عودة
عهد الملوك
عهد جديد
صداقة وحب
إلى الطريق
عند قوم ... وعودة
دهاء الوزير
صفقة، أهي رابحة؟!
مع الملك
قمة المجد
Bilinmeyen sayfa
بين مرسية وإشبيلية
إلى أين؟
سحيق الهاوية
عودة
عهد الملوك
عهد جديد
صداقة وحب
إلى الطريق
عند قوم ... وعودة
دهاء الوزير
Bilinmeyen sayfa
صفقة، أهي رابحة؟!
مع الملك
قمة المجد
بين مرسية وإشبيلية
إلى أين؟
سحيق الهاوية
ابن عمار
ابن عمار
تأليف
ثروت أباظة
Bilinmeyen sayfa
عودة
أهكذا يعود! يا لها من آمال عراض تلك التي صحبها يوم ترك موقفه هذا منذ سنين! إنه لم ينس بعد تلك الأماني العذبة التي كانت تزحم نفسه يوم ضاق به العيش في بلدته «شلب» فنزح عنها وفي نفسه آمال، وفي قلبه أمان، وفي صدره عزم، وفي كل دمائه شعر. لقد ترك بلدته مهد ميلاده ومدرج طفولته ومغنى شبابه ليدور بشعره على الملوك يسترفد مالهم بما يرفده عليهم من شعره ولقد دار، ولقد مدح، فبالغ في المديح، ولقد كذب على الحق فأوغل في الكذب، ولقد أمات ضميره ليجعل الظالم منهم عادلا والمجنون فيهم حكيما، ولقد محا من ذاكرته كل ما يعرفه عن هؤلاء الملوك من شر، ولقد أنمى بشاعريته كل ما كان يعرفه عنهم من خير، ثم هو زاد عليه، ثم هو أنشأ لهم الخير، ثم هو قلب مقابحهم أفضالا ثم مدح ثم مد يده وثناها. ألا ما أبخس ثمن الضمير في رحاب الملوك! إنه ليفكر أنال كفء ما أعطى؟ أكانت تساوي هذه الدريهمات خروجه ودورانه وكذبه واختلاقه؟ بل أتعدل هذه الدريهمات أن يترك بلده الحبيب؟ إن يكن ضاق به فها هي ذي الدنيا جمعاء تضيق به، ولكن أضاقت الدنيا أو ضاقت «شلب» به هو أم إنها ضاقت ببضاعته؟ وكيف تضيق؟ إنه يبيع شعرا، إنه يهب لمادحه فكرا انتظم فصار شعرا، أهذا قليل؟! ما شأن ممدوحه إن خالج هذا الفكر شعور أو لم يخالجه؟ ألم ينظم شعرا؟ ألم يحسن ما نظم؟! فما هذه الدريهمات الضئيلة التي يصيبها؟! فأين هذا العدل الذي يزعمون وجوده في الدنيا؟! وأي دنيا تلك التي تجعل الشاعر العبقري يتمسح بأبواب الجهلة من الملوك والوزراء؟! يسكب عليهم شعره فلا يصيب منهم غير هاته الضحكة البلهاء التي تلتصق بشفاههم يحاولون بها إفهامه أنهم يفهمون ما يقول، ويحاولون بها أن يصدقوا هم في أنفسهم أن هذا المديح الذي يسمعون حق لا رياء فيه ولا كذب، ثم هو لا يصيب من بعد إلا هذه الدريهمات يلقونها إليه إلقاء! ولو تجسمت السعادة التي يحسونها بالمديح ولو وضعت مجسمة في كفة لما عادلها مال العالم أجمع، ولكنهم مع هذا يبخسونه حقه واهمين أن ما قاله لا يعدو الحق في شيء فهو لم يخلق جديدا، ولم يمت ضميرا، ولم ينشئ فضلا، ولم يقلب القبح حسنا، وهو لا يستحق إلا هذا القليل.
هكذا كان يفكر ابن عمار وهو واقف بأبواب «شلب» عائدا إليها من سفره هذا الطويل وقد تضاءلت آماله؛ فبعد أن كانت تهفو إلى الغنى والشهرة والجاه العريض، أصبحت تحوم حول حفنة من الغلال يقيم بها أود نفسه وأود حماره الذي أضناه السفر في تحقيق الآمال.
دخل ابن عمار «شلب» راكبا حماره الهزيل يفصله عن ظهره خرج قديم قذر كان هو كل ما يلبسه الحمار. أما هو، أما أبو بكر محمد بن عمار فقد كان يضع على نفسه بضعة أخلاق من الثياب إن اختل نظام واحدة منها وضحت من تحتها عظام الشاعر بارزة تكاد تطل من جسم صاحبها، وكان يضع على رأسه قلنسوة صغيرة يكاد شعره أن يلقي بها. دخل ابن عمار شلبا لا يقصد فيها إلى أحد فلقد ربى وشب في قرية من أعمالها، وإن كان قد تلقى علومه في شلب على «ابن الحجاج يوسف بن عيسى الأعلم» إلا أن أستاذه هذا قد مات ومات معه أغلب من كان يعرفهم ابن عمار من الأساتذة، والباقي منهم لا يجرؤ ابن عمار أن يقصد إليه ليطلب فجميعهم فقير، فلم يبق أمام ابن عمار إلا أن يكافح وحده ليرد جوع نفسه وجوع حماره الذي أضناه.
سار ابن عمار يتلفت في ذلة الجائع وفي عزة الشاعر فلا يجد وسيلة إلى أحد ممن يرى، وكان الناس ينظرون إليه على حماره هذا الهزيل فتبدو على وجوه بعضهم الشفقة والإشفاق على هذا الهزال المركب، وتبدو على وجوه أخرى السخرية من تلك الأسمال التي تكاد تلتئم جنباتها جميعا من شدة هزال صاحبها، والتي كانت تبدو وكأن أحدا لا يلبسها، وإنما هي منتصبة بقدرة معجزة، وكانت السخرية تتضح وتستبين حين تنصب عين الساخر على الحمار المضنى من كثرة المشي لا من الحمل الذي يحمل فهو لا يحمل شيئا.
ولكن ابن عمار كان مشغولا عن هذا كله بجوعه وجوع حماره الذي تركه يسير لم يوجهه وجهة معينة بل ترك له حق القيادة، والحمار لا يعرف طريقا إلى بيت، ولا سبيلا إلى مرتع، وإنما هو يرى طريقا فيسير، ولقد يعوج الطريق أو يعتدل فيعوج معه ويعتدل، حتى إذا وجد طريقين عليه أن يختار بينهما، اختار دون أن يكون لعقله وازع في هذا الاختيار فهو حمار يسير لا يدري لماذا يسير ولا أين الطريق. وطال الأمر على ابن عمار والحمار؛ فالطريق طويل على من لا يعرف مقصدا، ولقد مالت الشمس للغروب وكادت أن تغيب وكاد أن يغرب معها أمل ابن عمار الأخير الذي تضاءل حتى أصبح حفنة من غلال.
