وكان خادمي «لاريف» شديد التعلق بوالدي، ولعله كان خير الناس بعده في تقديري، وكان من سنه ومن قده، ويلبس ما يهبه إياه من أثوابه، وقد وخط الشيب شعره بعد أن قضى عشرين سنة في خدمته، فاقتبس شيئا من حركاته.
وكنت بعد العشاء أتمشى في الغرفة فأسمع وقع أقدام خادمي يتمشى أيضا في الدار، وما كان يدخل إلى الغرفة بالرغم من تركي الباب مفتوحا، ولكنا كنا نلتقي من حين إلى حين فيرى أحدنا الآخر من خلال دموعه، وهكذا كانت تمر ليالينا، فما كنت أطلب من الخادم إشعال المصباح إلا بعد أن يكون مضى وقت طويل على غروب الشمس.
وكان البيت لم يزل على ترتيبه القديم، فما زحزح الخادم ولا أنا ورقة من موضعها، فكان مقعد والدي لم يزل قرب الموقد، وبقي الخوان والكتب والرياش في مواضعها. وكنت أحترم الغبار الذي علا هذه الأشياء، وعندما كنت أرتدي مباذل أبي وأسترخي على مقعده كان يخيل إلي أن في الجدران عيونا ترمقني بلحظات الإشفاق، وأنني أسمع همسا يقول: أين مضى الوالد ... فما يتربع على كرسيه إلا اليتيم ...؟
ووردت إلي بعض الرسائل من باريس، فأجبت الجميع أنني أنوي تمضية الصيف في الضاحية وحدي جريا على عادة أبي، وبدأت أدرك أن في كل شر بعض الخير، وأن الآلام العظمى مهما قيل فيها راحة عظمى، فإذا ما تكشف المقدور لنا من علم غيب الله؛ فإنه ليصدعنا لينبهنا من غفلات الحياة، وإذا ما تكلمت هي أسكت صوتها كل صوت، وإذا كانت الآلام الموقوتة تجدف شاكية ظلم السماء؛ فإن الآلام المستمرة الكبرى لا تجدف ولا تشكو، بل تخضع وتتنبه لتسمع وتعي.
وكنت كل صباح أقف الساعات الطوال متأملا في مشاهد الطبيعة، وكانت نوافذ غرفتي تطل على واد عميق يرتفع من وسطه جرس المعبد على قبابه، فكان كل ما يمتد نظري عليه ينم عن البساطة والفقر، وما كانت مشاهد الربيع بأزهاره المتفتقة وأوراقه الغضة لتثير في نفسي ما يتخيله الشعراء من التفجع؛ إذ يرون في انجلاء الحياة ابتسامة ساخرة بالموت، ولا أرى من يقول بهذا القول إلا مغالطا، أو شاعرا بقلب لم يتكامل الشعور فيه.
إن من يخرج عند بزوغ الفجر من قاعة المقامرة وقد فرغت يده يمكنه أن يشعر أن بينه وبين الطبيعة عداء ونضالا، فهو أمام أنوار الشفق كمصباح ليلة فاجرة ... ولكن ما يمكن أن تسر به الأوراق المطلة من غصون الربيع للولد المنتحب على أبيه؟ وما دموع عينيه إلا أخوات الأنداء، وهل أوراق الصفصاف نفسها إلا قطرات دموع؟
لقد نظرت طويلا إلى السماء والغاب والمروج، فأدركت أن تعزية الناس للناس إنما هي تعلة من بنات الخيال، وما كان لاريف ليخطر له أن يعزي نفسه، أو يوجه إلي عبارات التعزية؛ فقد كان هذا الرجل يخشى أن أبيع البيت وأذهب به إلى باريس، ولعله كان مطلعا على حقيقة حياتي الماضية؛ إذ كانت تبدو عليه دلائل القلق في أول الأمر، ولكنه عندما رآني أعد المنزل لأقيم فيه شعرت بنفوذ نظراته إلى أعماق قلبي، وكان ذلك يوم استحضرت من باريس صورة كبيرة لأبي علقتها على جدار غرفة الطعام. ولما دخل لاريف ورأى هذه الصورة أخذه الذهول، وبدأ ينقل نظراته من رسم والدي إلى وجهي، وفي هذه النظرات من تساوي الحزن والفرح ما يصعب التعبير عنه، فكأنه يقول لي: يا للسعادة! لسوف نستغرق بسكون في حزننا.
ومددت له يدي فأوسعها تقبيلا، وكان هذا الخادم يعتني بأحزان سيده كأنها سيدة أحزانه، وكنت كلما ذهبت في الصباح إلى القبر أرى أنه سبقني إليه وسقى أزاهره؛ لينسحب عند وصولي ويخلي لي المكان.
وكان يتبعني عندما أمتطي جوادي وأذهب متنزها في الغاب، فأراه قد أطل علي في الوادي ماشيا يسير ورائي وهو يمسح عرق جبينه لاهثا، فاشتريت له فرسا من أحد الفلاحين، وهكذا أصبحنا كلانا نذهب متجولين في الغاب.
وكان في القرية من معارف أبي من كانوا يزورونه أحيانا، ولكنني اضطررت إلى قفل بابي دون كل زائر، وإن صعب ذلك علي، فما كان لي جلد على مقابلة أحد.
Bilinmeyen sayfa