الكتاب الأول: حكم فتاحوتب
المقدمة الأولى
المقدمة الثانية
المقدمة الثالثة
الكتاب الثاني: جولستان أو روضة الورد
تمهيد: آداب الفرس
جولستان أو روضة الورد
أخلاق الملوك
صفات الزاهدين
الكتاب الثالث: كتاب أونادايجاكو أو التعليم الراقي للمرأة في اليابان
Bilinmeyen sayfa
مقدمة
مقدمة ثانية
كتاب التعليم الراقي للمرأة
الكتاب الأول: حكم فتاحوتب
المقدمة الأولى
المقدمة الثانية
المقدمة الثالثة
الكتاب الثاني: جولستان أو روضة الورد
تمهيد: آداب الفرس
جولستان أو روضة الورد
Bilinmeyen sayfa
أخلاق الملوك
صفات الزاهدين
الكتاب الثالث: كتاب أونادايجاكو أو التعليم الراقي للمرأة في اليابان
مقدمة
مقدمة ثانية
كتاب التعليم الراقي للمرأة
الحكمة المشرقية
الحكمة المشرقية
تأليف
محمد لطفي جمعة
Bilinmeyen sayfa
الكتاب الأول
حكم فتاحوتب
المقدمة الأولى
كانت حكم فتاحوتب لدى قدماء المصريين من الكتب المعتبرة حتى إنهم كانوا يعلمونها أولادهم في المكاتب والمدارس، ويقرءونها في المنازل والمجالس؛ لهذا عثر البحاثون في الآثار المصرية على نسخ عدة من هذا الكتاب النفيس، ولا يخفى أن كثيرا من الكتب النافعة الممتعة وجدت حيث كانت معاهد العلم، ولولا تعدد نسخها ما عثرنا ببعضها بعد مرور ستين قرنا من تاريخ تأليفها وانتشارها.
وقد علمنا من ورق البابيروس «البردي» أن طلاب دار العلوم المصرية القديمة كانوا يكتبون في اليوم ثلاث صفحات من حكم فتاحوتب؛ «ليحسنوا خطوطهم، ويهذبوا نفوسهم، وليتخرجوا في فنون البلاغة والإنشاء؛ لسلاسة أسلوب الحكم والنصائح المذكورة.»
1
وتلك الكراسات التي كتبها شبان المصريين القدماء هي التي يصرف محبو الآثار في هذا العهد أيامهم ويوقفون أعمارهم على البحث عنها، والتنقيب عليها، ونقلها من اللغة القديمة إلى اللغات الحديثة؛ لينعم أبناء هذا العصر نظرهم في حكمة أبناء القرون الغابرة.
أما النسخة الأصلية التي فسرها العلامة باتسكو مجن - العالم الأثري الإنجليزي، وهي معتمدنا في هذا التفسير العربي - فقد عثر بها العلامة المؤرخ الفرنسي «بريس دافن» ومعها غيرها من الآثار الأدبية في شتاء عام 1847. وذكر هذا المؤرخ أنه شراها من فلاح مصري كان يعمل في الحفر والتنقيب على مقربة من مقابر طيبة. ويذهب البعض إلى القول بأن تلك الآثار الأدبية الثمينة وجدت في أجداث ملوك حنتف، وهم أفراد الأسرة الحادية عشرة التي أقام أمنمحعت الأول على أنقاضها دعائم دولته، وانتزع الملك من آخر ملوكها وحصره في أسرته الثانية عشرة.
وقد أهدى العلامة بريس دافن هذه النسخة إلى دار الكتب الملكية بباريس؛ حيث لا تزال معروضة لأنظار الزائرين، وطول القرطاس التي كتبت فيها حكم فتاحوتب بالذراع البلدي ثمانية ونصف، وعرضها ذراع. وهذا قياس البابيروس المعروف؛ لهذا رجح المؤرخون رأي القائلين بالعثور بتلك الأوراق في قبور الملوك. أما ورقة البابيروس المذكورة فمؤلفة من ثماني عشرة صفحة، مكتوب بعضها بالمداد الأسود وبعضها بالأحمر، ويحسب رائيها لأول وهلة أنها حديثة؛ لأن طول القدم لم يصبها بآفات التبديد والتشتيت، حتى إذا تبينها وقلب صفحاتها ظهر له أنها لم تنج من آفات القدم التي اغتالت بعض الأوراق وتركت البعض الآخر أثرا بعد عين.
ومما أبقاه لنا الدهر من أوراق ذلك العهد كتاب كامل، وهو «حكم فتاحوتب»، وآخر ناقص، وهو «نصائح كاجمني». أما نسبة الكتاب الثاني إلى كاجمني فمن باب الحدس والتخمين؛ لأن العث لم يبق على شيء يستدل منه على اسم واضع الكتاب؛ ولأن المفسرين لم يعثروا فيه من أوله إلى آخره إلا على علم واحد، وهو «كاجمني»؛ فظنوه اسم واضع السفر. وأهمية هذا الكتاب هي أنه أقدم ما كتبه البشر حسبما نص علماء الآثار.
Bilinmeyen sayfa
أما تاريخ الكتاب الكامل الشامل لحكم فتاحوتب فمعروف ولا خلاف في أمره؛ لأن مؤلفه ذكر عن نفسه أنه وضعه في عهد الملك إيسوسي، وهو آخر ملوك الأسرة الخامسة، فكأن فتاحوتب وضع كتابه في القرن السادس والثلاثين قبل المسيح؛ أي منذ خمسة آلاف وخمسمائة سنة.
والعجيب في أمر هذا الكتاب وغيره مما كتبه المصريون الأقدمون أنها لا تزال جديرة باعتبار القراء في كل زمان ومكان. وقيمة حكم فتاحوتب عظيمة؛ لأنها تشمل الشريعة الأدبية في قالب نصائح تهذيبية يلقيها على ولده وخليفته وزير خبير بشئون حياة مصر الاجتماعية، فلعل أبناء اليوم يستفيدون من نصح ذلك الحكيم وإرشاده كما استفاد أجدادنا الأوائل، وقد نكون إلى هذا النصح منهم أحوج، وهو بنا أجدر وأخلق.
المقدمة الثانية
في كتاب «حكم فتاحوتب»
أقل ما يقال في وصف هذا الكتاب المستطاب: إن واضعه لم يترك بحثا اجتماعيا إلا وطرق بابه، ولم يدع موضوعا أخلاقيا إلا وخاض عبابه؛ فبينا تراه يذكر آداب الجدل والبحث، ويصف كل مجادل، ويشرح ما ينبغي في حقه؛ كالإذعان لذي الحجة، أو الرد عليه بالتي هي أحسن، أو الإعراض عنه بلطف حسبما يقتضيه خلقه، وتدعو إليه حاله، إذ هو ينصح لابنه أن يغضي لأيدي الأمراء والحكام، وأن يسترشد العلماء والمرشدين ليهتدي بهديهم، ويتعظ بخبرتهم وتجاربهم. ولم يكن نصح فتاحوتب قاصرا على تلك المسائل التهذيبية، بل تناول أهم المسائل الاجتماعية؛ فشرح ما يليق بالرجل نحو المرأة، وما يجب في حق الوالد على الولد، وأفاض في وصف معاملة الخدم، وأمر بالإحسان إليهم، والعطف عليهم، وذكر حقوق الأجراء والعمال على أرباب المال والأعمال.
وإذا حاولنا أن نلخص حكم فتاحوتب في كلمة واحدة تكون شعارا لمبدئه في الأخلاق، فلا نختار لذلك أفضل من قوله: «كن محبا للخير والناس تكن سعيدا في الدنيا والآخرة.» ولكنا نأخذ على الحكيم المصري أنه لم يكن يرمي إلى نشر المبدأ الذائع لدى علماء الأخلاق وقادة الأفكار من أهل المدينة الحديثة، وهو حب الخير لذاته؛ وإنما كان يذكر على الدوام أن الطاعة والخضوع وفعل الخير، والتأدب في الحديث، والاعتدال في العيش، والإحسان إلى الفقراء تؤدي جميعها بالمرء إلى السعادة.
وبعبارة أخرى يقول فتاحوتب للإنسان: «إنك إذا أطعت آباءك في صغرك، وولي أمرك في كبرك، وأحسنت السياسة في رئاستك، وغمرت بكرمك خدمك وحشمك ومن يلوذ بك، واعترفت بذنوبك وتبت عنها إلى الله؛ فإنك تنال رضى الملوك، وتبلغ أسمى الدرجات، وتكون لدى الله من المقربين.» ويرى القارئ أن الرادع الذي استعان به فتاحوتب لصد البشر عن فعل الشر هو رادع مادي محض، أو هو من قبيل «اعمل تؤجر». وهذا الرادع المادي من وضع حكماء الشرق الأقدمين. وكان هؤلاء الحكماء يفضلونه على الرادع الأدبي، وهو محاسبة النفس وتأنيب الضمير؛ لا لأنه أفضل منه، بل لأن قيادة العامة بواسطته أسهل؛ فهو من هذه الوجهة وحدها أولى وأنفع، وعلى هذا المبدأ جاءت الديانات كلها؛ فلا سبيل للاعتراض عليه إلا بالاعتراض عليها.