وفجأة أشرق سوق الغلال في عين ابن عمار فوقف الحمار من تلقاء نفسه على مبعدة قريبة من السوق، وأخذ ابن عمار يفكر في وسيلة ينال بها أمله الأخير هذا، أيسأل تاجرا أن ينسئه حفنة غلال يرد له ثمنها عند ميسرة؟ ولكن ما الذي يدعو التاجر إلى ائتمانه وهو لا يعرفه؟ وهل هو نفسه يأتمن نفسه؟ وأين هي تلك الميسرة التي يريد أن يرد فيها الثمن؟ لا، لا فائدة من النسيئة، أيستجدى التاجر؟ لا ودون هذا موته وموت الحمار جميعا، فكر ابن عمار فأطال التفكير ثم وثب إلى ذهنه خاطر، أخذ يقلبه على أوجهه، لماذا لا يمدح هذا التاجر بشيء من الشعر! نعم إنه لم يمدح غير الملوك والسراة من القوم ولكن ما البأس في أن يمدح هذا التاجر؟ لقد كان يمدح الملوك والسراة ليصيب منهم مالا يشتري به غلالا، لقد كان الملوك والسراة طريقا له إلى هذا التاجر وأمثاله، وقد مدح هو الطريق ليصل إلى المقصد فما له لا يمدح المقصد بعد أن خذله الطريق! ولكن أيفهم التاجر الشعر؟ وحينئذ ضحك ابن عمار في نفسه فأغرقت نفسه في الضحك، وهل فهم الملوك والسراة جميعهم الشعر؟ سوف يمدح التاجر فإنه بهذا ينال ما يصبو إليه وإنه بهذا سيدخل إلى نفس التاجر فرحا لم يتوقعه في يوم من الأيام. وعزم ابن عمار وبدأ في التنفيذ، وأخرج من جيبه قرطاسا وخط عليه في سرعة بضعة أبيات، ثم هم أن يدع ظهر الحمار ويسعى إلى التاجر ولكنه عاد إلى نفسه وخجل أن يفعل؛ فهو لم يعود وقفه في السوق، وهو لم يعود أن يرى ممدوحه معه على الأرض، بل كان يراه دائما على ذروة عرشه. فكر ابن عمار في وسيلة يبلغ بها قرطاسه إلى التاجر، وبينما هو حائر، مر به غلام استوقفه ابن عمار، وطلب إليه أن يبلغ ورقته وفيها شعره إلى التاجر الذي استوجهه ابن عمار، وكان الغلام طيعا فأخذ الورقة وقصد بها إلى التاجر، فأخذها وألقى إليها نظرة كانت كافية لأن يغمر السرور وجهه فلقد أصبح ممدوحا يقال فيه الشعر ويرجى لديه النوال، ولم يفهم التاجر من الشعر شيئا غير أنه شعر وغير أن هذا الشعر لا يمدح به غير الملوك والسراة. ولما كان التاجر واثقا أنه ليس ملكا فلا بد إذن أن يكون من السراة وهكذا أسرع إلى مخلاة لديه وأراد أن يملأها برا
1
ولكن غريزة التاجر فيه ردت يده في سرعة وألقت بها إلى الشعير فملأ المخلاة منه وأعطاه إلى الغلام، ثم التفت إلى غلاله يجمعها، يريد أن يبلغ بيته، فيفهم زوجه التي لا تني عن إيذائه أنه أصبح ممدوحا وأنه من السراة.
وانكفأ الغلام إلى ابن عمار يحمل إليه المخلاة بحملها الجديد ففرح ابن عمار، ورأى في هذه المخلاة آماله قد تحققت، بل إن آمال حماره أيضا قد تحققت معه. ولم يبق له إلا أن يفكر في مثل هذه الآمال لغده الذي ينتظره، والذي يتربص به ليفعل به مثلما فعل الأمس، ومثلما يفعل اليوم، ومثلما يفعل كل إخوان هذا الغد من ذاهب وحاضر في ابن عمار؛ فويل لابن عمار من غده، أو ويل للغد من ابن عمار.
Bilinmeyen sayfa
عهد الملوك
لم يمكث ابن عمار في شلب فقد أصبحت في عينيه مثل سائر البلدان التي مر بها في تطوافه وإن تكن في نفسه مهد طفولة ومدرج صبا ومعهد ذكريات.
كان لا بد لابن عمار أن يأكل، وكان لا بد لحماره أن يأكل معه، ولم يكن في مقدور ابن عمار أن يقصر شعره على التجار، وما كل تاجر مثل ذلك الرجل الكريم الذي وصله، وإن تكن آمال ابن عمار تضاءلت إلا أنها في البعيد البعيد من نفسه ما زالت وهي هي، وما زالت تلقي به إلى كل متجه يرجى فيه خير.
وكانت الأندلس في ذلك الحين مقسمة إلى دويلات على كل منها حاكم وقد أصر هؤلاء الحكام أن يسموا دويلاتهم ممالك حتى يتسنى لهم أن يسموا أنفسهم ملوكا، ولقد كثر بينهم التنازع ولكنهم لم يتنازعوا في هذه التسمية قط؛ فقد اعترف كل منهم للآخر بها حتى يضمن اعتراف هذا الآخر لنفسه، ولكن التاريخ أبى أن يعترف باعترافاتهم هذه ولم يقبل أن يطلق عليهم ملوكا، ثم يسكت عنهم، وإنما أطلق عليهم اسم «ملوك الطوائف»، فكانت هذه التسمية من التاريخ دليلا على أن هذا التاريخ قد يصدق في بعض الأحايين.
كان بنو عباد هم أقوى أسرة حكمت في عهد ملوك الطوائف هؤلاء، وقد كانت إشبيلية هي مقر حكمهم، وقد تحدر الملك في بني عباد حتى وصل إلى «أبي عمرو عباد بن محمد بن إسماعيل بن عباد». وقد ولي الحكم بعد أبيه وأطلق على نفسه اسم المعتضد، وكان أبوه القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل من خيرة الملوك الذين حكموا في هذا الزمان. وقد سار المعتضد في طريق أبيه قليلا فكان يستشير ويعدل، ثم مال عن هذا الطريق فاستبد بالحكم وحده، ولم يكن عهده كله شرا فإن التاريخ ليقول عنه كثيرا من الخير، ولكنه كان سفاكا باطشا. ولعل النقائض لم تجتمع في شخص كما تجمعت في المعتضد؛ فهو قاس غليظ القلب، ولكنه في مجالسه رقيق الحاشية، حسن الذوق، شاعر محب للشعر، وقد كان مستمعا للشعر خيرا منه ناظما له.
