مق إن الصباح وجه الأمير
4
وهكذا مكث ابن عمار لدى الراشد يظهر أنه يسليه وهو في الواقع يستطلع أنباء مرسية التي كانت قريبة إليه حتى إذا علم أن الوقت قد حان أرسل إلى المعتمد يخبره أن مرسية ثائرة على حاكمها «ابن طاهر» وأن زعماءها قد كتبوا إليه يريدون جيشا من المعتمد يفتحها، ويلح ابن عمار في خطابه ولا يفوته أن يذكر أن ليس ثمة رهينة ولا اتفاق فليس ثمة خشية، ومرة أخرى يصدق المعتمد أقوال ابن عمار فيرسل الجيش على أتم أهبة ويتولى ابن عمار قيادة الجيش ويأخذ سبيله إلى أقرب حصن وهو حصن «بلج» وكان زعيم الحصن رجلا يدعى «ابن رشيق» ما إن يسمع بقدوم ابن عمار حتى يخرج إليه ليستقبله ويدعوه للنزول في قصره فيقبل ابن عمار الدعوة ويفسح له الضيف مكانا رحيبا ويسكب عليه من الحفاوة والتكريم ما لم يكن ابن عمار ينتظره. وامتحن ابن عمار «ابن رشيق» فعرف أنه يستطيع أن يثق به فحادثه في أمر «مرسية» وطريق فتحها فإذا ابن رشيق على أتم معرفة بحالة مرسية وبالوسيلة التي تصل بهما إلى الفتح. وهكذا وجد ابن عمار عونا من حيث لا يحتسب وما هي إلا بعض الساعة حتى كانت حامية حصن بلج تحت قيادة ابن رشيق قد مشت مع جيش ابن عمار في طريقهما إلى مرسية.
كانت بلدة «مولا» هي طريق المؤن إلى مرسية وليس غيرها من طريق فحاصرها ابن عمار وابن رشيق حتى وقعت في أيديهما فأصبحت مرسية في حال من الضنك شديد. وفرح ابن عمار بفتحه هذا ولم يطق صبرا، فترك ثلة قليلة من فرسانه في مولا وسارع إلى المعتمد ليزف إليه البشرى، وليمحو أثر الهزيمة الأولى، وليتقبل من مولاه التهنئات، و... ولشيء آخر يرجو مولاه أن يحققه له، أنه يريد أن يكون حاكما على مرسية إن هي وقعت له، وما كان المعتمد ليمنع عنه مرسية أو غيرها فهي له.
وتلقى ابن عمار أنباء من عونه ابن رشيق يقول فيها إن وجوه مرسية من ذوي السطوة والسلطان قد خرجوا إليه يسألونه أن يأذن لهم أن يعاونوه في فتح مرسية، وطلبوا إزاء ذلك بعض المال والهدايا. ولا ينتظر ابن عمار حتى يستأذن المعتمد بل هو يرسل إلى ابن رشيق أن اقبل ما يعرضون، ثم هو يلتفت إلى من معه فيقول «إن هو إلا يوم أو بعض يوم حتى توافينا الأنباء بفتح مرسية.»
وما هو إلا يوم أو بعض يوم حتى فتحت مرسية أبوابها بأيدي الخونة الذين ما لبثوا أن مدوا أيديهم هذه ليتلقوا بها الهدايا والأموال.
وما هو إلا يوم أو بعض يوم حتى كان ابن عمار في مرسية ومعه الكثير العديد من الهدايا الفخمة الجميلة فإن أملا ضخما في حياته قد تحقق، وما أهون ما يبذله في سبيله وإن غلا!
لم يكن ابن عمار قد تهيأ لدخول مرسية بموكب فخم فكان دخوله لها على غير انتظار من أهلها ولكنه في صباح وصوله أعد لنفسه استقبال الملوك الغزاة الفاتحين، بل إنه لبس مثل ما يلبس الملوك فوضع على رأسه تاجا كتاج المعتمد الذي يتخذه حين يجلس إلى استقبال.
وكان «ابن طاهر» حاكم مرسية المعزول قد استكان إلى كسرة من بيته يبكي ملكه الضائع، وأراد ابن عمار أن يبدو لأهل مرسية كريم النفس عف الخصومة فأرسل إلى «ابن طاهر» بضع حلل فاخرة ليختار منها ما يريد هدية خالصة من ابن عمار، ولكن «ابن طاهر» أبى أن يجود عليه ابن عمار الذي يعرفه ويعرف خرجه وحماره وأخلاق ثيابه. ولم يرد «ابن طاهر» أن يرد الثياب دون أن يخز ابن عمار وخزة تريح بعض ما في نفسه فإذا هو يقول لمن يحمل إليه الحلل: «ارجع إلى مولاك ابن عمار فقل له إن ابن طاهر لا يريد من الثياب غير جبة طويلة خلقة من خشن الصوف الناحل، وغير قلنسوة قذرة، فإن سألك مولاك عنهما فقل له إنك أنت أعلم الناس بهما.»
وعاد الرسول يحمل الحلل والرسالة، وأحس ابن عمار وخزة الحديث ولكنه لم يرد أن يفسد فرحه بمثل هذه القالة فكتمها في نفسه وقد أزمع ردها حين يفرغ إلى ابن طاهر، ثم التفت إلى أفراحه القائمة، لقد أصبح ملكا؛ فإن مرسية لم تكن مدينة فحسب كبلدته «شلب» ولكنها كانت مملكة تتبعها مدن وولايات.
Bilinmeyen sayfa