وقد يأخذ بعض النقاد على الحكيم فتاحوتب إغفاله ذكر أمور شتى؛ كالرفق بالحيوان، فإنه لم يذكر في قانونه كلمة في هذا الشأن، مع أن التاريخ لا يحفظ ذكر أمة كانت أرفق بالحيوان من الأمة المصرية، التي وصل بها حبها للأنعام وإشفاقها عليها أنها حرمت ذبحها أو قتلها، وجعلت منها آلهة اتخذتها للعبادة، وانتحلت لذلك أسبابا وأعذارا شتى. وقد عثر النقابون في قبر فتاحوتب - واضع هذا الكتاب - على سطور منقوشة مؤداها: أنه كان يستدعي في كل صباح قردا وثلاثة كلاب يطعمها بيده ويمسحها؛ إشفاقا منه عليها،
1
ويؤخذ هذا الخبر وغيره من الأخبار دليلا داحضا على أن الحكيم لم يغفل ذكر بعض الأخلاق الفاضلة والعادات المستحبة إلا لأنها كانت مشاعة لدى أمته.
Bilinmeyen sayfa
ومن المسائل الجديرة بالنظر ذكر المؤلف لإله واحد غير متعدد «مع العلم بتعدد آلهة المصريين»، ووصفه ذلك الإله الفرد بأنه «يعاقب المذنب، ويثيب المحسن، ويعطي السائل، وينظم الكون، ويحب مخلوقاته، ويراقب أعمالهم حسنها وسيئها، ويكلؤهم بعين لا تأخذها سنة ولا نوم»،
2
ويرى القارئ أن هذه الصفات أسمى ما يوصف به الخالق - سبحانه وتعالى - ولو كان الواصف من أساتذة اللاهوت في النصرانية أو علماء الكلام في الإسلام، فهل كان فتاحوتب موحدا كآبائه الكهنة،
3
وكان يريد بتوحيد الله في كتابه الإقرار والاعتراف بالوحدانية من طرف خفي؟ ولسنا نخوض عباب هذا البحث لأنه يدخل في باب الحكم على الغائب بالغيب، وهذا الحكم لا يصدق إلا مصادفة، وليس للمصادفات مجال في ميدان الحقائق؛ إنما نجيب على هذا السؤال بما يظهر لنا، ويجوز موافقته للحقيقة مع خروجه عن حد الفرض المستحيل؛ فنقول: ربما رغب الحكيم أن يكون لحكمه تأثير نافع في انتشار كتابه في سائر المدن والأقاليم، فرمز لله بأنه الفرد القادر على كل شيء؛ ذلك لأن أهل كل مدينة مصرية قديمة كان لها إله خاص بهم ؛ كآمون بطيبة، وفتاح بمنف، وغيرها من الأرباب، فلو أنه ذكر واحدا من تلك الآلهة المتعددة لكان نصيب كتابه من التأثير قاصرا على أهل بلد دون غيره؛ لذا ذكر المؤلف لفظ الجلالة مطلقا غير مقيد بزمان أو مكان أو اسم معروف، فكان أبناء كل بلد يقرءون الحكم، ويقفون على ذكر الله المطلق فيحسبون أن المقصود هو ربهم. وقد انطلت تلك الحيلة الدقيقة على قدماء المصريين؛
4
فكانوا إذا رأوا ذكر الله الغفور المحسن المعطي توجه كل بقلبه ولبه إلى معبوده وربه. وها نحن أولاء نكتفي الأثري المصري الوحيد أحمد كمال بك، في محاضرة ألقاها بنادي المدارس العليا في خريف 1907، عن التوحيد عند قدماء المصريين، قال:
قال تعالى:
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد . هذه هي صيغة التوحيد عند المسلمين، وهي موافقة تقريبا للصيغة التي كان يدين بها المصريون قبل عصر الملوك، ويدلنا على ذلك رسوم هيروغليفية وجدت في أوراق البردي القديمة. وهنا ترجم الخطيب صورة لهذه الصيغة رسمها على لوحة الطباشير بما يأتي:
الله وحده لا ثاني له، يودع الأرواح في الأشباح، أنت الخالق، تخلق ولا تخلق، خالق السماوات والأرض.
Bilinmeyen sayfa
وأخذ الخطيب يبين للحاضرين دلالة الرسوم الهيروغليفية على معانيها، فذكر أن الله كان يرمز له بصورة رجل مهيب جالس على كرسي، وأن «لا» النافية يرمز لها بذراعين ممدودين على خط مستقيم، وأن الأرواح يرمز لها بثلاثة من الطير - وبهذه المناسبة ذكر الحديث المشهور: «أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر.» وتكلم على ما يعتقده عامة اليوم من «تقمص أرواح الموتى للذباب الأخضر» - وأن العابد يرمز له برجل رافع يديه تعبدا، والأرض بقوس تحته حصى، وقال: إن الإفرنج كانوا يعتقدون إلى ما قبل عشر سنين أن قدماء المصريين وثنيون، ولكن زال هذا الاعتقاد باكتشاف هذه الصيغة التي يعززها عدم وجود أصنام في مقابر ذلك العهد القديم.
من أين أتى التوحيد لقدماء المصريين على هذه الصورة؟
أتاهم التوحيد من نوح عليه السلام؛ فقد كان موحدا بدليل قوله تعالى:
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ، والخطاب للمسلمين الذين قدمنا عقيدتهم في التوحيد. وهنا يتجه اعتراض مؤداه: أن الشرك كان شائعا عند قدماء المصريين بدليل قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام:
أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ، ومعلوم أن يوسف كان سجينا عند فرعون مصر. ونجيب على هذا بأن عقيدة الشرك لم تدخل مصر إلا مع العرب الذين دخلوا مصر في العهد القديم؛ أي قبل عصر الأسرات؛ ولذلك كان المصريون يطلقون على بلاد العرب اسم بلاد الوثنية.
ثم ذكر الخطيب أن الوثنية سليلة بلاد العرب، بدليل أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
وجد بالكعبة 365 صنما فهشمها، ثم أكد الخطيب أنه جمع أسماءها العربية فوجد أسماء تشابهها في اللغة الهيروغليفية؛ مما يدل على نقلها من العربية، وضرب مثلا بصنم اسمه «بوانة» الذي حرفه الفرنج فجعلوه «فينكس»؛ لأن الباء تنطق في الهيروغليفية كالفاء، وقد ذكر العرب هذا الصنم باسم «فقنس»، وقال أصحاب الأساطير: إنه طائر يأتي من جزيرة العرب ويقف على معبد عين شمس، ثم يرفرف بجناحيه فيتقد نارا تلتهمه، ثم يخلق منها ثانية. وما نقله العرب هذا حديث خرافة كالخرافات اليونانية. ومن هذه الأصنام العربية اللات والعزى ومناة، وإن لها ذكرا في اللغة الهيروغليفية مع بعض التحريف، ثم سئل الخطيب: كيف تغلب الشرك على التوحيد؟ فقال: إن ذلك راجع إلى قوة المتغلب.
وسئل عن صيغة التوحيد التي أوردها آنفا، فقال: إنها موجودة في أوراق البردي القديمة، ثم استطرد إلى تعريف البردي فقال: إنه نبات يزرع في الوجه القبلي، وتخرج منه غلة تشبه القمح كان المصريون يقتاتون منها، وذكر أنهم كانوا يأخذون أوراقه ويلصقونها بعضها ببعض بالصمغ، وقد وجد الخطيب منها قطعا يبلغ طول بعضها ثلاثة أمتار. أما اللوتس «البشنين» فإنه يزرع في الوجه البحري، وهو ينتج ثمرة مثل الشعير كانوا يقتاتون بها أيضا، ويختلف عن البردي في أن أوراقه مسننة لا مستديرة، وقد سطر المصريون على هذه الأوراق علومهم من طب وهندسة وحساب ورؤى فيها تمرينات على هذه العلوم ومسائل وأشكال هندسية.
ثم قال حضرة الخطيب: إن هذين النبتين يرمز بهما لمن حكم الوجهين البحري والقبلي، فإذا رأينا كرسيا مرسوما عليه صورة البردي واللوتس عرفنا أن الملك الجالس عليه كان يحكم الوجهين البحري والقبلي؛ لأن من يملك الغذاء يملك الرقاب.
Bilinmeyen sayfa
المقدمة الثالثة
تاريخ الأسرة الخامسة المصرية التي دونت في عهدها حكم فتاحوتب
كانت منفيس وما والاها من المدن مقر ملك الأسرة الخامسة المصرية التي بدأت دولتها في وادي النيل سنة 2750ق.م؛ أي منذ ستة وأربعين قرنا، وكان ملوك تلك الأسرة إذا ورث أحدهم الملك وتربع في دست سلفه أضاف إلى اسمه لقب «ري». وقد حقق المؤرخون أن الكهنة هم الذين نصحوا لملوك تلك الأسرة بإسناد هذا اللقب إلى أسمائهم؛ لأن فيه رمزا دينيا يجعل دار الملك مرتبطة أبدا بالسلالة المقدسة، ومعنى ذلك تسليم الملوك أمورهم جلها أو كلها لرجال الدين، وإشراكهم في النفوذ والسلطان، ودليل المؤرخين على ذلك أن الكهنة حاولوا إقناع أفراد الأسرة الرابعة - وكلهم من الجبابرة العتاة بناة الأهرام الكبرى ومؤسسي الآثار الخالدة - أن يشفعوا هذا اللقب الديني «ري» بأسمائهم، فلم يرض ملوك تلك الأسرة، ولم يفلح الكهنة في سعيهم.