سمع ابن عمار عن المعتضد وعن حبه للشعر، فشد إليه الحمار عساه أن يجد لنفسه متسعا في الزحام، ووقف ابن عمار إلى المعتضد وقد جلس إلى جانبه ابنه المعتمد وقد كان من أحسن شعراء عصره. وقف ابن عمار وألقى قصيدته التي أضنى ذهنه في إعدادها؛ فقد كان يعلم أن آمال المستقبل أجمع رهينة بأبياته هذه؛ قال ابن عمار:
أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى
والنجم قد صرف العنان عن السرى
والصبح قد أهدى لنا كافورة
لما استرد الليل منا العنبرا
Bilinmeyen sayfa
والروض كالحسنا كساه زهره
وشيا وقلده نداه جوهرا
أو كالغلام زها بورد رياضه
خجلا، وتاه بآسهن معذرا
روض كأن النهر فيه معصم
صاف أطل على رداء أخضرا
وتهزه ريح الصبا فتخاله
سيف ابن عباد يبدد عسكرا
عباد المخضر نائل كفه
والجو قد لبس الرداء الأغبرا
Bilinmeyen sayfa
ملك إذا ازدحم الملوك بمورد
ونحاه لا يردون حتى يصدرا
أندى على الأكباد من قطر الندى
وألذ في الأجفان من سنة الكرى
يختار أن يهب الخريدة كاعبا
والطرف أجرد، والحسام مجوهرا
قداح زند المجد، لا ينفك عن
نار الوغى إلا إلى نار القرى
1
لا خلق أفرى من شفار حسامه
Bilinmeyen sayfa
إن كنت شبهت المواكب أسطرا
أيقنت أني من ذراه بجنة
لما سقاني من نداه الكوثرا
وعلمت حقا أن ربعي مخصب
لما سألت به الغمام الممطرا
من لا توازنه الجبال إذا احتبى
من لا تسابقه الرياح إذا جرى
ماض وكف الرمح يكهم، والظبا
تنبو، وأيدي الخيل تعثر في الثرى
من كل أبيض قد تقلد أبيضا
Bilinmeyen sayfa
عضبا، وأسمر قد تأبط أسمرا
ملك يروقك خلقه أو خلقه
كالروض يحسن منظرا أو مخبرا
أقسمت باسم الفضل حتى شمته
فرأيته في بردتيه مصورا
وجهلت معنى الجود حتى زرته
فقرأته في راحتيه مفسرا
فاح الثرى متعطرا بثنائه
حتى حسبنا كل ترب عنبرا
وتتوجت بالزهر صلع هضابه
Bilinmeyen sayfa
حتى ظننا كل هضب قيصرا
هصرت يدي غصن الندى من كفه
وجنت به روض السرور منورا
حسبي على الصنع الذي أولاه أن
أسعى بجد أو أموت فأعذرا
يا أيها الملك الذي حاز المنى
وحباه منه بمثل حمدي أنورا
السيف أفصح من زياد خطبة
في الحرب إن كانت يمينك منبرا
ما زلت تغني من عنا لك راجيا
Bilinmeyen sayfa
نيلا، وتفني من عتا وتجبرا
حتى حللت من الرياسة محجرا
رحبا وضمت منك طرفا أحورا
شقيت بسيفك أمة لم تعتقد
إلا اليهود وإن تسمت بربرا
2
أثمرت رمحك من رءوس كماتهم
لما رأيت الغصن يعشق مثمرا
وصبغت درعك من دماء ملوكهم
لما علمت الحسن يلبس أحمرا
Bilinmeyen sayfa
نمقتها وشيا بذكرك مذهبا
وفتقتها مسكا بحمدك أذفرا
من ذا ينافحني وذكرك صندل
أوردته من نار فكري محمرا
فلئن وجدت نسيم حمدي عاطرا
فلقد وجدت نسيم برك أعطرا
وإليكها كالروض زارته الصبا
وحنا عليه الطل حتى نورا
وإن في هذه القصيدة أبياتا تظهر في جلاء كيف تمتزج الوحشية بالجمال؛ فالرمح على سنانه الرأس هو - في رأي ابن عمار - غصن مثمر، والسيف خضبه الدم هو الحسن الذي يلبس أحمر، ولعل ابن عمار قصد إلى اجتماع القسوة والجمال في نفس المعتضد أو لعله لم يقصد، ولعله حينما أمات ضميره ومدح جاءت هذه الأبيات في زحمة المديح ورأى نفسه يمدح شخصا لأنه قتل فأراد أن يعتذر عما فعل ويعتذر للممدوح عما قتل فكانت هذه الأبيات، لعله، ولعله لم ... أيا يكن الأمر فقد ألقى ابن عمار قصيدته ثم خرج من الديوان لينتظر ما قد يجود به عليه المعتضد. ولقد انتظر ابن عمار فطال به الانتظار، حتى رأى بقاءه بعد هذا عبثا لا طائل تحته، وحاول أن يصبر نفسه ولكنه أحس أن آماله في جائزة خيال، فقام من جلسته وفي نفسه حسرة لاعجة؛ فقد كان كل مناه أن يقيم بهذه الرحاب غير نازح، وها هو ذا يخرج منها حتى بغير الجائزة التي كان ينالها من الملوك الذين لا يفهمون الشعر ولا يقدرونه. لقد علق مناه بقصيدته وكم يخذل الشعر أصحابه! ليخرج إذن من القصر فلا يقيم، بل ليخرج من غير جائزة وحسبه أنه خرج سالما إن كان في السلامة مع التشرد احتساب لمحتسب. خرج ابن عمار إلى حماره الذي تركه خارج القصر وسار إلى حيث ترك الحمار ولكن يا للمصيبة النازلة! لم يكن الحمار هناك. بحث ابن عمار حول القصر وأطال البحث فلم يهتد إلى حماره الأثير فجلس على سور القصر وفي نفسه ألم وحسرة وأخذ يفكر في حماره الذاهب. لقد صحبه منذ سنين ولقد رأى معه مر الحياة وحلوها، وماذا؟! حلوها؟! أين حلو الحياة هذا الذي ذاقه معه الحمار؟ إنه لم يعرفه، لا بأس لقد كان إذن حمارا صبورا احتمل مر الحياة وحده فلم يطالب بحلوها، ولكن أكان يستطيع أن يطالب؟ لقد كان صامتا لأنه مرغم على الصمت، ثم من أين يدري أنه سرق الآن؟ لعله هو الذي هرب وحده دون سارق، إنه هو هذا الخائن لم تكد بارقة أمل تلوح له في هذه المدينة الضخمة حتى ترك صاحبه أحوج ما يكون إليه ليبحث عن صاحب آخر، لم يكن وفيا ذلك الحمار، ولعله أيضا كان نحسا على صاحبه فإن خيرا ما لم يصب ابن عمار وهو راكبه، أكان نحسا حقا ابن عمار أم إنك تصبر نفسك على ما أصابها؟ فكر ابن عمار فأطال التفكير، وقد انتهى إلى أن هذا الحمار كان نحسا عليه، فمس قلبه طيف من الراحة لم تتركه نفسه دون أن تفسده عليه فحادثت صاحبها هازئة: «أكان الحمار نحسا أيها الشاعر؟ فانظر إذن أي خير سيصيبك من بعد ذهابه، لم تعد لك حجة في فقرك أيها الشاعر إن كان الحمار هو حجتك.» فغضب ابن عمار من نفسه هذه المتشائمة، وهب يريد أن يسير، وهم أن يبحث عما يركب ولكنه تذكر أن حماره قد سرق فعلم أن نفسه على حق في سخريتها وامتطى قدميه وهم بمسير. لم يكد ابن عمار يخطو متباعدا عن القصر حتى لحقه من ينادي به فكذب أذنيه أول أمره ولكن النداء ألح فالتفت إلى من ينادي فإذا هو خادم من القصر يسعى إليه، فانبثق في نفسه وامض أمل غشته سحابة خوف، ولكن صوت الخادم ما لبث أن علا طاغيا على هواجس نفسه طالبا إليه أن يعود إلى القصر.
ورجع ابن عمار إلى القصر الذي ترك فيه رماد أمل ضخم من آماله ولكن ما لبث هناك أن رأى هذا الرماد من الأمل قد تجسم فصار الأمل حقيقة واقعة يكاد لا يصدقها لطول عهده بالآمال المحترقة ولا يستطيع أن يكذبها لأنها قائمة أمامه وهو يقظان غير نائم، وهو مفيق غير مخمور بغير هذه النشوة التي انسابت في إحساسه لأول مرة في حياته، لقد تحقق أمل. أمر المعتضد أن يكافأ ابن عمار فتجزل له المكافأة وأمر له بملبس فخم وبمركب فاخر. جعل ابن عمار يلعن حماره وأيامه النكدة، وكل هذه الأعطيات لا تساوي شيئا في نظر ابن عمار إذا قاسها بالأمر الأخير الذي قضى بأن يكتب اسمه ضمن شعراء القصر.
Bilinmeyen sayfa
أصبح ابن عمار إذن من شعراء القصر، لقد آن للشريد في أقطار الأرض أن يراح إلى ملجأ وأن يهدأ إلى مستقر. يتلقى ابن عمار ذلك الخير ويهم بأن يذهب إلى الحجرة التي خصصت به، لكن خادما يأتي إليه ويخبره أن مولاه المعتمد يطلبه فيجف قلبه! وكيف لا؟ المعتمد شاعر رقيق غزل لم يقل الشعر في يوم تكلفا ولم يقله محتاجا وإنما أحسه فقاله وابن عمار لم يقل الشعر إلا صناعة! وكيف لا؟ وهو قد تلقى هذا الخير جميعه ولا بد لشر أن يلحق بالخير، ولا بد للمعتمد أن ينتقد، ونقد الأمير شتيمة قد تصل إلى ما هو أدهى.
