إهداء الكتاب
ديباجة الكتاب
مقدمة
النشيد الأول
النشيد الثاني
النشيد الثالث
النشيد الرابع
النشيد الخامس
النشيد السادس
النشيد السابع
Bilinmeyen sayfa
النشيد الثامن
النشيد التاسع
النشيد العاشر
النشيد الحادي عشر
النشيد الثاني عشر
النشيد الثالث عشر
النشيد الرابع عشر
النشيد الخامس عشر
النشيد السادس عشر
النشيد السابع عشر
Bilinmeyen sayfa
النشيد الثامن عشر
النشيد التاسع عشر
النشيد العشرون
النشيد الحادي والعشرون
النشيد الثاني والعشرون
النشيد الثالث والعشرون
النشيد الرابع والعشرون
إهداء الكتاب
ديباجة الكتاب
مقدمة
Bilinmeyen sayfa
النشيد الأول
النشيد الثاني
النشيد الثالث
النشيد الرابع
النشيد الخامس
النشيد السادس
النشيد السابع
النشيد الثامن
النشيد التاسع
النشيد العاشر
Bilinmeyen sayfa
النشيد الحادي عشر
النشيد الثاني عشر
النشيد الثالث عشر
النشيد الرابع عشر
النشيد الخامس عشر
النشيد السادس عشر
النشيد السابع عشر
النشيد الثامن عشر
النشيد التاسع عشر
النشيد العشرون
Bilinmeyen sayfa
النشيد الحادي والعشرون
النشيد الثاني والعشرون
النشيد الثالث والعشرون
النشيد الرابع والعشرون
الإلياذة
الإلياذة
تأليف
هوميروس
ترجمة
سليمان البستاني
Bilinmeyen sayfa
إهداء الكتاب
خطار سلوم نادر البستاني (1830-1886).
إليك يا والدي أهدي كتابي هذا، فأنت أولى به من كل حي وميت، وما هو إلا ذرة من فضلك وجزء من عنايتك ببنيك وتفانيك بنفع ذويك وبني جلدتك، فإن عجزت عن أداء واجب الوفاء بحياتك، فلا أقل من أن أشهد الملأ على عرفاني جميلك وأنت في عالم الأرواح.
ديباجة الكتاب
هذه إلياذة هوميروس أزفها إلى قراء العربية شعرا عربيا، ولقد استنفدت وسعي في نظمها وإلحامها راجيا أن تكون محكمة التعريب خلية من شوائب اللكنة والعجمة.
وقد صدرتها بمقدمة أتيت فيها على سيرة صاحب الإلياذة وأشرت إلى منظوماته ومنزلته عند القدماء ورأي المتأخرين فيه وأقوال العرب في شعره، وبحثت في الإلياذة وموضوعها وطرق تناقلها قبل الكتابة ثم في جمعها وكتابتها وسلامتها من التحريف مع ما فيها من قليل الدخيل والساقط والمكرر والمغلق، وأتيت على تحليلها وتشريحها، وبسط ما فيها من الفائدة للأدب والتاريخ وسائر العلوم والفنون والصنائع، وأوضحت ما كان من الأسباب الداعية في صدر الإسلام إلى إغفال العرب نقلها إلى لغتهم، وتطرقت إلى التعريب، فقصصت حكاية المعرب في وضع هذا الكتاب. وذكرت مناهج العرب في نقل الكتب الأعجمية والطرق التي يجدر بالنقلة التعويل عليها، وساقني ذلك إلى النظر في التعريب الشعري، ثم إلى النظم على الإطلاق وأوزان الشعر وقوافيه ووقع كل منها في معانيه، وجوازات الشعر من مأنوس ومكروه إلى غير ذلك مما يعد من خصائص هذه الصناعة، وانتقلت إلى المقارنة بين الإلياذة والشعر العربي، فوطأت لذلك بالشعر القديم وأصله، وسبب طموسه، ومناشدات سوق عكاظ، وشأن لغة قريش فيها وفضل القرآن في جمع أشتات اللغة وتوحيدها وإحكام بلاغتها في النظم والإنشاء، وقابلت بين لغة قريش المضرية ولغة الإلياذة اليونية، وفصلت أطوار الشعر العربي مميزا بين طبقات الشعراء من عهد الجاهليين حتى يومنا، وأثبت مزايا كل طبقة منها مع تعيين مدتها وأسماء، فحولها وإيراد ما اتسع له المقام من نفيس شعرهم، ثم أشرت إلى مغامز الشعر العربي ومناهج المولدين في أبواب الشعر وفنونه وأساليبه وعلوم الأدب العربية وتاريخها، وانتهيت إلى أسباب الضعف والانحطاط في شعر المحدثين وجنوح النوابغ من أبناء هذا العصر إلى سد الخلل وتعديل الخطة، وأفردت بابا للملاحم أو منظومات الشعر القصصي مما يماثل الإلياذة، فأشرت إلى ضروب الشعر عند الإفرنج، وقابلت بين ملاحم الأعاجم والملاحم العربية من الشعر الجاهلي، وجمهرة أشعار العرب، واستطردت من ذلك إلى إلقاء نظرة على الجاهليتين؛ جاهلية العرب، وجاهلية اليونان ثم إلى ملاحم المولدين، ورجعت بعد هذا إلى الحقيقة والمجاز، وما يلصق بالمعاني الشعرية من التشبيه والكناية والاستعارة والبديهيات، وما ينتابها من النقل والسرقة وتوارد الخاطر، وما قد يطرأ عليها من التغير بفعل الحضارة، وألمعت إلى مسالك الأعاجم في ذلك مبينا مزية العربية على لغاتهم في بعض الأحوال، وذيلت المقدمة بخاتمة في الشعر واللغة عارضت فيها بين العربية واليونانية، وبحثت في اتساع العربية وثروتها القديمة، وكثرة مترادفاتها، وتعدد المعاني فيها للفظ الواحد مع إيضاح فائدة ذلك وضرره، وإيراد أسباب الضعف في تأدية ما استحدث من المعاني العصرية، وأشرت إلى نهج العرب بالتوسع في اللغة والاصطلاح، وختمت بخلاصة موجزة في ما تراءى لي من الداء والدواء والنهضة الحديثة، ومستقبل اللغة والشعر.
وقد علقت على الكتاب شرحا توخيت فيه الفائدة والتفكيه، ورصعته بزهاء ألف بيت مما قاله العرب في مثل معاني الإلياذة أو حوادثها، وضمنته كل ما تجدر معرفته من أخلاق الأمة العربية «في جاهليتها وبداوتها وحضارتها، والمشهور من أساطيرها وعباداتها والمأثور من آدابها وعاداتها ومناهج شعرائها وأدبائها، ومواقف ملوكها وأمرائها وساستها وزعمائها» إلى غير ما هنالك مما أوضحته في باب حكاية المعرب (ص: 72).
وقد مثلت المتن الشعري مطبوعا بالشكل الكامل وأودعت الشرح كثيرا من رسوم الآلهة وغيرهم مما يحسن الاطلاع عليه.
وأضفت فهرسا لتلك الرسوم وآخر للقوافي ومعجما للألفاظ اللغوية، ومعجمين آخرين لجميع مواد الكتاب من أعلام وتاريخ وعلم وصناعة وخلق وعادة وهلم جرا.
تلك هي على الجملة محتويات الكتاب «فإن أحسنت وفيه منتهى جهدي فذلك من حسنات الاجتهاد، وإلا فحسبي أن أفتحه بابا يلجه من وفقه الله إلى سبيل السداد».
Bilinmeyen sayfa
مقدمة
هوميروس
هوميروس.
اسمه ولقبه
اختلف المؤرخون في اسم صاحب الإلياذة، ولكنهم متفقون على أن «هوميروس» لقب لقب به لأمر جلل تخلل حياته فعرف به، وأهمل اسمه على نحو ما اتفق لكثيرين من شعرائنا الذين غلبت ألقابهم وكناهم على أسمائهم كطرفة بن العبد، والشماخ، والنابغة والفرزدق والأخطل والمتنبي وأبي العلاء، وللكتاب أقوال مختلفة في ذلك اللقب نظير ما لكتابنا من المذاهب المتضاربة في أصل تلك الألقاب والكنى؛ ولهذا حاموا حول اللفظة اليونانية وجعلوا يستنبطون من معانيها ما شاءوا، فوضعوا لكل معنى يستخرج منها حديثا مما يمكن وقوعه لشاعرنا، فمن قائل أنه لما كانت كلمة هوميروس (ομηροζ)
بمعنى الرهينة غلب عليه هذا اللقب لوقوعه أسيرا في حرب فكان من جملة الرهائن، على أن الذاهبين هذا المذهب ليسوا على بينة من تلك الحرب، فمنهم من يجعلها بين أزمير وساقس، وهو مذهب بروكلوس وعنده أن الشاعر اعتقل في ساقس، ومنهم من يقول بل أخذ إلى كولوفون، وقال آخرون: «بل وقع أسيرا في قبضة الفرس»، ومن قائل: «إن اللفظة منحوتة من كلمتي (ομωζ ςρειν)
ومعناهما «المتكلم في المجلس» أي: الخطيب أو المشير وهو قول سويداس، وكل ما يستخرج من هذا النحت يصح أن يتفق لصاحبنا، ومن قائل أنها مشتقة من لفظة (ομηρειν)
بمعنى التابع أو اللاحق أخذا من قول فلوطرخوس أنه لحق بالليديين من مدينة أزمير، وهناك أقوال أخرى أجدرها بالذكر قول هيرودوتس وإيفوروس: «أن اللفظة مركبة من ثلاث كلمات» (ο μη ορων)
بمعنى الكفيف البصر، وهو تخريج حسن يصح التعويل عليه؛ لأنه لم يثبت في الأثر شيء مما يؤيد الأقوال السابقة ولكنه ثابت أن بصره كف وهو لم يكد يتجاوز سن الشباب، وقد أشار إلى ذلك في أبيات من منظومته «الأوذيسية». وفي معجم ألكسندر «أن لفظة هوميروس مفردة كان يراد بها «الأعمى» في مدينة كومة وبها لقب الشاعر».