ومما يؤكد ويؤيد حجة المؤرخين في قولهم بخضوع الأسرة الخامسة لرجال الدين واستسلامهم لهم، أن الكهنة فرضوا على كل ملك من ملوكها أن يبني على مقربة من قصره معبدا فخيما يسميه هيكل الشمس المقدس، وكانت هذه الهياكل تمتاز عن غيرها بأنها مربعة الشكل، وفي كل واحد منها غرف رحيبة، وفي مؤخر المعبد مرتفع من البناء عليه مسلة منقوشة باذخة يرمز بها إلى إله الشمس رافعا رأسه إلى السماء. وكانت غرف المعبد المذكورة آنفا مزدانة بالصور والنقوش التي تمثل منابع النيل وما حولها من البحيرات والجبال، وفي بعضها صور تمثل الصحراء الواسعة الأكناف، والبحر «المحيط» المترامي الأطراف، وبعضها يمثل أهل مصر في مزارعهم ومتاجرهم ومصانعهم.
وكان في كل معبد مكان خاص بالملك يصور فيه حوادث عهده الحربية والسلمية، ويظهر أن الكهنة الذين أشاروا على ملوك الأسرة الخامسة بتشييد تلك المعابد أمروهم بالعناية بها، ووقف ريع الضياع والحقول عليها، وتعهدها من حين إلى حين بالهدايا والتحف. وكانت تلك الهياكل في الواقع كأديرة النصارى وتكايا المسلمين، يقتسم خيراتها من الكهنة من تقدم في السن، أو لحقته الأدواء والعاهات العائقة عن القيام بشعائر الدين.
وقد انضم بعض شبان الكهنة إلى مشايخهم؛ حيث كانوا يعملون على ترقية الأخلاق بنشر الفضائل، وحث الناس عليها. ويذكر المؤرخون أن ذلك العهد كان بدء نهضة علمية أدبية؛ ففي أيام الملك «إيسوسي»، آخر ملوك الأسرة الخامسة، نشأ حكماء فضلاء وكتاب مجيدون أشهرهم واضع هذا السفر الجليل الوزير فتاحوتب «الفتاح العليم»، وهو «وزير مصر، ومحافظ المدينة، وقاضي القضاة، ووارث كهنة فتاح».
وكانت تلك النهضة الأدبية معززة بنهضة سياسية أخرى؛ لأن ملوك تلك الأسرة تنازلوا عما كان عليه أسلافهم من البطش والتفرد بالسلطة المطلقة، وأذنوا لأكابر وزرائهم باقتسام نفوذهم، والاشتراك معهم في تدبير شئون الملك. وقد وصل الأمر بالوزراء إلى أنهم انتحلوا لأنفسهم لقبا ثابتا، هو لقب «فتاحوتب»، فكان فرعون في الإمارة وفتاحوتب في الوزارة، ثم إن الوزير الأكبر كان يترك منصبه لابنه يرثه بعده، كما كان الملوك يورثون الملك بعضهم بعضا؛ فكأن البلاد كانت في الواقع محكومة بأسرتين متضامنتين متكافلتين.
ومنشأ هاتين الأسرتين من الكهنة ورجال الدين الذين تغلبوا على أذناب الأسرة الرابعة، فغلبوهم على أمرهم وانتزعوا الملك من أيديهم، ثم اقتسموه بينهم، فكان الملك نصيب كهنة مدينة الشمس «هليوبوليس»، والوزارة نصيب كهنة فتاح، وهم - لا ريب - أضعف من كهنة مدينة الشمس نفوذا، وأقل شأنا وشأوا.
وهذه الحقيقة التاريخية تعلل تساهل ملوك الأسرة الخامسة مع رجال الدين، واستسلامهم لهم تعليلا حسنا؛ لأنه لولا ذلك اللين وتلك المحاسنة ما استطاع فريق من رجال الدين أن يستقل بالملك، ما دام الكل يطمع فيه، والشعب المصري المسكين يمرح في نعيم الجهل، بعد أن حجب هؤلاء الخونة المستبدون من رجال الدين وغيرهم عنه نور العلم وضياء المعرفة، وخلوه يرسف في قيود الذل، ويعمه في ليل من الغفلة ، ولولا ذكر بعض حسنات الكهنة في كتب بعض المؤرخين، وثقتنا بهم، وسعة اطلاعهم، لارتبنا في وصفهم كهنة الأسرة الخامسة بالصلاح، وقولهم عنهم: إنهم كانوا في معابدهم يعملون على ترقية الأخلاق بنشر الفضائل، وحث الناس عليها.
بيد أن القوة المهولة الساهرة على حياة الشعوب التي لا تأخذها سنة، ولا تغفل عما يفعل الظالمون، انتقمت للضعفاء من الأقوياء، وانتصرت من الباطل للحق؛ فحدث ما كان في الواقع نتيجة منطقية لتلك المقدمات، وهو أن عمال الحكومة كبارهم وصغارهم رأوا كيف انتزع الكهنة الملك من أيدي أصحابه، وتعلموا على أيديهم طرق الاغتيال؛ فسنوا لأنفسهم سنة جديدة، وهي أن يورثوا أولادهم مناصبهم من بعدهم، فكان كل عامل يخلفه ولده؛ ليكون خير خلف لخير سلف، وبعبارة أخرى كانت الحكومة المصرية في ذلك العهد وراثية «بيروقراطية»، وفي هذا النظام من منازعة الحكام والعمال للملوك نفوذهم ما لا يخفى؛ لأن كل حاكم أو عامل في الحكومة يرى لنفسه حقا وراثيا فيها؛ فلا يستطيع الملك أن ينال من السلطة ما لا يود عماله.
Bilinmeyen sayfa
ولما كان أغلب صغار الحكام من طبقات الأمة المتوسطة، سرت روح الحرية شيئا فشيئا حتى بلغت الفئات النازلة، ثم إن الملوك أنفسهم كانوا يقرون بفضل فئة من أشراف المصريين عضدتهم، وشدت أزرهم، ورفعتهم إلى عرش الملك؛ فكانوا يملقون هؤلاء النبلاء، ويسبغون عليهم ذيول العز، ويغمرونهم في كل آن بوافر النعم وجزيل الإحسان، حتى إن أول ملك من ملوك الأسرة الخامسة استعمل على مصر السفلى حاكما كان قبل نبيلا، وقد أوشك هذا العامل أن يستقل بولايته لولا ضعف حزبه وأنصاره.
على أن كل الذنوب السياسية تغتفر في سبيل ما أرغم ملوك الأسرة الخامسة على نشره من العدل في ربوع مصر؛ فشعر الشعب الذليل بنعمة الحرية، بعد أن ذاق صنوف المذلة والهوان على أيدي جبابرة الأسرة الرابعة؛ أمثال: خوفو، وخفرع، ومنقرع، القساة القلوب، الغلاظ الأكباد، العتاة الظالمين الذين سجلوا على نفوسهم ذنوبا لا يمحوها كر الدهور، ولا ينسخها مر العصور، بل ما دامت الأهرام الكبرى تناطح السماء، وتقاوم طوارئ الحدثان، وتهزأ بتعاقب القرون على القرون والأزمان على الأزمان، وتشهد بأن كل صخر من صخورها هو دمع متحجر من دموع الشعب الذليل المهان، الذي سيق رغم إرادته والشمس المحرقة ترشقه بسهامها، والصحراء الحامية تدمي أديم أقدامه بجمر أديمها، والسوط المثلث مصوب إلى ظهره، والسيف المرهف مكان الغلالة من نحره.
سيق هذا الشعب المظلوم على تلك الصورة المفزعة تنفيذا لرغائب عتل زنيم ومعتد أثيم، أصابه مس من الجن، فظن أن نفسه الخبيثة لا يليق بها إلا ذلك الهرم الجسيم، أو أراد أن يخلد ذكره على صحيفة مصر فسفك دماء أبنائها؛ ليكتب بها سطرا في الصحراء لا بد أن يمحوه الزمان، وما زوال ذكر الظالمين وآثارهم على الظالمين بعزيز!
لست أدري لماذا ألوم ذلك الظالم الجهول خوفو أو كيوبس، الذي تعددت أسماؤه تعدد أسماء إبليس اللعين، واللوم خليق بالمؤرخين الذين ذكروه وذكروا أمثاله من الظالمين أشباه نابوليون الصغير ونيرون، أكثر مما ذكروا سولون وسقراط وأرسطو وأفلاطون، وكان الجدير بهم أن يمحوا أسماءهم من كتبهم؛ لئلا ينالوا بهذا الذكر ما كانوا يرجونه من الصيت العتيد، والشأو البعيد.
