الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام
تأليف
الإمام القرافي شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس المصري المالكي
(ولد سنة ٦٢٦ هـ وتوفي سنة ٦٨٤ هـ) رحمه الله تعالى
اعتنى به
عبد الفتاح أبو غدة
Bilinmeyen sayfa
الإحكام
في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام
1 / 3
حُقوُق الطّبع محَفُوظة
للمعتَني به
الطبعة الأولى بحلب ١٣٨٧ هـ - ١٩٦٧ م
الطبعة الثانية ببيروت ١٤١٦ هـ - ١٩٩٥ م
قامَت بطباعَته وإخراجه
دار البشائر الإسلامية للطبَاعَة وَالنشرَ والتَّوزيع
بَيروت - لبنان - ص. ب: ٥٩٥٥ - ١٤
1 / 4
تقدمة الطبعة الثانية:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ لله المنعم الكريم الوهاب، المتفضل على عباده الموفقين لخدمة دينه بمزيد الثواب، المحسن إلى من أطاعه وإليه أناب. والصلاةُ والسلام على سيدنا ونبينا ورسولنا محمد العبد الأوَّاب، الهادي بشريعته إلى طريق الحق والصّواب، وعلى صحابته الغُرّ الميامين الأنجاب، أكرَمِ الأصحاب وأوفى الأتباع والأحباب، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الحساب.
أما بعد فهذه الطبعة الثانية من كتاب "الِإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفات القاضي والإِمام" للِإمام أبي العباس أحمد بن إدريس القَرَافي، الصِّنْهاجيِّ المغربيِّ الأصل، المصريّ المولد والمنشأ والوفاة، إمامِ السادة المالكية في عصره رحمه الله تعالى.
وقد أنعم الله تعالى عليَّ بإعادة طبعه، مزيدًا من التحقيق والتَّعليق، ومنقحًا من التصحيف والتحريف الذي بقي في طبعته الأولى، مع ما كنتُ بذلته من أقصى الجهد في تنقيحها وتصحيحها، فالحمدُ لله الذي يسَّر وأعان، وأمَدَّ في العمر إلى أن طُبع هذا الكتاب مرةً ثانية بمزيد من الِإتقان، وقد كان بين الطبعة الأولى وهذه الطبعة الثانية قُرَابةُ ثلاثين سنة، فالأولى طُبعَتْ بحلب سنة ١٣٨٧ - ١٩٦٧، وهذه طُبعت ببيروت سنة ١٤١٤ = ١٩٩٤، وذلك من فضل الله وكرمه سبحانه.
وكنتُ في طبعته الأولى التي خدمتُها، رجوتُ من الله تعالى أن ييسِّرَ لي العثورَ على نسخة صحيحة قويمة، لأستدرك بها ما بقي في الكتاب من تحريف
1 / 5
وتصحيف، فأكرمني الله تعالى بذلك، ووقفتُ بأواخر سنة ١٣٨٧ على نسخة مخطوطة منه في الخزانة العامة بمدينة الرباط في المغرب الحبيب، فقابلتُ بها الطبعة الأولى التي اعتمدتُ فيها على أربع نُسَخ مخطوطة، واستفدتُ منها خيرَ استفادة، وقَوَّمتُ بالإستناد إليها كل أو جُلَّ العبارات التي كانت مختلَّة معتلَّةَ في الطبعة الأولى، فغدت هذه الطبعة الثانية سليمةً مستقيمةَ إن شاء الله تعالى، وتبين فيها من المعاني الصحيحة ما لم يكن بَيِّنَ المعنى في سابقتها.
ويمكن أن أقول: إنَّ هذه الطبعة الثانية تميَّزت بمزايا رفيعة جليلة هامَّة جدًا، بما حَفَّها من عناية ورعاية ممن تكرَّم بقراءتها وتصحيحها في الطبعة الأولى من الأساتذة الشيوخ الكبار، وممن تكرَّم بمقابلتها بالنسخة المخطوطة المغربية من العلماء العارفين بالمخطوطات المتقنين لقراءتها.
فقد قرأ الكتاب في طبعته الأولى عالمانِ جليلان وأستاذان كبيران، من كبار شيوخي الأجلَّة، ومنحاني ملاحظاتهما وتصويباتهما لعبارات كانت معرفة في الأصول، لم أهتدِ إلى تصويبها، أوَّلُهما الأستاذ العلامة الأَفِيْق الفقيه المحقق فضيلة الشَّيخ مصطفى الزرقا حفظه الله تعالى وأمتع به، والَآخرُ الأستاذ الجليل والعلامة الفقيه المدقق فضيلة الشيخ محمد ناجي أبو صالح - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - (١).
فكلٌّ منهما أبدى نظرَهُ في بعض جُمَلِ منه، وكان لما أبداه فضيلة الشَّيخ ناجي أبو صالح أثرٌ هام في تصويب بعض النصوص وتقويمها، فقد تفرَّغ لدرس الكتاب ورَبْطِ جُمَلِه وتقسيماته ببعضِها، فاهتدى إلى تصويب جُمَلٍ ممَّا في أصولهِ من تحريف، جزاه الله تعالى خيرًا وأجزل له الأجر والرضوان. وقد عزوتُ ما أفاداه إليهما.
وتكرَّم بمقابلة الكتاب في طبعته الأولى بالنسخة المغربية المخطوطة التي في
_________
(١) وقد انتقل إلى رحمة الله تعالى ودار كرامته في مدينة الرياض يوم الأربعاء ٢١ من ذي الحجة سنة ١٤١١، وكانت ولادته بمدينة حلب سنة ١٣٢٤ رحمه الله تعالى وأسبغ عليه الإحسان والرضوان.
