كان عمله الشرير هذا يدخل السرور على قلبه، والغبطة على فؤاده؛ فيرتاح باله ويهنأ خاطره، أما أمهم الأرض الفسيحة فكانت تئن وتتوجع أحشاؤها، فلما برح بها الألم ونال منها الحزن والكمد، حتى بلغ السيل الزبى، فكرت في مكيدة أثيمة دهياء، فصنعت في الحال عنصر الحجر الصوان الرمادي اللون، وشكلت منه منجلا ضخما، وأطلعت أبناءها المقربين على خطتها، وحدثتهم بفكرتها؛ لترفه عن أنفسهم، وهي في قرارة قلبها تتميز غيظا، وتتحرق أسى، والحزن يسري في أحنائها فيعصر فؤادها عصرا، ويشعل جذوة الحقد الدفين في صدرها، فقالت: «أي بني! يا نسل أب أثيم، ووالد شرير رجيم، أنتم تعلمون ما يقوم به ذلك الداهية من عمل مشين، ويجب علينا أن نعاقبه على ما اقترفت يداه، وجناه فكره. فإن أطعتموني فيما أطلب إليكم عمله، تمكنا من مجازاته، والحد من جرائره ونزواته، فلقد طغى وبغى، واقترف أمورا شائنة وذنوبا فاضحة».»
هكذا حدثتهم أمهم الأرض، ولكنهم ارتجفوا لهول ما حدثتهم، واجتاحتهم جميعا نوبة من الفزع والهلع، حتى سكتوا كأن على رءوسهم الطير، ولم ينبس أحدهم ببنت شفة، ولم يجرؤ على التفوه بكلمة واحدة. وظلوا كذلك فترة لا يعرف مداها، أقصرت أم طال أمدها، غير أن الشجاعة الخارقة والجرأة النادرة، استفزتا كرونوس العظيم الداهية، فمزق ذلك السكون الرهيب، وأجاب أمه بقوله: «أماه! والدتي العزيزة، مري، فتطاعي، وأصدري ما تشائين من أوامر تجديني أطوع إليك من بنانك، سأقوم بتنفيذ خطتك، مهما لاقيت من أخطار، واعترضني من صعاب؛ لأنني لا أحترم أبانا لسوء سمعته، فهو البادئ باقتراف أمور شائنة، والبادي أظلم، والمعارض منتصر.»
ما إن سمعت الأرض الفسيحة كلام ابنها هذا، حتى ابتهجت وعم السرور جميع أحنائها، فساقته أمامها، وخبأته في كمين، ووضعت بين يديه منجلا مثلما، وأملت عليه تفاصيل الخطة كاملة.
وجاءت السماء تجلب الليل معها، والصبا والصبابة، ثم رقدت فوق الأرض ناشرة طياتها عليها نشرا تاما. عندئذ مد كرونوس يده اليسرى، وهو قابع في مخبئه، وقد حمل في يمناه المنجل الضخم الطويل ذا الأسنان المثلمة، فقطع بسرعة البرق عضو أبيه الذكر، وألقى به بعيدا ليسقط خلفه، غير أنه لم يسقط من يده هباء، فإن جميع قطرات الدم التي تساقطت، تلقتها الأرض، وبمرور الزمن، أنجبت ربات الانتقام القاسيات، والجبابرة الشديدات، بدروعهن اللامعة، ورماحهن الطويلة بأيديهن، وكذا الحوريات الفاتنات، في سائر بطاح الأرض الواسعة.
ما إن بتر كرونوس عضو الذكر بالحجر الصوان، وألقى به من فوق الأرض إلى البحر المتلاطم، حتى جرف بعيدا إلى عرض البحر مسافة بعيدة، ثم انتشر حوله زبد أبيض من اللحم الخالد، ونمت فيه عذراء، اقتربت في البداية من كيثيريا المقدسة، ومن ثم وصلت إلى قبرص التي تحيط بها المياه من كل جانب، وبزغت ربة رهيبة ذات جمال فذ وفتنة نادرة، ذات عينين نجلاوين لحاظهما كالسهام فتكا، وعود فارع نحيل، وقد أهيف، تتثنى في مشيتها في رقة ودلال، وسرعان ما نما الحشيش حول أسفل قدميها الرقيقتين، وقد أطلق عليها الآلهة والبشر اسم أفروديت، أي «فينوس»، كما سموها بالربة الزبدية المولد ، لأنها نمت وسط الزبد، وب «كيثيريا» ذات الهامة الناصعة المجيدة؛ لأنها وصلت إلى كيثيريا، وقبروجينيس لأنها ولدت في قبرص، ومحبة الأعضاء الذكرية؛ لأنها خلقت من عضو الذكر، وسار إروس (إله الحب) برفقتها، وقام الشوق الجميل يتبعها ساعة ميلادها في بادئ الأمر، وعندما أخذت تشق طريقها وسط جمع الآلهة.
هكذا حدثنا هسيود عن مولد «فينوس» التي هي أفروديت عند الإغريق.
كان ل «فينوس» هذا الشرف منذ البداية، واختصت بذلك النصيب بين البشر والآلهة الخالدين - همسات العذارى الفاتنات وابتساماتهن الخلابة، وأخاديعهن المتقنة. أضف إلى ذلك الانشراح الحلو، والحب والرحمة.
تفنن الأغارقة والرومان فيما خلعوه على «فينوس»، المولودة من زبد البحر ومن عضو ذكر أبيها، فلم يكتفوا بأن جعلوها ربة الحب ومسراته، والزواج وملذاته، مع القدرة على هدم وقتل الحب في قلوب البشر، بل جعلوها أيضا ربة الجمال التي تهب البشر جمال الجسد وفتنته، وسبي العقل، وربة الإخصاب بسائر ألوانه، بما في ذلك إخصاب الخضراوات والحيوانات.
كانت الزهور مقدسة ل «فينوس»، وكذا الآس والزيزفون والتفاح والخشخاش والرمان والعرعر.
وكانت «فينوس» لا تفضل من الحيوانات غير البجعة والدلفين والعصفور الدوري والحمامة والسنونو والأرنب والكبش والسلحفاة.
Bilinmeyen sayfa