نقول: ومدح الأسرة الخامسة في عرض الكلام على عتاة الأسرة الرابعة عدل؛ انظر إلى ما حاول ملوك تلك الأسرة تشييده من الأهرام مجاراة للسلف الطالح في الجيزة وأبي صير وصقارة؛ فقد جاءت كلها ككهوف القرون الأولى، فلا جلال لها، ولا سيماء للوقار عليها، وقد تهدم معظمها، وعن قريب لا يبقى منها إلا ذكرها في كتب الأخبار.
وهذا الضعف في البناء لا يؤخذ دليلا على تقهقر فن العمارة في مصر في عهد تلك الأسرة، إنما يؤخذ دليلا على انتشار روح الحرية الشخصية لحد محدود، وبرهانا على ضعف نفوذ الملك؛ بحيث صار عاجزا عن سوق الشعب لتشييد جبال الظلم والاستبداد كما تساق الأنعام للذبح. وقد ذكر المؤرخ الكبير العلامة جمس هنري بريستد، الذي نعتمد على مؤلفاته في معظم ما نكتب، أن مصر «تقدمت في عهد الأسرة الخامسة تقدما ماديا وأدبيا، وأن الصنائع والفنون ارتقت ارتقاء باهرا، كما أن الآداب نهضت نهضة شماء، فألفت الكتب، وصنفت الرسائل، ودونت المقالات الطويلة والأبحاث العلمية الشائقة.» وذكر هذا المؤلف، في صحيفة 107 من كتاب تاريخ مصر القديم «طبع نيويورك»، «أن النهضة الأدبية، وإن كانت في عهد الدولة الخامسة في إبان نشأتها، فقد أنجبت كتابا وحكماء هيهات أن يسمح الزمان بمثلهم في بدء أية نهضة في أية أمة، ومن هؤلاء الحكماء الوزير فتاحوتب، ورفيقه كاجمني وغيرهما.
وقد اشتغل هؤلاء الحكماء بوضع الحكمة في قالب الأمثال والمواعظ، ولم ينقطع أحدهم للتحرير والتحبير إلا بعد أن حنكته الليالي والأيام، ودربته الحوادث والتجارب، وقد شاعت مؤلفاتهم وتداولتها الناس كافة، وأقبلوا على حكم فتاحوتب خاصة، ولا بدع إذا نالت تلك الحكم في الزمن الحاضر ما نالته في الغابر؛ فهي من أقدم ما كتب الكاتبون، وأفضل ما حبره الحكماء الخبيرون.» ا.ه. ما قاله العلامة بريستد.
وقد ذكر بعد ذلك أن أسلوب التصنيف كان في ذلك العهد واحدا، وأن الألفاظ التي استعملت في الكتب قليلة محصورة، واستدل بذلك على ضعف اللغة الهيروغليفية في عهد الأسرة الخامسة، ولكن غيره يرون غير رأيه، ويقولون: إن حال الشعب من العلم ومكانته من المعرفة كانتا تستلزمان البساطة في التعبير، والسهولة في الإنشاء، والعناية بانتقاء الألفاظ التي تقرب من ذهن عامة الناس، وهذا خير من التقعر وذكر ما لم يصل إليه علم المتوسطين.
حكم فتاحوتب
هذه حكم الوزير فتاحوتب، وزير مصر وحاكم المدينة وقاضي القضاة في عهد الملك إيسوسي، ملك الملوك وأمير الأمراء وصاحب مصر السفلى.
Bilinmeyen sayfa
قال الوزير فتاحوتب، وزير مصر وحاكم المدينة، وقاضي القضاة للملك إيسوسي: «اعلم يا مولاي، أن سراج حياتي أوشك أن ينطفئ؛ فأخذ الفناء يدب في جسدي دبيب الشيب في الرأس، وتمكن الضعف من بدني تمكن القنوط من النفس، فعادت نضرتي ذبولا، وغضاضتي محولا، وجسامتي نحولا، وقل الخير والنفع، وذهب البصر والسمع، وعقد اللسان بعد أن ختم على الجنان؛ فلا قول نافع، ولا برهان قاطع، ولا ذهن يعي، ولا بيان شافع يعيد ما مضى من عهد الفتى الألمعي.
فاسمح يا مولاي، لخادمك وعبد رحمتك وصنيع نعمتك أن يخلي منصبه لولده من بعده، ومرني أن أعلمه ما علمتنيه حنكة الشيوخ؛ فقد قيل: إنهم مهبط الوحي ومسقط الحكمة. عفا الله عنك، وأرشد بك شعبك، وهداه بهديك.»
فأجاب الأمير النبيل والملك الجليل إيسوسي، صاحب مصر السفلى: «أذنت لك أن تعلم ابنك الحكمة؛ فلعله يجيء فذا بين الأولاد، موفقا إلى سبل الرشاد، فيكون قدوة لأمثاله، يسيرون على نهجه، ويختطون خطته، ويختارون حكمته، فيهتدون في تقويم اعوجاجهم بهداه، ويسترشدون في إصلاح ما فسد من شئونهم بصلاحه وتقاه.»
فكتب فتاحوتب، وزير مصر وحاكم المدينة وقاضي القضاة، لولده يعلمه الحكمة وأدب النفس:
إذا أوتيت العلم فكن متواضعا، وجادل الجاهل بالتي هي أحسن كما تجادل قرنك، واعلم أن الإنسان جاهل مهما اتسع نطاق علمه؛ لأنه ليس للذكاء حد، وليس للفضل والفطنة نهاية، وما ملك أحد ناصية الحكمة، واعلم أن كلمة الحق لدى الحر أثمن من يتيمة الدر.
إذا جادلك حكيم عاقل، وكان أرجح منك فضلا وعلما، وأقوى حجة، وأرسخ قدما، فاخفض له جناح الذل، ولا تعرض عنه إذا خالف رأيه رأيك، واحذر أن تفوه بما يحفظه، وإياك أن تصدمه في حديثه؛ فإذا استكبر وتواضعت رفعت نفسك في نظره، واستللت بلينك من قلبه سخائم الكبر، وربما سكن إليك وأحاطك بما لم تحط به خبرا، وإذا تجادل قرينك وألفيته لا يخرج في القول عن حده، ولا يميل عن الحق إلى ضده؛ فلا تغض عنه؛ فإن الإغضاء يورث الأحقاد، ويغرس بذور العداوات.
وإذا جادلت من هو أقل منك قدرا فلا تسخر منه ولا تحتقر شأنه؛ لفقر فيه أو لضعف طرأ عليه، ولا تلحف عليه بالسؤال فيما لا يعنيك حبا في استطلاع أمره، وإذا أغضبك فلا تصب على رأسه جام سخطك؛ فما ظلم الناس شر ممن هزأ بهم، وما آلمهم شر ممن استكبر نفسه واستصغر نفوسهم، وإن خدعتك نفسك وأغرتك بالشر فاعصها واغلبها على أمرها؛ فإن هذه صفات الأبرار الصالحين.
وإن كنت، يا أيها الولد، زعيما ترشد قوما، أو قائدا تقود شعبا ؛ فكن كريم الأخلاق، حسن الشيم لا تشوب أدبك شائبة، واعلم أن الصدق أعظم النعم، وله حول وطول، ولن يخذل صاحبه، وما كان الباطل ليغلبه؛ إن للباطل جولة لا تبقى أكثر من ساعة، وإن للحق دولة تدوم إلى يوم الساعة، واعلم أن الإذعان للحق فضيلة لا تنكر، وأن الاعتداء عليه ذنب لا يغفر، ولا يعتدي على الحق إلا ذو مطمع دنيء، والطمع في الدنايا مضر بصاحبه في شرفه وماله؛ فهو يقوده إلى الشر، والشر مطية الدمار.
أما من يذعن للحق، ولا يتطلع إلا إلى ما يستطيع نيله بالحق؛ فثوابه عند الله عظيم، واغتباطه بنفسه أعظم؛ لأن الحق ميزان الحياة وأساس العدل، والعدل فضيلة كبرى كامنة في النفوس الخيرة يحث عليها الآباء الصالحون، ويوصي بها الحكماء والنبيون.
لا تكن يا ولدي سببا في إرهاب النفوس بغير حق، وحذار أن تكون نذير السوء؛ فما تحكمت نفس في أخرى بغير حق إلا ولقيت من الله شديد العقاب، واعلم أن الرجال ثلاثة: رجل يدفع بنفسه في تيار الآمال ويترك الحقيقة طوعا، ويتعلق بأهداب الخيال؛ فيكون نصيبه الخزي وعقابه الحرمان، ورجل يدعي لنفسه البطش والقوة، ويحاول أن ينال بهما ما يريد؛ فيسحقه الله بيد من حديد، ورجل يعطي السائل، ويغيث الملهوف، ويولي المعروف، ويواسي الحزين والضعيف؛ فيمده الله بروح من عنده. فكن يا ولدي كذلك الأخير، رقيق القلب رحيما بالمعوزين؛ تكن محبوبا لدى الناس، وعند الله من المقربين.
