وفكرت يوما أن أطلع على أوراق والدي، فقدمها لي لاريف بيد خاشعة مرتجفة، ففك رباطها ونثرها أمامي، وما تلوت الصفحات الأولى منها حتى شعرت بانتعاش كأن نسمات عليلة هبت علي من جوانب بحيرة صافية ساكنة، وكنت كلما قلبت صفحة ونفضت عنها غبار الزمان عبقت منها كالعطر حياة أبي تتوالى يوما بعد يوم، فأعد فيها خفقان فؤاده، وأستعرض وقائعها كحقول مساع كلها جد، وقد نبتت في كل جوانبها أزاهر العطف والنبل، وتمازجت ذكريات حياته بتذكار موته، فكنت أتتبع هذه الحياة تتحدر كالجدول الصافي نحو بحر الموت.
وهتفت في صمتي: أيها الرجل الصالح الذي لم يعرف الخوف، ولم يتدنس بلؤم، لكم كنت طاهرا في جهادك، ومخلصا في ولائك، ووفيا في حبك لزوجك أمي، لكم كنت معجبا بالطبيعة، ومتعبدا لربك! فحصرت في هذه العواطف كل حياتك، ولم تدع لسواها منفذا إلى قلبك، فما كانت الثلوج على أعالي الجبال بأنقى من ناصع شيبك في شيخوختك الصالحة، ألق هذا الشيب على رأسي يا أبي؛ فإن فيه من الشبيبة ما ليس على شعري الذهبي. هبني أن أعيش كما عشت أنت، وأن أموت كما مت، فإنني أريد أن أغرس في التراب الذي يواريك غصنا ناضرا لحياتي الجديدة، فأسقيه من دموعي، والله راعي كل يتيم، ينمي هذا الغرس المقدس ليظلل أوجاع ولد، وتذكار شيخ.
وبعد أن اطلعت على الأوراق جميعها، قررت أن أدون أنا أيضا تذكارات أيامي، فأعددت لها كتابا على مثال كتاب والدي، وبدأت بالسير على آثاره، وطبع حياتي على غرار حياته، فكانت الساعة كلما دقت تذكرني بحركة من حركات أبي، وسكنة من سكناته، فكنت أتبع في الطعام والقراءة والتنزه الخطة التي اتبعها هو، فتعودت الحياة الهادئة المنظمة تدخل الطمأنينة إلى قلبي طول نهاري، حتى إذا جاء المساء رقدت مستكنا وأنا أشعر بالغبطة حتى في أحزاني.
وكان والدي شديد الميل إلى العمل في الحديقة، فيوزع أوقاته بعد حرثها توزيعا متساويا بين المطالعة والتنزه، فيعطي لعقله ولجسده ما يحق لكل منهما، واقتديت بأبي أيضا في أعمال البر متمما ما بدأ به، فكنت أذهب مفتشا عمن أتمكن من مد يد المساعدة لهم، وعددهم وفير في الوادي حتى اشتهرت بينهم، وهكذا - لأول مرة في حياتي - شعرت بالسعادة، فليس كالرحمة ما يطهر الأحزان ويقدسها؛ فقد بارك الله دموعي، فتعلمت الفضيلة من الآلام ...
الفصل الثالث
وكنت أتمشى ذات مساء عند مدخل القرية تحت ظلال الزيزفون، فرأيت سيدة فتية تخرج من أحد المساكن المنفردة، وكانت مقنعة ومرتدية أثوابا على غاية من البساطة، غير أن قامتها الهيفاء، وخطراتها الرشيقة استوقفتني، فاتبعتها بنظري، وعندما وصلت إلى المرج كان هنالك جدي أبيض يرتعي منفردا، فلما رآها قفز لملاقاتها، فأمرت يدها على رأسه وتلفتت يمينا وشمالا كأنها تفتش عن أوراق خضراء تقتطفها له، وكان قربي شجرة من التوت البري، فقطعت منها غصنا وتقدمت به نحو الجدي، فتقدم هو أيضا نحوي ولكن بخطوات متمهلة، حتى إذا دنا من الغصن وقف وجلا ينظر إلى صاحبته كأنه يتوقع صدور أمرها، فأشارت إليه لتشجعه على الإقدام، غير أنه لبث خائفا حتى جاءت ووضعت أناملها على الغصن، فاختطفه الجدي من يدي، والتفتت المرأة المجهولة إلي مسلمة وسارت في طريقها.
ورجعت إلى البيت، فدعوت لاريف ووصفت له المسكن المحاط بالحديقة الصغيرة عند مدخل القرية، واستفسرت منه عن سكانه، فقال: إن من يقطنه سيدتان: إحداهما عجوز مشهورة بالتقوى، والأخرى تدعى مدام بيارسون، وهي السيدة التي رأيتها، ولما استعلمت عنها وعما إذا كانت زارت والدي من قبل قال: إنها تعيش منعزلة، وإنه قليلا ما رآها عند والدي.
ولم استزده إيضاحا، بل عدت إلى ممشى الزيزفون وجلست على مقعده، فاقترب الجدي مني يلاطفني، فشعرت بحزن عميق يستولي علي، ونهضت أرسل بصري على الطريق التي كانت مدام بيارسون قد اتجهت إليها، ثم اندفعت أتخطاها وأنا ذاهل حتى توغلت في الجبل.
وكانت الساعة الحادية عشرة مساء عندما خطر لي أن أعود أدراجي، ولكنني رأيت مزرعة قريبة مني، فتوجهت إليها لأتناول فيها قدح لبن وقطعة خبز، وكنت من جهة أخرى شعرت بنقط كبيرة تتساقط من الغمام منذرة بعاصفة شديدة، فقصدت بيت المزرعة وطرقت بابه، فما أجابني أحد بالرغم من وجود نور فيه، فتقدمت إلى النافذة، وتطلعت فإذا في الباحة نار مشبوبة، والزارع الذي كنت أعرفه جالس قرب فراشه، وضربت على زجاج النافذة لأناديه، فإذا بالباب يفتح فجأة ومدام بيارسون تظل منه سائلة: من الطارق؟
وما كنت لأتوقع أن أرى هذه السيدة، فما خفي عليها اندهاشي.
Bilinmeyen sayfa