وقرَّرَ الله تعالى أيضًا الإنشاءَ للمكلَّف في صُورةٍ أخرى، وذلك أن الله تعالى لمَّا شَرَع الأحكام شَرَع الأسباب، وكما جَعَل الأحكام على قسمين: منها ما قرَّره في أصل شَرْعِه كوجوب الصلوات الخمس ونحوِها ومنها ما وَكَلَهُ للمكلَّف، وهو إِيجابُ المندوب بالنذر فكذلك جَعَلَ الأسباب على قسمين: منها ما قرَّره في أصل الشريعة، ومنها ما وَكَل إِنشاءَ سببيَّته إِلى المكلَّف، وهو عامٌ لم يُخصِّصه بمندوبٍ ولا غيره.
بل له أن ينشئ السببيَّة في المندوبات والواجبات والمحرَّماتِ والمكروهاتِ والمباحاتِ وما ليس فيه حُكمٌ شرعيٌ البتة (١)، كفعل النائم
_________
(١) جرى على ألسنة كثير من شيوخنا الفقهاء وغيرِهم - رَحِمَهُمْ اللهُ تَعَالَى -، أن ينطقوا كلمَة (البتة): ألبتة بهمزة القطع إذا قالوها في دَرْج الكلام ووصله. وهذا خطأ شائع، ليس له مستند إلَّا الشيوع على ألسنة بعض العلماء المتأخرين، غلطًا متوارَثًا بينهم.
والصّواب فيها نطقُها بهمزة الوصل إِذا جاءت دَرْجًا موصولةَ بما قبلها في النطق، فإن لفظة (أل) فيها كحالها في سائر الكلمات التي تدخلها الألفُ واللام، فأل في (البتة) كما هي في: الرجل والمرأة، والليل والنهار، والقديم والجديد، والصيف والشتاء، وسائرِ ما كان على هذه الشاكلة.
ولفظةُ (البتة) في أصلها مصدَرٌ لفعلِ: بَتَّ يَبُتُّ الشيءَ بَتًَّا وبتَّةَ وبتَاتًا، بمعنى قَطَع وجَزَم. وكثيرًا ما تَرِدُ في استعمال الأقدمين بصيغة التنكير: (بَتَّةَ)، من غير الألف واللام، ومعناها في الحالين نكرةً ومعرفةً: قطعًا وجزمًا.
فالصوابُ في النطق بها - وإِذا كُتبت - البتةَ، بهمزة وصل، فينبغي التنبه لهذا. وقد ورَدَتْ لفظةُ (البتة) بالتعريف في الحديث النبوي الشريف الصحيح، وضَبَطها الشراح ومنهم الحافظ ابن حجر - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في "فتح الباري" بهمزة الوصل، وهذا نصُّ كلامه: =
1 / 39