Bilinmeyen sayfa
إذا دعاك عظيم فأجب دعوته، وإذا أكرمك كريم فتقبل كرامته، وإذا جلست إلى مضيفك فلا تطل النظر إلى وجهه، ولا تبدأ بحديث قبل أن يفاتحك؛ لأنك لا تدري أي الأشياء لديه أحب، وأيها يستدعي لديه الغيظ والغضب، وإذا دارت رحى الحديث بينكما فلا يكن كلامك إلا جوابا عن سؤال؛ فإن في ذلك حفظا لكرامتك، وإرضاء لمحدثك.
إذا كنت ضيفا في دار فلا تحزن إذا كان نصيبك من خيرها قليلا؛ لأن رب الدار يكرم أضيافه حسبما توحي إليه نفسه، وكل امرئ في بيته سيد مالك؛ فليس لك أن تجبهه أو تعترض عليه، واعلم أن رزقك في يد الله، ولن يهملك الذي خلقك.
إذا أوفدك عظيم إلى عظيم مثله فاقتد بمرسلك في خلقه، فإياك أن تعكر الصفاء بينهما بالخطأ في تبليغ الرسالة؛ فقد يؤدي تحريف الكلم إلى العداء، وكم من كلمة بدلت فدمرت بلدا، ولفظ غير فكان مجلبة الشقاء! وإذا فتح لك أمير أو حقير خزائن قلبه، وباح لك بما يصونه عن غيرك؛ فلا تفش حرفا مما اؤتمنت عليه؛ لأن إفشاء الأسرار منقصة تلحق بصاحبها المذلة.
إذا زرعت زرعا فقم عليه، وكن حريصا حتى ينبت وينمو ويثمر فيبارك الله لك فيه، وإذا حرمت النسل فلا تحسد من رزقه، بل اغتبط به إذا رأيت مسرته، وإذا لم تلد لك زوجك فلا تشاكسها؛ فإنك لا تعلم هموم الآباء إذا لم تكن والدا؛ فقد يكون أحدهم سعيدا بماله شقيا بنسله، وليس نصيب المرأة من النسل بأقل شقوة من أنصبة الآباء؛ فإن الأمهات أكثر النساء هما وغما، وأدناهن من القبور؛ لشدة ما ينال إحداهن من الحزن وما تلقاه من الآلام في العناية بولدها في نومه ويقظته، في مرضه وصحته، في حزنه ومسرته.
إذا كنت صغير القدر غير ذي شأن؛ فالجأ إلى حكيم حازم والتصق به، واجعل نفسك وقفا عليه؛ فيرفعك بحكمته من حضيضك إلى أوجه، ويقوم من عوجك بمثل ما قوم من عوج ذاته.
إذا رأيت رجلا أصابه حظ حسن، فنال منصبا ساميا لا يستحقه، وكنت واقفا على سره، خبيرا بحقيقة حاله، فلا تهزأ به لما تعلم من أمره، بل كن كغيرك في إكرامه والحفاوة به، وكفاه ما حاز من الفخر مبررا لعيوبه؛ فقد تحسن حاله بعلو مكانته. واعلم أن الشرف والثراء لا يكونان لك عفوا صفوا، وإنما للمرء من الخير قدر ما سعى، واعلم أن الله لم يشرع طرقا أكثر من طرق الحلال لكسب المال.
لا تطع في الحياة إلا قلبك، واعص نفسك في هواها، ولا تجبها إلى سؤالها فيما لا يعلي قدرك، ولا تقض عمرك كله في تحصيل المال وكنزه؛ فإن كنز المال وصره متعبة، ولا خير فيما يتعب المرء في تحصيله ليزداد بوفرته نصبا.
إذا رزقك الله ولدا فلا تهمل تهذيبه، بل اسهر على تربيته وإرشاده إلى سواء السبيل؛ فإن أثمر عملك فقد نلت ثوابين؛ الأول: ثواب من عمر في الأرض وعمم الخير، والثاني: ثواب من زرع زرعا وبارك الله له فيه، وإن كان لك بنت فلا تفرط في شأنها، وارعها بقلبك كما ترعاها بعينك، وإلا كان عقابك كمن ولي ملكا ولم يحسن سياسته، وإن عصاك ولدك وأطاع هواه، وكان فظا غليظا متشددا في الشر غير حسن الأخلاق، فاضربه حتى تهذبه؛ فإن العصا تقوم باعتدالها ما اعوج من أمره، وحذره من عشرة قرناء السوء ممن لا يعنون بالفضائل؛ فإنهم يقودونه إلى حيث لا تريد، واعلم أن من يلقى مرشدا لن يضل.
إذا جلست في مجلس الدولة فاسترشد بمن كان أقدم منك عهدا؛ فهو أعرف منك بقواعد الحكم، ولا تستهن بالمواظبة؛ فإن الانقطاع عن مقر منصبك والتراخي في عملك يضعفان ثقة الرئيس بك، وربما أدى ذلك إلى ضياع نصيبك من السلطة، كن على الدوام مستعدا للقول إذا كان المجال ذا سعة، ولا تهمل الجواب عن سؤال يوجه إليك، وإذا شئت أن تبقى في المجلس ذا سلطة عالية وقول نافذ فاجعل لنفسك فيه شأنا؛ بحيث لا يستغنى عنك، واعرف مكانتك من أهله يعرفها غيرك، واجلس حيث يؤخذ بيدك وتبر، واعلم أن مجلس الدولة يسير على نظام معروف، وكل ما يحدث به يدور على محور الدقة، وأن علو الكعب فيه نعمة يحرص عليها العاقل، ويسعى إليها الطامع في العلا.
إذا كنت في عشرة قوم فحبب نفسك ما استطعت إليهم، وليكن قلبك وقفا على مودتهم ما دمت ترى إخلاصهم لك وعطفهم عليك؛ فيرتفع ذكرك بين الملأ وتتدفق عليك نعم الله، وتلقى في كل مكان صديقا، وتنال ما تتمنى من دنياك. واعلم أن أسمى الفضائل أن تقدر على كبح جماح شهواتك في السر والجهر، وأن أدنى الرذائل أن يطيع الرجل بطنه وفرجه، وقد رأيت قوما أطاعوا بطونهم وفروجهم؛ فكبرت أجسامهم وصغرت أحلامهم، وأصابتهم في ألسنتهم بذاءة يؤذون بها الأخيار؛ فكان لهم من بطونهم وفروجهم أعداء لا يستطيعون مناهضتها، ولا يقدرون على دفع شرها.
Bilinmeyen sayfa
كن يا ولدي صادقا في قولك، أمينا في عملك، وإذا جلست بين يدي الملك في مجلس الدولة فلا تخف عليه شيئا من أمرك، واعلم أنه لا حرج عليك إذا أنبأته بأمر كان يعلمه؛ لأن في ذلك أداء للواجب، وهو من أسمى الخلال وأكرمها، ولا يضعفن عزمك أن يخطئك الملك مرة؛ فإنه لا يخطئك أخرى، وربما رجع إلى قولك إن كان حقا.
إذا كنت زعيما فاختط لنفسك خطة مثلى، واسع جهدك في إنجازها، وكن ممن ينظرون في العواقب، ويتخذون من الحاضر عدة للمستقبل؛ حتى إذا جاء اليوم العصيب الذي لا يستطيع المرء فيه حلا ولا عقدا رأيت محجتك واضحة، وسبيلك جليا ظاهرا؛ فلا تدركك أزمة الضيق، ولا يصيبك من حرج الموقف ما يصيب البله والبسطاء؛ وبذا تستطيع أن تربأ بنفسك عن مواطن الفشل، ولا تكن محسوبا على أحد؛ فإن ذلك يورث المذلة، ويدعو إلى التراخي، ولا تكل أمرك إلى غيرك فتصاب بداء الكسل.
إذا كنت رئيسا فعامل من هم أقل منك مرتبة برفق، واعلم أن مرءوسك هو عضدك وساعدك، وأن التشدد في معاملته يعقل لسانه، ويختم على قلبه، فيخفي عنك ما قد يفيدك العلم به. أما إذا استعبدته بالحسنى؛ فلعله يبوح لك بما يضمر، ويفتح لك خزائن قلبه. وعوده الحرية في القول يصدقك فيما ينفعك، ولا يخدعك فيما يضرك، وإذا أتاك في أمر له فلا تجبهه، بل كن شفيقا صبورا، وإذا استطعت إجابة سؤاله فلا تبطئ؛ فخير البر عاجله، وإياك والشدة في معاملة من يطيعون أمرك؛ فقد تكون داعية إلى سوء الظن بك، واعلم أن الإصغاء للضعيف والمكروب فضيلة يمتاز بها الأخيار على الأشرار.
إذا شئت أن تستبقي حب أخيك وإخلاص صديقك فاحذر مشورة النساء؛ لأنها مجلبة الشر في كل زمان ومكان، واعلم أن حب المرأة مجلبة الهلاك، وما طاب عيش امرئ يقضي على سعادته ويستهين بحياته في سبيل لذة لا تدوم أكثر من طرفة عين، وتورث آلاما تبقى مدى الحياة.
