Batı Hikmeti
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Türler
understatement » وعلى ذلك فعندما يقول سقراط إنه لا يعرف سوى أنه لا يعرف شيئا، فإنه يكون في ذلك متهكما (أو مهونا من شأن نفسه)، وإن كانت هناك دائما مسألة جادة تكمن وراء السطح الظاهري للهزل، ولا جدال في أن سقراط كان على دراية بما حققه جميع المفكرين والكتاب والفنانين في اليونان، غير أن ما نعرفه قليل، ولا يكاد يكون شيئا إذا ما قورن بالآفاق اللانهائية للمجهول. وحين ندرك ذلك عن وعي، يحق لنا القول إننا لا نعرف شيئا.
ولقد كانت أفضل صورة تكشف لنا عن سقراط وهو يمارس نشاطه هي تلك التي نجدها في محاورة «الدفاع»، التي تعرض علينا محاكمة سقراط. وهذه المحاورة تتضمن خطابه الذي دافع به عن نفسه، أو على الأصح ما تذكره منه أفلاطون فيما بعد، لا بطريقة حرفية، بل بالأحرى ما كان من الممكن أن يقوله سقراط دفاعا عن نفسه، ولم يكن مثل هذا النوع من الرواية أمرا غير مألوف، فقد مارسه ثوكوديدس المؤرخ بصراحة ووضوح. وعلى ذلك فإن محاورة الدفاع تدخل في باب الكتابة التاريخية.
لقد اتهم سقراط بالخروج على دين الدولة، وبإفساد الشباب بتعاليمه، ولكن ذلك لم يكن إلا اتهاما ظاهريا، أما المأخذ الحقيقي للحكومة عليه، فكان ارتباطه بالحزب الأرستقراطي الذي كان ينتمي إليه معظم أصدقائه وتلاميذه، ولكن نظرا إلى أن الحكومة كانت قد أعلنت عن عفو عام، فلم يكن من الممكن توجيه هذه التهمة إليه. ولقد كان القائمون بالادعاء ضده هم أنيتوس
Anytus
وهو سياسي ديمقراطي، ومليتوس
Melatus ، وهو شاعر تراجيدي، ولوكون
Lycon ، وهو معلم للبلاغة.
ومنذ البداية أطلق سقراط العنان لتهكمه ، فالذين وجهوا الاتهام إليه هم كما قال مذنبون باستخدام الفصاحة، وإلقاء خطب مليئة بالمحسنات اللفظية، أما هو ذاته فقد بلغ سن السبعين، ولم يمثل أمام أية محكمة من قبل، وهو يسأل القضاة أن يتحملوا طريقته غير القانونية في الكلام، ثم يتحدث سقراط بعد ذلك عن فئة أخرى من موجهي الاتهام، أقدم وأخطر من الفئة الموجودة فعلا؛ لأنها أشد مراوغة، تلك هي الناس الذين ظلوا يتحدثون في كل مكان عن سقراط بوصفه «رجلا حكيما، يتأمل بفكره السماء في الأعالي، وينقب عن شئون الدنيا في الأرض، ويجعل الحجة الأسوأ تبدو وكأنها هي الأفضل»، وعلى هؤلاء يرد سقراط بأنه ليس عالما، ولا يعلم لقاء أجر كالسفسطائيين، ولا يعرف ما يعرفون.
فلماذا إذن يسميه الناس حكيما؟ ذلك لأن نبوءة معبد دلفي قد أعلنت ذات مرة أنه لا أحد أحكم من سقراط. ولقد حاول هو ذاته أن يثبت خطأ النبوءة، فبحث عن أولئك الذين يعدون حكماء، وطرح عليهم أسئلته. وهكذا سأل سياسيين وشعراء وصناعا، فلم يجد واحدا منهم قادرا على أن يصف بدقة ما يفعل، ولم يجد بينهم حكيما، وحين كشف للناس جهلهم، جلب لنفسه عداوة الكثيرين، وفي النهاية فهم ما كانت تعنيه النبوءة؛ فالله وحده هو الحكيم، أما حكمة الناس فمتهافتة، وأحكم الناس هو الذي يدرك، كما أدرك سقراط، أن حكمته لا تساوي شيئا. وهكذا قضى حياته يفضح الادعاء بالحكمة، فلم يجن من وراء ذلك إلا الفقر، ولكن كان لزاما عليه أن يمتثل لحكم النبوءة.
وحين أخذ سقراط يحاور مليتوس، ممثل الادعاء، أجبره على الاعتراف بأن كل شخص في الدولة يعمل على تحسين أوضاع الشباب ما عدا سقراط ذاته، ولكن الحياة مع أناس أخيار أفضل من العيش مع الأشرار، وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون قد أفسد الاثنين عامدا، وإذا كان قد فعل ذلك بغير قصد، فمن واجب مليتوس أن يقوم اعوجاجه، لا أن يدينه، ومن جهة أخرى فإن الاتهام يقول إن سقراط قد وضع آلهة جديدة خاصة به، على حين أن مليتوس ينسب إليه وصمة الإلحاد، وهذا تناقض صارخ.
Bilinmeyen sayfa