Batı Hikmeti
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
Türler
وعلى حين أن السفسطائيين قد قاموا في ميدان التعليم بمهمة لها قيمتها، فإن نظرتهم الفلسفية كانت معادية للبحث العقلي؛ ذلك لأن تلك النظرة كانت مشوبة بالشك اليائس، وكانت تشكل موقفا سلبيا من مشكلة المعرفة، ويتلخص هذا الموقف في الكلمة المشهورة لبروتاجوراس القائلة: إن «الإنسان مقياس كل شيء، الأشياء الموجودة على أنها موجودة، والأشياء غير الموجودة على أنها غير موجودة»، وهكذا فإن رأي كل إنسان صحيح بالنسبة إليه، ولا يمكن البت في الخلافات بين الناس على أساس الحقيقة؛ فلا عجب إذن أن نجد السفسطائي تراسماخوس
Thrasymachus
يعرف العدالة بأنها مصلحة الأقوى.
وعلى ذلك، فبالرغم من أن بروتاجوراس يتخلى عن البحث عن الحقيقة، يبدو أنه يعترف بأن رأيا معينا يمكن أن يكون أفضل من رأي آخر بالمعنى البرجماتي، وإن كان هذا الموقف يتعرض للنقد المنطقي العام الذي يوجه إلى البرجماتية؛ ذلك لأننا لو سألنا أي الرأيين هو الأفضل بالفعل لوجدنا أنفسنا نعود مرة أخرى إلى فكرة الحقيقة المطلقة، وعلى أية حال فإن بروتاجوراس هو المؤسس الأول للبرجماتية.
وهناك قصة طريفة تكشف عن الطريقة التي أصبح الناس ينظرون بها إلى السفسطائيين؛ فقد كان بروتاجوراس مقتنعا بأن طريقة تعليمه فعالة إلى أقصى حد، ومن ثم فقد طلب إلى أحد تلاميذه أن يدفع له أجره من حصيلة أول قضية يترافع فيها. غير أن الشاب بعد أن استكمل تدريبه لم يبدأ في ممارسة مهنته. فلجأ بروتاجوراس إلى القضاء ليسترد أجره، مستندا أمام المحكمة إلى أن تلميذه يجب أن يدفع؛ إما عن طريق الاتفاق السابق لو كسب التلميذ، وإما عن طريق الحكم القضائي لو خسر. غير أن المتهم أعطاه في الرد حقه وزيادة؛ إذ أعلن أنه لا ينبغي أن يدفع شيئا؛ إما عن طريق الحكم القضائي لو كسب، وإما عن طريق الاتفاق السابق لو خسر.
لقد كانت كلمة «السفسطائي» ذاتها تعني رجلا حكيما، ونظرا إلى أن سقراط بدوره كان معلما، فلم يكن من المستغرب أن يطلق عليه أولئك الذين لم يعرفوه في عصره حق المعرفة اسم السفسطائي، ولقد بينا من قبل مدى خطأ هذه التسمية، ومع ذلك فإن التمييز لم يعترف به على الوجه الصحيح إلا في عصر أفلاطون، ولا جدال في أن الفلاسفة والسفسطائيين يستثيرون بمعنى معين ردود أفعال متشابهة لدى الجماهير.
والواقع أن أصحاب العقليات غير الفلسفية كانوا منذ أقدم العهود يتخذون موقفا عجيبا وغير متسق من الفلسفة بوجه عام، فهم من جهة يميلون إلى التعامل مع الفلاسفة بتسامح مشوب بالرقة والعطف بوصفهم حمقى لا ضرر منهم، وأناسا ذوي أطوار غريبة، يسيرون وقد ارتفعت رءوسهم في السحاب، ويطرحون أسئلة سخيفة لا صلة لها بالهموم الحقيقية للناس، ولا يكترثون بالأمور التي ينبغي أن يهتم بها المواطنون العقلاء، غير أن التفكير الفلسفي يمكن أن يكون له من جهة أخرى تأثير يزعزع بعمق كل ما هو سائد من عرف وتقاليد، وفي هذه الحالة ينظر إلى الفيلسوف، بعين الشك، على أنه شخص خارج عن العرف المألوف، يعكر صفو التقاليد والأعراف، ولا يبدي موافقة غير مشروطة على العادات والآراء التي تبدو صالحة في نظر كل من عداه.
ذلك لأن أولئك الذين لم يعتادوا النقد يشعرون بانعدام الأمان عندما يناقش أحد معتقداتهم التي يعتزون بها، ويكون رد فعلهم مصحوبا بالكراهية والعداء. وهكذا اتهم سقراط بنشر تعاليم هدامة، شأنه شأن السفسطائيين بوجه عام، ومعلمي الجدل الخطابي بوجه خاص.
الفصل الثاني
أثينا
Bilinmeyen sayfa