اجتنب جلساء السوء؛ فإن في بعدهم غنما، وفي قربهم غرما. إذا شئت أن تكون صادقا في قولك أمينا في عملك؛ فطهر نفسك من أدران العناد والطمع، واحذر الشراهة والجشع، وإن كنت خلوا من تلك النقائص فحذار أن تقع في هوتها؛ فإنها أدواء لا تستقيم حال المرء ما دامت جراثيمها عالقة به، واعلم أن تلك المعائب تفرق بين الوالد والولد، وتشتت شمل الجماعات، وتبدد أوصال الصداقات، وتقطع ما بين الرجل والمرأة من صلات الود والمحبة، وتغرس بذور النفور والبغض.
كن عادلا؛ فإن العدل يضمن لك الفوز في مضمار الحياة؛ لأن له صولة تدوم وتبقى في الأرض. لا تحاول أن تنال بالبطش والظلم ما ليس لك، ولا تحسد جارك على نعمة أصابها؛ إنما الحسد سم لا ترياق له، وقد رأيت الحسود والشره يقضيان عمرهما في فاقة ولو كانا غنيين. أما القنوع الذي يرضى بالقليل إذا لم يستطع الكثير، ويغبط غيره إذا ناله الخير؛ فإنه لا محالة غني ولو بات على الطوى وتقلب في الثرى.
إذا كنت ذا أهل فأعدد لهم عدتهم، وأوفهم حاجتهم، ولا تحرمهم خيرك وبرك، وأخلص لزوجتك التي تفرش لك وتنيمك، وأطعمها إذا جاعت، واكسها إذا عريت، وداوها إذا مرضت، وأسعدها إذا شقيت؛ فهي أغلى ما تملك، وأعز نعم الله عليك، وحذار أن تقسو في عشرتها، وكن بها رحيما؛ فإن الرحمة تحببك إليها، وتقربك من قلبها، والقسوة تنفرها منك، وتقصي ودها عنك، والمرأة أسيرة من يكرمها، وهي كثيرة الولع بزهو الدنيا وزخرفها؛ فإن لم تنلها ما تحب من المتاع هجرتك.
أحسن إلى خدمك وحشمك، وأعطهم مما أعطاك الله؛ فما منحك المال الكثير والخير الوفير إلا لتمنح ذوي القليل. علمت أن إرضاء الأجير محال؛ فهو كثير الطمع قليل الإخلاص، ولكنك إذا غمرته بإحسانك وأسرته بكرمك أنطقت لسانه بشكرك. واعلم أن الله ينقم على بلد أجراؤه أرقاء، وعماله أذلاء؛ فارعهم بعين الإحسان يرعك الله بعين الرحمة.
إياك أن تفوه بفحش القول، وإن سمعت القول فمر كريما وصن أذنيك عنه، وأعرض عن قائله، وإياك أن تعتب على قائله أو تؤنبه؛ فإن في سكوتك وعفوك عنه درسا نافعا وعظة بالغة؛ فإن الخير يصلح الشرير بخيره، ويرده عن غيه وشره.
إذا أمرك من هو أقدر منك بمعصية فاعصه؛ لأن العصيان في النقيصة طاعة للفضيلة. لا تستعن على قضاء حاجتك بالكتمان؛ فلعل فيه أذى ومضرة، وربما منع الكتمان عن الانتفاع بعملك.
Bilinmeyen sayfa
إذا تطلبت الحكمة وشئت أن ترتفع إلى مجالس الكبراء، وأن تعاشر الحكام والعظماء؛ فهذب نفسك، واقض زمنك في تكوين عقلك بالعلم، وتكميل قلبك بالفضائل؛ لأن العلم والفضيلة يوليانك البطش والقوة. واعلم أن الاقتصاد في القول خير من الإسراف فيه؛ فلا تنبس بكلمة حتى تزنها، وإذا كنت في مجلس الدولة تجادل وتناضل فلا تنطق إلا بمقدار؛ فلست تدري مكان من يناضلك من البيان وقوة الحجة. إياك والادعاء فإنه فتنة، وإن حذقت في فن فلا تزه بحذقك على أقرانك؛ فقد يكبو اللبيب ويخبو الأريب، ويصيب الغبي، ويخطئ الذكي.
إذا كنت في مجلس فلا تلزم الصمت البتة، وحذار أن تقطع حديث محدثك أو تجيب على ما لم يسألك عنه، إياك والحدة في القول فقد يعقبها الندم، اعتد كبح جماح نفسك، والزم صون لسانك عما يجول في صدرك. لا تجعل كنز المال معقد آمالك، ولا غاية أعمالك، ولا تكن كالذين يقضون أعمارهم ويبذلون نفوسهم ويريقون أمواه وجوههم في جمع الثروة؛ فإن هؤلاء كالخنازير لا يرفعون خياشيمهم من الوحل.
إذا لهوت فلا تتماد في لهوك؛ فإن التمادي في اللهو والإفراط في السرور يذهبان بالخير من الحياة.
إذا أردت أن تصيب غرضا؛ فكن كأحذق الرماة تصويبا، أنعم النظر في هدفك قبل توتير قوسك، فإذا وطدت نفسك ووترت قوسك أطلق سهمك، واعلم أن ربان السفينة لا يبلغ المرفأ الأمين إلا إذا ساير الريح.
إذا اصطفاك الملك واصطحبك واستعان بك؛ فلا تغتر بما لك عليه من الدالة؛ فتلهيه عما يهمه بأن تسمعه ما لا يحب ، أو تنبئه بما يكره؛ فإنه إن وسعك حلمه مرة لا يسعك أخرى، وهيهات أن يؤمن شر من إذا قال فعل. اعلم أن رفعتك لا تكون بعلو نفسك، ولا تعلو إلا النفس التي اختارها الله، والله لا يختار إلا نفسا تحب أعداءها كما تحب أصدقاءها، وتبغض الشر لذاته، وتعمل الخير حبا فيه لا جلبا لنفع تريده.
إذا وكل إليك تهذيب صبي من أبناء الأشراف والأمراء؛ فلا تخش بأس أهله في تقويم خلقه وإصلاح حاله؛ فإنك إن قمت بعملك كما توحي إليك نفسك وذموك في الحال أثنوا عليك في المآل، وكان نصحك كالدواء يسوء استعماله ويحسن مآله. أوصيك بتهذيب الصغير بحيث يستطيع مجالسة الكبراء؛ فإن في هذا من الفضائل ما لا يحصى، وإذا وفقت إلى القيام بعملك، وقدر أهل الصبي حسن فعلك؛ أغدقوا عليك نعمهم، ورفعوك إلى مراتبهم، وقد تعلوهم وتفوقهم بعد أن تصير مربيهم وأستاذهم.
إذا كنت من رجال الدين ووكل إليك أمر الفصل في مشكلة عويصة بين الملك والرعية؛ فاحكم بالقسطاس وكن عدلا، ولا تظلم الشعب لتصانع الملك؛ لئلا توصم بوصمة الأشراف، وهي أنهم ينصرون القريب والصديق ولو كان على ضلال مبين، ويخذلون العدو الغريب ولو كان على حق وهدى، بل كن يا ولدي مع الحق والعدل أينما كانا؛ يكن الله والخير معك. إن أساءك من أحسنت إليه؛ فاعف عنه، واجتنب عشرته؛ فإن كان حرا فالعفو قتل له، وإن كان وغدا ففي هجرك إياه منجاة لك من شره.
إذا عظم قدرك بعد حقارة شأنك، واستغنيت بعد فقرك؛ فلا تقصر خيرك على نفسك؛ إنما أنت خليفة الله في أرضه، وحارس نعمته، وولي خلقه، رزقك لتعطيهم، وهداك لتهديهم، وأحسن إليك لتحسن إليهم؛ فلا تخن الله في أمانته، ولا تكفر بنعمته، فما كفر بها إلا كل معتد أثيم. أطع ولي أمرك واخضع له بالحق؛ فإن عيشك رهن الطاعة، وإن عصيته ولم يكن قد اعتدى عليك فقد أسأت إلى نفسك.
إذا وليت أمر قوم فلا تتحكم في أعناقهم بظلم، ولا تسع في سلب نعمتهم ؛ فإن الخير يذهب عنك بقدر ما تذهبه عنهم، ولا تغدر أخاك فيما له من مال؛ لأن الغدر منبت الأحقاد.
إذا شئت أن تسبر غور رجل تريده صاحبا؛ فإياك وسؤال الناس عنه؛ فما ذكروا لواحد حسنة إلا وأردفوها بمساوئ لا تعد، بل اكتف بعشرته أمدا محسنا إليه ما استطعت؛ فينبسط الرجل ويفضي لك بما في نفسه، فإن راقك بعد التجارب فأقبل عليه وفاتحه فيما تود، وإلا فاتركه بالمعروف والحسنى، وإن صحبته فلا تحتجر عليه في الحديث، وإن استصغرت شأنه فلا تشعره بما تراه فيه فينفر عنك وده، ولا تحرم أخا لك نفعا تملكه.