وأما اسمه فأشهر ما قيل فيه أنه كان ميونيذس أي: ابن ميون؛ لأن ميون ملك ليديا تزوج أمه كريثيس، والطفل على يدها فدعاه باسمه وهو يعتقد أن أبا ذلك الطفل من الجن، وقيل: «بل كان والد هوميروس داماسوغوراس ووالدته أثرا ومسقط رأسه مصر». وقيل: «بل كان اسم هوميروس ميليسا جينيس» وهي رواية هيرودوتس، وعليها المعول كما سيجيء.
Bilinmeyen sayfa
نسبه
لا يعلم شيء ثبت عن نسب هوميروس وحسبه، وإن لدينا مما استبقاه المتقدمون أقوالا متباينة لا يمكن الأخذ بشيء منها، وصفوة ما عول عليه الكتبة منها سيرتان كتبهما هيرودوتس وفلوطرخوس، ثم وجد المتأخرون بعد التمحيص أنهما لا تخلوان من تناقض يؤدي إلى الظن أنهما لفقتا بعد حين كقول هيرودوتس أن هوميروس نبغ في القرن السابع أي: قبل حملة الفرس الكبرى على بلاد اليونان، وقوله في تاريخه: «إن هوميروس تقدمه بأربعمئة سنة مع أنه كان يدون بنفسه سير تلك الغزوة تدوين الشاهد الحي». وليس في ما بين أيدينا من منظوم هوميروس ما يشير إلى أسرته وعترته مع أنه كان أحرص الناس على تدوين الأنساب كما يتضح لمن يتصفح الإلياذة، ولا أخاله إلا آتيا على تلك النسبة في شيء مما فقد من شعره إذ ليس في محفوظ أشعاره ذكر لأبيه، وأما أمه فيزعم بعض الشراح أنها هي المعنية بقوله في النشيد الثاني عشر:
كمرأة عالت الأطفال عادلة
قد أمسكت عود ميزان تعادله
لا تخسر الصوف مثقالا تضن به
وعلى هذا فلا يمكن استخلاص شيء من كتبه عن نسبه، وجميع ما لدينا من رواية السلف عنه لا يتجاوز حد الحدس، ولا سيما أن شهرته النامية ومنزلته السامية حببتا إلى كتبة كل قبيلة من اليونان أن تدعيه فتنازعته مدائنهم وأتي كل منهن ببرهان، وأشهر تلك المدائن ثمان وهي: أزمير، وسلاميس (وتدعى اليوم كولوري) ويوس (نيو) ورودس، وخيوس (ساقس) وكولوفون، وأرغوس وأثينا، ولعله أقام زمنا في كل منهن وأخلف فيها أثرا من شعره فكان داعيا إلى تلك الدعوى، وإن رجلا هذا شأنه لا بدع أن يدعيه كل فريق من قومه بعد أن ادعاه الأجانب، فقد ذكر أفستاثيوس رواية أسندها إلى إسكندر بافيوس زعم فيها أن هوميروس ولد في مصر قال: «كان أبوه يدعي داماساغوراس، وأمه أثرا فلما ولد عنيت بتربيته نبية من ولد أوروس الكاهن، وكان يتحلب الشهد من ثدييها إلى فم الطفل فكان إذا أقبل الليل يتغنى بصوت كصوت تسعة من الطير مختلفة الأجناس، وإذا لاح الفجر يصبح وهو يلاعب تسعا من الورق، وأوعز إلى أبيه أن يبني هيكلا للقيان منشدات السماء فبناه وقص الخبر على ابنه لما بلغ أشده، فكانت تهيجه ذكرى الحمام وترنم به في شعره».
ومهما يكن من الخبط في تلك الأقاويل، فإنا نتبع الفريق الأعظم من الكتبة في التعويل على النسبة التي كتبها هيرودوتس وإليك مجملها:
مولده ونشوؤه
هو ابن كريثيس ابنة ميلانوفوس ولدته أمه على ضفة نهر ميليس في ضاحية أزمير ودعته ميليسا جينيس أي: ابن النهر ميليس، وكان في أزمير إذ ذاك معلم كتاب يدعى فيميوس، فاستأجرها لغزل الصوف الذي كان يتقاضاه أجرة من تلامذته، وكانت كريثيس صناع اليدين ذات رجاحة وسكينة فأعجب بها فيميوس وخطبها لنفسه، وما زال يمنيها بالوعود حتى أجابته إلى طلبه. وكان جل ما استمالها به قوله لها: إنه توسم في الغلام من الفطنة والذكاء ما جعله واثقا أنه سيكون نابغة عصره إذا عهد إليه بتربيته، فإذا رضيت به بعلا لها فهو يتبنى ابنها، ويعكف على تهذيبه وتثقيفه، وبر فيميوس بوعده، فعني به فإذا به قد فاق جميع أقرانه ثم ما انقضت بضعة أعوام إلا وهو يكاد يظهر على أستاذه.
مدرسته
Bilinmeyen sayfa
وتوفي فيميوس ولا وارث له إلا هوميروس ثم ما لبث أن توفيت كريثيس، فخلت المدرسة لهوميروس فأقام مقام أستاذه فأعجب به بنو أزمير، وطارت شهرته فقصده الداني والقاصي، وأصبح مجلسه ديوان الأدب وكعبة الحكمة، وكانت أزمير لذلك العهد محطا لرحال التجار تستورد إليها الحبوب من تلك البقاع الخصبة فتمتار منها المدن المجاورة، فأصبح الغريب القادم إليها إذا فرغ من عمله أو سنحت له فرصة يهرع إلى مجلس الأستاذ الفتى؛ ليلتقط درر حكمته، وممن كان يختلف إليه ربان سفينة من ذوي العلم والدهاء اسمه منتس يحمل الحبوب إلى أزمير من لوقاديا، فشغف بحديث ميليسا جينيس وجعل يحسن له الأسفار ويزين له مشاهدة الأمصار وهو في عنفوان الصبا قبل أن يدركه العجز؛ ليزداد حكمة واطلاعا ووعده أن يحمله على سفينته فيتخذه خدنا عزيزا وإلفا كريما، وما زال به حتى حمله على مغادرة المدرسة والتدريس واللحاق به رحالة على متن البحار.
أسفاره
وكان ميليسا جينيس شديد المراقبة كثير البحث لا يقع بصره على شيء إلا تحراه ولا طرق مسمعه خبر إلا استجلاه، فطالت الرحلة وهو في أثنائها يختزن الفوائد ويجمع الأخبار حتى انتهى به التطواف إلى إيبيريا (إسبانيا) وأقلعت منها السفينة إلى أزمير، فعرجت على إيثاكة (ثياكي) في الأرخبيل اليوناني، وهناك رمدت عينا ميليسا جينيس، فاضطر منتس على كره منه أن يستبقيه فيها لدى صديق له حميم من أهل تلك الجزيرة يدعى منطور، فأنزله منطور في داره وكان مضيافا طيب العنصر، رحب الصدر، كريم الخلق ليس في بلاده من يضاهيه شهرة بتلك الخلال، ولم تكن العلة لتمنع الفتى من البحث والتحري فظل وهو على فراش المرض يلتقط شوارد الفوائد، ومن جملتها أخبار أوذيس (أوذيسس) وأسفاره (فكانت له أساسا بنى عليه منظومته الأوذيسية، وجعل فيها اسم منطور مرادفا للحكمة والبر فخلد بها ذكره أبد الدهر).
وبقي ميليسا جينيس نزيل منطور إلى أن عاد الربان منتس إلى إيثاكة فأنزله إلى سفينته واستأنفا الأسفار إلى أن بلغا كولوفون، فاشتد عليه الرمد حتى فقد بصره جملة وظل كفيفا إلى أن مات.
