وواظب الأطباء على معالجته نحو شهر، وكانت أسماء تعنى به عناية الحب؛ فكانت ترقد إلى جانبه، وتحمل كل يوم طعامه إليه في السرير ، وتمسحه بالكئول، وتغذيه بأطيب ما يحب من طعام، ولا ترضى للخادمة كي تغنيها عن بعض المتاعب في تنظيفه.
ولكن كل هذا ذهب بلا جدوى؛ فإن المرض سرى في خلاياه البعيدة، وذات يوم هب من فراشه يحاول أن يمشي فوقع، وجاء أحد معالجيه فقال إنه الشلل العام للمجانين.
ولم يعد الأستاذ أنيس يعقل شيئا؛ فإن عينيه كانتا تسددان إلى السقف، ثم تجري الكلمات على لسانه سائلة بلا ضابط.
ومع أن أسماء كان يخالجها اليأس، فإنها كانت لا تزال تستمسك وتأمل ضد الأمل.
وجاءت أمها ورأت المريض فتأسفت وبكت، وبقيت مع ابنتها.
ومضت شهور، وأصبح الأستاذ أنيس في غرفته كأنه بعض الأثاث؛ ينظف جسمه، ويرتب سريره كل يوم.
وكان الضيوف يأتون إلى البيت للمسامرة والمؤانسة، وكانوا جميعهم على وفاق في الصمت عن السؤال عن صحة الأستاذ أنيس.
وأصبح الدكتور أنيس شبحا في البيت، تحتويه غرفته، كلهم يدري علته، ولكن كلهم أيضا يصمت ولا يذكره بكلمة.
وكانت أسماء في الشهر الأول من علته لا تزال تحمل إليه طعامه، وتمسح عنقه، وتخلل شعره بأصابعها، وتتحدث إليه: «بكره تشفى، بكره تقوم، حبيبي ...».
ولكنه كان ذاهلا يتمتم بكلمات مغمغمة وعيناه إلى السقف.
Bilinmeyen sayfa