Sundusiye Hülleri
الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية (الجزء الأول)
Türler
قوم ابتسلوا للموت نفوسهم، فرفعوا في الحياة رؤوسهم؛ يركبون من البر والبحر كل غارب، ويلتمسون بالجيش دار المحارب؛ أحمت أنوفهم حياة القفر، وأعزت نفوسهم الرمال العفر ؛ فكانت بلادهم عذارى تخلف ظن كل فاتح، وعقائل لا ينتهي إليها الطيف فضلا عن الطائف.
ثم لما جاءهم الإسلام بعزائم القرآن، وعزز ما فيهم من خيم كريم، وطبع سليم، بصلابة الإيمان؛ اندفقت سيولهم من منابعها، وخرجت سنابلهم من قنابعها؛ وملكوا ما بين الصين وبحر الظلمات في أقل من مائة عام، وأتوا من الأعمال ما لو حدثوا أنفسهم به من قبل لقيل إنه من الأحلام. على أنهم لم يلبثوا بعد ذلك العز الأمنع، والسناء الأصنع، أن انصاعوا انصياع الكواكب عند انكدارها، وأسرعوا إلى الهبوط سرعة المياه عند انحدارها. وذلك بتجردهم عما كان قد كساهم الإسلام من فضائل، وأهب فيهم القرآن من عزائم، وبسقوطهم في مثل ما كان قد سقط فيه أعداؤهم من الأعاجم، وبانغماسهم في الشهوات البدنية، وانصرافهم إلى السفسافات الزمنية، وولوعهم بالانتقاض على أمرائهم، واشتغال الأمراء بأغراضهم وأهوائهم، وتخلف العلماء عن تقويم منآدهم، وردعهم عن فسادهم. فمشى الفساد في جنباتهم، وطار الطيش بعذباتهم، وتنازعوا ففشلت ريحهم، وجاءت تباريحهم؛ وتنكروا؛ حتى لو عرضوا على السلف في أجداثهم لجهلوهم، وتغيروا، حتى لو نشر الآباء وتلاقوا بأبنائهم لأهملوهم؛ فجنوا من انقلاب أخلاقهم فقد خلاقهم، ونالوا من اعوجاج مسالكهم ضياع ممالكهم؛ وبعد أن كانت أنفتهم ملء العرانين، وحميتهم ملء الحيازيم، صاروا يرضون بكل حطة، ويسلكون من الهوان كل خطة، وهووا عن صهوات ذلك المجد العظيم، وأخرجوا من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم.
وكان من أنفس ما سددهم الله إلى فتحه، وقيض لهم بالجهاد الطويل وسائل ريحه، هذه الجزيرة الأندلسية الخضراء، الخطة العذراء، والدرة الدهماء، والبقعة الجامعة بين الشموس والأفياء، الرافلة في حلل موشية من حوك الأرض وطراز السماء، فأتوها من كل فرج، بين محتسب ومكتسب، وراغب في الدنيا وماهد للآخرة، وساموا ولايتها بالنفقات الوجيعة، والبطشات الذريعة؛ والنفوس السائلة أنهارا، والجماجم الطائرة أسرابا، والجيش يتلو الجيش، والبعث يردف البعث، ومازلوا يغاورونها بخيل لا تنحط لبودها، فوارس لا تفارقها زرودها، ويريغونها من بين أيديها ومن خلفها، وعن أيمانها وشمائلها، إلى أن ذللوا أعرافها، وألانوا أعطافها؛ فخيم الإسلام بعقرتها تخييم من أجمع الاعتمار، وسكن إليها سكنى من ألقى عصا التسيار، وأمدتهم جزيرة العرب بأفلاذ أكبادها، ورمت أعداءهم بأنجاد أجنادها؛ وكانوا لولا العصبية بين القيسية واليمنية، والخلاف على الخلافة بين الأموية والعباسية، وما أضيف إلى ذلك من ملاحم بين القبائل العربية والبربرية؛ قد ألحقوا بالأندلس جميع الأرض الكبيرة، وصارت لهم جوفي جبال البرانس أندلسات كثيرة؛ ولكن اشتغالهم بفتنهم الداخلية، وانهماكهم بمشاجراتهم العائلية، وبقاء ما بقي في طباعهم من حمية الجاهلية، واستبدالهم ملوك الطوائف، بجيوش الصوائف، وحركات الفساد، بحركات الجهاد، ورضاهم عن تحمل الهزائم، بدلا من تجريد العزائم؛ كل ذلك أعاد تقدمهم تأخرا، ورد تجمعهم تبعثرا، حتى صار عدوهم في الجزيرة قسيما لهم مشاركا، خليطا معهم مشابكا؛ وكان هو لم يبق له من البلاد إلا الجبال والصخور، ولم يملك إلا ما تركه له العرب من مسارح الغزلان وأوكار النسور؛ وكانوا هم رتعوا في كل روض نضير، وملك كبير، ومالوا إلى طعام أنيق وفراش وثير، وجرروا من التيه مطارف سندس وحرير، وأغرتهم السعة بالدعة، وأفضى بهم الرخاء إلى الارتخاء، وأورثهم رفاهية العيش قلة الانتخاء. وشتان بين من ألف الترف ومال إلى الهوى، وبين من لزم الشظف وطوى على الطوى. ولله در من قال عن وقعة بطرنة بقرب بلنسية، وقد محص فيها المسلمون:
لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم
حلل الحرير عليكم ألوانا
ما كان أقبحهم وأحسنكم بها
لو لم يكن ببطرنة ما كانا
وهكذا لم يزل المخشوشن يفتك بالمتنعم، حتى دوخه؛ والمحروم يوقع بالمترف، إلى أن ريخه؛ والشقاق مع ذلك بين المسلمين لا تنطفئ ناره، ولا تنقطع أخباره، والإصلاح بينهم تخفق مساعيه، والشر أبدا تجادع أفاعيه؛ لا ينجع في عقولهم بليغ نصح، ولا يعوج بأسماعهم نذير خطب؛ ولا يعولون على شاهد نقل، ولا دليل عقل، ولا يعتبرون بحلول بثق واقع على بثق. تنزل بهم كل هذه القوارع وهم في سكرتهم يعمهون، ويقرأ عليهم الدهر كل يوم سورة الغاشية فلا يتدبرون، ولا يسمعون، و
يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون
وأخيرا تناثروا بددا، وتطايروا قددا، فلكل بلدة دولة وأمير، ومنبر وسرير؛ وكل جار لجاره مناظر لا نظير، يجور عليه ولا يجير، ولا يغار عليه بل يغير!
Bilinmeyen sayfa