شروعه في قرض الشعر
ولما كف بصره قصد أزمير وأقام فيها زمنا ينظم الشعر، فضاقت ذات يده وبرحت به الحاجة، فعول على الشخوص إلى كومة، وسار يقطع هرمس (وهو نهر كديز أو سرابات) إلى أن بلغ به السير إلى (نيونتيخوس) وهي بلدة من مستعمرات الكوميين. قيل: إنه وقف فيها إلى حانوت تاجر جلد، فأنشد أبياتا شكا فيها بؤس الغريب الشريد المتضور فاقة وجوعا، وكان ذلك أول عهده بالإنشاد على مسمع الناس، فأصابت تلك الأبيات موضع رفق وعطف من فؤاد ذلك التاجر؛ فرحب به وآواه إليه، فجلس في الحانوت وأنشد على مسمع جماعة ممن حضر مقاطيع من شعره في وصف حملة أمفياراوس على ثيبة وبضع ترانيم دينية، فأجله القوم وأكرموا مثواه، فأقام بينهم وصناعته الإنشاد.
قال هيرودوتس: «ولا يزال أهل تلك البلدة حتى يومنا يفتخرون بالإشارة إلى المجلس الذي كان ينتابه فينشد فيه، ولذلك الموضع عندهم حرمة ومنزلة سامية وفيه شجرة صفصاف يزعمون أنها زرعت يوم قدم ميليسا جينيس فأقام بين ظهرانيهم».
تتمة أسفاره
أقام الشاعر بضعة أعوام في نيونتيخوس ثم قل رزقه فيها فبرحها إلى كومة، وقصد الموضع الذي كان يجتمع فيه مجلس الشيوخ، وأنشد ما تيسر فارقص الحضور طربا فطابت نفسه وعظمت أمانيه فسألهم أن يقوموا بنفقته على أن يقول فيهم من الشعر ما يطير شهرة مدينتهم في الآفاق ويخلد لها جميل الذكر. فلم يكن في من حضر إلا من استصوب السؤال وأوعزوا إليه أن يقول قوله هذا في المجلس وهو ملتثم وهم من ورائه يعضدون. فعمل بإشارتهم، ولما اجتمع الشيوخ أدخل إلى قاعة الاجتماع، فانتصب خطيبا وأعاد الكلام الذي ألقاه على عامة الناس وخرج ينتظر الجواب. فخلوا إلى شوراهم وكان معظمهم ممن يرغب في موافقته، فإذا بواحد منهم قد قام فاعترض وقال: «لئن جنحنا إلى القيام بنفقات عميان الشعراء لنلقين على عواتقنا زمرا منهم لا قبل لنا بهم». فأدى بهم ذلك إلى الانقلاب عن عزمهم.
ومن ثم لقب ميليسا جينيس بهوميروس، ومعناها أعمى بلغة الكوميين وتنوسي اسمه، فنقم هوميروس على كومة وأهلها، ونظم قصيدة رثى بها حاله، واستنزل اللعنة على من يتغنى بمدحها ومدحهم من الشعراء، وغادرها إلى فوقيا على مقربة من أزمير وجعل يطرق منتدياتها فينشد فيها الأشعار.
Bilinmeyen sayfa
وكان في تلك البلدة معلم كتاب ذميم الخلق يسمى ثستوريذس، فلما رأى ما كان من رواج بضاعة الشعر دعاه إلى منزله يقيم فيه ضيفا كريما على أن يلقنه كل ما نظم وما سينظم من الشعر فما وسع هوميروس إلا القبول فرارا من الفقر، فأكب ثستوريذس على النسخ حتى استتم كل منظومات هوميروس، فأقفل أبواب مدرسته وسار إلى جزيرة ساقس، وأقام فيها ينشد شعر نزيله ويدعيه. فبلغ هوميروس أمره فعزم على تعقبه ولم يبال بما اعترضه من مشاق فوصل الجزيرة بعد معاناة الأهوال، ونزل في بلدة من ثغورها تدعى بوليسوس فاتخذه بعض وجهائها معلما لأولاده، فأقام عنده وعكف على نظم الشعر ثم أذاع منظومات خلابة «كحرب الزرازير» و«حرب الضفادع والفيران» و«الكركوفة» فتناشدها الناس وتناقلها الركبان، وكان ثستوريذس كلما علم بحلول هوميروس في مكان فر منه إلى مكان آخر.
ولما رسخت شهرة هوميروس في ثغور الجزيرة سأل صاحب منزله أن يذهب به إلى عاصمتها، فشخص إليها وفتح مدرسة يعلم فيها النظم وطرائقه فعظم أمره وعلت منزلته، وأكبر الناس قدره فطاب عيشه واتسعت حاله بينهم، فأزوجوه بنتا فولدت له ابنتين، وجادت قريحته فنظم وأبدع، وكان وفيا ذكارا للجميل، فأودع شعره كل خلة محمودة خلد بها ذكر المحسنين إليه ولا سيما منطور الذي عني به أثناء رمده في إيثاكة، قال هيرودوتس: «جعل هوميروس منطور في منظومته الأوذيسية رفيقا لأوذيس، وأبرزه بمظهر من الصدق والوفاء عظيم حتى أن ملك إيثاكة استخلفه على بيته وعياله عند ما شخص في من شخص إلى طروادة».
فلهج الناس في كل قطر بذكر هوميروس حتى ملأت شهرته بلاد يونيا، وبلغت هيلاذة، فأوعز إليه أن يقصد إغريقيا، فطرب لذلك الإيعاز فأقلع إلى ساموس، وقضى فيها فصل الشتاء يتكسب بالإنشاد في منازل الأغنياء.
مرضه ووفاته
ولما انقضى الشتاء عول على السفر إلى أثينا فركب سفينة مع جماعة من أهل ساموس، فبلغوا جزيرة يوس وأرسوا في مضيق على مقربة من الثغر ففاجأ هوميروس الداء، فنزل إلى البر وانطرح على الجرف، ولم تقو السفينة على مواصلة السير لشدة الأنواء، فأقاموا أياما في مكانهم وأهل الجزيرة يتهافتون أفواجا لمحادثة هوميروس، وقد بلغ بهم الإعجاب منتهاه لما كان ينثر عليهم من غرر الأقوال ودرر الأمثال، ولكنه ما لبث أن توفي لاشتداد الداء، فاجتمع رفاقه وأهل الجزيرة ودفنوه قرب الشاطئ.
ولما مرت السنون وذوت نضارة الشعر، وانحطت منزلته اجتمع أهل الجزيرة إلى قبر هوميروس، فنقشوا عليه بيتين من الشعر معناهما: إن من هذا النبات الأخضر غطاء للرأس المقدس رأس الشاعر هوميروس شبيه الآلهة الذي كان يتغنى بمدح الملوك والأبطال.
فذلكة ما تقدم
تلك خلاصة ترجمة هوميروس بنص هيرودوتس، وهي وإن كانت لجلائها وصراحتها وتقدم عهدها أحرى بالثقة مما سواها فإنها لم تخل من مظان اعتراض رماها بها المتقدمون فضلا عن المتأخرين، ولكن جل ما يعترض به مقصور على العرض لا يكاد يتناول الجوهر بشيء، قال هيرودوتس: «إن تسثوريذس عكف على نسخ منظوم هوميروس مع أنه لم يثبت قط أن اليونان كتبوا لعهد هوميروس؛ لأن الحروف الفينيقية لم تشع عندهم إلا بعد حين». على أن هذا القول لا يعبث بأساس الرواية إذ المراد إثبات أن تسثوريذس كان سارقا فسيان إذن أن يكون ناسخا أو مستظهرا، وزعم بعضهم أن تلك السيرة كتبت بعد زمن هيرودوتس وعزيت إليه، فعلى فرض ثبوت هذا الزعم فلا ريب أنها كتبت بيد خبير فنسبتها إلى هيرودوتس لا تنقض حقائقها، وأما إغفال هيرودوتس أمورا مما أثر عن هوميروس كرحلته إلى مصر، وما أشبه فليس مما يفسد الحوادث التي أثبتها إذ قلما تجد مترجما أو مؤرخا يلم بأحوال مترجمه وأعماله بكلياتها وجزئياتها؛ بل ربما حصل التفاوت في نصوص كتبة الوحي والمحدثين، فإن في كل من الأناجيل شيئا مما أغفل في غيره، وما كان ذلك لينقض شيئا من الحقائق المسطرة فيه، ويقال مثل ذلك في السير النبوية والأحاديث.
