه تلك الفكرة، وهذا المجموع جزء من كل أعظم منه يتم في أنفسنا، وتجمعه فكرة عامة عن العالم.
Bilinmeyen sayfa