1 / 6
الخزانة العامة في مدينة الرباط أمينُ المخطوطات فيها فضيلةُ الأخ الكريم والأستاذ الفاضل السيد إبراهيم الكَتَّاني - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وأحسن إليه (١)، وسيأتي الحديث عن هذه المخطوطة.
وقد حَظِيَ هذا الكتاب: "الإِحكام" للقرافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، بثناءِ وتقدير من كل من وقف عليه حين ظهر بحُلَّته القشيبة، وكتب إليَّ بذلك غيرُ واحد من العلماء الأفاضل، فأشكرهم على حسن ظنهم وجميل تقديرهم وثنائهم، وكان ممَّا حَظِيَ به في طبعته الأولى ثناءٌ وتقديرٌ كريمان، من عالم فاضل أمريكي مسلم، متخصص بدراسة الفقه المالكي، أخبرني بذلك منذ سنين بعيدة، الأخ الفاضل الأستاذ الشَّيخ نِظَام يعقوبي أحد علماء البحرين النابهين.
وكتبت له من قريب أستوضحه عن اسم هذا العالم الفاضل الأمريكي، فكتب إلي:
"في حوالي سنة ١٩٧٩ - هـ ١٩٨٠ م، زارنا بمدينة مونتريال في كندا، - وكان الأخ الشَّيخ نِظام في حينها متوجهًا للدراسات العلمية الكونية - الأخُ الفاضلُ الدكتور عمر فاروق عبد الله، وهو أخ مسلم أمريكي، من أسرة أمريكية عريقة من الأُسَر الأنجلوسكسونية، المشهورة في تاريخ القضاء الأمريكي، ويحمل الأخ شهادة الدكتوراه في الفقه المالكي، ورسالتُهُ تتعلق بـ (عَمَل أهل المدينة) في "موطأ مالك"، وتقع في مجلدين ضخمين باللغة الإِنجليزية، وهما عندي من أجَلِّ غُنْم.
فألقى الأخ الدكتور المذكور محاضرة في قسم الدراسات الِإسلامية بجامعتنا ماكجيل (Mc Gill)، تتعلق بالفقه الإِسلامي والفقه المالكي، وأشار ضمن المحاضرة إلى كتاب "الإِحكام" للقرافي، وقال: نتمنَّى أن تُحقَّق جميعُ كتبنا الفقهية والعلمية والتراثية، بهذا الأسلوب الذي اتبعه محققُ هذا الكتاب الشَّيخ
_________
(١) ولد الأستاذ السيد إبراهيم الكتاني بمدينة فاس بالمغرب ١٠ من رمضان سنة ١٣٢٥ = ١٨/ ١٠/ ١٩٠٧، وتوفي بمدينة الرباط ٢٩ من ربيع الآخر سنة ١٤١١ = ١٦/ ١١/ ١٩٩٠ رحمه الله تعالى وأكرمه بالفضل والإِحسان.
1 / 7
عبد الفتاح أبو غدة. وحضر ذلك الاجتماع جميع من المستشرقين وطلبة الدراسات العليا في الجامعة.
والدكتور الفاضل يقيم الآن في المملكة العربية السعودية، وهو يُدرِّس في جامعة الملك عبد العزيز بجُدة، يدرس فيها الثقافة الإِسلامية ومقارنة الأديان".
وصفُ النسخة المخطوطة الخامسة:
وقفتُ على نسخة خامسة من الكتاب في (الخزانة العامة) بالرباط في المغرب، تحت الرقم (٢٦٥٧ د)، في ١٢٠ صفحة من القطع الصغير، وكانت في مكتبة الشيخ محمد عبد السلام البَنَّاني، المفتي والمدرس بكلية الشريعة في جامعة القَرَويين بفاس - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، وجاء العنوان فيها: (الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفِ القاضي والإمام)، وجاء في آخرها بخط كاتبها نفسِه قولُه: (اللَّهم يا عظيم المنة، هَبْ لكاتبه ومطالعه الجنة.
إذا رأيت عَيبًا فسُدَّ الخَلَلا ... جَلَّ مَنْ لا فِيهِ عَيْبٌ وَعَلَى
والله أعلم). وقد رمزتُ لهذه النسخةِ بحرف (ر).
وهذه النسخة فيها سَقَطُ جُمَلٍ وكلماتٍ في مواضع كثيرة، ولا تاريخ لها. ومعها كتاب "الأُمْنِيَّة في إدراك النية" للإمام القرافي أيضًا، وكلاهما مكتوبٌ بخطِّ مشرقي، يُقدَّرُ أنَّه من مكتوبات القرن العاشر أو بعده.
وهذه النسخة - على ما ذكرتُ فيها من سَقَط - استفدتُ منها استفادة جُلَّى، في تصحيح بعض العبارات التي كانت معرفة في النُّسَخ التي اعتمدتُ عليها، كما سيرى القارئ الإشارة إلى ذلك في بعض المواضع، ولم أشر إلى كلها، فالظاهر أنها منسوخة عن نسخة قويمة صحيحة، وقع فيها بعض الأسقاط والتحريفات، فرحم الله مالكها وكاتبها وواقفها برحمتِهِ الواسعة وغفرانه العظيم.
