إذا تطلبت الحكمة وشئت أن ترتفع إلى مجالس الكبراء، وأن تعاشر الحكام والعظماء؛ فهذب نفسك، واقض زمنك في تكوين عقلك بالعلم، وتكميل قلبك بالفضائل؛ لأن العلم والفضيلة يوليانك البطش والقوة. واعلم أن الاقتصاد في القول خير من الإسراف فيه؛ فلا تنبس بكلمة حتى تزنها، وإذا كنت في مجلس الدولة تجادل وتناضل فلا تنطق إلا بمقدار؛ فلست تدري مكان من يناضلك من البيان وقوة الحجة. إياك والادعاء فإنه فتنة، وإن حذقت في فن فلا تزه بحذقك على أقرانك؛ فقد يكبو اللبيب ويخبو الأريب، ويصيب الغبي، ويخطئ الذكي.
إذا كنت في مجلس فلا تلزم الصمت البتة، وحذار أن تقطع حديث محدثك أو تجيب على ما لم يسألك عنه، إياك والحدة في القول فقد يعقبها الندم، اعتد كبح جماح نفسك، والزم صون لسانك عما يجول في صدرك. لا تجعل كنز المال معقد آمالك، ولا غاية أعمالك، ولا تكن كالذين يقضون أعمارهم ويبذلون نفوسهم ويريقون أمواه وجوههم في جمع الثروة؛ فإن هؤلاء كالخنازير لا يرفعون خياشيمهم من الوحل.
إذا لهوت فلا تتماد في لهوك؛ فإن التمادي في اللهو والإفراط في السرور يذهبان بالخير من الحياة.
إذا أردت أن تصيب غرضا؛ فكن كأحذق الرماة تصويبا، أنعم النظر في هدفك قبل توتير قوسك، فإذا وطدت نفسك ووترت قوسك أطلق سهمك، واعلم أن ربان السفينة لا يبلغ المرفأ الأمين إلا إذا ساير الريح.
إذا اصطفاك الملك واصطحبك واستعان بك؛ فلا تغتر بما لك عليه من الدالة؛ فتلهيه عما يهمه بأن تسمعه ما لا يحب ، أو تنبئه بما يكره؛ فإنه إن وسعك حلمه مرة لا يسعك أخرى، وهيهات أن يؤمن شر من إذا قال فعل. اعلم أن رفعتك لا تكون بعلو نفسك، ولا تعلو إلا النفس التي اختارها الله، والله لا يختار إلا نفسا تحب أعداءها كما تحب أصدقاءها، وتبغض الشر لذاته، وتعمل الخير حبا فيه لا جلبا لنفع تريده.
إذا وكل إليك تهذيب صبي من أبناء الأشراف والأمراء؛ فلا تخش بأس أهله في تقويم خلقه وإصلاح حاله؛ فإنك إن قمت بعملك كما توحي إليك نفسك وذموك في الحال أثنوا عليك في المآل، وكان نصحك كالدواء يسوء استعماله ويحسن مآله. أوصيك بتهذيب الصغير بحيث يستطيع مجالسة الكبراء؛ فإن في هذا من الفضائل ما لا يحصى، وإذا وفقت إلى القيام بعملك، وقدر أهل الصبي حسن فعلك؛ أغدقوا عليك نعمهم، ورفعوك إلى مراتبهم، وقد تعلوهم وتفوقهم بعد أن تصير مربيهم وأستاذهم.
إذا كنت من رجال الدين ووكل إليك أمر الفصل في مشكلة عويصة بين الملك والرعية؛ فاحكم بالقسطاس وكن عدلا، ولا تظلم الشعب لتصانع الملك؛ لئلا توصم بوصمة الأشراف، وهي أنهم ينصرون القريب والصديق ولو كان على ضلال مبين، ويخذلون العدو الغريب ولو كان على حق وهدى، بل كن يا ولدي مع الحق والعدل أينما كانا؛ يكن الله والخير معك. إن أساءك من أحسنت إليه؛ فاعف عنه، واجتنب عشرته؛ فإن كان حرا فالعفو قتل له، وإن كان وغدا ففي هجرك إياه منجاة لك من شره.
إذا عظم قدرك بعد حقارة شأنك، واستغنيت بعد فقرك؛ فلا تقصر خيرك على نفسك؛ إنما أنت خليفة الله في أرضه، وحارس نعمته، وولي خلقه، رزقك لتعطيهم، وهداك لتهديهم، وأحسن إليك لتحسن إليهم؛ فلا تخن الله في أمانته، ولا تكفر بنعمته، فما كفر بها إلا كل معتد أثيم. أطع ولي أمرك واخضع له بالحق؛ فإن عيشك رهن الطاعة، وإن عصيته ولم يكن قد اعتدى عليك فقد أسأت إلى نفسك.
إذا وليت أمر قوم فلا تتحكم في أعناقهم بظلم، ولا تسع في سلب نعمتهم ؛ فإن الخير يذهب عنك بقدر ما تذهبه عنهم، ولا تغدر أخاك فيما له من مال؛ لأن الغدر منبت الأحقاد.
إذا شئت أن تسبر غور رجل تريده صاحبا؛ فإياك وسؤال الناس عنه؛ فما ذكروا لواحد حسنة إلا وأردفوها بمساوئ لا تعد، بل اكتف بعشرته أمدا محسنا إليه ما استطعت؛ فينبسط الرجل ويفضي لك بما في نفسه، فإن راقك بعد التجارب فأقبل عليه وفاتحه فيما تود، وإلا فاتركه بالمعروف والحسنى، وإن صحبته فلا تحتجر عليه في الحديث، وإن استصغرت شأنه فلا تشعره بما تراه فيه فينفر عنك وده، ولا تحرم أخا لك نفعا تملكه.
Bilinmeyen sayfa