وحاصل القول أنه كان للقدماء مزاعم كثيرة في هوميروس مما أسند إلى السلف، وتنوقل بالتواتر أو استنبط من فقرات من أناشيده، ولقد أوغل بعضهم في البحث أو الاستنباط حتى وضع سلسلة نسبة رواها سويداس وغيره تتصل من أفلون إلى كريثيس والدة هوميروس، قالوا: «كانت كريثيس ابنة ميون بن فرسيس وفوكميذا ابنة أفلون، وكان فرسيس أخا هسيودس الشاعر وكلاهما من ولد ذيوس بن مينالفس بن أبيفراذس بن أوفيمس بن فيلو تربس بن هرمونيذس بن أرفيوس بن واغروس من القينة قليوبة، وكان واغروس ابنا لفيروس من الحوراء ميثونة، وفيروس ابنا للينوس الشاعر، ولينوس هذا من ولد أفلون، وثووسة ابنة فوسيذ». تلك نسبة لا يثبت منها مع ما هو متواتر من أقوال المتقدمين إلا أن اسم والدة هوميروس كان كريثيس ولا علم لهم بأبيه، ولعل هوميروس نفسه لم يكن يعرف أباه وهو شأن كثيرين من نوابغ الأعصر الخالية، ومن جملتهم فرجيليوس نابغة شعراء اللاتين، أما سائر حلقات السلسلة، فإذا استجلي كنهها اتضح منه أنه يرمى به إلى إعظام قدر الشاعر، وإلصاقه بأعلى نسبة يفتخر به، ووصفه بأجل وصف يزين عظام الرجال، فما في تلك السلسة إلا الشاعر والحكيم والملك والعظيم فضلا عن الآلهة كأفلون صاحب القيثار وفوسيذ رب البحار والمطربات القيان والحور الحسان، وإذا أضفنا إلى ذلك معاني سائر الأسماء كهرمونيذس من رقة النغم وحسن الإيقاع، وفيلوتربس من حب السرور، وإبيفراذس من الذكاء، وفوكميذا من الحكمة علمنا أن واضع تلك السلسلة رمى بها مرمى الأقدمين من التعبير عن الحقيقة بالرمز واللغز وتجسيم الصفات، فكأنه قال: تلك هي أوصاف هوميروس الشاعر الحكيم المطرب العظيم الرحالة الفهامة والمؤرخ العلامة إلى آخر ما هنالك من صفات الإجلال والتبجيل.
وأما سائر الروايات المخالفة لترجمة هيرودوتس فأكثره موضوع لأسباب قد يمكن استجلاء بعضها بالتحري والمقابلة. ولنتخذ مثالا على ذلك زعم بعضهم أنه ولد في مصر. فإذا علمنا أن مصر كانت لذلك العهد مورد العلم ومنهل الحكمة، ومحط ركاب الطلبة من كل فج سحيق، وعرفنا أن رجلا كهوميروس لا بد من أن يحثه الشوق إليها فيقيم فيها زمنا طويلا ويخالط عامتها وسوقتها فيختبر الخلق والعادة، ويتصل بالكهان والأحبار فيدخر ويستفيد، وثبتت لدينا صحة ذلك من كثرة مآخذه عن المصريين مما نبهنا عليه في مواضعه، ورأينا تهافت القدماء على انتحال نسبة هوميروس إليهم، إذا تبينا كل هذا ذهبت عنا غرابة هذا الزعم، ثم إذا تطرقنا إلى النظر في قولهم: «إنه ربي في حجر بيت عظيم الكهنة» على ما تقدم فلا يصعب علينا أن نرى في تلك الرواية تحريفا لنص التوراة في نشأة موسى الكليم، وكم من رواية على هذه الشاكلة وضعت لنبي أو عظيم، فنقلت فنسبت إلى غيره في كل بلاد الله، وتغيرت الأسماء وتحولت المجريات إلى ما يلائم المكان والزمان والأصل واحد.
Bilinmeyen sayfa
فلا غرابة بعد هذا في تشعب الأقوال عن شاعر يلهج الناس بذكره منذ نحو ثلاثين قرنا، وأن تتباين المزاعم في اسمه ولقبه ونشأته وأسرته وسيرته في صباه وشيخوخته. فإذا ولد اختلفوا في أبيه، وإذا دب اختلفوا في ربيبه، وإذا شب تنازعته الأمصار، وإذا شرع في السياحة قالوا: «رحل فقيرا على نفقة غيره أو غنيا على نفقه نفسه». وإذا أنشد الشعر ذهب فريق إلى أنه أنشده مترنما محتسبا كامرئ القيس وعبد يغوث في الجاهلية وابن المعتز وأبي فراس في الإسلام، وقال الأكثرون: «بل تغنى به مستجديا مكتسبا كزهير ولبيد والحطيئة ومتنبي المشرق أبي الطيب، ومتنبي المغرب ابن هاني». وهكذا ظلوا يتقولون في مناحي حياته إلى أن تناولوه ميتا، فأماته بعضهم كمدا ميتة نحوينا سيبويه، قالوا: كان شاخصا إلى ثيبة فعرج على يوس، وإذا بفتية يصطادون سمكا فسألهم عن مقدار صيدهم فقالوا: «أفلتنا بعدد ما أمسكنا، واصطدنا بعدد ما لم نصطد» فأغلق عليه فهم المراد، وعظم عليه الأمر فمات قهرا.
والخلاصة أن الترجمة المعزوة إلى هيرودوتس هي لدى التحقيق أصدق ما كتب عن سيرة حياته. وليس في ما كتب أرسطوطاليس وإسطرابون ما يند عنها كثيرا، وأما المدن اليونانية التي أدعته فللكثير منهن نصيب من صحة الدعوى، قال غينيو في مقدمة معجم هوميروس لتيل وهاليز داروس:
1 «أحق البلاد بهوميروس أزمير باعتبار مولده وصباه، وكومة باعتبار شروعه في قرض الشعر، وساقس باعتبار نبوغه في النظم، ويوس بالنظر إلى بقاء وفاته فيها».
تاريخ ظهوره
للمؤرخين أقوال مختلفة في تعيين الزمن الذي ظهر فيه شيخ الشعراء وهي تتراوح بين بدء القرن الثاني عشر والقرن السابع قبل الميلاد، ورواية هيرودوتس القائل أن هوميروس تقدمه بأربعمائة سنة ما زالت أجدرهن جميعا بالثقة؛ لانطباقها على منقول الثقات من قدماء المؤرخين والأثر المتصل إليهم بالتواتر. فعلى هذا يكون نبوغ هوميروس في منتهى القرن العاشر أو بدء التاسع قبل الميلاد أو نحو سنة 900 لأن مولد هيرودوتس كان في أوليات القرن الخامس ق.م. يؤيد ذلك: (1)
أن مؤرخي الرومان مجمعون على أن هوميروس نبغ قبل بناء رومية بقرن ونصف، فإذا أضفنا ذلك إلى 753 وهي السنة التي بنيت فيها رومية كان نبوغ هوميروس نحو سنة 903ق.م. (2)
أن من مرويات شيشرون الروماني أن هوميروس كان معاصرا ليكرغس الشارع اللقدموني، وقد أيد إسطرابون تلك الرواية، وقال: «إن ليكرغس قصد ساقس طمعا بمحادثة هوميروس والأخذ عنه، وعهد ليكرغس بين القرنين التاسع والعاشر، ولا يجرح تلك الرواية قول فلوطرخوس الذاهب إلى أن ليكرغس إنما أخذ شعر هوميروس عن حفيد الشاعر، فقد يمكن أن يكون ذلك في حياة الشاعر أو بعدها بقليل». (3)
يؤخذ من الأنساب المنقولة على قطع المرمر التي وجدت في أوائل القرن السابع عشر في جزيرة فاروس في الأرخبيل الرومي، والمحفوظة في مكتبة أكسفورد أن هوميروس كان حيا سنة 907ق.م. ولا غرو أن تكون تلك النقوش موضع ثقة؛ لأنها كتبت باعتناء حكومة أثينا، ودونت فيها أشهر حوادث اليونان من سنة 1582 إلى 263ق.م.
فإذا ثبت لدينا أن نبوغ هوميروس كان في أخريات القرن العاشر رجح في الظن أن بينه وبين دمار إليون التي سمى الإلياذة باسمها نحوا من أربعمئة سنة، وأنه كان معاصرا لأحاب ملك إسرائيل وسوا ثاني ملوك الدولة الخامسة والعشرين في مصر، وكل من مصر وفلسطين في ذلك الحين كان في معامع الاضطراب والانقلاب، كما كانت بلاد اليونان في أبان سكونها بعد أن ماجت بالجالية المتدفقة إليها تدفق السيل، وهو ولا ريب زمن احتكاك الأفكار وانفجار القرائح بنفيس الأشعار.
منزلته عند القدماء
Bilinmeyen sayfa
قال إسطرابون (في الكتاب الأول والفصل الثاني من جغرافيته) «إذا قيل الشاعر عني به هوميروس». وقد لقبه في أول صفحة من الكتاب المذكور بالفيلسوف، ووضعه في مقدمة الجغرافيين، وقال في موضع آخر: «إن رائد هوميروس إنما كان الحقيقة، وأما الخيال فإنما اتخذه حلية وشى بها شعره، فبهر بها النواظر فعلقت بها الخواطر، وهذا هو السر في شغف ناشئة اليونان كافة بمطالعة شعره».