ولما وقفتُ عليها في ٢٥ من رمضان عام ١٣٨٧، لم يكن لدي متسَعٌ من الوقت لأقابلها كلَّها بتمامها، فقابلتُ أوَّلَها، ثم رجوتُ من الأخ الكريم المفضال
1 / 8
الأستاذ الشيخ السيد إبراهيم الكتاني أمين المخطوطات في (الخِزَانة العامة بالرِّباط) آنذاك، أن يتم مقابلتها متكرِّمًا متَفضلًا، فجاد بذلك وأجاد، وأحسن وأتقن، وأعاد مقابلتها من الأول حتى الآخر، وأَثبَتَ لي على حواشي نسختي المطبوعة تلك الكلمات المغايراتِ والمزيداتِ، وأشار إلى الكلمات أو الجُمَل الناقصات، وانتهى من مقابلتها في ١٢ من شوال سنة ١٣٨٧، فجزاه الله تعالى عني خيرًا وأحسَنَ إليه أكرمَ إحسان.
وقد علَّمتني هذه النسخة أنَّ تأخُّرَ نَسْخ الكتاب المخطوط، لا يُلغي موضعَه من الإعتبار والتقديم، فلا يصح أن تكون النظرة عامةَ إلى كل نسخة متأخرة النَّسْخ والتاريخ: أنها نسخةٌ ضعيفةٌ متخلفةٌ عن الثقة بها والإعتمادِ عليها لتأخرها (١).
_________
(١) وقديمًا نيَّة الكبارُ الأماثل، إلى مقام المتأخرين الأفاضل، وذكروا أن تأخرهم في الزمان، لا يُبعدهم عن احتلال عالي المكان، فنِعَمُ الله لا تُحصَرُ ولا تُحصى، ومَكارمُهُ على عباده وخَلْقِه لا تُستقصى:
١ - قال الإمام مُسلِمُ بن الحَجاج - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في مقدمته لكتابه "الصحيح" ١: ٥٤ - وقد تحدَّثَ عن تفاضل الرواة في الحفظ والضبط ومزايا بعضهم على بعض في ذلك -:
"وإنَّما مثَّلنا هؤلاء في التَّسمية، ليكونَ تمثيلُهم سِمَةَ يَصْدُرُ عن فَهْمها مَنْ غَبِيَ عليه طريقُ أهل العلم في ترتيب أهلِه، فلا يُقَصَّرُ بالرجل، العالي القَدْر عن درجتِه، ولا يُرفَعُ مُتَّضِعُ القَدْر في العلم فوقَ منزلتِه، ويُعطَى فيه كلُّ ذي حَقٍّ فيه حَقِّه، ويُنزَّلُ منزلتَه".
٢ - وقال الإمام مجدُ الدين الفَيْرُوز آبادي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في مقدمته لكتابه "القاموس المحيط"، وهو يَتحدَّثُ عن فضل من ألَّفَ قبله في لغة العرب كالجوهري وغيره، وعن فضل كتابه "القاموس المحيط" على كتبهم، مع تباعد زمانه، وتأخر أوانه:
"قال أبو العباس المُبرِّدُ في أول كتابه "الكامل" وهو القائلُ المُحِقّ: ليس لقِدَم العهدِ يُفَضَّلُ الفَائل - الفائلُ بالفاء: المخطئُ، ووقع في طبعة (القاموس السنة ١٤٠٦ محرَّفًا إلى (القائل) بالقاف، وهو تحريف فاحش! ولكنه مأنوس!! - ولا لحِدْثانِهِ يُهتَضَمُ المصيبُ، ولكن يُعطَى كلُّ ما يَستحقّ".
٣ - وقال الإمام ابنُ مالك النَّحْويُّ صاحبُ "الألفية" في النحو - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في أول كتابه "التسهيل" في النحو وهو يُشير إلى تأخر زمانِه عن الأئمة السابقين، وتخلُّفِ علمه عن علم =
1 / 9
ثم وقفتُ في سنة ١٤٠٤ في (مجلة معهد المخطوطات بالقاهرة)، في الجزء الأول من المجلد الحادي والعشرين ص ١٩، على وجود نسخة من "الإِحكام" للقرافي، المكتبة الوطنية بتونس، تحت الرقم (١٣٤٥)، فطلبتُ من بعض أصدقائي من علماء تونس، أن يفحصها لي، ليَرى قيمتها من الثقة والضبط والإتقان، فأفادني بأنها: نسخة ضعيفة متأخرة، فرأيتُ الإِشارة إلى ذلك هنا للعلم بهذا.
وفي الختام: أحمدُ الله تعالى، الذي يسَّر لي خدمة هذا الكتاب على أحسنِ ما استطعت، وأرجو منه سبحانه أن يتقبله عملًا صالحًا ومتجرًا رابحًا، ويَنفعُ به كل مفيد ومستفيد، وهو وليُّ التوفيق، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
في تورنتو - كندا ٢٥ من المحرَّم ١٤١٤
وكتبه
عبد الفتاح أبو غُدّة
_________
= الأعلام المتقدمين، وأنَّ ذلك لا يَمنع أن يكون لديه بقايا مزايا لم يُدرِكوها، وبعضُ فتوحاتٍ في علم العربية لم يُوهَبُوها:
"وإذا كانت العلومُ مِنَحًا إلَهيَّة، ومَوَاهِبَ اختصاصيَّة، فغيرُ مستبعَدٍ أن يُدَّخَرَ لبعض المتأخرين، ما عَسُرَ على كثير من المتقدمين، نعوذُ بالله من حَسَدٍ يَسُدُّ بابَ الإنصاف، ويَصُدُّ عن جميل الأوصاف". انتهى. وما أصدق قولَ القائل:
تَرَى الرجلَ النحيفَ فتزدريه ... وفي أثوابه أَسَدٌ هَصُورُ
ويُعجبُك الطَرِيرُ فتبتليه ... فيُخلِفُ ظَنَّك الرجلُ الطَّرِيرُ!
