الكتاب الأول: حكم فتاحوتب
المقدمة الأولى
المقدمة الثانية
المقدمة الثالثة
الكتاب الثاني: جولستان أو روضة الورد
تمهيد: آداب الفرس
جولستان أو روضة الورد
أخلاق الملوك
صفات الزاهدين
الكتاب الثالث: كتاب أونادايجاكو أو التعليم الراقي للمرأة في اليابان
مقدمة
مقدمة ثانية
كتاب التعليم الراقي للمرأة
الكتاب الأول: حكم فتاحوتب
المقدمة الأولى
المقدمة الثانية
المقدمة الثالثة
الكتاب الثاني: جولستان أو روضة الورد
تمهيد: آداب الفرس
جولستان أو روضة الورد
أخلاق الملوك
صفات الزاهدين
الكتاب الثالث: كتاب أونادايجاكو أو التعليم الراقي للمرأة في اليابان
مقدمة
مقدمة ثانية
كتاب التعليم الراقي للمرأة
الحكمة المشرقية
الحكمة المشرقية
تأليف
محمد لطفي جمعة
الكتاب الأول
حكم فتاحوتب
المقدمة الأولى
كانت حكم فتاحوتب لدى قدماء المصريين من الكتب المعتبرة حتى إنهم كانوا يعلمونها أولادهم في المكاتب والمدارس، ويقرءونها في المنازل والمجالس؛ لهذا عثر البحاثون في الآثار المصرية على نسخ عدة من هذا الكتاب النفيس، ولا يخفى أن كثيرا من الكتب النافعة الممتعة وجدت حيث كانت معاهد العلم، ولولا تعدد نسخها ما عثرنا ببعضها بعد مرور ستين قرنا من تاريخ تأليفها وانتشارها.
وقد علمنا من ورق البابيروس «البردي» أن طلاب دار العلوم المصرية القديمة كانوا يكتبون في اليوم ثلاث صفحات من حكم فتاحوتب؛ «ليحسنوا خطوطهم، ويهذبوا نفوسهم، وليتخرجوا في فنون البلاغة والإنشاء؛ لسلاسة أسلوب الحكم والنصائح المذكورة.»
1
وتلك الكراسات التي كتبها شبان المصريين القدماء هي التي يصرف محبو الآثار في هذا العهد أيامهم ويوقفون أعمارهم على البحث عنها، والتنقيب عليها، ونقلها من اللغة القديمة إلى اللغات الحديثة؛ لينعم أبناء هذا العصر نظرهم في حكمة أبناء القرون الغابرة.
أما النسخة الأصلية التي فسرها العلامة باتسكو مجن - العالم الأثري الإنجليزي، وهي معتمدنا في هذا التفسير العربي - فقد عثر بها العلامة المؤرخ الفرنسي «بريس دافن» ومعها غيرها من الآثار الأدبية في شتاء عام 1847. وذكر هذا المؤرخ أنه شراها من فلاح مصري كان يعمل في الحفر والتنقيب على مقربة من مقابر طيبة. ويذهب البعض إلى القول بأن تلك الآثار الأدبية الثمينة وجدت في أجداث ملوك حنتف، وهم أفراد الأسرة الحادية عشرة التي أقام أمنمحعت الأول على أنقاضها دعائم دولته، وانتزع الملك من آخر ملوكها وحصره في أسرته الثانية عشرة.
وقد أهدى العلامة بريس دافن هذه النسخة إلى دار الكتب الملكية بباريس؛ حيث لا تزال معروضة لأنظار الزائرين، وطول القرطاس التي كتبت فيها حكم فتاحوتب بالذراع البلدي ثمانية ونصف، وعرضها ذراع. وهذا قياس البابيروس المعروف؛ لهذا رجح المؤرخون رأي القائلين بالعثور بتلك الأوراق في قبور الملوك. أما ورقة البابيروس المذكورة فمؤلفة من ثماني عشرة صفحة، مكتوب بعضها بالمداد الأسود وبعضها بالأحمر، ويحسب رائيها لأول وهلة أنها حديثة؛ لأن طول القدم لم يصبها بآفات التبديد والتشتيت، حتى إذا تبينها وقلب صفحاتها ظهر له أنها لم تنج من آفات القدم التي اغتالت بعض الأوراق وتركت البعض الآخر أثرا بعد عين.
ومما أبقاه لنا الدهر من أوراق ذلك العهد كتاب كامل، وهو «حكم فتاحوتب»، وآخر ناقص، وهو «نصائح كاجمني». أما نسبة الكتاب الثاني إلى كاجمني فمن باب الحدس والتخمين؛ لأن العث لم يبق على شيء يستدل منه على اسم واضع الكتاب؛ ولأن المفسرين لم يعثروا فيه من أوله إلى آخره إلا على علم واحد، وهو «كاجمني»؛ فظنوه اسم واضع السفر. وأهمية هذا الكتاب هي أنه أقدم ما كتبه البشر حسبما نص علماء الآثار.
أما تاريخ الكتاب الكامل الشامل لحكم فتاحوتب فمعروف ولا خلاف في أمره؛ لأن مؤلفه ذكر عن نفسه أنه وضعه في عهد الملك إيسوسي، وهو آخر ملوك الأسرة الخامسة، فكأن فتاحوتب وضع كتابه في القرن السادس والثلاثين قبل المسيح؛ أي منذ خمسة آلاف وخمسمائة سنة.
والعجيب في أمر هذا الكتاب وغيره مما كتبه المصريون الأقدمون أنها لا تزال جديرة باعتبار القراء في كل زمان ومكان. وقيمة حكم فتاحوتب عظيمة؛ لأنها تشمل الشريعة الأدبية في قالب نصائح تهذيبية يلقيها على ولده وخليفته وزير خبير بشئون حياة مصر الاجتماعية، فلعل أبناء اليوم يستفيدون من نصح ذلك الحكيم وإرشاده كما استفاد أجدادنا الأوائل، وقد نكون إلى هذا النصح منهم أحوج، وهو بنا أجدر وأخلق.
المقدمة الثانية
في كتاب «حكم فتاحوتب»
أقل ما يقال في وصف هذا الكتاب المستطاب: إن واضعه لم يترك بحثا اجتماعيا إلا وطرق بابه، ولم يدع موضوعا أخلاقيا إلا وخاض عبابه؛ فبينا تراه يذكر آداب الجدل والبحث، ويصف كل مجادل، ويشرح ما ينبغي في حقه؛ كالإذعان لذي الحجة، أو الرد عليه بالتي هي أحسن، أو الإعراض عنه بلطف حسبما يقتضيه خلقه، وتدعو إليه حاله، إذ هو ينصح لابنه أن يغضي لأيدي الأمراء والحكام، وأن يسترشد العلماء والمرشدين ليهتدي بهديهم، ويتعظ بخبرتهم وتجاربهم. ولم يكن نصح فتاحوتب قاصرا على تلك المسائل التهذيبية، بل تناول أهم المسائل الاجتماعية؛ فشرح ما يليق بالرجل نحو المرأة، وما يجب في حق الوالد على الولد، وأفاض في وصف معاملة الخدم، وأمر بالإحسان إليهم، والعطف عليهم، وذكر حقوق الأجراء والعمال على أرباب المال والأعمال.