يذهب ابن عمار إلى حيت يدله الخادم فإذا هو يجد ثلة من القوم ليس بينهم من هو أفضل من الآخر وقد افترشوا جميعا وسائد على الأرض، ويبحث بينهم عن المعتمد الذي رآه في مجلس أبيه فلا يجده فيلتفت إلى الخادم يسأله عن المعتمد ولكن الخادم كان قد انصرف، فيعيد وجهه إلى القوم فإذا هم مشرئبون إليه وإذا واحد منهم كان قد رآه حين أنشد قصيدته يقوم إليه ويقدمه إلى الجالسين ويفهمهم أنه أصبح منهم، فيعلم ابن عمار أن هؤلاء هم شعراء القصر فلا يحتشم منهم شيئا؛ فقد كان يعلم أنه خير منهم صناعة وأنه أكبر منهم نفسا، يجلس إليهم فيقولون ويقول، ويسمرون فيسمر، فإذا هو أكثرهم دعابة وإذا دعاباته تنطلق على طبيعة مواتية لا أثر فيها للكلفة فقد رأى كثيرا وتعلم، ولقد اختلط بأقوام كثيرين وعلم أن المرح هو خير عون له بعد الشعر وعرف أيضا أن هذا المرح إن شابه تكلف أو صناعة أصبح ثقلا لا يحتمله أحد، كان من حسن طالعه أن روحه كانت صافية بطبيعته؛ فهو ينطلق على سجيته، فيجد الجالسين يميلون إليه بحديثهم، ويؤثرونه بالتفاتهم، وإذا هو روح المجلس المنطلقة الجميلة.
وبينا ابن عمار منطلق في دعاباته، إذا بالمجلس قد غشيه الوقار فجأة، وإذا بالمنطرحين إلى الأرض قد نفروا جميعا وقوفا، فيعجب ابن عمار عجبا يقطعه صوت جديد عليه يلقي السلام إلى من بالحجرة، ويلتفت ابن عمار فيجد المعتمد داخلا إليهم من باب لم يكن ظاهرا فيرى ابن عمار تلك الأبواب السرية التي كان يسمع عنها وإن كان لم ير داعيا لهذا التخفي الذي اتخذه المعتمد وهو يدخل إليهم. يدخل المعتمد وعينه على ابن عمار ثم هو يطلب من الشعراء أن يتخذوا مجالسهم، فيتخذوها متوقرين ويلتئم الجمع حول المعتمد، فيلتفت إلى ابن عمار ويقول له: هيه يا ابن عمار! لو أن الشعراء فعلوا ما فعلت اليوم ما ربح أحد منهم شيئا، أتمشي أيها الرجل قبل أن تنال جائزتك؟
فيقص ابن عمار على المعتمد كل ما لاقاه في يومه هذا من آمال خابت وحمار سرق ثم يكمل القصة بهذا الخير الذي سكب عليه، وكان ابن عمار يقص في انطلاقة لم يعهدها المعتمد فيمن يحادثه وفي مرح طرب له المجلس وعلى رأسه المعتمد، وابن عمار جذلان بما يلاقي كلامه من استحسان يشجعه على المضي في حديثه؛ علمه أن الأمير يشتهي دائما أن يسمع الحديث عبيطا لا أثر فيه لتنميق لكثرة ما يسمع من التنميق، ويشجعه من قبل ذلك الضحك الذي يستقبل به. وهكذا عرف ابن عمار كيف ينفذ إلى المعتمد فيصل إلى نفسه من الطريق القريب وهو طريق الطبيعة العارية التي لا تحب التعمل ولا التكلف، وهو الطريق الذي عمي عنه كل من صاحب المعتمد من قبل؛ فإن أقرب الطرق دائما هي أبعدها عن الذهن المحدود.
سر المعتمد بالشاعر الجديد وقربه إلى مجلسه ثم حادثه عن قصيدته التي ألقاها في أول الليل فإذا هو معجب بها فيجيب ابن عمار: وأين هذا يا مولاي من قصيدتك التي تقول فيها:
سكن فؤادك لا تذهب بك الفكر
ماذا يعيد عليك البث والحذر؟
وازجر جفونك لا ترض البكاء لها
واصبر فقد كنت عند الخطب تصطبر
وإن يكن قدر قد عاق عن وطر
Bilinmeyen sayfa
فلا مرد لما يأتي به القدر
وإن تكن كبوة في الدهر واحدة
فكم غزوت ومن أشياعك الظفر
كم زفرة في شغاف القلب صاعدة
وعبرة من شئون العين تنحدر
واصبر فإنك من قوم أولي جلد
إذا أصابتهم مكروهة صبروا
لم أوت من زمني شيئا أسر به
فلست أعهد ما كأس وما وتر
ولا تملكني دل ولا خفر
Bilinmeyen sayfa
ولا سبى خلدي غنج ولا حور
رضاك راحة نفسي - لا فجعت به
فهو العتاد الذي للدهر أدخر
لا زلت ذا عزة قعساء شامخة
لا يبلغ الوهم أدناها ولا البصر
قال ابن عمار هذه الأبيات وهو يترنم بها ترنم المعجب المخمور بما ينشد والمعتمد يستمع وعلى وجهه تتوالى موجات من السخط والرضى، فليس يدري أيها أولى بالظهور وأيها أدعى إلى الاستخفاء، حتى إذا انتهى ابن عمار من الأبيات التي يحفظها تغلب السخط على الرضى في نفس المعتمد وإن السخط لغالب دائما في نفس الملوك، انتفض المعتمد صارخا: أتذكرني بموقعة هزمت فيها وباعتذار عن خذلان! لبئس ما اخترت لي يا ابن عمار ولبئس ما شاء لك حظك. - بل نعم ما اخترت لك ونعم ما اختار لي حظي أيها الشاعر، أنا لا أعرفك في موقعة وأنا لا أعرفك أميرا وإنما أنا أعرف فيك الشاعر الرقيق وأعرف فيك المعتمد بمجده الذي أنشأه هو بقلمه لا بمجده الذي أنشأه له أبوه وأجداده.
وفكر المعتمد قليلا ثم هز رأسه وقد أعجبه الكلام فكل جديد جميل وقال لابن عمار: لقد أجبت أيها الشاعر فأحسنت. - بل ليس بعد يا مولاي فإن لي مأخذا على شعرك هذا الذي ذكرت.
وبهت المعتمد فهو لم يسمع كلمة المأخذ هذه لاحقة بكلام يقوله أبدا ولكن ابن عمار لم يحفل دهشة المعتمد وأكمل ما يقول. - لقد قلت في بيتك الثاني: وازجر جفونك لا ترضى البكاء لها. إنك لتخاطب أباك في قصيدتك تعتذر له عن هزيمتك، وأنا لا أظن أن أباك بكى، بل لو كان بكى لكان عليك أنت أن تكتم الأمر فلا تبين عنه، أما أن تقوله شعرا فهذا ما لا أرضاه لك شاعرا أبدا.
