Sundusiye Hülleri
الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية (الجزء الأول)
Türler
بقلم شكيب أرسلان
جنيف 7 صفر الخير 1355
بسم الله الرحمن الرحيم
وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا
الحمد لله قبلة الكلام، والصلاة على رسول الله باب السلام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تشفي الأوام، وتقشع الظلام، وتكون لنا العدة الواقية في حشرجة الأنفس وسكرات الحمام، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، النبي العربي الأمي الذي كرم بني آدم بنعمة الإسلام، وجنبهم عبادة الأصنام، وسنمهم من التوحيد نعمة دائمة لا تريم، وذروة عالية لا ترام، والذي نثر بدعوته يافوخ الشرك نثرا ليس له من بعده نظام، النبي الذي تمخض لظهوره الكون قبل أن تلج الأيام في الليالي والليالي في الأيام، والرسول الذي بلغت به الرسالة أمدها الأقصى فانطوت من بعده الصحف السماوية وجفت الأقلام، إذ ليس وراء توحيد الله تعالى مذهب ولا بغير حبه تعالى هيام،
صلى الله عليه وسلم
صلاة لباسها الدوام وشعارها اللزام، وسلم سلاما نفحه الرند ونشره الخزام. ورضي الله عز وجل عن آله وأصحابه نجوم الهدى وبدور التمام وأنصاره الذين ألزمهم كلمة التقوى وكانوا بها أحق الأنام، الذين أقبلوا على الأمم بالعقيدة الحق والأخلاق العظام، وطلعوا بخيل الله على المشرق والمغرب بسهام غير خطاء وسيوف غير كهام، ونشروا علم الفرقان الذي فرقت له قلوب الطواغيت وخفقت من الخوف سائر الأعلام ، ففتحوا عذارى الممالك وأدركوا غرر الأماني بشدة الحزم لا بشدة الحزام.
وبعد، فإن من غرائز الجبلة البشرية التي لا جدال فيها، تذكر الحوادث الماضية، والتحدث بالوقائع الخالية، والوقوف على الرسوم العافية، والاعتناء بحفظ الغابر إلى الحد الذي جعل الناس ينقشون الأخبار على الأحجار، ويزبرون القصص على الجماد، فضلا عن أن يكتبوها في الأوراق ويحفظوها ضمن الأجلاد، خشية عليها من الضياع بتقادم العهد، وذهابا بها عن النسيان بتطاول الدهر، وذلك بما فطر الله عليه هذا النوع من حب الأشراف والاطلاع، والغرام بالرواية والسماع؛ وبأن الإنسان يجتهد أبدا أن يحفظ الماضي، كما يجتهد أن يستدرك الآتي، فحياته عبارة عن وصل آخر بأول، وربط ماض مع مستقبل، وتعليل حديث بقديم، فلهذا لا يبرح بين أثر دارس يقف عنده، ورسم طامس يتعرف خطبه، وكتابة مطلوسة يفك حروفها، وحكاية مأثورة يتندس نصوصها، تارة يعرضها على أصولها، وطورا يقيسها بشكولها؛ وهو لا يزال يجمع بين قرائنها، حتى يدرك مباديها ويفقه مغازيها، وكم للإنسان من سهر ليال، وبذل غوال، وأعمال حل وترحال، وراء قصة مغلقة يستوحي حديثها، وقضية مرتجة يستوخي نجيها؟ وكم من واقعة مبهمة ينشد عند الهيروغليف سرها، ولدى القلم المسماري بحيثها؟ سنة الله الذي أقام الناس عليها بإزاء أي علم وأمام أي سر، لا يتقيدون فيها بقريب دون بعيد، ولا يقصرونه على حاضر دون غابر، ولا يختصون به موضعا دون موضع؛ بل استشراف الأسرار، واستشفاف الأستار، وهما من لوازم الإنسان أيا كان متعلق العلم ومتسق الفكر. إلا أنه إذا تعلق بالآباء والأجداد كانت النفوس به أولع، وإليه أنزع؛ وإذا اتصل بالقرابات والكلالات، أو انتسب إلى الديارات والمباءات، كان الحنين إليه أعظم، والتهافت عليه أسرع؛ فإن المرء ليحرص على مآثر آبائه، ما لا يحرص على مآثر سواهم، ويعنى بالقصص وراء أصوله ما لا يعنى وراء من تعداهم؛ بل إن قسط همه من هذا الأمر هو على نسبة القرب والبعد، وبمقدار الفصل والوصل.
وكل أمة من الأمم تدرس تواريخ البشر أجمع، إلا أنها تجعل تاريخ سلفها هو العلم المقدم، والدرس المقدس، والبغية التي يجب أن تتوجه إليها خواطر ناشئتها، والغاية التي يتعين أن تستحث نحوها ركاب نابهتها؛ لما في ذلك من وصل حديث بقديم، وربط آخر بأول، وإعادة فرع إلى أصل، ورد عجز على صدر. فإن كان الحاضر مماثلا للماضي، والطريف غير مختلف عن التليد، فمغزى التاريخ هو حفظ التسلسل ومنع التخلف، وحث الأخلاف على متابعة الأسلاف، وبناء المجد سافا من فوق ساف، فإن الأمم هي في تنازع بقاء لا يفتر، وتزاحم ورد لا يسكن، وكل منها يبغي أن يحفظ كيانه، ويوطد بنيانه، ويحمي حقيقته، ويخلد سجيته. بل يحاول أن يتقدم عما كان، وأن يطاول كل درجة إمكان. وإن كان الحالي مقصرا عن الخالي، وقد عادت البدور أهلة، وذهب المجد إلى أقله، وصارت الأوساط أطرافا، واستحالت الأثواب أطمارا، ولم يبق من تلك المعالي السوالف إلا أخبار وسير ومثلات، وذكر وحكايات، يعتبر بها من اعتبر، كان درس تاريخ السلف أحسن وسائل النشاط من العقال، وأفضل حوافز الاستباق إلى الكمال، ليقال للناشئ: هكذا كان آباؤك، فأين إباؤك؟ وها ما فعله أجدادك، فأين جهادك؟ وإذا كان هذا فري آبائك، فكيف ترضى أن تقصر عنهم، وإذا رضيت بأن تقصر عنهم، فقد يستبعد العقل أن تكون منهم. أيرضى أصحاب النفوس الأبية أن يقعدوا مع الخوالف، وقد كان أوائلهم من السابقين الأول؟ أو أن يكونوا تابعين، بعد أن كانوا متبوعين، وأن يسودهم من كان لهم من جملة الخول؟
فإذا كان علم التاريخ ضرورة من ضرورات البقاء، فضلا عن الارتقاء؛ وشرطا من شروط اللحاق، فضلا عن السباق؛ فأية أمة أجدر بمدارسته من هذه الأمة العربية ذات التاريخ الأمجد، والسنام الأقعس، والعرق الأنجب، واللسان الأذرب، والجهاد الذي شرق وغرب. أيام ملأت من الدهر مسمعيه، وضربت كل جبار في أخدعيه، وفرضت الذلة على جماجم الأكاسرة، وأطارت النعرة من معاطس القياصرة.
Bilinmeyen sayfa