عزوم بصماء المعامع جبار
ومن مأثور أقواله وهو واقف إلى قبر آخيل بطل الإلياذة: «طوباك فقد أوتيت منتهى السعادة بقيام شاعر كهوميروس يخلد ذكرك».
وإنك لا تكاد تتصفح كتابا من كتب الأدب والتاريخ مما كان يوثق به عند قدماء الغرب إلا رأيته مشحونا بالشواهد المنقولة عن شاعرنا مشفوعة بالإطراء والإكبار، وكانوا يقتبسون من أقواله على نحو ما يقتبس اليهود من التوراة والنصارى من الإنجيل والمسلمون من القرآن والحديث، كل ذلك مما مهد سبيل إحلاله عندهم ذلك المحل الرفيع حتى تنازعته البلاد وشغفت به العباد، وعني الملوك والعلماء بجمع شتات قريضه، وعكف الرفيع والوضيع على إدخاره كنزا لا ينفد.
وكان فقهاء اليونان ومشترعوها يتجشمون الأسفار؛ لجمع ما تفرق من تلك الغرر في أطراف البلاد فينظمون عقدها ويلقونها على العامة؛ تهذيبا لأخلاقهم وتثقيفا لعقولهم والملوك يبذلون لهم المال عونا لهم على بلوغ تلك الغاية. قالوا: وأول من فعل ذلك ليكرغس لعهد هوميروس أو بعده بقليل، وحذا صولون حذوه ففعل في أثينا فعل ليكرغس في إسبرطة حتى لقد كان يضطر الشعراء أن ينشدوا قطعا متوالية من هوميروس؛ حفظا لها في ذهن الأمة واستبقاء لانتساقها على السياق الذي نظمها به الشاعر. وإن لفيسيستراتوس ملك أثينا يدا مشكورة في تبويب تلك المنظومات على النمط الذي اتصلت به إلينا، فاتخذ جماعة من كبار العلماء ووسع عليهم في الرزق ليتفرغوا لتلك المهمة، ومن جملة مرويات الأعصر الغابرة أنه تألفت طائفة من أدباء اليونان صرفت همها إلى النظر في الشعر الهوميري، فنقحته ونبذت منه الدخيل وألقته إلى الخلف على ما نراه عليه اليوم، وكانت تلك الطائفة مؤلفة من سبعين عالما مثلما تألف المجمع السبعيني الذي نقل التوراة من العبرية إلى اليونانية لعهد بطليموس فيلادلفيوس. وأما العامة فإنها تلقت تلك الفرائد تلقيها للآي المنزلة، فكانت فكاهتها في مجالسها ومرجعها في مباحثها ومرماها في تثقيف أحداثها وقبلتها في غدوها وآصالها. وما انتشر فن الكتابة حتى انتشرت في النوادي والمنازل فوق انتشارها في أذهان الخلق، فكان الساقط السافل عندهم من خلا رأسه أو منزله من شيء من منظومات هوميروس. وهم يتنافسون بحفظها ويتناشدونها كما تتناشد خاصة الفرس والجم الغفير من عامتهم أقوال الفردوسي صاحب الشهنامة وسعدي صاحب الكلستان لعهدنا هذا أو كما يتناشد أدباؤنا الحكم والأمثال المقتطعة من أقوال نوابغ الشعراء، ومما يروى في هذا الصدد أن الكيبياذس القائد اليوناني لم يتمالك وهو فتى أن انهال على أستاذه بالشتم ثم بلغت به الحدة أن ضربه؛ لأنه لم تكن عنده نسخة من شعر هوميروس وهو ذنب في ذلك العصر عظيم، ومن هذا القبيل أيضا ما يقال عن زويلوس الكاتب إذ تصدى لانتقاد هوميروس في القرن الرابع ق.م. فقامت الأمة وقعدت وقبضت على المنتقد وصلبته ثم رجمته رجما، ومهما يكن من صحة هاتين الروايتين ففيهما من المعنى ما لا يخفى على اللبيب.
ولا يظنن المطالع أن هوميروس إنما نال تلك الحظوة عند قومه وبني ملته. بل كانت هذه منزلته عند الرومان ومن وليهم من أمم الغرب، فاللاتين كانوا يترنمون بأقواله ترنمهم بشعر نابغتهم فرجيليوس، وما فرجيليوس إلا نابغة من مريدي هوميروس شغف بتلاوة شعره، وكان شاعرا بليغا، فنظم الإنياذة على نسق الإلياذة، وأجاد في تحدي أستاذه، وأما أمم أوروبا فإنها أقبلت على ذلك الشعر منذ نشأتها، ولم يتخلل إقبالها فتور إلا عقود أعوام معدودات في بدء النصرانية كما سنبين في باب نقل الإلياذة إلى العربية، وفي ما سوى ذلك كانت منظومات هوميروس ولا تزال عندهم في المنزلة الأولى بين منظومات البشر أجمعين، وكان بعض العامة من الإفرنج في القرون الوسطى يتخذون منها الأحراز والتعاويذ، ويلجئون إلى استخراج المغيبات مما يستنبطون من معاني الأبيات التي تبدو لهم إذا فتحوا كتابه أيا كانت ، وأبلغ من كل ذلك أن لفيفا من الأطباء المشهود بعلمهم كانوا يعالجون بعض المرضى بالشعر الهوميري، فإذا استوصفوا علاجا للحمى الرباعية أمروا بوضع نسخة من النشيد الرابع من الإلياذة تحت رأس العليل.
تلك كانت منزلة هوميروس عند اليونان والرومان ومن وليهم من أمم أوروبا.
رأي المتأخرين فيه
لم يزل الشعر الهوميري في المنزلة الأولى بين منظومات الشعراء، وليس بين كتب الأدب والتاريخ والشعر كتاب تداولته الأيدي وتناقلته الألسن، واستشهد به الأدباء والكتبة والمؤرخون ونقل مرارا متوالية إلى معظم لغات الحضارة نثرا وشعرا كديوان هوميروس حتى لقد جعل تدريسه فرضا في كثير من مدارس القوم تلقنه الفتية أصلا وترجمة، ومما يذكر في هذا الصدد اعتراض بعضهم على إنفاق الساعات الطوال في إلقائه على طلبة جامعة برلين، فلما بلغ ذلك الاعتراض ولهلم الأول قيصر ألمانيا قال: «دعوا الأساتذة يكثروا من تلقين شعر هوميروس فإن الأمة التي يرسخ في ذهنها وصف صبا الأمم على ما يبسطه هوميروس لا يسارع إليها العجز والهرم». ومن أقوال رينان الفيلسوف الفرنسي الحديث: «إذا مر على عهدنا ألف عام انقرضت جميع التآليف التي بين أيدينا، ولم يبق منها إلا كتاب واحد وهو ديوان هوميروس» وإذا كان المتقدمون قد أطلقوا عليه لقب «الشاعر» فقد لقبه المتأخرون «بأمير الشعراء» وما انتقاد بعض الكتاب فقرات متفرقة من شعره إلا مدعاة لزيادة انتشاره واتساع شهرته.
فما سام الشمس العلى حطة
غمام يستر أذيالها
Bilinmeyen sayfa