سمع المعتمد الحديث ووعاه وأصابته وخزة النقد ولكنه وجد لها مسا رقيقا حلوا لم يعهده من قبل في المديح الذي يسمع، لقد أحس صدقا في حديث ابن عمار وهو لم يعهد الصدق في كل من يخاطبونه، بل كان يشعر بفراغ ضخم من الناس؛ فقد كانوا جميعا يتملقونه فهم في عينه لا يملئون الفراغ الذي أتاحه الله لهم في الدنيا، بل إنهم يزيدون هذا الفراغ فراغا. سمع المعتمد وفرح بما يسمع ثم هب في الجالسين: أسمعتم أيها الشعراء؟ إن في العالم صدقا، لقد مكثتم السنين تستمعون وتعجبون! ألم أقل شيئا ينتقد في يوم من الأيام؟ ومن أنا أيها الشعراء؟ أكنت الله يرسله تنزيلا؟ ولكن صدقا انبثق في القصر، فأهلا، أهلا بالصديق الذي طال عنه البحث.
مال المعتمد إلى ابن عمار يذاكره شعره وابن عمار يمدح في تحفظ وينقد في أدب ووضوح ، وحين يجد المعتمد معجبا بنفسه يشجعه على إعجابه، فهو يلاينه ويشعره أنه يقسو عليه، وهو يمدحه ويجعله يحس أنه ينقده، حتى انتهى الليل ودارت الرءوس تهفو إلى النوم فانفض السامر وافترق الشاعران الصديقان وقد اعتزما لقاء في يومهما التالي، بل لقد اعتزما لقاء في كل أيامهما التالية، فهلمي أيتها الأيام وأرينا ما الذي تخفينه لصداقة جديدة وعهد جديد.
Bilinmeyen sayfa
عهد جديد
انصرف ابن عمار إلى غرفته معجبا بنفسه؛ فقد سارت الخطة في الطريق الذي رسمه لها، ولقد ظفر بالمعتمد وقد عرف من أين يذهب إليه، وقد لاقاه وأمسى أو هو أصبح وقد حقق لنفسه من الأمنيات ما ظن أنه لن يتحقق في يوم من الأيام؛ فلقد أصبح شاعر الملك المعتضد وقد أصبح قريبا إلى نفس المعتمد ولي العهد الشاعر الذي يحب الشعراء. ويفكر ابن عمار فيما كان بينه وبين المعتمد حين أفهمه أنه ينقده وأنه مخلص له، فكر ابن عمار في هذه الخطة التي رسمها لنفسه يوم كان فقيرا ويوم كانت آماله تصبو إلى يومه هذا؛ فقد كان حينذاك يفكر فيما يلقاه هؤلاء الأمراء من تزلف وتمليق، وكان يفكر في غباء هؤلاء المتملقين المتزلفين كيف يفوت عليهم أن الأذكياء من الأمراء يضيقون أحيانا بكثرة المديح كما يضيقون من كثرة النقد، وكان يفكر كيف يجب أن يضع المتقربون إلى الأمراء مدحهم في قالب من النقد حتى يخيل للأمراء أنهم يستمعون إلى صادق. إنه لم ينقد المعتمد اعتباطا، ولم تكن سرعة خاطر ولا حدة بادرة، وإنما هي خطة نظمها في نفسه منذ آماد بعيدة غاية في البعد ورأى الفرصة أمامه فاهتبلها، ولقد نجحت الخطة وقفز وثبا إلى الهدف الذي تقطعت أنفاس الكثيرين ممن يحيطون بالمعتمد ليصلوا إليه فما بلغوا مما بلغ ابن عمار شيئا.
وأغفى ابن عمار يؤرقه شوقه إلى الغد بعد أن كان يؤرقه خوفه من هذا الغد، وهكذا ذاق حلو الحياة ابن عمار حليف البؤس وأخو الطريق.
حتى إذا أقبل الصبح وكاد أن يغدو ظهرا دلف إلى حجرة ابن عمار خادم من القصر يوقظه، وما أسرع ما تيقظ وما أجمل ما سمع! فقد جاء الخادم يدعوه إلى المعتمد.
ووضع ابن عمار على نفسه تلك الحلة الجديدة التي أنعم عليه بها المعتضد في ليلته الذهبية ثم نظر إلى المرآة فوجد شيئا، ولم يكن قد نظر إلى المرآة منذ كان طفلا، وما كان بحاجة لينظر إليها، وما كانت حاجته إلى هذه النظرة؟! أما وجهه فهو يعلمه، وأما الأسمال التي كانت عليه فهو ضيق بها يريد أن تغرب عن وجهه فهو يدعو الله أن يعفيه منها أو يعفيها منه. أما اليوم فهو ينظر إلى المرآة ويجد شيئا، يجد إنسانا في وجهه حمرة من أثر الفرح، وفي عينيه حمرة من أثر السهر، وفي ملبسه فخامة من عند الملك.
سعى ابن عمار إلى المعتمد ومكثا معا وتحادثا، وكانا كلما فعلا اقترب ابن عمار إلى نفس المعتمد، فهو يقص عليه ما رأى وما سمع، ويقص عليه ما أصابه به الدهر، حتى إذا حس ابن عمار نفسه وكأنه يكلم شخصا يعرفه منذ زمن بعيد تجرأ فسأل المعتمد عن دخوله بالأمس من باب سري وأوشك أن يأخذ هذا على المعتمد ولكنه لم يكد؛ فإن المعتمد أسكته وطلب إليه أن ينتظر حتى يقبل المساء.
وأقبل المساء والأمير والشاعر متلازمان، وسأل ابن عمار الأمير أن يجيب عن سؤاله الذي أبداه في صدر النهار، فإذا الأمير يقف ويأخذ بيد ابن عمار إلى حجرة ليس بها من شيء غريب؛ فهي حجرة ذات باب وبها بعض الستائر تزين جدرانها، ولكن الأمير يزيح ستارا منها فيرى ابن عمار من خلفه ثقبا في الحائط ويسأل الأمير عنه، فيطلب إليه الأمير أن ينظر من الثقب، فيفعل فيرى مجلس الشعراء الذي كان فيه بالأمس وقد التأم لا ينقصه غير نفسه وغير المعتمد، ويستوضح الأمير فيخبره أنه يريد أن يرى الشعراء وهم جالسون في الغرفة الأخرى دون أن يحسوا به فيتاح له أن يراهم في مباذلهم من غير هذه الكلفة التي يصطنعونها في مجلسه؛ فلقد ضاق بهم أمام الأمير وأراد أن يراهم أمام أنفسهم، فيسأل ابن عمار: فإذا مسك أحدهم بما لا تحب. - إن أحدا منهم لا يجرؤ؛ فكلهم عين على كلهم، وهم يخشون على أنفسهم من أنفسهم. - فلماذا أريتني هذه الحجرة؟ - لأنني أحسست فيك الصدق، ولقد رأيتك بالأمس من هذا الثقب وأنت لا تعلم، ثم رأيتك تتكلم أمامي فما رأيت اختلافا بين الحديث والحديث، بل رأيتك في كل مجالسك تطلق نفسك على سجيتها، فهذا الثقب لا أحتاج إليه معك. - والباب لماذا جعلته مختفيا؟ - حتى لا يحاول واحد منهم فتحه ليعرف أن وراءه حجرة. إنهم يظنون حين أدخل منه أنه مفض إلى دهليز من دهاليز القصر.
وهكذا تكشفت الحقيقة لابن عمار وهي في تكشفها جعلته يحس أنه صار أقرب الناس إلى المعتمد، ويفتح المعتمد الباب المختفي ويمضي إلى المجلس ومن خلفه ابن عمار.