وإذا حاولنا أن نلخص حكم فتاحوتب في كلمة واحدة تكون شعارا لمبدئه في الأخلاق، فلا نختار لذلك أفضل من قوله: «كن محبا للخير والناس تكن سعيدا في الدنيا والآخرة.» ولكنا نأخذ على الحكيم المصري أنه لم يكن يرمي إلى نشر المبدأ الذائع لدى علماء الأخلاق وقادة الأفكار من أهل المدينة الحديثة، وهو حب الخير لذاته؛ وإنما كان يذكر على الدوام أن الطاعة والخضوع وفعل الخير، والتأدب في الحديث، والاعتدال في العيش، والإحسان إلى الفقراء تؤدي جميعها بالمرء إلى السعادة.
وبعبارة أخرى يقول فتاحوتب للإنسان: «إنك إذا أطعت آباءك في صغرك، وولي أمرك في كبرك، وأحسنت السياسة في رئاستك، وغمرت بكرمك خدمك وحشمك ومن يلوذ بك، واعترفت بذنوبك وتبت عنها إلى الله؛ فإنك تنال رضى الملوك، وتبلغ أسمى الدرجات، وتكون لدى الله من المقربين.» ويرى القارئ أن الرادع الذي استعان به فتاحوتب لصد البشر عن فعل الشر هو رادع مادي محض، أو هو من قبيل «اعمل تؤجر». وهذا الرادع المادي من وضع حكماء الشرق الأقدمين. وكان هؤلاء الحكماء يفضلونه على الرادع الأدبي، وهو محاسبة النفس وتأنيب الضمير؛ لا لأنه أفضل منه، بل لأن قيادة العامة بواسطته أسهل؛ فهو من هذه الوجهة وحدها أولى وأنفع، وعلى هذا المبدأ جاءت الديانات كلها؛ فلا سبيل للاعتراض عليه إلا بالاعتراض عليها.
وقد يأخذ بعض النقاد على الحكيم فتاحوتب إغفاله ذكر أمور شتى؛ كالرفق بالحيوان، فإنه لم يذكر في قانونه كلمة في هذا الشأن، مع أن التاريخ لا يحفظ ذكر أمة كانت أرفق بالحيوان من الأمة المصرية، التي وصل بها حبها للأنعام وإشفاقها عليها أنها حرمت ذبحها أو قتلها، وجعلت منها آلهة اتخذتها للعبادة، وانتحلت لذلك أسبابا وأعذارا شتى. وقد عثر النقابون في قبر فتاحوتب - واضع هذا الكتاب - على سطور منقوشة مؤداها: أنه كان يستدعي في كل صباح قردا وثلاثة كلاب يطعمها بيده ويمسحها؛ إشفاقا منه عليها،
1
ويؤخذ هذا الخبر وغيره من الأخبار دليلا داحضا على أن الحكيم لم يغفل ذكر بعض الأخلاق الفاضلة والعادات المستحبة إلا لأنها كانت مشاعة لدى أمته.
ومن المسائل الجديرة بالنظر ذكر المؤلف لإله واحد غير متعدد «مع العلم بتعدد آلهة المصريين»، ووصفه ذلك الإله الفرد بأنه «يعاقب المذنب، ويثيب المحسن، ويعطي السائل، وينظم الكون، ويحب مخلوقاته، ويراقب أعمالهم حسنها وسيئها، ويكلؤهم بعين لا تأخذها سنة ولا نوم»،
2
ويرى القارئ أن هذه الصفات أسمى ما يوصف به الخالق - سبحانه وتعالى - ولو كان الواصف من أساتذة اللاهوت في النصرانية أو علماء الكلام في الإسلام، فهل كان فتاحوتب موحدا كآبائه الكهنة،
3
وكان يريد بتوحيد الله في كتابه الإقرار والاعتراف بالوحدانية من طرف خفي؟ ولسنا نخوض عباب هذا البحث لأنه يدخل في باب الحكم على الغائب بالغيب، وهذا الحكم لا يصدق إلا مصادفة، وليس للمصادفات مجال في ميدان الحقائق؛ إنما نجيب على هذا السؤال بما يظهر لنا، ويجوز موافقته للحقيقة مع خروجه عن حد الفرض المستحيل؛ فنقول: ربما رغب الحكيم أن يكون لحكمه تأثير نافع في انتشار كتابه في سائر المدن والأقاليم، فرمز لله بأنه الفرد القادر على كل شيء؛ ذلك لأن أهل كل مدينة مصرية قديمة كان لها إله خاص بهم ؛ كآمون بطيبة، وفتاح بمنف، وغيرها من الأرباب، فلو أنه ذكر واحدا من تلك الآلهة المتعددة لكان نصيب كتابه من التأثير قاصرا على أهل بلد دون غيره؛ لذا ذكر المؤلف لفظ الجلالة مطلقا غير مقيد بزمان أو مكان أو اسم معروف، فكان أبناء كل بلد يقرءون الحكم، ويقفون على ذكر الله المطلق فيحسبون أن المقصود هو ربهم. وقد انطلت تلك الحيلة الدقيقة على قدماء المصريين؛
4
فكانوا إذا رأوا ذكر الله الغفور المحسن المعطي توجه كل بقلبه ولبه إلى معبوده وربه. وها نحن أولاء نكتفي الأثري المصري الوحيد أحمد كمال بك، في محاضرة ألقاها بنادي المدارس العليا في خريف 1907، عن التوحيد عند قدماء المصريين، قال:
قال تعالى:
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد . هذه هي صيغة التوحيد عند المسلمين، وهي موافقة تقريبا للصيغة التي كان يدين بها المصريون قبل عصر الملوك، ويدلنا على ذلك رسوم هيروغليفية وجدت في أوراق البردي القديمة. وهنا ترجم الخطيب صورة لهذه الصيغة رسمها على لوحة الطباشير بما يأتي:
الله وحده لا ثاني له، يودع الأرواح في الأشباح، أنت الخالق، تخلق ولا تخلق، خالق السماوات والأرض.