فلا يُستهان بالنسخة المتأخرة، ولا يُغالَى ويُبالَغ في النسخة المتقدمة، ولكن تُقوَّمُ كلٌّ منهما بما تستحق.
1 / 10
تقدمة الطبعة الأولى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ لله رب العالمين حمدَ الشاكرين، والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمد وعلى آلِهِ وصحبِهِ وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فهذا كتابُ رفيعٌ فريدٌ في بابه، أجاد فيه مؤلِّفه الِإمامُ القَرافي أيَّما إجادة، وشرَحَ به حقائقَ من العلم كانت عَصِيَّة شاردةً تستعصي على فحولِ العلماء قبلَه، فطوَّعها وجعَلَها سهلةَ مأنوسةَ منضبطة، وألَّفها أحسنَ تأليف، ويسَّرَ منالَها لطُلابها بأسلوبِ سَهْل جَزْل، وجاء بالجديدِ الكثير من العلم الذي لم يكن مطروقًا من قبل، في الفقهِ والأصولِ وتاريخ التَّشريع، وملأ فراغًا لم يَقُم بمَلئِهِ سواه، ولا ينهضُ للقيام به إلَّا الأئمة الأفذاذ الموهوبون أمثالُ الِإمام القرافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.
وتحدَّث في فاتحته عن سببِ تأليفِهِ فقال: "قد وقع بيني وبين الفضلاء مع تطاولِ الأيَّام مَباحِثُ في أمر الفَرْق بين الفُتْيَا التي تبقى معها فُتْيَا المُخالِف، وبين الحكم الذي لا يَنقُضُه المخالِف، وبين تصرُّفاتِ الحُكَّام وتصرُّفاتِ الأئمة ...، والْفَرْقِ بين الفتيا والحكم ...، وما حقيقةُ الحكمِ الذي يُنقَض والحكمِ الذي لا يُنقَض، وهل هو نفساني أم لِساني؟ وهل هو إخبار أم إنشاء؟ ... ونظائرُ هذه المسائل كثير، يقَعُ السؤال عنها، فلا يُوجَدُ من يُجيبُ عن ذلك محرَّرًا.
فأردتُ أن أضعَ هذا الكتابَ مشتمِلًا على تحرير هذه المطالب، وأوردُها أسئلةَ كما وقعَتْ بيني وبينهم. ويكونُ جوابُ كل سؤال عَقِيبَه، وأُنبِّهُ على غوامض تلك المواضع وفروعِها في الأحكام والفتاوى وتصرفات الأئمة. وسمَّيتُ هذا
1 / 11
الكتابَ كتابَ "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفاتِ القاضي والإِمام". وعدَدُ الأسئلة أربعون سؤالًا". انتهى ملخصًا.
فهو كتابٌ في الذروة من العلم والبحث، على مستوى الأئمة الكبار من القضاة والمفتين وأعلام الدين. ومن أجل هذا أحببتُ خدمتَهُ والعناية به وإخراجَه للناس، في حُلَّة بهية تلاقي مقامَ الكتاب ومؤلِّفه، "وتُحلُّه المنزلةَ اللائقةَ به من نفوس أهل العلم. وأرجو أن أكون قد وُفقت إلى ما قصدتُ بفضل الله تعالى وعونه. وقد كان إخراجُه أُمنيَّةَ غالية في نفسي من حين أَن قرأته منذ عشر سنوات، حتى مَنَّ الله تعالى بذلك ويسَّر الأسباب، فله الحمدُ والشكر على فضله وتوفيقه.
أصول الكتاب وعملي فيه
لهذه الطبعة التي بين يديك أربعة أصولٍ خطية، أُجمِلُ وصفَها فيما يلي:
١ - مخطوطة مكتبة شيخ الِإسلام عارف حكمت - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في المدينة المنورة. ورقمها فيها ٣ فتاوى، في مجلد لطيف بقطع صغير في ٥٠ ورقة، مذهَّبةَ العنوان تذهيبًا خزائنيًا. وهي بخطِّ إبراهيم بن نباتة، وعليها في كثير من حواشيها بلاغات تفيد أنها قُرئت وقُوبلت مرتين. وجاء في غير موضع منها على الحاشية لفظُ "وفي نسخة ... "، ممَّا يفيد أنَّه كان بيد كاتبها نسختان. وقد بحثتُ طويلًا عن ترجمة له فلم أقف على شيء. ويُقدَّر أنها من مخطوطات القرن الثامن أو بعده بقليل، والله أعلم.
وهي مخطوطة جيدة صحيحة جدًا، يَنْدُرُ فيها الخطأ أو التحريف، قابلتُ بها نسختي المستخلَصة المصححة من مخطوطة الأحمدية والأزهر ودار الكتب المصرية، فكانت هي أصحَّ منها جميعًا. قابلتُها بمعاونة ابن أخي الأستاذ الناهض البارع النجيب الشيخ عبد الستار أبو عدة في ثمانية مجالس، آخرها يوم الأحد ٢٥ من ذي الحجة سنة ١٣٨٥ في المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام. وهي من حيث الصحةُ والجودةُ تأتي في المرتبة الأولى.
1 / 12
٢ - مخطوطة المكتبة الأحمدية في بلدنا حلب. وهي ضمن مجموع في كتب الحديث الشريف، رقمه ٣٠٦. جاء في آخرها: "وكان الفراغُ من تعليقه في شهر صفر من شهور سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، والحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه على سيدنا محمد". وبجانبه في الصفحة ذاتها بقلم ناسخها نفسِهِ وبحبرِ مغاير ما صورته "بلغَتْ المُعَارضَةُ له مطالعةَ مع مراجعةِ المنقولِ منه، وكان فيه سُقمٌ، فصَحَّتْ هذه النسخة بحسب الإِمكان ولله الحمد والمنة".