ويرى الجالسون ابن عمار مصاحبا للأمير فتشتعل نفوسهم غيرة، ولكن النار التي بقلوبهم ما تلبث أن تنقلب تملقا لابن عمار وتوسيعا له في المجلس وفي الحديث؛ فقد صار القريب إلى المعتمد، وناهيك بقريب إلى المعتمد. ومرت الأيام فكان الشاعر يلازم الأمير لا يفارقه، بل إن الأمير لم يعد يطيق أن يفارق الشاعر لحظة من حياته؛ فهو معه طول يومه وليله لا يفارقه إلا لهجعة في أصيل، أو نومة في مساء، بل لعله كان يلازمه عند الأصيل أيضا، ويكتفي المعتمد بضجعة يتخذها ويبيح للشاعر أن يتخذ لنفسه الجلسة التي يريدها. ومرت الأيام سريعة على المعتمد بصداقته الجديدة بعد أن كانت بطيئة ثقيلة لا يحس لها جمالا ولا رواء، وهي إن كانت تسرع على المعتمد فهي تومض ومضا لابن عمار لا يكاد يحسب أنها أيام مثل تلك الأيام التي مرت به وبحماره، حتى لقد كان يخيل إليه أن الدهر قد تغير فأصبح يلد أياما جديدة لا صلة لها بتلك الأيام البائسة النكدة التي قاساها.
وانقطع المعتمد عن مجلس أبيه وفرغ لابن عمار في الصباح ثم لشعرائه جميعا منذ صدر الليل حتى يشارف نهايته وهو يخلو بعدئذ إلى ابن عمار، وهكذا حتى لم يصبح له لحظة يخلو فيها لأبيه أو لمجلسه، وأحس الوالد بانقطاعه هذا وقد كان يعلم أن ابنه شاعر وقد كان يعلم أنه يحب الشعراء ويهفو لمجلسهم، ولكنه مع هذا كان يراه خاليا إليه حينا، وإلى مجلسه أحيانا، فأحس الوالد أن ثمة جديدة في حياة ابنه استقصاها فعرف أنها ابن عمار، وأنه قد زاد على الشعراء فالتهم وقت ابنه الذي كان يبقيه له هؤلاء الشعراء، وما كان المعتضد ليسكت عن هذا؛ فهو يحب الشعر ويحب المجلس المرفه ولكنه يحب ملكه أولا، وهو يخشى أن يصر المعتمد على شعره وشعرائه فلا يصبح الملك الذي يرجوه الغد ويرنو له العرش.
Bilinmeyen sayfa
لم يسكت الملك عن هذا الأمر، ولكنه خشي أن يلوي ابنه في عنف، أو يزجره في قسوة، فينفلت الزمام من يده؛ فهو يعلم أن ابنه ذو روح شاعرة طليقة لا تطيق القيد ولا ترضاه حتى ولو كان هذا القيد ملكا، فهو يدعو ابنه ويبصره في روية ويسايره في الحديث والرأي أول الأمر ليصل به إلى رأيه الذي يريده له في آخر الأمر؛ فهو يقول عن نفسه إنه شاعر وإنه يحب الشعراء ويقربهم وإنه ليترسل مع ولده في الحديث حتى ينتهي به إلى تلك الأبيات التي قالها في صدر شبابه:
قسمت زماني بين كد وراحة
فللرأي أسحار وللطيب آصال
إذا نام أقوام عن المجد ضلة
أسهد عيني أن تنام بي الحال
وإن راق أقواما من الناس منطق
يروق بدا مني مقال وأفعال
وإن المعتضد ليطلب إلى ابنه أن يقسم زمانه بين شعر وإمارة ولكن المعتمد لا يقطع برأي، بل يلف مع المقال ويدور في طاعة من الحديث وعصيان عن الوعد، والمعتضد ذكي يعلم ما يجول بخاطر ابنه، ويعلم أنه يخشى من وعد يقطعه ثم لا يطيق أن ينفذه، ويترامى الحديث ويطول فلكل إحراج من المعتضد مخرج عند المعتمد، حتى إذا أحس المعتضد أنه مفض إلى إخفاق فيما يريد صارح ابنه أنه سيوليه إمارة شلب، فيستهول الولد الخطب ويهم بأن يستقيل أباه؛ فهو شاعر لا شأن له بالإمارة، فإن تفض إليه في غد له بعيد فهو سيصاب بها مرغما لأنه لا يطيق لها دفعا، أما أن يصاب بها وأبوه على قيد حياة وهو بعد ما يزال غارقا في الشعر وابن عمار، ودون أن يرى داعيا لتلك الإصابة فهذا ما لا يطيق. ويقرأ المعتضد هذه المعاني على وجه ابنه وفي عينيه فيشير إلى ابنه أن يسكت قبل أن ينطق ثم يبدأ في حديث آخر نابع من القلب: - وبعد يا بني، أتعين الدهر علي؟ فلقد أصابني بأخيك الأكبر أرغب ما يكون في الخلافة وأعجل ما يكون إليها، حتى لقد هم بقتلي ليعتسفها مني قبل أن يتيحها له موتي، وقتلته، وقتلت به شطرا من نفسي وجانبا كان في حياتي إشراقا حين ميلاده فإذا هو السواد الحالك.
ثم صرت أنت الأكبر والأمل، فإذا أنت أزهد ما تكون في الخلافة وأقعد ما تكون عنها، فلا والله لن يصاب ملك في ملكه وأولاده كما أصاب، فبالله إلا أعنتني على الدهر وأعيذك أن تكون عونا له.
واغرورقت عينا المعتضد بالدمع وهمت أن تفيض به لولا أن أمسكه عزة الملك وقبول الابن.
Bilinmeyen sayfa
صداقة وحب
شلب إذن هي الإمارة التي اختارها المعتضد لابنه المعتمد، بلد ابن عمار ومهبط رأسه، ومكان تعلمه، ومغنى شبابه، ومصدر فقره، وأيام شقائه، لقد علم ابن عمار أن المعتمد راحل إلى شلب ليكون بها أميرا، هو يعلم أن المعتمد لم يعد يطيق الحياة من غيره، فهو إذن راحل مع المعتمد وما أطيب هذا! سوف يدخل شلبا هذه المرة وهو الصديق الأول لأميرها، ومن يعلم أي غد ينتظره هناك؟ فقد أصبح الغد ينتظره دائما بالخير.
وسافر المعتمد إلى شلب، وسافر في صحبته ابن عمار، وأقبل المعتمد على إمارته كارها، وحاول أن يصرف أمورها، ولكن أي أمور تلك التي يراد به أن يراودها؟ إنه شاعر، لماذا لا يريدون أن يفهموا هذا؟ إنه شاعر يحب شعره أما الإمارة فإنها مشقة سوف يتحملها في حينها. إن أحدا لا يريد أن يفهم عنه هذا إلا صديقه الأثير ابن عمار، هو وحده الذي يعلم ما يعتمل بنفسه. وهكذا يقبل المعتمد على شئون الإمارة إقبالا خيرا منه الإحجام، فما يكاد يقطع في أمر حتى يهرع إلى ابن عمار ويتناشدان، ثم هو يضيق بتلك الفترة الوجيزة التي يبت فيها في أمور الحكم، فهو يطلب إلى ابن عمار أن يجلس معه حين تعرض عليه الأمور فيفعل ابن عمار متثاقلا أو مظهرا للتثاقل، مخفيا للرغبة العنيفة في هذه الجلسة، متحرقا شوقا إليها في بعيد نفسه. ويجلس ابن عمار وتعرض الأمور فيسكت بعض الحين، ولكن المعتمد لا يريد أن يراه ساكتا فهو يلتفت إليه ليشركه في الحديث إشراك المجاملة؛ فما كان ليدري عنه خبرة في غير الشعر. يلتفت المعتمد إلى ابن عمار يطلب منه رأيا عابرا فإذا ابن عمار ينبثق متفجرا، وإذا هو ثاقب النظرة خبير بدقائق ما يقول؛ فإنها بلدته وإنه ابن عمار ذلك الرجل الذي دار على قصور الملوك فرأى وفهم ما رأى، ثم هو حليف الطريق الطويل فما أكثر ما خلا به وبحماره هذا الطريق، فكان يفكر ويمحص ويتعمق الأمور حتى يبلغ أعماقها، وهو يقرأ فيصل إلى أغوار ما يقرأ؛ فما هو إذن بالشاعر الهاذر الذي يمد يده ليثنيها إلى فمه فلا يفكر في غير مد وانثناء، وما هو بالذي يغبى عن فهم الأمور الجلائل فقد عاصرها مشاهدا، وإن تكن الحياة النكدة لم تتح له أن يعاصرها عنصرا فيها، فها هو ذا المعتمد ينتقم له من تلك الحياة ويوسع لخبرته بالتفاتته تلك، وها هو ذا يتدفق في تبصر ويرشد في خبرة ويهدي في مران، والمعتمد يستمع عاجبا معجبا وقد وسع ما بين هدبيه، فما دار له بخلد أن ابن عمار يفهم شيئا غير الشعر وغير تلك الأحاديث الطلية التي كان يترسل فيها، ولكن ها هو ذا يتضح عن رجل مارس السياسة ومارسته، فليكن صديق الشعر هو هو صديق السياسة، وما أجمل أن يكون هذا الصديق الدائم ابن عمار!
