تعيشين هنا بعيدا عن البشر كبذرة قذفت بها يد الصدف، فلا ترخين أجفانك خجلا ولا ترتدي ملامحك احمرار الحياء. على جبهتك تتجلى حرية أهل الجبال وصراحتهم، وفي ابتسامتك يبسم الجود والحنان، وعطفك يتدفق تدفق خواطرك المنعتقة من ذهنك رغم قيود جهلك وعلى قلة متاعك اللفظي. قيود تشعرين بها وتجاهدين في التغلب عليها فتجيء إشارتك مفعمة نشاطا ولطفا معا. كذلك رأيت مرة أطيارا تصفق بأجنحتها لمكافحة العاصفة.
كل يد تقطف لك الأزهار، أيتها الحسناء، فيا سعد من عاش قربك في واد صغير كثيف الشجر كثير الزهر، يلبس كملابسك ويرعى الأغنام مثلك! وهناك أمنية خير من هذه، ولكن أنت موجة من البحر الإنساني العجيب. ليت لي بعض السلطة عليك وليتني من جيرانك لأتمتع بصوتك وأهنأ بمرآك! بل ليتني أخوك الأكبر أو أبوك أو أي واحد من أقاربك!
وإني لأحمد السماء التي قادتني إلى هذا المكان المنفرد حيث عرفت السرور. سأذهب حاملا معي الجزاء لأن للذاكرة ميزة كأنها ميزة النظر. فلماذا أكره الابتعاد؟
وها إني أفرح وأتألم في آن واحد لفراقك، يا فتاة الجبال الحلوة! وسأحفظ أبدا في ذاكرتي هذه المشاهد البهية حية كما أراها الآن، كوخك الحقير، والبحيرة، والخليج، والشلال لا سيما أنت الروح المحيية جسم هذا الجمال.
وكانت معاني القصيدة تهبط على روحي كقطرات الندى. وإذا بصوتها العذب يتصاعد كنغمة الأرغن تنبه المصلي من تأملاته العميقة، فقالت: «هكذا أريد أن تحبني يا صديقي، وهكذا يحبني الطبيب، وعلينا أن يحب بعضنا بعضا هذا الحب وأن يثق الواحد بالآخر هذه الثقة. وعلى قلة اختباري أظن أن العالم لا يفهم هذا الحب فجعل بنو الإنسان هذه الأرض صحراء يقطنها القحط والكآبة. لا بد أن الحال كانت على غير ما هي في غابر العصور وإلا لما حدثنا «هوميروس» عن «نوزيكا» ذات القلب الحساس؛ أحبت نوزيكا أوديسفس للنظرة الأولى فأسرت إلى صويحباتها: «حبذا الاقتران به! وليت المقام بيننا يطيب له!» ولكنها خجلت أن تسير مع غريب له هذا الجمال الباهر لئلا يقال إنها بحثت عنه. فما أبسط هذه الحكاية وأقربها إلى الواقع! وعندما قيل لها بوجوب رجوعه إلى زوجته وولده لم تتذمر ولم تشك بل امتثلت واختفت، ونحن القراء نشعر بأنها حملت أبدا في فؤادها صورة ذلك الغريب القوي الجميل. لماذا يتجاهل شعراؤنا هذا الحب الصادق وهذا الفراق الهادئ؟ أما الشاعر العصري فيخرج من نوزيكا حبيبة لفرتر لأن الحب لم يعد سوى مقدمة لمأساة الزواج. أهذا هو الحب دون سواه؟ هل جفت ينابيع السعادة الطاهرة؟ ألا يريد الناس أن يعرفوا من الحب غير الخمرة المسكرة ليتجاهلوا ينبوعه العذب الشافي الظمأ؟»
فأردت تعزيز كلامها واستشهدت بالشاعر الإنجليزي القائل: «ألا يحق لي أن أبكي لما فعل الإنسان بالإنسان؟!»