2
وقال في وصف أزمير: «إن من خططها ما يدعى بالهوميرويوم وفيه هيكل ونصب لهوميروس، وللأزميريين إعجاب به لا يفوقه إعجاب ولهذا صكوا نقودا صفرية يتداولونها وعليها اسمه ورسمه.
3
الهوميرويوم أو هيكل هوميروس.
وإن في مؤلفات هيرودوتس، وفلوطرخوس، وبلينيوس، وشيشرون وسائر مؤرخي اليونان والرومان ممن نبغ قبل إسطرابون وبعده ما يؤيد كلام إسطرابون أو يربو عليه، وقد روى سيمونيذس ونيوكريذس أن أهالي ساقس شادوا له معبدا وعبدوه وتداولوا نقوده كما فعل أهل أزمير، وزعموا أن الطائفة المعروفة بالهوميرية إنما كانت من نسله قالوا ذلك تأييدا لدعواهم فيه كما قال غيرهم: «بل هي طائفة من الشعراء تحدت هوميروس في النظم والإنشاد».
نقود هوميروس.
وكان أرسطوطاليس في مقدمة المعجبين بهوميروس، وقد ألصق نسبه بالآلهة فقال: «سطت طائفة من قرصان أزمير أثناء الجلاء اليوني على فتاة من جزيرة يوس، وهي حبلى من أحد الآلهة؛ فسبوها واحتملوها إلى بلدتهم فولدت الشاعر».
وكان الإسكندر المقدوني كلفا بمطالعة منظومات هوميروس، واستكتب منها نسخة نقحها له أستاذه أرسطوطاليس كان يحتملها معه حيثما توجه، ثم اتخذ لها غلافا خوذة مرصعة من أسلاب دارا ملك الفرس فكانت جليسه في حله وأنيسه في ترحاله يتحدى نهج مواقعها، ويترنم ببدائعها ويتمثل بها في كل ما عن له من الأقوال والأفعال، ولطالما كانت تعروه هزة الطرب إذا أنشد بعض أبياتها، ولا سيما بيته القائل بوصف أغاممنون:
مليك بأحوال السياسة عارف
Bilinmeyen sayfa
عزوم بصماء المعامع جبار
ومن مأثور أقواله وهو واقف إلى قبر آخيل بطل الإلياذة: «طوباك فقد أوتيت منتهى السعادة بقيام شاعر كهوميروس يخلد ذكرك».
وإنك لا تكاد تتصفح كتابا من كتب الأدب والتاريخ مما كان يوثق به عند قدماء الغرب إلا رأيته مشحونا بالشواهد المنقولة عن شاعرنا مشفوعة بالإطراء والإكبار، وكانوا يقتبسون من أقواله على نحو ما يقتبس اليهود من التوراة والنصارى من الإنجيل والمسلمون من القرآن والحديث، كل ذلك مما مهد سبيل إحلاله عندهم ذلك المحل الرفيع حتى تنازعته البلاد وشغفت به العباد، وعني الملوك والعلماء بجمع شتات قريضه، وعكف الرفيع والوضيع على إدخاره كنزا لا ينفد.
وكان فقهاء اليونان ومشترعوها يتجشمون الأسفار؛ لجمع ما تفرق من تلك الغرر في أطراف البلاد فينظمون عقدها ويلقونها على العامة؛ تهذيبا لأخلاقهم وتثقيفا لعقولهم والملوك يبذلون لهم المال عونا لهم على بلوغ تلك الغاية. قالوا: وأول من فعل ذلك ليكرغس لعهد هوميروس أو بعده بقليل، وحذا صولون حذوه ففعل في أثينا فعل ليكرغس في إسبرطة حتى لقد كان يضطر الشعراء أن ينشدوا قطعا متوالية من هوميروس؛ حفظا لها في ذهن الأمة واستبقاء لانتساقها على السياق الذي نظمها به الشاعر. وإن لفيسيستراتوس ملك أثينا يدا مشكورة في تبويب تلك المنظومات على النمط الذي اتصلت به إلينا، فاتخذ جماعة من كبار العلماء ووسع عليهم في الرزق ليتفرغوا لتلك المهمة، ومن جملة مرويات الأعصر الغابرة أنه تألفت طائفة من أدباء اليونان صرفت همها إلى النظر في الشعر الهوميري، فنقحته ونبذت منه الدخيل وألقته إلى الخلف على ما نراه عليه اليوم، وكانت تلك الطائفة مؤلفة من سبعين عالما مثلما تألف المجمع السبعيني الذي نقل التوراة من العبرية إلى اليونانية لعهد بطليموس فيلادلفيوس. وأما العامة فإنها تلقت تلك الفرائد تلقيها للآي المنزلة، فكانت فكاهتها في مجالسها ومرجعها في مباحثها ومرماها في تثقيف أحداثها وقبلتها في غدوها وآصالها. وما انتشر فن الكتابة حتى انتشرت في النوادي والمنازل فوق انتشارها في أذهان الخلق، فكان الساقط السافل عندهم من خلا رأسه أو منزله من شيء من منظومات هوميروس. وهم يتنافسون بحفظها ويتناشدونها كما تتناشد خاصة الفرس والجم الغفير من عامتهم أقوال الفردوسي صاحب الشهنامة وسعدي صاحب الكلستان لعهدنا هذا أو كما يتناشد أدباؤنا الحكم والأمثال المقتطعة من أقوال نوابغ الشعراء، ومما يروى في هذا الصدد أن الكيبياذس القائد اليوناني لم يتمالك وهو فتى أن انهال على أستاذه بالشتم ثم بلغت به الحدة أن ضربه؛ لأنه لم تكن عنده نسخة من شعر هوميروس وهو ذنب في ذلك العصر عظيم، ومن هذا القبيل أيضا ما يقال عن زويلوس الكاتب إذ تصدى لانتقاد هوميروس في القرن الرابع ق.م. فقامت الأمة وقعدت وقبضت على المنتقد وصلبته ثم رجمته رجما، ومهما يكن من صحة هاتين الروايتين ففيهما من المعنى ما لا يخفى على اللبيب.
ولا يظنن المطالع أن هوميروس إنما نال تلك الحظوة عند قومه وبني ملته. بل كانت هذه منزلته عند الرومان ومن وليهم من أمم الغرب، فاللاتين كانوا يترنمون بأقواله ترنمهم بشعر نابغتهم فرجيليوس، وما فرجيليوس إلا نابغة من مريدي هوميروس شغف بتلاوة شعره، وكان شاعرا بليغا، فنظم الإنياذة على نسق الإلياذة، وأجاد في تحدي أستاذه، وأما أمم أوروبا فإنها أقبلت على ذلك الشعر منذ نشأتها، ولم يتخلل إقبالها فتور إلا عقود أعوام معدودات في بدء النصرانية كما سنبين في باب نقل الإلياذة إلى العربية، وفي ما سوى ذلك كانت منظومات هوميروس ولا تزال عندهم في المنزلة الأولى بين منظومات البشر أجمعين، وكان بعض العامة من الإفرنج في القرون الوسطى يتخذون منها الأحراز والتعاويذ، ويلجئون إلى استخراج المغيبات مما يستنبطون من معاني الأبيات التي تبدو لهم إذا فتحوا كتابه أيا كانت ، وأبلغ من كل ذلك أن لفيفا من الأطباء المشهود بعلمهم كانوا يعالجون بعض المرضى بالشعر الهوميري، فإذا استوصفوا علاجا للحمى الرباعية أمروا بوضع نسخة من النشيد الرابع من الإلياذة تحت رأس العليل.
تلك كانت منزلة هوميروس عند اليونان والرومان ومن وليهم من أمم أوروبا.
رأي المتأخرين فيه
لم يزل الشعر الهوميري في المنزلة الأولى بين منظومات الشعراء، وليس بين كتب الأدب والتاريخ والشعر كتاب تداولته الأيدي وتناقلته الألسن، واستشهد به الأدباء والكتبة والمؤرخون ونقل مرارا متوالية إلى معظم لغات الحضارة نثرا وشعرا كديوان هوميروس حتى لقد جعل تدريسه فرضا في كثير من مدارس القوم تلقنه الفتية أصلا وترجمة، ومما يذكر في هذا الصدد اعتراض بعضهم على إنفاق الساعات الطوال في إلقائه على طلبة جامعة برلين، فلما بلغ ذلك الاعتراض ولهلم الأول قيصر ألمانيا قال: «دعوا الأساتذة يكثروا من تلقين شعر هوميروس فإن الأمة التي يرسخ في ذهنها وصف صبا الأمم على ما يبسطه هوميروس لا يسارع إليها العجز والهرم». ومن أقوال رينان الفيلسوف الفرنسي الحديث: «إذا مر على عهدنا ألف عام انقرضت جميع التآليف التي بين أيدينا، ولم يبق منها إلا كتاب واحد وهو ديوان هوميروس» وإذا كان المتقدمون قد أطلقوا عليه لقب «الشاعر» فقد لقبه المتأخرون «بأمير الشعراء» وما انتقاد بعض الكتاب فقرات متفرقة من شعره إلا مدعاة لزيادة انتشاره واتساع شهرته.