Bilinmeyen sayfa
اعلم أن كل سعادة يتبعها شقاء، وكل غنى يتلوه فقر، وكل صفاء له كدر، وأن للأيام دورات؛ فكم من رفيع خفضت ووضيع رفعت! وكم من صعلوك أسكنت قصرا! وكم كريم إذاقت بؤسا وفقرا.
إذا اتجرت فأوصيك باكتساب ثقة الناس؛ فإنهم خير نصير إذا كبا بك الزمان، وعاكستك صروف الحدثان. اعلم أن الذكر الرفيع أعظم قدرا في نظر العاقل من المال الكثير؛ لأن المال يجيء ليذهب، ولكن الشرف إذا حل ألقى رحله ولم يتحول.
إذا سألت فاسأل بالحسنى، وإذا سئلت فتلطف في الجواب.
إذا أسأت إلى امرأة في عرضها، ودعوتها إلى بذل ماء حيائها، وجلبت عليها عارا يخلق أديم وجهها؛ فكن بها رحيما، وأفض من نعمائك عليها بقدر ما أسأت إليها؛ فإن في ذلك إحسانا وعدلا وتكفيرا عن الذنوب.
اعلم يا ولدي أنك إذا أطعتني وعملت بما نصحت إليك فقد نهجت سبل الخير، ومن ينهجها لا يضم.
إذا أردت أن تقوم من اعوجاج أهلك ومن حولك؛ فلا تضن على الأحداث والجهلاء منهما بعلم، واضرب لهم الأمثال، وعلمهم الحكمة ليرجعوا في أمور معاشهم إليها، ولعلك مؤد تلك الأمانة إلى أهلها، وتارك وراءك أثرا يبقى في بلاد النيل إلى ما شاء الله؛ فيكون نبراسا يستنير به الشعب والملك؛ لأن في كلمي ما يستفيد به المسترشد فينال من الخير ما ينفعه، وقد نصحت بالرفق والكرم والقناعة؛ لعلمي بأن الحكمة أفرغت في هذه الفضائل الثلاث.
إن من يقرأ قولي سيرضى به وتروقه حكمتي؛ فتستنير بصيرته، وتحل عقدة لسانه، ويصفو ذهنه، ويقوى جنانه، فيهذب أولاده، ويورثهم الحكمة من بعده، وهم يورثونها أبناءهم.
اعلم أن لا شيء أحسن لدى الوالد من طاعة الولد البار الذي يعنى بقوله ونصحه، وإذا تكلم أحسن الكلام، وإن ألقي إليه القول أحسن الإصغاء؛ فإن الصغير إذا شب على الطاعة استطاع أن يأمر وينهى في شيبه كما كان يؤتمر وينتهي. إن الطاعة زارع يغرس المودة، وإكسير يجلي صدأ القلوب، ودواء ناجع يشفي داء البغض، وآلة تنال بها حكمة الشيوخ وحنكتهم، وهيهات أن يخلص لك النصح حكيم لا تطيعه.
إن الله يحب الطاعة ويأمر بها في الخير، ويبغضها وينهى عنها في الشر، ولا ريب في أن القلب هو الذي يأمر صاحبه بالطاعة أو ينهاه عنها؛ لأن حياة الرجل بحياة قلبه، فإذا كان طاهرا تقيا كانت حياته طيبة شريفة، وإذا كان القلب خبيثا دنيئا كانت حياة صاحبه كذلك.
إذا كنت في فتوتك مطيعا ووليت الرئاسة في رجولتك كنت رئيسا عادلا، وإن للعدل قوة تؤثر في النفوس الجامحة، وتستل منها سخائم العناد.
Bilinmeyen sayfa
رأيت الأمراء يحبون المطيع؛ لأنهم يعلمون أن الطاعة فضيلة مكملة للأخلاق، فعليك بتعليم الطاعة ولدك ليكون مقربا من الأمراء والكبراء.
رأيت الجهال يعصون فيهلكون؛ لأنهم لا يفرقون بين الخير والشر، ولا بين الربح والخسران، فيقترفون الذنوب فيذوقون أنواع الهوان. إن الجاهل قد يغلب العاقل بالثرثرة والهذر، ولكنه يقصر عن مدى الأطفال في مجال العلم والحكمة فيجتنبه الناس، ويبقى طول حياته مهجورا محسورا.
إذا رزقت ولدا فلا تضن عليه بالحكمة التي جدت بها عليك؛ فيناله من الخير بنصحك ما نالك بنصحي، وأوصه أن يبلغ رسالتك إلى ابنه من بعده؛ فتبقى الحكمة في بيتنا. وهذه نعمة كبرى.
توخ الصدق فيما تقول للأطفال؛ لأن نفس الحدث كالعجينة اللينة يسهل تشكيلها على أية صورة تريد، واعلم أن الصدق إذا كان أول ما يقابل النفس اعتادته، وبذا يمكن استئصال الرذائل منها، وغرس الفضائل مكانها.
اعلم أنك إذا فعلت ما أوصيتك به كنت قدوة عشيرتك وأهلك؛ فتتولى أنت وأولادك قيادة الشعب وزعامته، وتلك الدرجة أسمى ما تتطلع إليه النفوس الكريمة. عليك بالعدل في قولك وفعلك، واحرص على ما تفوه به حرص البخيل على درهمه، والجبان على دمه. كن خاضعا في حضرة الملك، وعيوفا في نظر أقرانك، وإذا نطقت فليكن حديثك مدعاة للإعجاب بك، والتحدث بفضلك. اقدر قولي قدره، واعلم أن نصيحة الوالد أثمن ما يقتنيه الولد.
إذا بلغت منصبي فاجتهد يا ولدي في إرضاء الملك بإتقان ما تمارس من الأعمال. احفظ شبابك تحفظ مشيبك. إذا مرضت فبادر إلى علاج جسمك فيطول بذلك عمرك، وتنتفع بحياتك أنت وغيرك، وتعيش كما عشت مائة وعشر سنين، خدمت أثناءها بلادي بالحق والعدل؛ فغمرني الملوك بالإحسان، وأغدقوا علي النعم، فكنت أسعد حالا من آبائي وأجدادي.
انتهت حكم فتاحوتب الحكيم المصري.
الكتاب الثاني
جولستان أو روضة الورد
للشاعر الفارسي مصلح الدين سعدي الشيرازي
Bilinmeyen sayfa
تمهيد: آداب الفرس
فنون الأدب في الأمم تتبع في نموها وتنوعها تاريخهم وأخلاقهم، ومريد الإلمام بتاريخ آداب الفرس مضطر لدرس نشأة هذه الأمة العريقة، والوقوف على ما طرأ عليها من الحوادث. ولو أردنا أن ندون نبذة في هذا البحث زادت صحائفها عن كتاب السعدي مهما حاولنا الإيجاز، على أن الواصفين لآداب الفرس من أهل الشرق قليلون، وأقل منهم العارفون منها شيئا، وأقل من الفريقين الذين تفرغوا لدرس مبحث من مباحثها. أما أهل الغرب فإن الذين وقفوا أعمارهم للوقوف على آداب الفرس فكثيرون جدا، وإنني آت على ذكر بعضهم، وإن في ذكرهم لعبرة لنا وموعظة حسنة.
وهاك بيان فئة قليلة من مشهوريهم، ممن نرجع - نحن الشرقيين إخوة الفرس - لنفهم آدابهم إليهم، وهم من حضرتنا أسماؤهم لساعتنا، ومن غاب عنا ذكرهم أكثر عددا:
سيلفستر دي ساسي:
مذكرات في عاديات الفرس، باريس.
تاريخ الساسانية «ترجمة ميرخود».
إيوجين بورنوف:
درس على اللغة وشرح على نص الزند.
دي موهل:
الشاهنامة باريس - كتاب الملوك للفردوسي.
Bilinmeyen sayfa
شودزكو:
تاريخ فن تأليف الروايات التمثيلية في الفرس.
باربييه دي مينار:
بستان السعدي .
جارسين دي تاسي:
الأشعار الدينية والفارسية في آداب الفرس.
جوبينو:
تاريخ الفرس.
جوبينو:
الأديان والمبادئ الفلسفية لشعوب - آسيا الوسطى.
Bilinmeyen sayfa
يواقيم مينان:
مخطوطات الفرس - الألسن المنسية في الفرس وبلاد أنتور.
جيمس دار مستتر:
أصول الشعر الفارسي.
ديولافوا:
الفنون الجميلة في بلاد الفرس.
نييكولا:
الآلهة والخمر في دواوين الشعر الفارسية.
وعدا هؤلاء فإن في أوروبا وأمريكا عددا كبيرا من أهل الأدب والعلم أخصائيين بمؤلفات بعض فلاسفة الفرس أو شعرائهم، ومن هؤلاء أخصائيو عمر الخيام؛ وهم: إدورد ألن، وإدورد برون، وهونيفلد، وجارنر، وميكارثي، ولوران، وأشهرهم بالإجماع هو فتزجرلد الذي نقل رباعيات الخيام إلى اللغة الإنكليزية، وممن اشتغلوا بدرس كلمة مصلح الدين سعدي الشيرازي، مؤلف حديقة الورد: نيف، الذي وضع كتابا عنوانه «السعدي الشاعر»، طبع لوفان عام 1881، وخصه بيزي بفصل مهم في تاريخ آداب الفرس.