وأخذ الخطيب يبين للحاضرين دلالة الرسوم الهيروغليفية على معانيها، فذكر أن الله كان يرمز له بصورة رجل مهيب جالس على كرسي، وأن «لا» النافية يرمز لها بذراعين ممدودين على خط مستقيم، وأن الأرواح يرمز لها بثلاثة من الطير - وبهذه المناسبة ذكر الحديث المشهور: «أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر.» وتكلم على ما يعتقده عامة اليوم من «تقمص أرواح الموتى للذباب الأخضر» - وأن العابد يرمز له برجل رافع يديه تعبدا، والأرض بقوس تحته حصى، وقال: إن الإفرنج كانوا يعتقدون إلى ما قبل عشر سنين أن قدماء المصريين وثنيون، ولكن زال هذا الاعتقاد باكتشاف هذه الصيغة التي يعززها عدم وجود أصنام في مقابر ذلك العهد القديم.
من أين أتى التوحيد لقدماء المصريين على هذه الصورة؟
أتاهم التوحيد من نوح عليه السلام؛ فقد كان موحدا بدليل قوله تعالى:
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ، والخطاب للمسلمين الذين قدمنا عقيدتهم في التوحيد. وهنا يتجه اعتراض مؤداه: أن الشرك كان شائعا عند قدماء المصريين بدليل قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام:
أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ، ومعلوم أن يوسف كان سجينا عند فرعون مصر. ونجيب على هذا بأن عقيدة الشرك لم تدخل مصر إلا مع العرب الذين دخلوا مصر في العهد القديم؛ أي قبل عصر الأسرات؛ ولذلك كان المصريون يطلقون على بلاد العرب اسم بلاد الوثنية.
ثم ذكر الخطيب أن الوثنية سليلة بلاد العرب، بدليل أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
وجد بالكعبة 365 صنما فهشمها، ثم أكد الخطيب أنه جمع أسماءها العربية فوجد أسماء تشابهها في اللغة الهيروغليفية؛ مما يدل على نقلها من العربية، وضرب مثلا بصنم اسمه «بوانة» الذي حرفه الفرنج فجعلوه «فينكس»؛ لأن الباء تنطق في الهيروغليفية كالفاء، وقد ذكر العرب هذا الصنم باسم «فقنس»، وقال أصحاب الأساطير: إنه طائر يأتي من جزيرة العرب ويقف على معبد عين شمس، ثم يرفرف بجناحيه فيتقد نارا تلتهمه، ثم يخلق منها ثانية. وما نقله العرب هذا حديث خرافة كالخرافات اليونانية. ومن هذه الأصنام العربية اللات والعزى ومناة، وإن لها ذكرا في اللغة الهيروغليفية مع بعض التحريف، ثم سئل الخطيب: كيف تغلب الشرك على التوحيد؟ فقال: إن ذلك راجع إلى قوة المتغلب.
وسئل عن صيغة التوحيد التي أوردها آنفا، فقال: إنها موجودة في أوراق البردي القديمة، ثم استطرد إلى تعريف البردي فقال: إنه نبات يزرع في الوجه القبلي، وتخرج منه غلة تشبه القمح كان المصريون يقتاتون منها، وذكر أنهم كانوا يأخذون أوراقه ويلصقونها بعضها ببعض بالصمغ، وقد وجد الخطيب منها قطعا يبلغ طول بعضها ثلاثة أمتار. أما اللوتس «البشنين» فإنه يزرع في الوجه البحري، وهو ينتج ثمرة مثل الشعير كانوا يقتاتون بها أيضا، ويختلف عن البردي في أن أوراقه مسننة لا مستديرة، وقد سطر المصريون على هذه الأوراق علومهم من طب وهندسة وحساب ورؤى فيها تمرينات على هذه العلوم ومسائل وأشكال هندسية.
ثم قال حضرة الخطيب: إن هذين النبتين يرمز بهما لمن حكم الوجهين البحري والقبلي، فإذا رأينا كرسيا مرسوما عليه صورة البردي واللوتس عرفنا أن الملك الجالس عليه كان يحكم الوجهين البحري والقبلي؛ لأن من يملك الغذاء يملك الرقاب.
المقدمة الثالثة
تاريخ الأسرة الخامسة المصرية التي دونت في عهدها حكم فتاحوتب
كانت منفيس وما والاها من المدن مقر ملك الأسرة الخامسة المصرية التي بدأت دولتها في وادي النيل سنة 2750ق.م؛ أي منذ ستة وأربعين قرنا، وكان ملوك تلك الأسرة إذا ورث أحدهم الملك وتربع في دست سلفه أضاف إلى اسمه لقب «ري». وقد حقق المؤرخون أن الكهنة هم الذين نصحوا لملوك تلك الأسرة بإسناد هذا اللقب إلى أسمائهم؛ لأن فيه رمزا دينيا يجعل دار الملك مرتبطة أبدا بالسلالة المقدسة، ومعنى ذلك تسليم الملوك أمورهم جلها أو كلها لرجال الدين، وإشراكهم في النفوذ والسلطان، ودليل المؤرخين على ذلك أن الكهنة حاولوا إقناع أفراد الأسرة الرابعة - وكلهم من الجبابرة العتاة بناة الأهرام الكبرى ومؤسسي الآثار الخالدة - أن يشفعوا هذا اللقب الديني «ري» بأسمائهم، فلم يرض ملوك تلك الأسرة، ولم يفلح الكهنة في سعيهم.
ومما يؤكد ويؤيد حجة المؤرخين في قولهم بخضوع الأسرة الخامسة لرجال الدين واستسلامهم لهم، أن الكهنة فرضوا على كل ملك من ملوكها أن يبني على مقربة من قصره معبدا فخيما يسميه هيكل الشمس المقدس، وكانت هذه الهياكل تمتاز عن غيرها بأنها مربعة الشكل، وفي كل واحد منها غرف رحيبة، وفي مؤخر المعبد مرتفع من البناء عليه مسلة منقوشة باذخة يرمز بها إلى إله الشمس رافعا رأسه إلى السماء. وكانت غرف المعبد المذكورة آنفا مزدانة بالصور والنقوش التي تمثل منابع النيل وما حولها من البحيرات والجبال، وفي بعضها صور تمثل الصحراء الواسعة الأكناف، والبحر «المحيط» المترامي الأطراف، وبعضها يمثل أهل مصر في مزارعهم ومتاجرهم ومصانعهم.