فما سام الشمس العلى حطة
غمام يستر أذيالها
Bilinmeyen sayfa
وأما بنو الشرق فهم وإن جهل معظمهم اسم هوميروس فضلا عن وجود منظومات له إلا أن ذوي الاطلاع من متأخريهم قدروه حق قدره كما أن بعض علمائهم في الزمان الغابر أعظموا شأنه وأجلوه، وإن صفوة أدبائنا في هذا العصر شاعرون بالحاجة الماسة إلى نقله إلى العربية، ويذكرني هذا حديثا مع منيف باشا ناظر المعارف العثمانية قال في أثنائه: «لو أن الشاعر العربي القائل: كأني أميروس لدين محمد ... عمل حقيقة للشرق ما عمل هوميروس للغرب لما تعدانا الغرب هذا الشوط البعيد». وقد غاب عنه وعني عرفان ذلك الشاعر، ومما قاله لي السيد جمال الدين الأفغاني في محضر من الأدباء: «إنه ليسرنا جدا أن تفعل اليوم ما كان يجب على العرب أن يفعلوا قبل ألف عام ونيف. ويا حبذا لو أن الأدباء الذين جمعهم المأمون بادروا بادئ بدء إلى نقل الإلياذة، ولو ألجأهم ذلك إلى إهمال نقل الفلسفة اليونانية برمتها». وسأذكر في باب «الإلياذة» سبب إغفال نقلها إلى العربية.
ذلك قول عامة المتقدمين والمتأخرين وخاصتهم في هوميروس وشعره، أما الشعر فلا سبيل إلى إنكاره لأنه موجود يتلى، وأما هوميروس نفسه فقد قامت طائفة من الباحثين في أواخر القرن الثامن عشر بزعامة ولف الألماني، وتألبت على إنكار وجوده بتاتا، وما لبث مذهبهم أن انتشر انتشار الشرار ثم ما لبث أن خبا خبوه على ما سنبسطه في الكلام على الإلياذة.
قول العرب فيه
ليس في ما بين أيدينا من التآليف العربية ما يشير إلى أن ديوان هوميروس نقل إلى لغة العرب، فهو بلا ريب لم يعرب وإن كان معروفا عند خاصة العلماء في بغداد لعهد العباسيين إذ كان يتناشده الأدباء من نقلة الكتب المقربين من الخلفاء بأصله اليوناني ونقله السرياني، والظاهر أن الإلياذة كانت منتشرة بين الخاصة في بلاد الفرس والكلدان في زمن الدولة العباسية؛ لأن ثاوفيلس الرهاوي الذي نظمها بالسريانية كان منجم المهدي ثالث خلفائهم كما أثبتنا في حواشي الإلياذة (ن2). قال ابن أبي أصيبعة في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» نقلا عن يوسف بن إبراهيم في ترجمة حنين بن إسحاق أثناء تنكر حنين وهو عاكف على درس الطب:
4 «فتبنت خرشي (جارية الرشيد الرومية) ذلك الغلام (وهو إسحاق المعروف بابن الخصي) وأدبته بآداب الروم وقراءة كتبهم، فتعلم اللسان اليوناني علما كانت له فيه رئاسة، فكنا نجتمع في مجالس أهل الأدب كثيرا فوجب لذلك حقه وذمامه، واعتل إسحاق بن الخصي علة فأتيته عائدا، فإني لفي منزله إذ بصرت بإنسان له شعرة قد جللته وقد ستر وجهه عني ببعضها وهو يتردد وينشد شعرا بالرومية لأوميرس رئيس شعراء الروم فشبهت نغمته بنغمة حنين، وكان العهد بحنين قبل ذلك الوقت بأكثر من سنتين، فقلت لإسحاق بن الخصي: هذا حنين فأنكر ذلك إنكارا يشبه الإقرار، فهتفت بحنين فاستجاب لي».
فيؤخذ مما تقدم أن اليونانية كانت معروفة لذلك العهد في بغداد تقرأ وتدرس حتى في بيوت الخلفاء، وأن منظومات هوميروس كانت معروفة فيها بين المشتغلين بلغات الأجانب ومعظمهم إذ ذاك من النصارى.
وأما سائر ما ذكر عن هوميروس في كتب العرب فليس إلا شذرات مقتطعة من كتب اليونان المعربة برعاية العباسيين والمؤلفات التي وضعها كبار المعربين والمؤلفين من الكلدان؛ كابن ماسويه، وابن الخصي، وحنين بن إسحاق، مثال ذلك قول ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء: «وكان الشعراء في ذلك الزمان على ما ذكره حنين بن إسحاق أوميروس إلخ».
5
وقوله في ترجمة أرسطوطاليس: «ومن كتبه كتاب في مسائل من عويص شعر أوميروس في عشرة أجزاء».
6
Bilinmeyen sayfa
وقوله في ترجمة جالينوس عند ذكر الكتب التي اعترض حنين بن إسحاق على نسبتها إليه: «ومنها كتاب الطب على رأي أوميرس».
7
ومن هذا القبيل قول البيروني: «أميروس المتقدم عند اليونانيين كامرئ القيس عند العرب».
8
ومثله قول ابن خلدون في مقدمته:
9 «إن الشعر لا يختص باللسان العربي بل هو موجود في كل لغة سواء كانت عربية أو عجمية، وقد كان في الفرس شعراء وفي يونان كذلك، وذكر منهم أرسطو في كتاب المنطق أوميروس الشاعر وأثنى عليه». ومثله قول ابن أبي أصيبعة:
10 «قال أفلاطون وقد كان مارينون (أغاممنون) ملك اليونانيين الذي يذكره أوميروس الشاعر باسمه وجبروته، وما تهيأ لليونانيين في سلطانه رمي بشدائد في زمانه وخوارج في سلطانه». ويدرج في هذا الباب قول الشهرستاني:
11 «أوميروس الشاعر من القدماء الكبار الذي يجريه أفلاطون وأرسطوطاليس في أعلى المراتب، ويستدل بشعره لما كان يجمع فيه من إتقان المعرفة ومتانة الحكمة، وجودة الرأي وجزالة اللفظ». وأما الشواهد التي أوردها الشهرستاني من كلام هوميروس في كتاب «الملل والنحل» والبهاء العاملي في «الكشكول» فلا شك أن فيها اختباطا واقتضابا على نحو ما جرى لكتاب العرب في أكثر ما استشهدوا به من كلام الأعاجم.
وقد أكثر أبو الفرج الملطي المعروف بابن العبري من ذكر هوميروس في تاريخه حتى دون حكايته مع ماجن سأله أن يهجيه طمعا في الشهرة من وراء ذلك الهجو فأبى هوميروس؛ فتهدده بالشكوى إلى رؤساء اليونانيين فضرب له هوميروس مثل الكلب الذي نكل الأسد عن مبارزته، فقال الكلب: «سأمضي إلى السباع فأشعرهم بضعفك» فأجاب الأسد: «لئن تعيرني السباع بالضعف أحب إلي من أن ألوث شاربي بدمك».
12
Bilinmeyen sayfa
وخلاصة القول أن هوميروس كان له شأن مذكور عند نقلة الكتب من بطانة الخلفاء، ولكن إلمام أدباء العرب بأقواله كان إلماما ناقصا بقي منحصرا في أفراد معدودين من كبار الكلدان. وأما منظوماته فالثابت أنها لم تعرب.
منظوماته
نقصر الكلام في هذا الباب على الإلماع إلى ما نسب لصاحب الإلياذة من الشعر مما ثبت له ومما لم يثبت، وأما البحث في شعره من حيث هو وأساليبه وطرائق نظمه وتشابيهه واستعاراته وفائدة ذلك للعلم والتاريخ والآداب، فنستبقيه إلى الكلام على الإلياذة بعيد هذا.
إن لهوميروس منظومات كثيرة لا غرو أن يكون المفقود منها شيئا كثيرا، فإن العلماء ما زالوا حتى الآن يعثرون حينا بعد حين على قطع مبعثرة في عاديات القدماء من تلك القطع المختزنة في دفائن الأرض، وإن العهد لقريب بالعثور على مقاطيع مكتوبة على ورق البردي في عاديات مصر مما لم يدرج في ديوانه، على أن درة تلك القلادة إنما هي الإلياذة بلا خلاف. بل هي كانت ولا تزال درة عقد ما نظم الشعراء في كل عصر وبلاد مما تقدم زمن هوميروس وما تأخر عنه.