ولكن ابن عمار الذي سعى إلى صداقة المعتمد وإلى مجالس شعره لا يطيب له أن يشارك هذا المعتمد في الإمارة، وقد كان يعلم أن إبعاد المعتمد عن شئون الإمارة أمر ما أيسره، ولكنه يتعجل ولا يطيق الانتظار أكثر مما انتظر.
لا يطول التفكير بابن عمار فهو يعلم أن المعتمد عازف عن شئون الإمارة وهو يعلم أنه يحب الشعر ومجالس النساء، فما أسرع ما يعقد ابن عمار هذه المجالس وما أجمل ما ينضدها! فيقبل عليها المعتمد لا يفيق، ويتظاهر ابن عمار أنه مقبل معه، وتملأ هذه المجالس وقت المعتمد فهو يترك شئون الإمارة شيئا فشيئا لابن عمار حتى يستقل بها لا يشاركه في ذلك المعتمد، بل إن المعتمد ليغتبط بهذا التوفيق الذي هيأه الله له في ابن عمار فجعل منه شاعرا فذا ومنظما عبقريا للجلسات الممتعة، ثم شاء تبارك وتعالى أن يتوج هذا كله بخبرة نابغة في السياسة وشئون الحكم.
وتسير الحياة طيبة للصديقين، فأما الأمير فيمرح مع الشعراء والحسان، وأما الشاعر فيصرف شئون الإمارة وينظر في كل شئونها كبر هذا الشأن أو صغر، ولكنه مع هذا يفكر في أمره وأمر المعتمد فيجد نفسه هو السيد بغير لقب وبغير وظيفة رسمية؛ فإن وظيفة شاعر الأمير لم تكن في يوم من الأيام منفذا إلى شئون الحكم، لا بد إذن من وظيفة، ولم لا وقد أصبح المعتمد خطرة منه؟ ولم يكن من دأب ابن عمار أن يقف تفكيره عند التفكير أبدا، بل إنه دائما يتبع الفكر بعمل.
وجلس ابن عمار إلى المعتمد وامتلك ابن عمار عنان الحديث ودار به ولاب، حتى انتهى إلى الإمارة فهو يذكر للمعتمد ما يشقى به فيها، ثم هو يتكلم مترسلا مظهرا للمعتمد أنه لا يقصد إلى غير الترسل في الكلام، فيعرض إلى المخالفات التي تقع من صغار الموظفين وكيف أنه لا يملك أن يردهم عنها، ويفهم المعتمد مرمى الحديث وهدفه فلا يصبح الصباح إلا وابن عمار قد أصبح وزير المعتمد في إمارة شلب.
هكذا أصبح ابن عمار في بلدته، بلدته تلك التي لفظته شابا ، ثم أقفلت أبوابها دونه كلما حاول أن يلجأ إليها، لقد صار فيها وزيرا، وزيرها الذي يحمل وحده عبئها فلا يعرف أميرها من أمرها أمرا، غير أن ابن عمار هو المتصرف فيها.
هيه ابن عمار! ما أحسب أيامك الخالية أتاحت لك أن تتخيل هذا الذي تمرح فيه اليوم من سعادة، فهل تقف بك آمالك ابن عمار عند حد تنتهي إليه؟ أم رأيت من الأيام لينا فأنت توغل غير ناكص؟ شأنك والأيام ابن عمار، شأنك وإياها.
ظلت هكذا حياة الأمير ووزيره الشاعر، ولم يكن المعتمد رغم ما هيأه له ابن عمار من حسان وشعراء ليستطيع أن يتخلى عن جلسات صديقه؛ فهو يتوق إليه منفردا يتطارحان الشعر أو يجيزانه، فإن ضاقا بالقصر وشلب خرجا متنكرين إلى إشبيلية يمرحان فيها ما وسعهما المرح، وقد كانت المدينة مهيأة لهذا المرح أحسن تهيئة، حتى إذا ضاقا بصخبها خرجا إلى «مرج القطة» على ضفاف الوادي الكبير، فيجلس ابن عمار إلى المعتمد في هذا المنفسح العريض من الخضرة يحف به نهر صاف يكمل الجمال الذي يشيع في الروض.
Bilinmeyen sayfa
جلس المعتمد إلى ابن عمار وقد اقتعدا السندس يرنوان إلى ذلك النهر تمسه نسمات من الهواء فتجري مياهه في تموج رجراج كأنه شعر غانية ترسله، وإن الشاعرين لينعمان بتلك النسمات تنفح وجهيهما بهواء لين كأنما هو القبلات الرقيقة تغمر بها الحبيبة وجه من تحب، وإذا الشاعران يصمتان تائهين تيه المخلوق أمام روعة الخالق، ولكن المعتمد كان أسبق من ابن عمار في التخلص من إنسانيته ليرف إلى شاعريته، فهو يتكلم دون أن يلتفت إلى ابن عمار، وإنما هو ناظر إلى النهر لا يريم، يقول المعتمد: أجز يا ابن عمار.
ترقرق الماء بهفهاف النسيم واطرد
يا لوحة أبدعها بفنه الفرد الصمد
ولكن ابن عمار يغرق في صمته وتخشعه ويهم بأن يسأل المعتمد أن يعفيه من إكمال الأبيات، ويهم بأن يعتذر بروعة المنظر المسكتة عن عجز فهو يعرف أن أي كلام مهما يكن شعره هو أو شعر المعتمد لن يحيط بهذه الفتنة التي تحيط بهما، يهم ابن عمار أن يفعل، ولكن صوتا رقيقا عذبا ينساب من قريب يخاله الشاعر نسيما من النسيم، أو خفقة من النهر، أو صوتا للكون الطروب حولهما قد انبعث يكمل البيتين ببيتين، ويلتفتان إلى الصوت فيجدان حورية قد جلست منهما غير بعيد رانية إلى النهر غير ملتفتة إلى الصاحبين، وإنما هي تنشد شعرها وكأنما تنشده لنفسها، وينظران إلى جانب وجهها فيريان جمالا لم يرياه من قبل وهما المعتمد وابن عمار، ثم يسمعان شعرا لم يسمعاه من امرأة قبل وهما المعتمد وابن عمار، قالت الفتاة:
أجمل بها يوم الوغى
لو أن ذا الماء جمد
تخالها منسوجة
من حلق ومن زرد
ويقفز الشاعران من مكانيهما ويهفوان إلى تلك الحورية التي انبعثت لا يدريان من أين، ويسرع المعتمد إليها فيضع يده على جسمها؛ فقد خشي أن يكون الخيال قد خلق ما يريان ولكن الحورية تلتفت إليه وفي فمها ضحكة، وفي وجهها بشر، وفي عينيها وميض، ثم هي تقول: بل هي حقيقة أيها الأمير، بل هي حقيقة.
