ولم تكن إلى ذلك الوقت قد عرفت لاساله، وإنما كانت تسمع به، ففي إحدى الليالي، وهي جالسة وقد تفتحت للحديث، وصارت تجهر بآراء قد جرى العرف على أن تكتمها من في سنها، قال لها بارون من الحضور: «هل تعرفين فرديناند لاساله؟»
فقالت: «كلا.»
فقال: «كيف ذلك؟! أحقا أنك لم تريه؟ هذا عجيب، فقد خلق كل منكما للآخر.»
فاستحيت من أن تستزيده عن غرضه. ولكن لم تمض برهة حتى قال آخر: «يبدو من حديثك أن أفكارك وآراءك قريبة جدا من أفكار فرديناند لاساله وآرائه.»
فتطلعت نفسها من ذلك الوقت إلى رؤية لاساله، وصارت تسأل عن أخباره، وتهجس بذكره قبل أن تراه. وفي إحدى الليالي غشيت «صالون» إحدى العائلات، ورأت شابا مديد القامة أشقر، ذهبي الشعر جعده، فرأت نفسها تسير نحوه كأن به قوة قد جذبتها إليه، وكان هذا لاساله، وأخذا في الحديث، وشعر كل منهما أنه يرى في شخص الآخر صديقا قديما، وبلغ من ألفة الواحد بالآخر أنهما عندما خرجا صار لاساله يتحبب إليها ويدللها ويسميها بأسماء الغرام.
ومضت تسعة أشهر بعد ذلك لا يلتقيان. ثم التقيا في «صالون» آخر، وبث كل منهما إلى الآخر لواعجه. ومما قاله لاساله لها في تلك الليلة، وكان الخطر محدقا به، والحكومة تنوي القبض عليه لمحاكمته، لإثارة الهياج بين العمال: «هبيني حكم علي بالإعدام، فما أنت فاعلة؟»
فأجابته على الفور: «أنتظر حتى يقطع رأسك، حتى تتمتع برؤية حبيبتك إلى آخر لحظة من حياتك، ثم بعد ذلك أتناول السم.»
ومضيا في الحب حتى اشتهر عنهما، وصار جميع من يعرفونها يرقبون زواجهما، ولكن والدي الفتاة كانا يعارضان في هذا الزواج أشد معارضة، ويعتبرانه مهينا للعائلة، حاطا بكرامتها، فلاساله لم يكن اشتراكيا فحسب، بل كان أيضا يهوديا. وكلتا الصفتين كانت من القبائح في نظر العائلة.
ولكن الفتاة لم تكن لتخضع لوالديها الخضوع الأعمى الذي كانت تفرضه عليها التقاليد المأثورة، ففرت إليه، واحتملت معها حقائبها، وطلبت إليه أن يسافرا معا إلى باريس حتى يتزوجا.
ولكن لاساله لم يكن يحب أن يتزوج منها خفية في بلاد الغربة؛ إذ كان يرى من واجبه نحو حبيبته أن يتمم الزواج علنا باحتفال وأبهة جديرين بعروسه الجميلة. وكان واثقا أن معارضة أبويها سوف يتغلب عليها، ويميلهما إلى رأيه.
Bilinmeyen sayfa