الأوذيسية
ويتلوها الأوذيسية وهي ملحمة تقصر عن الإلياذة بضعة آلاف من الأبيات يغلب على الظن أن الشاعر نظمها في شيخوخته، وموضوعها رحلة أوذيس أثناء عوده إلى بلاده بعد انتهاء حرب طروادة، والقصة بأجمعها لا تتناول إلا أربعين يوما ولكن فيها من الحقائق وتنوع المباحث ما يكاد يعادل الإلياذة، وهي كشقيقتها في أربعة وعشرين نشيدا، ولكنها باعتبار وقائعها تقسم إلى أربعة أقسام؛ يشتمل القسم الأول منها على ما حصل لأوذيس في منتهى المدة الطويلة التي نزل بها على الإلاهة كاليبسو في جزيرة أوجيجيا، وعشاق امرأته ساعون إذا ذاك في تبديد ثروته وتقويض دعائم ملكه، وابنه تليماخوس وهو فتى يافع مهتم في إحباط مساعيهم حتى إذا أعيته الحيلة شخص بإيعاز آثينا إلاهة الحكمة إلى فيلوس وإسبرطة متطلعا أخبار أبيه. وفي القسم الثاني وصف مغادرة أوذيس لجزيرة أوجيجيا وبلوغه بلاد الفاقيين حيث نزل وقص عليهم خبره، ثم غادرهم إلى إيثاكة مقر حكمه، وفي القسم الثالث تفصيل الخطة التي اختطها هو وابنه تليماخوس في منزل خادمه الأمين الراعي أفميوس للضرب على أيدي أولئك البغاة، وفي القسم الرابع وصف انتقامه منهم واستقراره في ملكه.
معارضة الأوذيسية بالإلياذة
إن بين الأوذيسية والإلياذة شبها كبيرا في النهج والسياق مما يدل على أن الناظم واحد، فكلتاهما قائمة على أساس بسيط مرجعه إلى موضوع واحد، ففي الإلياذة «كيد أخيل» وفي الأوذيسية «رحلة أوذيس» وعلى هذين الأمرين مدار جميع حوادث الروايتين بما تخللهما من القصص والتاريخ، وما وراء الطبيعة ودونها، وكل واحدة من الروايتين منحصرة الوقائع في أيام قليلة في منصرم أعوام طوال، فالإلياذة لا تتناول سوى ستة وخمسين يوما من حصار عشر سنين، والأوذيسية لا تتجاوز في مدتها الأربعين يوما من رحلة أوذيس، وكما أن مطالع الإلياذة يلم استطرادا بتاريخ ذلك الحصار وما تقدمه وما وليه، ويتمثل حالة البلاد بالنظر إلى التاريخ والجغرافية والدين والآداب والأخلاق والعادات، فكذلك يحيط مطالع الأوذيسية علما بما لقي أوذيس في تلك الرحلة منذ نزل بكاليبسو فشغفت به وأمسكته في جزيرتها سبعة أعوام، ويقف على حالة البلاد التي ألقته الأقدار إليها، وينزل إلى أعماق الجحيم، ويصعد إلى أعالي السماوات، ويطوف حول الأرضين تطواف الشاهد البصير، وكلتاهما متماسكة الأجزاء متراصة المعاني لا تقرأ نشيدا منهما إلا أنست به نفس سائر الأناشيد، ومع هذا فقد يعترض على وحدة الناظم بما بين اللحمتين من التباين في قوة التركيب وحدة التصور وجزالة اللفظ، فإن الإلياذة في كل ذلك فوق شقيقتها، وإنما هو اعتراض مردود بثبوت أن الإلياذة متقدمة على الأوذيسية نظمها الشاعر في أبان عمره ومخيلته على نضارتها ومادته بمعظم غزارتها، ولكن في الأوذيسية من إصابة المرمى، وسداد الرأي، ورسوخ الحكم، وسعة العلم ما لا يقصر عما في الإلياذة.
سائر منظومه
وأما سائر المنظومات المعزوة إلى هوميروس فسواء ثبتت له أو لم تثبت فلا تزيده رفعة وشأنا بل خير له أن لا تكون له، والراجح عند أهل التحقيق أنها من غير نظمه، وإن نسب هيرودوتس بعضها «كحرب الضفادع والفيران» و«حرب الزرازير» وجماعة «الكركوفة» وهي قصائد لا تتجاوز المئات من الأبيات، وليس فيها شيء مما يدل على أنها من نتائج تلك القريحة السيالة والذهن المتوقد. ونسبتها إلى الإلياذة والأوذيسية كنسبة بعض قصائد المتنبي المنظومة في صباه والمثبتة في أول ديوانه إلى سائر قصائده الرائعة. وقد ذهب أرسطوطاليس إلى أن هوميروس نبغ في الشعر الهزلي نبوغه في الشعر القصصي، واستدلوا على ذلك بالمنظومة «مرجيتس» وهي قصيدة يصف فيها الناظم رحلة مرجيتس الغني المتغطرس، ولم يبق منها إلا أجزاء متقطعة.
Bilinmeyen sayfa
ومما ينسب إليه أيضا ثلاثة وثلاثون مزمورا ترنم فيها بمدح الآلهة، وقص فيها بعض أخبارهم، وترسل بالابتهال إلى أفلون، وعطارد (هرمس) والزهرة، وذيميتير، والمريخ (آريس) وأثينا، وهيرا، وهرقل قلب الأسد، وإسقليبيوس إله الطب، وهيفست إله النار، وفوسيذ وزفس، والشمس والقمر والأرض وهم جرا.
وقد نسبوا إليه أيضا بعض مقاطيع وأهاجي في أبيات قليلة، والأظهر أن تلك المقاطيع والزبور وأشباهها مما ألصق بديوان هوميروس لجهل رواتها أسماء أصحابها.
الإلياذة
تمهيد
الإلياذة أو الإلياس نسبة يونانية إلى إليون عاصمة بلاد الطرواد، وهي الملحمة التي نحن بصددها وضعها هوميروس على أسلوب بسيط وبناها على موضوع واحد هو «غيظ آخيل أو احتدامه» ونهج بها نهجا متناسقا قص في أثنائه حوادث متسلسلة لا تتشعب وقائعها بتعدد الأشخاص مهما كثروا وكثرت. فهي بهذا المعنى سلسلة واحدة من أولها إلى آخرها، وهو مذهب معظم الرواة والقصاصين من القدماء، ولا سيما الشرقيين لميلهم إلى البسيط من القصص بخلاف رواة الأوروبيين في الأعصر الحديثة فإنهم يفرعون الحوادث ويكثرون من تدخل الأشخاص بوقائع متشعبة مما يئول في نظرهم إلى زيادة تفكهة القارئ، ولعل المتأخرين مصيبون برأيهم هذا في الزمن الحاضر وخصوصا؛ لأنهم بعد انتشار فن الطباعة أصبحوا في غنى عن استظهار أقاصيصهم على نحو ما كان القدماء يحفظون رواياتهم حرفا حرفا عن ظهور قلوبهم. ومعلوم أن البسيط المتناسق أسهل حفظا من المركب المتشعب.
ولا بد لنا قبل بسط موضوع الإلياذة من الإلماع إلى حرب طروادة تلك الحرب التي خلد هوميروس ذكرها باقتطاع شذرة منها موضوعا لأناشيده.
كانت مملكة طروادة أثناء تلك الحرب ممتدة من جنوبي آسيا الصغرى إلى الهلسبنطس وهو مضيق الدردنيل، وملكها فريام وقاعدتها إليون، وتدعى أيضا طرويا (أو طروادة) وقد عفت آثارها منذ قرون، ولكنه قد يؤخذ مما توصل إليه بالبحث أنها كانت واقعة في سفح الجبل القائمة عليه الآن قرية بونار باشي.
أما بلاد الإغريق فكانت ممالك صغيرة تتحالف أحيانا وتتشاق أخرى، وبينها وبين بلاد الطرواد صلة تجارة ونسب، وحدث أن منيلاوس ملك إسبرطة غاب عن عاصمته في مهمة، وأن فاريس بن فريام أوفد برسالة إلى إسبرطة، فنزل ضيفا على منيلاوس وهو غائب وما زال بهيلانة امرأة فاريس حتى استهواها فأحبته ووافقته على الفرار معه إلى بلاده. فقامت الإغريق وقعدت لذلك النبأ. ولما أعيتهم الحيلة في استخلاص هيلانة تأهبوا للحرب، واستصرخوا جميع قبائلهم؛ ففزع إليهم القاصي والداني، وعقدوا لأغاممنون أخي منيلاوس وملك ميكينيا، فكانت الرئاسة إليه منذ نشوب الحرب إلى أن خبت جذوتها بدمار إليون، فساروا جيشا كثيفا يعيشون في بلاد الطرواد يخربون المدائن ويقتلون الرجال، ويسبون النساء، وينهبون الأموال إلى أن بلغوا إليون العاصمة فحصروها وأقاموا على حصارها عشر سنين. فساءت حال الفريقين، ونفدت الأرزاق وبادت المقاتلة، وكاد الإغريق ينثنون إلى أهلهم ويقنعون بسلامة من بقي منهم لو لم يوافهم داهيتهم أوذيس بخدعة مكنتهم من فتح إليون.