وكان في كل معبد مكان خاص بالملك يصور فيه حوادث عهده الحربية والسلمية، ويظهر أن الكهنة الذين أشاروا على ملوك الأسرة الخامسة بتشييد تلك المعابد أمروهم بالعناية بها، ووقف ريع الضياع والحقول عليها، وتعهدها من حين إلى حين بالهدايا والتحف. وكانت تلك الهياكل في الواقع كأديرة النصارى وتكايا المسلمين، يقتسم خيراتها من الكهنة من تقدم في السن، أو لحقته الأدواء والعاهات العائقة عن القيام بشعائر الدين.
وقد انضم بعض شبان الكهنة إلى مشايخهم؛ حيث كانوا يعملون على ترقية الأخلاق بنشر الفضائل، وحث الناس عليها. ويذكر المؤرخون أن ذلك العهد كان بدء نهضة علمية أدبية؛ ففي أيام الملك «إيسوسي»، آخر ملوك الأسرة الخامسة، نشأ حكماء فضلاء وكتاب مجيدون أشهرهم واضع هذا السفر الجليل الوزير فتاحوتب «الفتاح العليم»، وهو «وزير مصر، ومحافظ المدينة، وقاضي القضاة، ووارث كهنة فتاح».
وكانت تلك النهضة الأدبية معززة بنهضة سياسية أخرى؛ لأن ملوك تلك الأسرة تنازلوا عما كان عليه أسلافهم من البطش والتفرد بالسلطة المطلقة، وأذنوا لأكابر وزرائهم باقتسام نفوذهم، والاشتراك معهم في تدبير شئون الملك. وقد وصل الأمر بالوزراء إلى أنهم انتحلوا لأنفسهم لقبا ثابتا، هو لقب «فتاحوتب»، فكان فرعون في الإمارة وفتاحوتب في الوزارة، ثم إن الوزير الأكبر كان يترك منصبه لابنه يرثه بعده، كما كان الملوك يورثون الملك بعضهم بعضا؛ فكأن البلاد كانت في الواقع محكومة بأسرتين متضامنتين متكافلتين.
ومنشأ هاتين الأسرتين من الكهنة ورجال الدين الذين تغلبوا على أذناب الأسرة الرابعة، فغلبوهم على أمرهم وانتزعوا الملك من أيديهم، ثم اقتسموه بينهم، فكان الملك نصيب كهنة مدينة الشمس «هليوبوليس»، والوزارة نصيب كهنة فتاح، وهم - لا ريب - أضعف من كهنة مدينة الشمس نفوذا، وأقل شأنا وشأوا.
وهذه الحقيقة التاريخية تعلل تساهل ملوك الأسرة الخامسة مع رجال الدين، واستسلامهم لهم تعليلا حسنا؛ لأنه لولا ذلك اللين وتلك المحاسنة ما استطاع فريق من رجال الدين أن يستقل بالملك، ما دام الكل يطمع فيه، والشعب المصري المسكين يمرح في نعيم الجهل، بعد أن حجب هؤلاء الخونة المستبدون من رجال الدين وغيرهم عنه نور العلم وضياء المعرفة، وخلوه يرسف في قيود الذل، ويعمه في ليل من الغفلة ، ولولا ذكر بعض حسنات الكهنة في كتب بعض المؤرخين، وثقتنا بهم، وسعة اطلاعهم، لارتبنا في وصفهم كهنة الأسرة الخامسة بالصلاح، وقولهم عنهم: إنهم كانوا في معابدهم يعملون على ترقية الأخلاق بنشر الفضائل، وحث الناس عليها.
بيد أن القوة المهولة الساهرة على حياة الشعوب التي لا تأخذها سنة، ولا تغفل عما يفعل الظالمون، انتقمت للضعفاء من الأقوياء، وانتصرت من الباطل للحق؛ فحدث ما كان في الواقع نتيجة منطقية لتلك المقدمات، وهو أن عمال الحكومة كبارهم وصغارهم رأوا كيف انتزع الكهنة الملك من أيدي أصحابه، وتعلموا على أيديهم طرق الاغتيال؛ فسنوا لأنفسهم سنة جديدة، وهي أن يورثوا أولادهم مناصبهم من بعدهم، فكان كل عامل يخلفه ولده؛ ليكون خير خلف لخير سلف، وبعبارة أخرى كانت الحكومة المصرية في ذلك العهد وراثية «بيروقراطية»، وفي هذا النظام من منازعة الحكام والعمال للملوك نفوذهم ما لا يخفى؛ لأن كل حاكم أو عامل في الحكومة يرى لنفسه حقا وراثيا فيها؛ فلا يستطيع الملك أن ينال من السلطة ما لا يود عماله.
ولما كان أغلب صغار الحكام من طبقات الأمة المتوسطة، سرت روح الحرية شيئا فشيئا حتى بلغت الفئات النازلة، ثم إن الملوك أنفسهم كانوا يقرون بفضل فئة من أشراف المصريين عضدتهم، وشدت أزرهم، ورفعتهم إلى عرش الملك؛ فكانوا يملقون هؤلاء النبلاء، ويسبغون عليهم ذيول العز، ويغمرونهم في كل آن بوافر النعم وجزيل الإحسان، حتى إن أول ملك من ملوك الأسرة الخامسة استعمل على مصر السفلى حاكما كان قبل نبيلا، وقد أوشك هذا العامل أن يستقل بولايته لولا ضعف حزبه وأنصاره.
على أن كل الذنوب السياسية تغتفر في سبيل ما أرغم ملوك الأسرة الخامسة على نشره من العدل في ربوع مصر؛ فشعر الشعب الذليل بنعمة الحرية، بعد أن ذاق صنوف المذلة والهوان على أيدي جبابرة الأسرة الرابعة؛ أمثال: خوفو، وخفرع، ومنقرع، القساة القلوب، الغلاظ الأكباد، العتاة الظالمين الذين سجلوا على نفوسهم ذنوبا لا يمحوها كر الدهور، ولا ينسخها مر العصور، بل ما دامت الأهرام الكبرى تناطح السماء، وتقاوم طوارئ الحدثان، وتهزأ بتعاقب القرون على القرون والأزمان على الأزمان، وتشهد بأن كل صخر من صخورها هو دمع متحجر من دموع الشعب الذليل المهان، الذي سيق رغم إرادته والشمس المحرقة ترشقه بسهامها، والصحراء الحامية تدمي أديم أقدامه بجمر أديمها، والسوط المثلث مصوب إلى ظهره، والسيف المرهف مكان الغلالة من نحره.
سيق هذا الشعب المظلوم على تلك الصورة المفزعة تنفيذا لرغائب عتل زنيم ومعتد أثيم، أصابه مس من الجن، فظن أن نفسه الخبيثة لا يليق بها إلا ذلك الهرم الجسيم، أو أراد أن يخلد ذكره على صحيفة مصر فسفك دماء أبنائها؛ ليكتب بها سطرا في الصحراء لا بد أن يمحوه الزمان، وما زوال ذكر الظالمين وآثارهم على الظالمين بعزيز!