وناسخُها قد كتَبَ اسمَه في آخر كتابِ "الأمنيَّة في إدراكِ النيَّة" للقرافي أيضًا، الذي هو في المجموع المذكور بخطّه أيضًا بعلى كتاب "الإِحكام"، فقال: "ووافَقَ الفراغُ منه ليلةَ الخميس المبارك من شهرِ صفر، من شهور سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة، وكتبه العبد الفقير إلى الله تعالى عبدُ الرحمن بنُ عباس بن عبد الرحمن".
فهو قد نسَخَ هذين الكتابين: "الإِحكام" و"الأُمنية" في شهر واحد هو صَفَر، كانسَخَ قبلَهما في الشهر الذي قبله المحرَّم: كتابَ "تأويل مختلِف الحديث" لابن قتيبة، وهو أوَّلُ كتابِ في المجموع المذكور، جاء فيه باسم "كتابُ الردّ على من قال بتناقُضِ الحديث وعابَ أهلَهُ". وفَرَغ منه كما قال: "ووافق الفراغُ منه في شهر الله المحرَّم من شهور سنة ثمان وثلاثين وسبع مئة". وقد بحثت كثيرًا عن ترجمة له فلم أقف على شيء. فلعله كان ناسخًا محترفًا؟ والله أعلم.
وهذا ما يَغلِبُ على الظنّ، فقد وَقَفْتُ له على كتابِ بخطه أيضًا، في زيارتي للمغرب في صيف عام ١٣٨٨، في خزانة الأستاذ السيد ناصر الكتاني - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في مدينة الرباط بالمغرب الأقصى، وهو "شرح مقدمة ابن الحاجب في النحو". وقد كتبه كلَّه بخطه وفَرَغ منه كما قال في آخره: "تمَّ شَرْحُ المقدمة في النحو بحمدِ الله وحسن توفيقه، والصلاةِ والسلام على خير خلقه محمدِ وآلِهِ أجمعين، عام ٧٤٨ ثاني ذي الحجة بحلب المحروسة". انتهى.
1 / 13
ولم يَذكُر فيه اسمَه كما هو ظاهر، غيرَ أن الورَقَ وحَجْمَه وتلوينَهُ ونوعَهُ والخَطَّ وقاعدَتَهُ كلها مماثلةٌ تمامَ المماثلة لما في مجموعِ الأحمدية المشار إليه.
ومخطوطةُ الأحمدية هذه عدَدُ صفحاتها ٧٥ صفحة من القطع الصغير، وخطُّها جيد، يَندُرُ فيها الخطأ، وتغلبُ عليها الصحة، ووقع فيها نقصُ ورقة قبل الصفحة الأخيرة من الكتاب. وهي من حيث الصحةُ والجودةُ تأتي في المرتبة الثانية. وهي قريبةُ العهد بالمؤلف بين نَسْخِها ووفاتِهِ ٥٤ سنة. وقد استفدتُ منها كثيرًا في تصحيح الأغلاط، واستدراك الأسقاط، وتصويب التحاريف.
٣ - مخطوطة مكتبة الأزهر، رَقْمُها فيها في فقه السادة المالكية ١٧٦٦، عروسي عمومية ٤٢٢٩٨، كتبها محمد بن محمد بن عبد الباقي الخالدي المالكي سنة ١٠٠٥ من الهجرة، في ٥٥ ورقة، ومسطرتها ٢١ سطرًا ٢٠ سم. وهي نسخة جيدة مصححة بعناية، كما كتبه لي الأستاذ الدكتور الشيخ نور الدين عِتر الحلبي، وقد رجوت منه أن يقابل نسختي المقابلة بمخطوطة الأحمدية بالنسختين المحفوظتين في مكتبة الأزهر، فتفضل مشكورًا بمقابلتها بالنسخة المذكورة. وقال عن النسخة الثانية التي رقمها في فقه السادة المالكية أيضًا ٨٠١، عمومية ١٢٦٠١ المكتوبة سنة ١٢٣٨ في ٤٢ ورقة،: "قابلتُ بها صدرَ الكتاب لأسطر معدودة، ولم أتابع المقابلة بها لكثرة غلطهما وقربِ عهد كتابتها". وتأتي مخطوطةُ الأزهر التي جرت المقابلة بها من حيث الصحة والجودة في المرتبة الثالثة.
٤ - مخطوطةُ دار الكتب المصرية ذات الرقم الخصوصي ٢١، والعمومي ١٨٥٠ من كتب فقه السادة المالكية، قلمُها عادي، وفرغ منها ناسخها الذي لم يُسمَّ في ١١ من صفر سنة ١١٧٣. وهي نسخة سقيمة جدًا، مملوءة بالأغلاط الفاحشة والتحريضات العجيبة والسَّقْطِ الكثير بحيث لا تخلو صفحة من صفحاتها عن ذلك. وهي من حيث الصحة والجودة تأتي في المرتبة الرابعة والأخيرة.
وعن هذه النسخة طُبع الكتاب منذ ثلاثين سنة، في عام ١٣٥٧ بمطبعة الأنوار بالقاهرة، وقام بطبعه الأستاذ عزَّت العطَّار، واشتغل بتحقيقه الأستاذ
1 / 14
القاضي الشيخ محمود عرنوس - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -. وقد اعتذر الشيخ عرنوس في ختام المطبوعة عما وقع فيها من تحريفات وأخطاء بقوله: "صادفتنا عقبات أثناء طبع الكتاب لقلة أصوله، وكثرة التحريف في الموجود منها، لذلك كله نعتذر إلى حضرات القراء إذا صادفهم ما يؤاخذ عليه".