موضوعها
تناول هوميروس أياما قلائل من السنة العاشرة لحصار إليون وبنى عليها منظومته وشرع فيها بقوله:
Bilinmeyen sayfa
ربة الشعر عن آخيل بن فيلا
أنشدينا وأروي احتداما وبيلا
إشارة منه إلى أنه سيدور حول ذلك الاحتدام منذ اتقد إلى أن خمد. وهو موضوع يكاد يحسبه شعراؤنا تفها لبساطته، ويعجبون لقريحة علقت به؛ فأنتجت نحوا من ستة عشر ألف شطر أو شعر مع أن معلقة امرئ القيس ومطلعها ينبئ بمجموع أوسع وموضوع أجمع تقصر بجملتها عن مئة بيت. وإنك مع هذا إذا طالعت الإلياذة كلها لا تكاد ترى فيها حشوا ولغوا بل لا تتمالك أن تستزيد منها في مواضع كثيرة.
ومجمل القصة أنه كان في جملة السبايا فتاة جميلة وقعت في سهم آخيل عنترة الإغريق، فانتزعها منه أغاممنون زعيم الزعماء، واستخلصها لنفسه فعظم الأمر على آخيل وكاد يبطش بأغاممنون لولا أن أثينا إلاهة الحكمة هبطت من السماء وصدته قسرا، فانكفأ عنه واعتزل القتال هو وعشائره، فحمي وطيس الحرب بين الإغريق والطرواد وأخيل في عزلته يتحرق غيظا؛ فاشتدت عزيمة الطرواد لاحتجاب آخيل فنكلوا بالإغريق في مواقع كانت الغلبة في معظمها لهم، فلما ثقلت الوطأة على الإغريق أوفدوا الوفود استرضاء لأخيل فما زاد إلا عتوا وكبرا، فوقعت هيبة هكطور زعيم الطرواد وابن ملكهم فريام في قلوب الإغريق وما زالت تتوالى له الغلبة بعد الغلبة حتى كاد يحرق سفائنهم ويردهم خائبين. وكان لأخيل صديق حميم هو فطرقل فتى جمع بين كرم الخلال وبسالة الأبطال صحب آخيل في معتزله، وهو مع هذا يتلظى أسى لنكبة قومه ويستفز أخيل للأخذ بيدهم، وأخيل كالحجر الأصم لا يرق ولا يلين. ولما اشتدت الأزمة على الإغريق وكاد يقضى عليهم جعل فطرقل ينتحب كالطفل؛ فأذن له آخيل أن يتقلد سلاحه ويحمل على الطرواد بجند المرامدة قوم أخيل. فحمل عليهم حملة مزقت شملهم وردتهم على أعقابهم، وإذا به خر قتيلا أمام هكطور فدارت الدائرة بموته على قومه فولوا مدبرين وهكطور يضرب في أردافهم، ولما علم آخيل بموت فطرقل قتيلا تسعر حزنا على حليف وده، والتهب حقدا على الطرواد وتحول غضبه من عن الإغريق إليهم، ونهض للأخذ بالثأر فصالح أغاممنون وأغار على الطرواد فبطش بهم بطش الأسود بالحملان ؛ فلاذوا بالفرار وتحصنوا في معاقلهم ما خلا هكطور فإنه برز له فقتله آخيل ومثل به، ولكنه ما لبث أن سكن جأشه وخبا غيظه، فانقلب ذلك الغيظ رفقا وعطفا إذ رق لشيبة فريام فألقى إليه بجثة ابنه وسيره آمنا، فانتهت القصة بسكون وسلام.
نظمها وتناقلها
إذن لزم من تماسك أجزاء الإلياذة أن تكون منظومة واحدة، فلا يلزم أن تكون نظمت وأنشدت جزءا واحدا، ولا يؤثر على مجموعها أن تكون أنشدت في قطر واحد أو أقطار مختلفة، فهذا نقلها العربي وما هو بالشيء المذكور إزاء الأصل اليوناني، وقد نظم في أربع من قارات الأرض. ولا فرق أن يكون الشاعر نظمها تطربا بمعانيها أو تطلبا بأغانيها. تلك جميعها مباحث لا فعل لها في جوهر الإلياذة، فليس لنا هنا أن نطيل النظر فيها. وإنما يجب النظر في طريقة اتصالها على سعتها من السلف إلى الخلف.
ذهب برتلمي سنت هيلر
13
إلى أن اليونان كانوا يكتبون لعهد هوميروس، وهو قول لم يؤيده أثر حتى الساعة. ومع هذا فعلى فرض صحة هذا المذهب فإن الكتابة عندهم كانت في زمن طفولية لا تكاد تتسع إلا لتدوين ما عظم من حوادث التاريخ، وإلا لخلفت ولو أثرا ضعيفا كما خلفت في مصر وبابل. فلا ريب إذن أنها إنما حفظت أولا في أذهان الرواة فتناقلوها جيلا عن جيل.
وقد يستغرب تناقل الإلياذة في أول أمرها استظهارا على ما فيها من كثرة الأبيات واتساع المباحث وتنوع الأحاديث. على أنه يتضح لدى التروي أن ذلك الاتساع كان من مسهلات حفظها وعلوقها في ذاكرة المنشدين. وهو ثابت أن الإنشاد مهنة كانت ولا تزال شائعة بين أجيال شتى من الناس. وكان للرواة والمنشدين منزلة يحسدون عليها؛ ولهذا تطال إليها كل ذي علم واسع وذاكرة نيرة. وكثيرا ما كانت باب رزق لكل ضرير كف نظره، فتحول نور بصره إلى بصيرته، فادخرت في محفوظها ما تقصر عن رسمه أقلام الخطاطين.
Bilinmeyen sayfa
ذكر سقراط وأفلاطون وغيرهما أن المنشدين كانوا يتهافتون إلى مجتمعات الناس في أثينا وسائر مدن اليونان فينشدون ما حفظوه من الإلياذة وغيرها، وكان قيام هؤلاء المنشدين بين العامة والخاصة من لوازم كل احتفال وطني وعيد ديني. فتقام لهم في أثينا وساقس وتيوس وأرخمينا، ومدائن أخرى أسواق كسوق عكاظ ومربد البصرة يتناظرون فيها، وتعد لهم الجوائز السنية فيحرزها المبرز منهم، ويحرص عليها حرص الفائز بإكليل الغار بعد الانتصار، ولطالما كان يجنح الواحد منهم إلى التغني ببطل معين أو رواية مخصوصة، فيفني العمر بإلقائها حينا بعد حين على ما هو اليوم شأن القصاصين في مصر، وبر الشام، والأقطار العجمية، ويؤخذ على ذلك دليل من نفس هوميروس إذ أنطق أوذيس في الأوذيسية (ن 9 - 12) بما يربو على ألفين ومئتي بيت نفسا واحدا. على أنه لا يلزم مما تقدم أن راويا واحدا ينشد الإلياذة كلها أو يحفظها لهذا الغرض.
وقد أسهب متفرد
14
وغروت
15
وغيرهما في ذكر الأدلة الساطعة على إمكان بقاء الإلياذة محفوظة في الأذهان قبل شيوع الكتابة مما لا متسع لنا لنقله، وحسبنا إيراد شيء من الأدلة الحديثة منها، وما يتصل بأزماننا مما يرتاح إليه قراؤنا ولا سيما العرب منهم.
العميان وإنشاد الشعر
بحث فوريل
16
في الأغاني اليونانية في الأعصر الأخيرة، فقال في مقدمته: «أنها لا تزال على ما كانت عليه في سالف الزمن، والغريب أنها بقيت مهنة العميان، وهي مهنة تحببهم إلى الناس بل تجعل لهم مقاما ذا نفع بالنظر إلى حالة الأمة وأخلاقها وتصوراتها، وشأنهم التنقل من بلد إلى آخر فيطوفون أطراف بلاد اليونان وجزرها وهمهم استظهار جميع ما وسعه ذهنهم من الأشعار والأناشيد القديمة والحديثة، فكلهم يعرف منها شيئا كثيرا، ويبلغ ما يحفظه بعضهم إلى حد الغرابة والإعجاز. فإذا ذخروا هذه الأغاني، فإنما ادخروا كنزا ثمينا يطوفون به فيلقونه بضاعة ذات قيمة وحيثما حلوا اجتمعت الناس إليهم، فيأخذون في الإنشاد بما وافق المقام ويتعيشون بما ينفحهم به مستمعوهم، وهم في الغالب يؤثرون الإنشاد بين عامة الناس؛ لأن العامة أكثر إقبالا عليهم وأقل تعنتا في انتقاء المواضيع، ولا يزالون كما كانوا لعهد هوميروس يتغنون على نغم القيثارة أو الكنارة ، وهم فئتان: فئة تنشد محفوظها من شعر الشعراء، وهي الفئة الكبرى، وفئة قليلة تنشد من محفوظها ومنظومها وهي أرفع منزلة وأوسع جاها، وهكذا فإن هؤلاء المطربين هم الآن كما كانوا في القدم رواة الأخبار والتواريخ وشعراء الأمة».
Bilinmeyen sayfa