لست أدري لماذا ألوم ذلك الظالم الجهول خوفو أو كيوبس، الذي تعددت أسماؤه تعدد أسماء إبليس اللعين، واللوم خليق بالمؤرخين الذين ذكروه وذكروا أمثاله من الظالمين أشباه نابوليون الصغير ونيرون، أكثر مما ذكروا سولون وسقراط وأرسطو وأفلاطون، وكان الجدير بهم أن يمحوا أسماءهم من كتبهم؛ لئلا ينالوا بهذا الذكر ما كانوا يرجونه من الصيت العتيد، والشأو البعيد.
نقول: ومدح الأسرة الخامسة في عرض الكلام على عتاة الأسرة الرابعة عدل؛ انظر إلى ما حاول ملوك تلك الأسرة تشييده من الأهرام مجاراة للسلف الطالح في الجيزة وأبي صير وصقارة؛ فقد جاءت كلها ككهوف القرون الأولى، فلا جلال لها، ولا سيماء للوقار عليها، وقد تهدم معظمها، وعن قريب لا يبقى منها إلا ذكرها في كتب الأخبار.
وهذا الضعف في البناء لا يؤخذ دليلا على تقهقر فن العمارة في مصر في عهد تلك الأسرة، إنما يؤخذ دليلا على انتشار روح الحرية الشخصية لحد محدود، وبرهانا على ضعف نفوذ الملك؛ بحيث صار عاجزا عن سوق الشعب لتشييد جبال الظلم والاستبداد كما تساق الأنعام للذبح. وقد ذكر المؤرخ الكبير العلامة جمس هنري بريستد، الذي نعتمد على مؤلفاته في معظم ما نكتب، أن مصر «تقدمت في عهد الأسرة الخامسة تقدما ماديا وأدبيا، وأن الصنائع والفنون ارتقت ارتقاء باهرا، كما أن الآداب نهضت نهضة شماء، فألفت الكتب، وصنفت الرسائل، ودونت المقالات الطويلة والأبحاث العلمية الشائقة.» وذكر هذا المؤلف، في صحيفة 107 من كتاب تاريخ مصر القديم «طبع نيويورك»، «أن النهضة الأدبية، وإن كانت في عهد الدولة الخامسة في إبان نشأتها، فقد أنجبت كتابا وحكماء هيهات أن يسمح الزمان بمثلهم في بدء أية نهضة في أية أمة، ومن هؤلاء الحكماء الوزير فتاحوتب، ورفيقه كاجمني وغيرهما.
وقد اشتغل هؤلاء الحكماء بوضع الحكمة في قالب الأمثال والمواعظ، ولم ينقطع أحدهم للتحرير والتحبير إلا بعد أن حنكته الليالي والأيام، ودربته الحوادث والتجارب، وقد شاعت مؤلفاتهم وتداولتها الناس كافة، وأقبلوا على حكم فتاحوتب خاصة، ولا بدع إذا نالت تلك الحكم في الزمن الحاضر ما نالته في الغابر؛ فهي من أقدم ما كتب الكاتبون، وأفضل ما حبره الحكماء الخبيرون.» ا.ه. ما قاله العلامة بريستد.
وقد ذكر بعد ذلك أن أسلوب التصنيف كان في ذلك العهد واحدا، وأن الألفاظ التي استعملت في الكتب قليلة محصورة، واستدل بذلك على ضعف اللغة الهيروغليفية في عهد الأسرة الخامسة، ولكن غيره يرون غير رأيه، ويقولون: إن حال الشعب من العلم ومكانته من المعرفة كانتا تستلزمان البساطة في التعبير، والسهولة في الإنشاء، والعناية بانتقاء الألفاظ التي تقرب من ذهن عامة الناس، وهذا خير من التقعر وذكر ما لم يصل إليه علم المتوسطين.
حكم فتاحوتب
هذه حكم الوزير فتاحوتب، وزير مصر وحاكم المدينة وقاضي القضاة في عهد الملك إيسوسي، ملك الملوك وأمير الأمراء وصاحب مصر السفلى.
قال الوزير فتاحوتب، وزير مصر وحاكم المدينة، وقاضي القضاة للملك إيسوسي: «اعلم يا مولاي، أن سراج حياتي أوشك أن ينطفئ؛ فأخذ الفناء يدب في جسدي دبيب الشيب في الرأس، وتمكن الضعف من بدني تمكن القنوط من النفس، فعادت نضرتي ذبولا، وغضاضتي محولا، وجسامتي نحولا، وقل الخير والنفع، وذهب البصر والسمع، وعقد اللسان بعد أن ختم على الجنان؛ فلا قول نافع، ولا برهان قاطع، ولا ذهن يعي، ولا بيان شافع يعيد ما مضى من عهد الفتى الألمعي.
فاسمح يا مولاي، لخادمك وعبد رحمتك وصنيع نعمتك أن يخلي منصبه لولده من بعده، ومرني أن أعلمه ما علمتنيه حنكة الشيوخ؛ فقد قيل: إنهم مهبط الوحي ومسقط الحكمة. عفا الله عنك، وأرشد بك شعبك، وهداه بهديك.»
فأجاب الأمير النبيل والملك الجليل إيسوسي، صاحب مصر السفلى: «أذنت لك أن تعلم ابنك الحكمة؛ فلعله يجيء فذا بين الأولاد، موفقا إلى سبل الرشاد، فيكون قدوة لأمثاله، يسيرون على نهجه، ويختطون خطته، ويختارون حكمته، فيهتدون في تقويم اعوجاجهم بهداه، ويسترشدون في إصلاح ما فسد من شئونهم بصلاحه وتقاه.»
فكتب فتاحوتب، وزير مصر وحاكم المدينة وقاضي القضاة، لولده يعلمه الحكمة وأدب النفس:
إذا أوتيت العلم فكن متواضعا، وجادل الجاهل بالتي هي أحسن كما تجادل قرنك، واعلم أن الإنسان جاهل مهما اتسع نطاق علمه؛ لأنه ليس للذكاء حد، وليس للفضل والفطنة نهاية، وما ملك أحد ناصية الحكمة، واعلم أن كلمة الحق لدى الحر أثمن من يتيمة الدر.