وعلى كل حال فالفضل ثابت لهما بإخراج الكتاب من عالم المخطوطات إلى أيدي القراء وأنظارهم، فجزاهما الله خيرًا وإحسانًا على ذلك. وبلغت صفحات تلك الطبعة ٨١ صفحة من القطع الكبير.
وقد وازنت بين هذه الأصول الأربعة عند اختلافها، واخترت أصحَّها وأجودها فأثبته، وتركت ما عداه ممَّا هو خطأ أو ضعيف. ولم أستحسن أن أعتمد نسخة بعينها ثم أشير إلى المغايرات بينها وبين غيرها كما يفعله بعضهم، فإن الغاية أن يقدَّم للقارئ نسخة صحيحة أو أقربُ ما تكون إلى الصحة، لا تقديمُ نسخة بعينها ومَلْءُ الحواشي بذكر مغايرات سواها، ويكون فيها الغثُّ والسمين والغلطُ والصحيح، ممَّا يَقطع على القارئ فكرَهُ ويشوش عليه فَهْمَه.
وأشرت في بعض المواضع إلى توافق النسخ في الخطأ أو التكرار أو النقص أو التقديم والتأخير، وأغفلت الإشارة في مواضع أخرى وقع فيها أحَدُ هذه الأنواع من الخَلَل، لئلا أثقل على الحواشي بما لا فائدة فيه للقارئ سوى أن يلمح الجهود التي بذلها المعتني بإخراج الكتاب.
وكثرةُ التوافق بين الأصول الأربعة في الخطأ ... تشير إلى أنها هي أو أصولها نُسخت من أمّ واحدة، ثم ازدادت تلك الفروع سلامةً أو تحريفًا، بحسب ماتيشَر لها من عالم نابه أو ناسخ ماسخ. ولذا كثيرًا ما تركتُ ما جاء في الأصول كلها، وأثبتُ ما هو الصواب ونبهتُ على ذلك كما تراه في ص ١٥٨ و١٩٢ و١٩٩ و٢٠٠ وغيرها.
وقد صحَّحتُ بعضَ الأخطاء الواقعة في الأصول من النقول المأخوذة عن هذا الكتاب في "تبصرة الحكام" لإبن فرحون و"مُعين الحكام" لعلاء الدين
1 / 15
الطرابلسي. وما يزال في الكتاب أخطاء لم أهتد إليها أو لم أوفق إلى تصويبها، وقد أشرتُ إلى بعضها، وعسى الله أن ييسر لي الوصول إلى نسخة مخطوطة معتمدة أصح من النسخ التي وقفت عليها؟ فأستدرك ما بقي في الكتاب من أخطاء في طبعته الثانية، إن شاء الله تعالى.
وقد تمَّ ذلك التصويبُ والتصحيحُ بفضل الله وعونه، إذْ يسَّر لي الوقوف على النسخة الخامسة، التي تقدم وصفُها في (تقدمة الطبعة الثانية) في ص ٨، فأغناني ذكرُ حالها هناك عن ذكر حالها هنا.
1 / 16
تسمية الكتاب وتاريخ تأليفه
اختلفت العبارات في تسميته اختلافًا كثيرًا، فجاء الإسمُ في فواتح أكثر النسخ المخطوطة وخواتمها هكذا: "الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفِ القاضي والإمام". وجاء في "الفروق" للمؤلِّف على أنحاء متعددة، ففي ١: ٣ و٥١، و٢: ١٠٤، و٤: ٦ "الإِحكام في الفَرْق بين الفتاوى والأحكام وتصرُّفِ القاضي والإمام"، وجاء مثله تمامًا في آواخر كتابه "شرح تنقيح الفصول في الأصول" ص ١٩٦ في "الفصل السابع في نقض الإجتهاد".
وجاء في "الفروق" أيضًا ٢: ١٠٦ و٤: ٤٨ "الإِحكام في الفَرْق بين الفتاوى والأحكام". ومثلُه في "التبصرة" لإبن فرحون طبعة سنة ١٣٢١، ١: ١٦ و٢: ٦٠، و"مُعين الحكام" للطرابلسي طبعة سنة ١٣٠٠ ص ١٢٦. وفي ٤: ٥٤ من "الفروق" أيضًا "الإحكام في الفتاوى والأحكام وتصرُّفِ القاضي والإِمام".
وجاء في "التبصرة" أيضًا ١: ٥٦ و٥٨ و٢٨١، و"معين الحكام" ص ٢٧ "الإحكام في تمييز الفتاوى والأحكام". وجاء في فتاوى الشيخ عِليش المسماة "فتح العلي المالك" ١: ٥٨ "الإحكام في تمييز الفُتْيَا عن الأحكام وتصرُّفِ القاضي والإِمام".
وظاهر أن أكثر هذه التسميات يقوم على الرمز والإشارة إلى اسم الكتاب، لا على تحقيق اسمه الكامل. وأتمُّ هذه التسميات وأدقُّها الصيغةُ الأولى التي جاءت في فواتح أكثر النسخ المخطوطة وخواتمها. وأتمُّ منها دقةً ما جاء في فاتحة مخطوطة دار الكتب المصرية وهو "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفاتِ القاضي والإمام". وهي التي اخترتُ إثباتها على وجه الكتاب، لما فيها
1 / 17
من جمعِ (التصرُّفاتِ) المفيدِ تنويعًا ما لا يفيده لفظُ (التصرُّفِ) بالإِفراد والمنسجِم مع الجمع في قولهِ: (في تمييز الفتاوى عن الأحكام)، والله أعلم.