ويضطرب المعتمد من ذلك الجمال الذي شع في عينيه فهو يقول: وتعرفينني؟ - ومن لا يعرف الأمير الشاعر وصاحبه الوزير؟ - فمن أنت إذن؟ - أنا روميكا. - أشاعرة أنت؟ - بل جارية. - بل أميرة، دونك والقصر.
Bilinmeyen sayfa
وتذهب روميكا إلى القصر ويشتريها المعتمد من صاحبها ويتزوجها ويبدأ حب في قصر المعتمد هو حبه الأول والأخير؛ فقد عرف النساء من قبل جواري ولكنه لم يعرفهن حبيبات ولا شاعرات.
ويغير المعتمد اسم روميكا فيصير «إعتماد». وابن عمار يرى هذا فيفرح به؛ فقد سقط عن كاهله تدبير المجالس والنساء وفرغ للإمارة وحدها لا يشغله عنها إلا أن يجلس أحيانا إلى المعتمد، فلا يسمع من المعتمد إلا عن إعتماد إن كان شعرا فشعر أو يكن حديثا فحديث، وابن عمار في الحالين يشجع المعتمد أن يسير في حبه فما الشباب إلا حب وما الشعر إلا خفقة القلب صيغت، والمعتمد يقبل على هذا الحديث إقباله على حب إعتماد، والإمارة بين حديث ابن عمار وفراش إعتماد ضائعة لا تعرف أميرا غير وزيرها، فالوزير منفرد بالأمر، ولم يكن الوزير ذا ضمير مرهف، ولم يكن ذا مال، ولا هو بذي قناعة، وقد عرفت يده كيف تمتد بعد شعر المديح يقوله لسانه فهي اليوم تعرف كيف تمتد بعد شعر المديح تسمعه أذنه، وإن لم يكن لهذا سعى إلى الوزارة، فلماذا؟ فما هو بالوطني الصادق الوطنية لوجه الشرف، ولا هو بالوفي الخالص الوفاء لآل عباد، إن ابن عمار لم يكن صادق الوفاء ولا خالص السعي إلا لابن عمار وحده، وبهذا المبدأ الواقعي سار ابن عمار في وزارته وسارت به الأيام حتى إذا فاض المال لديه علا رنينه، وللمال الحرام رنين ضخم لو أن آذان المعتمد خلت لحظة لصكها، ولكن من أين لها وهي تمتلئ بحديث الحب في المساء وبالحديث عن الحب في الصباح؟ ولكن الرنين يعلو وتتواكب أصداؤه حتى تبلغ آذان المعتضد ذاته في إشبيلية فيثور.
ويصبح المعتمد ذات صباح فيقصد إلى الإيوان ويرسل في طلب ابن عمار، ولكن الحاجب يستأنيه حتى يرى رسول أبيه، ويدخل الرسول فإذا هو يحمل ورقة يأمره أبوه فيها أن ينفي ابن عمار من شلب، ويسأل الرسول تفسيرا لما يحمل فما يحير الرسول بجواب؛ فهو لا يعرف ماذا يحمل، ويعود الأمير إلى الورقة فيجد الأمر قاطعا أبكم لا يبين بغير الأمر وحده، فتدمع عين المعتمد، ويعود إلى طلب ابن عمار فيأتي الوزير ويهم بأن يفسح للحديث ما كان يفسح ولكن المعتمد مقطب الوجه مغرورق العينين مكروب النفس، فلا يسأله ابن عمار عما به فقد تعود أن تتهدى إليه نفس المعتمد دون أن يسعى إليها، ولا يطول الصمت بالمعتمد بل هو يفضي لابن عمار بما حمله الرسول، فيخفف ابن عمار عن المعتمد وإن يكن الخبر قد أكربه إلا أنه يعلم من أين يلج إلى النفوس، ويعلم أنه لو أثار المعتمد على أبيه فإنه قد يثور لحظة ثم تمسك به بنوة ويهبط به إيثار لسلامة، فهو إذن يحاور المعتمد ويسوق إليه أن أباه لم يرد إلا خيره، وأنه إنما أمر ليتيح للمعتمد أن يقوم بأمر الإمارة وحده بغير معين حتى يمرن على الحكم ويحسن الدربة. ويصل هذا الحديث إلى نفس المعتمد فيخفف مما يحس ثم هو يلتفت إلى ابن عمار ليقول له: أنا أعلم أنك احتملت عبء الوزارة فلم تصب منه مالا فحتى تجهز أمرك أكون قد دبرت لك ما يعينك في غربتك، وإني سأظل على وصلك ما دمت بعيدا حتى يقضي الله أمرا وألقى أبي فأترضاه وتعود الأيام صافيات كما كن.
وقد استطاع ابن عمار وهو يسمع هذا الحديث أن يحدر دمعتين بدتا نابعتين من القلب وإن يكن ابن عمار نفسه قد عجب كيف بدرتا من العين.
وخرج ابن عمار يستهدف أقاصي الأندلس وحاول من تركهم في «شلب» أن يفضحوا أمره للمعتمد فراحوا يتحسسون نفس المعتمد ليروا أي اللونين تقبل، أهو مديح ابن عمار أم هجاؤه، فرأوا المعتمد باكي النفس على فراقه دامع القلب لهذا الأمر الأصم الذي صكه من أبيه، فإذا هم يحيدون بما كانوا ينتوونه من ذم واغل إلى مديح مفرط لابن عمار يتقربون به إلى المعتمد، فتنفتح آذان المعتمد لهذا المديح ويزيد حبه له إن كان ثمة مكان لزيادة، وهكذا يظل ابن عمار في نفسه هو الصديق المخلص وهو الوزير الأمين وهو كل شيء في حياته ما خلا إعتماد.
إلى الطريق
إلى الطريق عاد صديقه، ولكن أي عودة؟ لقد تركه على حمار متهالك لا يجد قوته ثم عاد إليه يمتطي صهوة حصان صافن أصيل أجرد شبعان، وقد تركه وهو أشعث أغبر لا يستر جسده إلا أخلاق بالية مركبة عليه تركيبا وهو يعود إليه أنيقا وضيئا ملبسه من ثمين الخز ورقيق الحرير وقد فصل عليه تفصيلا، وقد تركه وهو شاعر خامل لا يكاد يحس به حماره الذي يحتمله وعاد إليه الوزير الفذ والشاعر الضخم صديق الملوك ورفيق المعتمد، ابن عمار.
عودة ميمونة تلك التي يعودها ابن عمار إلى الطريق؛ فهو اليوم مليء الجيب آمن عوادي الطريق والتواءات الملوك وارتفاع الأنوف؛ فلقد أصبح هو نفسه ممن يسمعون شعر المديح فيلوون رءوسهم من الكبر، وترتفع أنوفهم من العظمة، فليعد إذن ولكن وزيرا يعود.
ذهب ابن عمار إلى أقصى الأندلس ومن هناك أرسل شعره إلى المعتمد ليصل مستقبله بمستقبل أمير اليوم وملك الغد، وليعرف المعتمد أين استقر بشاعره المقام فيصله إن أراد وصله أو يطلبه إن عفا عنه أبوه، أرسل إليه قصيدة من خير قصائده يقول فيها:
علي وإلا ما بكاء الغمائم؟
Bilinmeyen sayfa