إذا جادلك حكيم عاقل، وكان أرجح منك فضلا وعلما، وأقوى حجة، وأرسخ قدما، فاخفض له جناح الذل، ولا تعرض عنه إذا خالف رأيه رأيك، واحذر أن تفوه بما يحفظه، وإياك أن تصدمه في حديثه؛ فإذا استكبر وتواضعت رفعت نفسك في نظره، واستللت بلينك من قلبه سخائم الكبر، وربما سكن إليك وأحاطك بما لم تحط به خبرا، وإذا تجادل قرينك وألفيته لا يخرج في القول عن حده، ولا يميل عن الحق إلى ضده؛ فلا تغض عنه؛ فإن الإغضاء يورث الأحقاد، ويغرس بذور العداوات.
وإذا جادلت من هو أقل منك قدرا فلا تسخر منه ولا تحتقر شأنه؛ لفقر فيه أو لضعف طرأ عليه، ولا تلحف عليه بالسؤال فيما لا يعنيك حبا في استطلاع أمره، وإذا أغضبك فلا تصب على رأسه جام سخطك؛ فما ظلم الناس شر ممن هزأ بهم، وما آلمهم شر ممن استكبر نفسه واستصغر نفوسهم، وإن خدعتك نفسك وأغرتك بالشر فاعصها واغلبها على أمرها؛ فإن هذه صفات الأبرار الصالحين.
وإن كنت، يا أيها الولد، زعيما ترشد قوما، أو قائدا تقود شعبا ؛ فكن كريم الأخلاق، حسن الشيم لا تشوب أدبك شائبة، واعلم أن الصدق أعظم النعم، وله حول وطول، ولن يخذل صاحبه، وما كان الباطل ليغلبه؛ إن للباطل جولة لا تبقى أكثر من ساعة، وإن للحق دولة تدوم إلى يوم الساعة، واعلم أن الإذعان للحق فضيلة لا تنكر، وأن الاعتداء عليه ذنب لا يغفر، ولا يعتدي على الحق إلا ذو مطمع دنيء، والطمع في الدنايا مضر بصاحبه في شرفه وماله؛ فهو يقوده إلى الشر، والشر مطية الدمار.
أما من يذعن للحق، ولا يتطلع إلا إلى ما يستطيع نيله بالحق؛ فثوابه عند الله عظيم، واغتباطه بنفسه أعظم؛ لأن الحق ميزان الحياة وأساس العدل، والعدل فضيلة كبرى كامنة في النفوس الخيرة يحث عليها الآباء الصالحون، ويوصي بها الحكماء والنبيون.
لا تكن يا ولدي سببا في إرهاب النفوس بغير حق، وحذار أن تكون نذير السوء؛ فما تحكمت نفس في أخرى بغير حق إلا ولقيت من الله شديد العقاب، واعلم أن الرجال ثلاثة: رجل يدفع بنفسه في تيار الآمال ويترك الحقيقة طوعا، ويتعلق بأهداب الخيال؛ فيكون نصيبه الخزي وعقابه الحرمان، ورجل يدعي لنفسه البطش والقوة، ويحاول أن ينال بهما ما يريد؛ فيسحقه الله بيد من حديد، ورجل يعطي السائل، ويغيث الملهوف، ويولي المعروف، ويواسي الحزين والضعيف؛ فيمده الله بروح من عنده. فكن يا ولدي كذلك الأخير، رقيق القلب رحيما بالمعوزين؛ تكن محبوبا لدى الناس، وعند الله من المقربين.
إذا دعاك عظيم فأجب دعوته، وإذا أكرمك كريم فتقبل كرامته، وإذا جلست إلى مضيفك فلا تطل النظر إلى وجهه، ولا تبدأ بحديث قبل أن يفاتحك؛ لأنك لا تدري أي الأشياء لديه أحب، وأيها يستدعي لديه الغيظ والغضب، وإذا دارت رحى الحديث بينكما فلا يكن كلامك إلا جوابا عن سؤال؛ فإن في ذلك حفظا لكرامتك، وإرضاء لمحدثك.
إذا كنت ضيفا في دار فلا تحزن إذا كان نصيبك من خيرها قليلا؛ لأن رب الدار يكرم أضيافه حسبما توحي إليه نفسه، وكل امرئ في بيته سيد مالك؛ فليس لك أن تجبهه أو تعترض عليه، واعلم أن رزقك في يد الله، ولن يهملك الذي خلقك.
إذا أوفدك عظيم إلى عظيم مثله فاقتد بمرسلك في خلقه، فإياك أن تعكر الصفاء بينهما بالخطأ في تبليغ الرسالة؛ فقد يؤدي تحريف الكلم إلى العداء، وكم من كلمة بدلت فدمرت بلدا، ولفظ غير فكان مجلبة الشقاء! وإذا فتح لك أمير أو حقير خزائن قلبه، وباح لك بما يصونه عن غيرك؛ فلا تفش حرفا مما اؤتمنت عليه؛ لأن إفشاء الأسرار منقصة تلحق بصاحبها المذلة.
إذا زرعت زرعا فقم عليه، وكن حريصا حتى ينبت وينمو ويثمر فيبارك الله لك فيه، وإذا حرمت النسل فلا تحسد من رزقه، بل اغتبط به إذا رأيت مسرته، وإذا لم تلد لك زوجك فلا تشاكسها؛ فإنك لا تعلم هموم الآباء إذا لم تكن والدا؛ فقد يكون أحدهم سعيدا بماله شقيا بنسله، وليس نصيب المرأة من النسل بأقل شقوة من أنصبة الآباء؛ فإن الأمهات أكثر النساء هما وغما، وأدناهن من القبور؛ لشدة ما ينال إحداهن من الحزن وما تلقاه من الآلام في العناية بولدها في نومه ويقظته، في مرضه وصحته، في حزنه ومسرته.
إذا كنت صغير القدر غير ذي شأن؛ فالجأ إلى حكيم حازم والتصق به، واجعل نفسك وقفا عليه؛ فيرفعك بحكمته من حضيضك إلى أوجه، ويقوم من عوجك بمثل ما قوم من عوج ذاته.
إذا رأيت رجلا أصابه حظ حسن، فنال منصبا ساميا لا يستحقه، وكنت واقفا على سره، خبيرا بحقيقة حاله، فلا تهزأ به لما تعلم من أمره، بل كن كغيرك في إكرامه والحفاوة به، وكفاه ما حاز من الفخر مبررا لعيوبه؛ فقد تحسن حاله بعلو مكانته. واعلم أن الشرف والثراء لا يكونان لك عفوا صفوا، وإنما للمرء من الخير قدر ما سعى، واعلم أن الله لم يشرع طرقا أكثر من طرق الحلال لكسب المال.
لا تطع في الحياة إلا قلبك، واعص نفسك في هواها، ولا تجبها إلى سؤالها فيما لا يعلي قدرك، ولا تقض عمرك كله في تحصيل المال وكنزه؛ فإن كنز المال وصره متعبة، ولا خير فيما يتعب المرء في تحصيله ليزداد بوفرته نصبا.