وهكذا سَمَّاه الإمامُ أحمدُ بن يَحْيَى الوَنْشَرِيشيُّ في كتابه "المِعيار المُعْرِب" ١٢: ٦، فقال: " ... ذكره القرافي في كتاب الإِحكام، في تمييز الفتاوى عن الأحكام، وتصرُّفاتِ القاضي والإِمام"، ثم نَقَلَ منه السؤالَ الثَّاني والعشرين.
وقد عَبَّرَ المؤلفُ نفسُه في مقدمة الكتاب بلفظ (التصرُّفات) أكثَرَ من مرَّة، فقال: "وقد وقع بيني وبين الفضلاء مباحثُ في أمر الفَرْقِ بين تصرُّفاتِ الحُكَّام وتصرُّفاتِ الأئمة"، ثم قال في آخر المقدمة: "وأُنبِّهُ على غوامضِ تلك المواضع وفروعها في الأحكام والفتاوى وتصرُّفاتِ الأئمة". انتهى فهذا منه يَدْعَمُ إثباتَ لفظِ (وتصرُّفاتِ الِإمام) بالجمع بَدَلَ (وتصرُّفِ ...). والله أعلم.
ثم إنَّ تسمية هذا الكتاب وإن طالت، ليست من باب الإطالة المعهودة في بعض كتب ساداتنا المالكية والمغاربة، بل كل لفظِ فيها له دلالة مستقلة لا يغني عنها سواه وذلك مستحسنٌ منه لإفادته (١).
أما تاريخُ تأليف الكتاب فلم يُذكَر في النسخ المخطوطة التي وقفت عليها، ولكنَّ الجزم قائم بأنه ألَّفه قبل كتابه "الفروق"، فقد ذكره في مواضع منه وسمَّاه كتابًا وأثنى عليه ثناء كريمًا. فقال في ١: ٣ "وتقدَّمَ لي قبل هذا - أي قبلَ كتابِ
_________
(١) وإليك عناوين بعض الكتب التي طالت فيها الأسماء حتى لا يمكن استظهارُها كاملةَ: فللِإمام الوَنْشَرِيشي التِّلِمْسَاني أحمد بن يَحْيَى، المولود سنة ٨٣٤، والمتوفى سنة ٩١٤ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - كتابُ: "المَنْهَجُ الفائق، والمَنْهَلُ الرائق، والمَعْنَى اللائق، بأدَبِ المُوَثِّق وأحكام الوَثَائق"، وللحافظ الكَلاَعي سليمان بن موسى الأندلسي المتوفى سنة ٦٣٤ "مَيْدَانُ السابقين، وحَلْبَةُ الصادقين المصدَّقين، في ذكر الصحابة الأكرمين، ومن في عِدادِهم بإدراك العهد الكريم، من أكابر التّابعين"، و"مُفاوَضَةُ القلب العليل، ومُنَابَذَةُ الأمَل الطَّويل، على طريقة أبي العلاء المَعَرِّي في مَلْقَى السبيل"، وقد حُرِّفَ اسمُ هذين الكتابين تحريفًا فاحشًا في "الاكتفا في مَغازي المصطفى" ص (ط)، بتحقيق الأستاذ مصطفى عبد الواحد وفي "الديباج المُذْهَب" ١: ٣٨٦ بتحقيق الدكتور محمد الأحمدي.
1 / 18
الفروق - كتابٌ لي سمَّيته كتاب الإِحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام وتصرُّفِ القاضي والإمام، ذكررتُ فيه أربعين مسألة جامعة لأسرار الفروق، وهو كتاب مستقل يُستغنَى به عن الإِعادة هنا، فمن شاء طالع ذلك الكتاب فهو حسَنٌ في بابه".
وقال في ١: ٥١ و٤: ٦ - ٧ "وهو كتاب نفيس". وفي ٢: ١٠٤ - ١٠٥ "وهو كتاب جليل في هذا المعنى" أي المعنى الذي تضمَّنه اسمُ الكتاب. وفي ٢: ١٠٦ " ... ومن فَهِمَ الفرقَ بين المفتي والحاكم، وأنَ حُكمَ الحاكم ... لكن لما كان الفرق خفيًا جدًا، حتى إنِّي لم أجد أحدًا يحققه ... فهذا هو الفرق بين قاعدة الخلاف قبل الحكم وبين قاعدته بعد الحكم. ومن أراد استيعابه فليقف على كتاب "الإِحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام" فليس في ذلك الكتاب إلَّا هذا الفرق، لكنَّه مبسوط في أربعين مسألة منوعة، حتى صار المعنى في غاية الضبط والجلاء". انتهى. وكتابُهُ "الفروق" خالٍ من تاريخ فراغِهِ من تأليفِهِ في النسخةِ المطبوعة.
وجاء في آخر كتابه "شرح تنقيح الفصول في الأصول" قولُه: "وكان الفراغ من تأليفه يوم الإثنين لتسعِ ليالٍ مَضَتْ من شهرِ شعبان سنة سبع وسبعين وسِتِّ مئة". انتهى. فيكون تأليفُهُ كتابَ "الإِحكام" قبلَ سنة ٦٧٧، وقد كانت وفاته سنة ٦٨٤ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.
وقد رأيتُ من المناسب أثناء اشتغالي بخدمة الكتاب أن أربط بينه وبين كتاب "الفروق"، فأشرتُ إلى كثير من المواطن التي تتلاقى فيها أبحاثُ الكتابين إذا كان في ذلك فائدة للقارئ المستزيد، وعلَّقتُ بعض عبارات "الفروق، في بعض المواطن، إذ رأيتُ من الأفيدِ نقلَها، وعزوتُها إلى مواضعها من الكتاب المذكور.