أخرج الفرس في كل الأزمان أدبا جما؛ لأنهم أمة ذات حيوية قوية، ورغائب نفسية، وخلال تدفع إلى التغني والمرح والمحاربة. والناظر في صحيفة آدابهم يقسم ما أخرجوه للناس إلى ثلاثة أقسام، شغل كل قسم منها بنوع من الشعر والنثر، وكان لكل عهد من تلك الثلاثة فحول ومجيدون.
Bilinmeyen sayfa
كان العهد الأول: عهد الشعر الديني، والثاني: عهد الشعر الأيبيقي «القصصي»، والثالث: الليريقي أو الغنائي.
امتاز العهد الأول الذي يرجع إلى ما قبل المسيح بأربعة قرون بالأفستا، والثاني يمتاز بالشاهنامة التي حاك بردها الفردوسي، أسد الشعراء القصصيين وبطل الأيبوبية، ولكن تاريخ هذا العهد لا يمكن تعيينه بالدقة.
أما الشعر الغنائي «ليريقي» فقد ظهر فجأة بعد قرنين من تاريخ فتوح العرب، وسبب هذا أن الفرس بعد أن استردوا شيئا من حريتهم ظهرت مواهبهم العليا، وتجلت عبقريتهم، ومن ذاك الحين نما عدد الشعراء بكثرة وافرة حتى أصبح حصرهم مستحيلا؛ لأن الشعر الغنائي لا يظهر إلا إذا أصبح كل مخلوق مفكرا شاعرا قادرا على التغني بعواطفه، وإظهار أحوال نفسه.
أما العهد الثاني الذي كانت العواطف الدينية فيه هي الدافع للشعراء والكتاب، فقد امتاز - كما ذكرنا - بالأفستا، وهي مجموعة كتب أمة البارصية، أو عباد زوروسترا ، وهي مقسمة إلى خمسة أناشيد؛ النشيد الأول: صلاة لأرباب الأرض والسماء والهواء، كان يتغنى بها المتعبدون خلال التضحية، واسمه الياسنا.
والثاني: واسمه الفسبرية، وهو تكملة الياسنا.
والثالث: الفنديداد، وهو قانون ديني للفرس العتيقة، وفيه بيان لأصول عقيدة الماثنية.
الرابع: إلياشتس، وهو دعوات للأرباب المتحكمة في أيام السنة، لكل منها دعوة.
والخامس: الخوردا أفستا، وهو صلوات للشمس والقمر والماء والنار خاصة.
والأدب القصصي بدأ تقريبا من القرن العاشر للمسيح، وفي عهده ذاع فضل الشعراء وبان فضلهم، وقربهم الملوك. وأشهر شعراء هذا العهد الفردوسي أبو القاسم الجليل مؤلف الشاهنامة أو ديوان الملوك، وقد خلد فيه صورة الروح الشرقي الذي تتنازعه عواطف الحب والخيال، وتلا الفردوسي خسرو، من شعراء القرن الرابع عشر للمسيح، والجامي بعده بجيل ومستوف وعبد الله الحليفي والكمالي وأبو طالب من شعراء السابع عشر، وأشرات في الثامن عشر، وجابة المتوفى عام 1822، وهو آخر شعراء هذا العهد الجليل.
والشعراء الغنائيون يبدأ عهدهم في القرن الحادي عشر، وقد عاش معظمهم في بلاط السلطان محمود الذي ورد ذكره في قصائدهم وتآليفهم، ومن هؤلاء سوى الفردوسي: منبو تشهر، والأسدي، والأصوري، وكروماريا، والأنوري، وأفضلهم بعد الفردوسي منبو تشهر الذي تمثلت فيه روح الفرس الشعرية. وقد كان للصوفية نصيب من التأثير في الشعر الفارسي. وهذا رأي الكثيرين من الثقات في الأدب الفارسي، ونحن نخالفهم في هذا الرأي لا سيما فيما يتعلق بالخيام وحافظ، وقد يصح عن السعدي. وقد ذكروا بين الشعراء الغنائيين الصوفيين: الخيام صاحب الرباعيات، وفريد الدين العطار صاحب منطق الطير، وجلال الدين الرومي صاحب المثنوي، فالسعدي صاحب البستان والجولستان، فحافظ الشيرازي.
Bilinmeyen sayfa
هذا قليل من أدب الفرس جئنا به مقدمة لحديقة الورد لسعدي؛ ليعرف القارئ العربي مكان السعدي من فضلاء وطنه.
سعدي الشيرازي
هو الشيخ مصلح الدين سعدي الشيرازي، شاعر إيراني ولد في شيراز سنة 1175 للميلاد، الموافقة سنة 571 هجرية، وقيل: بل سنة 1189، قيل: لقب بالسعدي نسبة إلى أتابك سعد بن زنكي، وكان في أيامه.
درس في بغداد، فأخذ العلوم الظاهرة عن الشيخ شهاب الدين، وأخذ العلوم الباطنة عن الشيخ عبد القادر الكيلاني، فامتاز بين أقرانه بالذكاء والاجتهاد، فنبغ في التفسير والحديث وسائر العلوم، وكان ورعا تقيا، دخل في سلك الدراويش القندريين، وكانوا يكثرون الحج إلى مكة المكرمة ويسيرون مع القوافل، ويرددون التسابيح أمام رفاقهم ويحرضونهم على الصلاة والتقوى، فحج السعدي على تلك الصفة 14 مرة، وكان لم يكتب بعد شيئا، بل كان منعكفا على الصلاة والتأملات.
ثم تجند في محاربة الصليبيين في سوريا، فلم يصب نجاحا، بل أسر لأول موقعة واقتيد إلى طرابلس الشام، فأدخلوه بين العملة في بناء الحصون، فدام أسره عدة سنوات إلى أن اتصل به تاجر حلبي فأذهله علمه وورعه في الدين، فافتداه من الأسر بعشرة دنانير ذهبا، وأعطاه مائة دينار وزوجه ابنته، فلم ير حظا في زيجته؛ لأن زوجته سببت له من الأكدار أعظمها، حتى إنه طعن فيها فيما بعد في أحد مؤلفاته، واضطر بشراسة أخلاقها وسوء تصرفاتها أن يطلقها، فاعتزل الأمور الحربية، وانصرف إلى نظم الشعر والقيام بالفروض الدينية، ونظم عدة قصائد وقدود ونشائد وسماها ملمعات، ومنظومة سماها البستان.
وكتب مؤلفا سماه الجولستان؛ أي روضة الورد، وهو مشهور في الشرق والغرب، بعضه منثور، وبعضه منظوم، ويحتوي على حكايات حربية، وقصص ملوك، وغزل ديني، وأمثال أدبية وسياسية. وهو في ثمانية فصول، في أولها كلام عن الملوك، والثاني في الدراويش، والثالث عن الزهد والقناعة، والرابع عن فوائد الصمت، والخامس عن الشبوبية، والسادس عن الشيخوخة، والسابع عن التعليم والتهذيب، وفي الثامن جمل متفرقة حاوية ملخص التأليف كله، ومع أن الكتاب المذكور أقل تآليف السعدي أهمية، فقد انتشر أكثر منها؛ فترجمه إدلياريوس إلى الألمانية، وطبع في شلسويك سنة 1654، وترجمه غراف إليها أيضا، وطبع في ليبسيك سنة 1846، وترجمه غودن إلى الفرنسية وطبع في باريس سنة 1791، وترجمه سميلي وطبع سنة 1828، وشارل دي فريميري وطبع سنة 1858، وترجمه جنتيوس إلى اللاتينية وطبع مع ترجمته إلى الإنكليزية بقلم جمس دومولين في كلكتا سنة 1807، وطبعه السيتول في هرتفرد سنة 1850 مع معجم لكلماته، وترجمه إلى الإنكليزية نظما ونثرا سنة 1852، وقد ترجم إلى التركية وطبع في الأستانة مع الأصل الفارسي، وترجم إلى العربية
1
وطبع في مصر، وله ترجمة أخرى غير مطبوعة.
وأغرب ما في هذا الكتاب بلاغة إنشائه، وقد ذهب أكثرها في الترجمات المذكورة، وطالعه فلوريان وسان لمبر في الترجمة اللاتينية، ونقلوا عنه عدة استعارات أدخلوها في بعض القصص التي كتبوها.
وله أيضا مؤلف اسمه بندنامة؛ أي كتاب الأمثال، وكل كتاباته كانت بالفارسية والعربية، وطبعها هرنغتون في كلكتا سنة 1791 في مجلدين، والأسقف غودن في أواخر القرن الثامن عشر نشر تقليدا للجولستان، إلا أنه لم يشابهه في شيء من الطلاوة، وترجم البستان إلى الألمانية، وطبع في همبرغ سنة 1696، وإلى الفرنسية ولم يطبع بعد، وترجمت البندنامة إلى الإنكليزية وطبعت سنة 1788، وترجمت إلى الفرنسية سنة 1822.
Bilinmeyen sayfa