إذا رزقك الله ولدا فلا تهمل تهذيبه، بل اسهر على تربيته وإرشاده إلى سواء السبيل؛ فإن أثمر عملك فقد نلت ثوابين؛ الأول: ثواب من عمر في الأرض وعمم الخير، والثاني: ثواب من زرع زرعا وبارك الله له فيه، وإن كان لك بنت فلا تفرط في شأنها، وارعها بقلبك كما ترعاها بعينك، وإلا كان عقابك كمن ولي ملكا ولم يحسن سياسته، وإن عصاك ولدك وأطاع هواه، وكان فظا غليظا متشددا في الشر غير حسن الأخلاق، فاضربه حتى تهذبه؛ فإن العصا تقوم باعتدالها ما اعوج من أمره، وحذره من عشرة قرناء السوء ممن لا يعنون بالفضائل؛ فإنهم يقودونه إلى حيث لا تريد، واعلم أن من يلقى مرشدا لن يضل.
إذا جلست في مجلس الدولة فاسترشد بمن كان أقدم منك عهدا؛ فهو أعرف منك بقواعد الحكم، ولا تستهن بالمواظبة؛ فإن الانقطاع عن مقر منصبك والتراخي في عملك يضعفان ثقة الرئيس بك، وربما أدى ذلك إلى ضياع نصيبك من السلطة، كن على الدوام مستعدا للقول إذا كان المجال ذا سعة، ولا تهمل الجواب عن سؤال يوجه إليك، وإذا شئت أن تبقى في المجلس ذا سلطة عالية وقول نافذ فاجعل لنفسك فيه شأنا؛ بحيث لا يستغنى عنك، واعرف مكانتك من أهله يعرفها غيرك، واجلس حيث يؤخذ بيدك وتبر، واعلم أن مجلس الدولة يسير على نظام معروف، وكل ما يحدث به يدور على محور الدقة، وأن علو الكعب فيه نعمة يحرص عليها العاقل، ويسعى إليها الطامع في العلا.
إذا كنت في عشرة قوم فحبب نفسك ما استطعت إليهم، وليكن قلبك وقفا على مودتهم ما دمت ترى إخلاصهم لك وعطفهم عليك؛ فيرتفع ذكرك بين الملأ وتتدفق عليك نعم الله، وتلقى في كل مكان صديقا، وتنال ما تتمنى من دنياك. واعلم أن أسمى الفضائل أن تقدر على كبح جماح شهواتك في السر والجهر، وأن أدنى الرذائل أن يطيع الرجل بطنه وفرجه، وقد رأيت قوما أطاعوا بطونهم وفروجهم؛ فكبرت أجسامهم وصغرت أحلامهم، وأصابتهم في ألسنتهم بذاءة يؤذون بها الأخيار؛ فكان لهم من بطونهم وفروجهم أعداء لا يستطيعون مناهضتها، ولا يقدرون على دفع شرها.
كن يا ولدي صادقا في قولك، أمينا في عملك، وإذا جلست بين يدي الملك في مجلس الدولة فلا تخف عليه شيئا من أمرك، واعلم أنه لا حرج عليك إذا أنبأته بأمر كان يعلمه؛ لأن في ذلك أداء للواجب، وهو من أسمى الخلال وأكرمها، ولا يضعفن عزمك أن يخطئك الملك مرة؛ فإنه لا يخطئك أخرى، وربما رجع إلى قولك إن كان حقا.
إذا كنت زعيما فاختط لنفسك خطة مثلى، واسع جهدك في إنجازها، وكن ممن ينظرون في العواقب، ويتخذون من الحاضر عدة للمستقبل؛ حتى إذا جاء اليوم العصيب الذي لا يستطيع المرء فيه حلا ولا عقدا رأيت محجتك واضحة، وسبيلك جليا ظاهرا؛ فلا تدركك أزمة الضيق، ولا يصيبك من حرج الموقف ما يصيب البله والبسطاء؛ وبذا تستطيع أن تربأ بنفسك عن مواطن الفشل، ولا تكن محسوبا على أحد؛ فإن ذلك يورث المذلة، ويدعو إلى التراخي، ولا تكل أمرك إلى غيرك فتصاب بداء الكسل.
إذا كنت رئيسا فعامل من هم أقل منك مرتبة برفق، واعلم أن مرءوسك هو عضدك وساعدك، وأن التشدد في معاملته يعقل لسانه، ويختم على قلبه، فيخفي عنك ما قد يفيدك العلم به. أما إذا استعبدته بالحسنى؛ فلعله يبوح لك بما يضمر، ويفتح لك خزائن قلبه. وعوده الحرية في القول يصدقك فيما ينفعك، ولا يخدعك فيما يضرك، وإذا أتاك في أمر له فلا تجبهه، بل كن شفيقا صبورا، وإذا استطعت إجابة سؤاله فلا تبطئ؛ فخير البر عاجله، وإياك والشدة في معاملة من يطيعون أمرك؛ فقد تكون داعية إلى سوء الظن بك، واعلم أن الإصغاء للضعيف والمكروب فضيلة يمتاز بها الأخيار على الأشرار.
إذا شئت أن تستبقي حب أخيك وإخلاص صديقك فاحذر مشورة النساء؛ لأنها مجلبة الشر في كل زمان ومكان، واعلم أن حب المرأة مجلبة الهلاك، وما طاب عيش امرئ يقضي على سعادته ويستهين بحياته في سبيل لذة لا تدوم أكثر من طرفة عين، وتورث آلاما تبقى مدى الحياة.
اجتنب جلساء السوء؛ فإن في بعدهم غنما، وفي قربهم غرما. إذا شئت أن تكون صادقا في قولك أمينا في عملك؛ فطهر نفسك من أدران العناد والطمع، واحذر الشراهة والجشع، وإن كنت خلوا من تلك النقائص فحذار أن تقع في هوتها؛ فإنها أدواء لا تستقيم حال المرء ما دامت جراثيمها عالقة به، واعلم أن تلك المعائب تفرق بين الوالد والولد، وتشتت شمل الجماعات، وتبدد أوصال الصداقات، وتقطع ما بين الرجل والمرأة من صلات الود والمحبة، وتغرس بذور النفور والبغض.
كن عادلا؛ فإن العدل يضمن لك الفوز في مضمار الحياة؛ لأن له صولة تدوم وتبقى في الأرض. لا تحاول أن تنال بالبطش والظلم ما ليس لك، ولا تحسد جارك على نعمة أصابها؛ إنما الحسد سم لا ترياق له، وقد رأيت الحسود والشره يقضيان عمرهما في فاقة ولو كانا غنيين. أما القنوع الذي يرضى بالقليل إذا لم يستطع الكثير، ويغبط غيره إذا ناله الخير؛ فإنه لا محالة غني ولو بات على الطوى وتقلب في الثرى.