فقالت: «ما أسعد الشعراء! كلماتهم تنطق العواطف الخرساء في ألوف القلوب وتنشد الأصوات أناشيدهم لإظهار أسرار الجنان. فؤادهم يخفق في صدر الغني والفقير على السواء فيطرب معهم السعداء ويبكي التعساء لبكائهم. غير أن وردسورث أحبهم إلي، من أصدقائي من ينفي عنه الشاعرية. أما أنا فأحب منه إعراضه عن الاستعارات العادية، وتجنبه الغلو والمبالغة وما يسمونه «الطيرة الشعرية». هو صادق وأي ميزة توازي هذه؟ هو يفتح عيوننا على الجمال المنثور تحت أقدامنا نثر زهرات الأقحوان في الرياض والمروج، ويسمي الأشياء بأسمائها، ولا يحاول إذهالنا وتغريرنا بل يرغب في إظهار الموجودات يزينها جمال الطبيعة قبل أن تشوهها يد الإنسان. أليست قطرة الندى على الحشيش الأخضر أتم بهاء وأوفى ثناء من لؤلؤة ثمينة صيغت في قالب الذهب؟ أو ليس الينبوع المتدفق من صدر الأرض أجل وأبدع من مياه فرساي الاصطناعية على الإطلاق؟ أليست قصيدة «فتاة الجبال» ألطف وأصدق من «هيلانة» جوتي و«هايدي» بيرون؟ إني آسفة لعدم وجود من يماثل وردسورث في جلاء الفكر وسذاجة التعبير بين شعرائنا. قد كان يشبهه «شلر» لو أنه استوحى خفايا نفسه بمثلما استوحى تاريخ اليونان والرومان، كذلك «روكرت» قد كان يداينه لولا أنه آثر عيشة الرغد والرخاء بين ورود الشرق على سكنى وطننا الفقير. قل الجريء من الشعراء الراضي بنفسه، المقدم على إظهارها مجردة من الزوائد؛ وردسورث ذلك الشاعر. وكما نستمع برضى إلى أعاظم النوابغ حتى عندما لا يكونون أعاظم أملا في مشاركتهم في الشعاع الساطع المنزل إليهم من شمس اللانهاية كما شاركناهم في أفكارهم العادية المألوفة، كذلك أحب وردسورث نفسه حتى في القصائد التي لم تضمن فكرة مستحدثة. لا بد لكبار الشعراء من نوبة راحة يغيب فيها عنهم الوحي والبيان الخلاب؛ فقد نقرأ عند هوميروس عشرات الأبيات لا تزينها لمحة جمال، وكذلك دانتي. بينا بندرس الذي يستفز إعجابكم جميعا يضعف احتمالي وينفد صبري بدوام ذهوله وافتتانه. إني لأضحي أثمن ما لدي لأتمكن من الاصطياف على شاطئ البحيرات حيث يقيم وردسورث فأزور معه الأمكنة التي أحب ووصف، وأحيي الأشجار التي حماها من ضرب الفئوس، وأرقب قربه غياب الشمس الذي أبدع في تصويره بالألفاظ إبداع مصورنا «ترنر» في تمثيله بالألوان.»
لم يكن صوتها ليهبط شأن الأصوات الأخرى في نهاية الخطاب بل كان يرتفع ويقف على نبرة استفهام، كأنها الطفل القائل: «أليس كذلك يا أبي؟» كان ذلك الصوت يصعد نحو مخاطبها بدلا من أن يهوي عليه، تمازجه أنة توسل تجعل مخالفتها أمرا عسيرا.
فقلت: «وردسورث عزيز علي شاعرا وعزيز رجلا. الأفكار في شعره آكام صغيرة نتسلقها بلا تعب بينا هي عند غيره جبال باذخة محفوفة بالصعاب والأخطار. لم أكن أكترث له في البداية حين كان يذهلني أن يعجب به أكبر عقول إنجلترا الحديثة هذا الإعجاب العظيم، ولكني اقتنعت بالتالي أن شاعرا تنظر إليه أمته نظرة الإكبار وتنزله من تقديرها تلك المكانة لجدير بأن يدرس ويستقصى، وإنما تجاهل وجوده خسران للمتجاهل. الإعجاب فن لا يكتسب بلا دراسة وتمرين، فمن الألمان من لا يذوق راسين، ومن الإنجليز من لا يفهم جوته، ومن الفرنسيين من لا يرى في شكسبير إلا فلاحا خشنا. وما مغزى ذلك؟ مغزاه أن طفلا غريرا يفضل موسيقى الرقص على إيقاعات (Symphonics)
بتهوفن ذات الفخامة والجلال. فن الإعجاب الصميم قائم في اكتشاف أرواح الشعوب والتعمق في دراسة كتب تكبرها الأمم، ومن بحث عن الجمال عثر عليه وعلم أن الشعوب لا تعظم من نوابغها إلا من كان حقيقا بالإعجاب، وإن الفرس لم يكونوا مخدوعين في حافظهم، ولا الهنود في كاليدازا. لا يفهم الرجل العظيم من المجابهة الأولى ولا يوصلنا إلى اكتناهه غير المثابرة والنصب والعمل. ومن الغريب أن ما يرضينا لأول نظرة لا يطول استحساننا له.»
Bilinmeyen sayfa