وربطتُ بين هذا الكتاب والكتب التي نقَلَتْ عنه وخاصة كتابَ "تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام" للقاضي ابن فرحون المدني المالكي المتوفى سنة ٧٩٩ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، وكتابَ "مُعين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام" للقاضي علاء الدين الطرابلسي الحنفي المتوفى سنة ٨٤٤
1 / 19
- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. وأشرت إلى النقول المأخوذة فيهما عن كتاب "الإحكام"، ففي ذلك فائدة حسنة للباحثين. وقد سطا الطرابلسي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - على كثير من أبحاث كتاب ابن فرحون دون أن يعزوها إليه، كما أشرتُ إلى ذلك في مواضع متعددة من التعليقات، فسامحه الله وإيانا.
والعزو إلى هذين الكتابين يتبعه رقمانِ بينهما فاصلة، فالرقمُ الأول بعد "تبصرة الحكام" يشار به إلى الطبعة البهية المطبوعة بالقاهرة سنة ١٣٠٢، والرقمُ الثاني بعد الفاصلة يشار به إلى طبعة مطبعة التقدم العلمية المطبوعة بالقاهرة سنة ١٣٢١ على حواشي فتاوى الشيخ عِليش المسماة "فتح العلي المالك". والرقمُ الأول بعد "مُعين الحكام" يشار به إلى الطبعة البولاقية المطبوعة بالقاهرة سنة ١٣٠٠، والرقمُ الثاني بعد الفاصلة يشار به إلى الطبعة الميمنية المطبوعة بالقاهرة سنة ١٣١٠. وإذا لم يكن بعد الكتابين المذكورين أو أحدهما إلَّا رقم واحد فمُفادُه اتحادُ الطبعتين في رقم الصفحة المشار إليها. وإنَّما فعلتُ هذا تيسيرًا على مقتني إحدى الطبعتين من هذين الكتابين.
وعلَّقتُ بإيجاز حينًا وبإسهاب حينًا على مواضع من الكتاب موضِّحًا أو مصححًا. وعزوتُ الآياتِ الكريمة إلى سُوَرها، وخرَّجتُ الأحاديث الشريفة من مصادرها، وبيَّنتُ منزلتها من الصحة والثبوت، وترجمتُ للأعلام الذين ورد ذكرهم في الكتاب، ليكون القارئ على استنارة بمعرفة منزلة العالم الذي يقول رأيًا لنفسه، أو يحكي رأيًا عن غيره، وصحَّحتُ ما وقع فيه من تحريف أو خَلَل ما أمكنني ذلك.
وفصَّلتُ جُمَلَه وجعلته مقاطع قصيرة تيسيرًا لقراءته وفهمه، وصنعتُ له محتوى للآيات والأحاديث والأعلام والمصادر والأبحاث. واجتهدت ما استطعتُ في تجويده وتزويقه وتيسيره. وها هوذا جهدي بين يدي القارئ فلا أطيلُ ببيانه، والله المسؤول أن يتقبله عملًا صالحًا لديه، وييسِّرَ النفعَ به، وأن يوفقنا سبحانه لخدمة دينه وشريعته الغراء فذلك الفضل العظيم.
1 / 20
ترجمة المؤلف
هو الِإمام شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصِّهْناجيُّ الأصل، المِصريُّ القرافيُّ المالكي، الفقيه الأصولي المفسِّر المتكلِّم النَّظَّار المتفنِّن المشارك الأديب. ولد بمصر سنة ٦٢٦ كما قاله في كتابه؛ العقد المنظوم في الخصوص والعموم" في الباب الثالث منه: "ونَشْأَتي ومَوْلِدي بمصر سنة ٦٢٦ ست وعشرين وست مئة". ونقله العلامة محمد جُعَيط التونسي في أول حاشيته على "شرح تنقيح الفصول" ١: ٧ وكما ذُكِرَ في "كشف الظنون" ١١٥٣:٢ و"هدية العارفين" ١: ٩٩.
وسببُ شهرته بالقرافي أنَّه كان إذا خرج من منزله في دَيْر الطِّين بمصر القديمة ذاهبًا إلى المدرسة، مَرَّ في طريقه بمقبرة تُسمَّى: القَرافة. وحدَثَ أنَّ كاتب أسماء الطلبة في ثَبَت سماعهم للكتاب عند الفراغ منه لم يَعرف اسمَه، وكان هو حينئذٍ غائبًا، فأثبته باسم القَرافي، لإعتياده المجيء من تلك الطريق، فلزمَتْهُ هذه النسبة واشتهر بها. هذا ما حكاه ابن فرحون في ترجمته في "الديباج المُذْهَب".
وقال القرافي نفسُهُ غيرَ هذا في كتابه "العِقد المنظوم في الخصوص والعموم" إذ قال فيه: ؤالبابُ الثالثُ في صِيَغ العموم المستفادةِ من النقل العُرْفي دون الوضع الُّلغَوي، وهذا البابُ يكون العموم فيه مستفادًا من النقل خاصة، وذلك هو أسماء القبائل التي كان أصلُ تلك الأسماء فيها لأشخاصِ معينة من الآدميين، كتميم وهاشم، أو لامرأةِ كالقَرَافة، فإنَّه اسم لجَدَّةِ القَبِيلَة المسماة بالقَرَافَة.
ونزلَتْ هاته القَبِيلةُ بصُقْع من أصقاع مصر لما اختطها عَمْرو بن العاص ومن
1 / 21