إذا كنت ذا أهل فأعدد لهم عدتهم، وأوفهم حاجتهم، ولا تحرمهم خيرك وبرك، وأخلص لزوجتك التي تفرش لك وتنيمك، وأطعمها إذا جاعت، واكسها إذا عريت، وداوها إذا مرضت، وأسعدها إذا شقيت؛ فهي أغلى ما تملك، وأعز نعم الله عليك، وحذار أن تقسو في عشرتها، وكن بها رحيما؛ فإن الرحمة تحببك إليها، وتقربك من قلبها، والقسوة تنفرها منك، وتقصي ودها عنك، والمرأة أسيرة من يكرمها، وهي كثيرة الولع بزهو الدنيا وزخرفها؛ فإن لم تنلها ما تحب من المتاع هجرتك.
أحسن إلى خدمك وحشمك، وأعطهم مما أعطاك الله؛ فما منحك المال الكثير والخير الوفير إلا لتمنح ذوي القليل. علمت أن إرضاء الأجير محال؛ فهو كثير الطمع قليل الإخلاص، ولكنك إذا غمرته بإحسانك وأسرته بكرمك أنطقت لسانه بشكرك. واعلم أن الله ينقم على بلد أجراؤه أرقاء، وعماله أذلاء؛ فارعهم بعين الإحسان يرعك الله بعين الرحمة.
إياك أن تفوه بفحش القول، وإن سمعت القول فمر كريما وصن أذنيك عنه، وأعرض عن قائله، وإياك أن تعتب على قائله أو تؤنبه؛ فإن في سكوتك وعفوك عنه درسا نافعا وعظة بالغة؛ فإن الخير يصلح الشرير بخيره، ويرده عن غيه وشره.
إذا أمرك من هو أقدر منك بمعصية فاعصه؛ لأن العصيان في النقيصة طاعة للفضيلة. لا تستعن على قضاء حاجتك بالكتمان؛ فلعل فيه أذى ومضرة، وربما منع الكتمان عن الانتفاع بعملك.
إذا تطلبت الحكمة وشئت أن ترتفع إلى مجالس الكبراء، وأن تعاشر الحكام والعظماء؛ فهذب نفسك، واقض زمنك في تكوين عقلك بالعلم، وتكميل قلبك بالفضائل؛ لأن العلم والفضيلة يوليانك البطش والقوة. واعلم أن الاقتصاد في القول خير من الإسراف فيه؛ فلا تنبس بكلمة حتى تزنها، وإذا كنت في مجلس الدولة تجادل وتناضل فلا تنطق إلا بمقدار؛ فلست تدري مكان من يناضلك من البيان وقوة الحجة. إياك والادعاء فإنه فتنة، وإن حذقت في فن فلا تزه بحذقك على أقرانك؛ فقد يكبو اللبيب ويخبو الأريب، ويصيب الغبي، ويخطئ الذكي.
إذا كنت في مجلس فلا تلزم الصمت البتة، وحذار أن تقطع حديث محدثك أو تجيب على ما لم يسألك عنه، إياك والحدة في القول فقد يعقبها الندم، اعتد كبح جماح نفسك، والزم صون لسانك عما يجول في صدرك. لا تجعل كنز المال معقد آمالك، ولا غاية أعمالك، ولا تكن كالذين يقضون أعمارهم ويبذلون نفوسهم ويريقون أمواه وجوههم في جمع الثروة؛ فإن هؤلاء كالخنازير لا يرفعون خياشيمهم من الوحل.
إذا لهوت فلا تتماد في لهوك؛ فإن التمادي في اللهو والإفراط في السرور يذهبان بالخير من الحياة.
إذا أردت أن تصيب غرضا؛ فكن كأحذق الرماة تصويبا، أنعم النظر في هدفك قبل توتير قوسك، فإذا وطدت نفسك ووترت قوسك أطلق سهمك، واعلم أن ربان السفينة لا يبلغ المرفأ الأمين إلا إذا ساير الريح.
إذا اصطفاك الملك واصطحبك واستعان بك؛ فلا تغتر بما لك عليه من الدالة؛ فتلهيه عما يهمه بأن تسمعه ما لا يحب ، أو تنبئه بما يكره؛ فإنه إن وسعك حلمه مرة لا يسعك أخرى، وهيهات أن يؤمن شر من إذا قال فعل. اعلم أن رفعتك لا تكون بعلو نفسك، ولا تعلو إلا النفس التي اختارها الله، والله لا يختار إلا نفسا تحب أعداءها كما تحب أصدقاءها، وتبغض الشر لذاته، وتعمل الخير حبا فيه لا جلبا لنفع تريده.
إذا وكل إليك تهذيب صبي من أبناء الأشراف والأمراء؛ فلا تخش بأس أهله في تقويم خلقه وإصلاح حاله؛ فإنك إن قمت بعملك كما توحي إليك نفسك وذموك في الحال أثنوا عليك في المآل، وكان نصحك كالدواء يسوء استعماله ويحسن مآله. أوصيك بتهذيب الصغير بحيث يستطيع مجالسة الكبراء؛ فإن في هذا من الفضائل ما لا يحصى، وإذا وفقت إلى القيام بعملك، وقدر أهل الصبي حسن فعلك؛ أغدقوا عليك نعمهم، ورفعوك إلى مراتبهم، وقد تعلوهم وتفوقهم بعد أن تصير مربيهم وأستاذهم.
إذا كنت من رجال الدين ووكل إليك أمر الفصل في مشكلة عويصة بين الملك والرعية؛ فاحكم بالقسطاس وكن عدلا، ولا تظلم الشعب لتصانع الملك؛ لئلا توصم بوصمة الأشراف، وهي أنهم ينصرون القريب والصديق ولو كان على ضلال مبين، ويخذلون العدو الغريب ولو كان على حق وهدى، بل كن يا ولدي مع الحق والعدل أينما كانا؛ يكن الله والخير معك. إن أساءك من أحسنت إليه؛ فاعف عنه، واجتنب عشرته؛ فإن كان حرا فالعفو قتل له، وإن كان وغدا ففي هجرك إياه منجاة لك من شره.
إذا عظم قدرك بعد حقارة شأنك، واستغنيت بعد فقرك؛ فلا تقصر خيرك على نفسك؛ إنما أنت خليفة الله في أرضه، وحارس نعمته، وولي خلقه، رزقك لتعطيهم، وهداك لتهديهم، وأحسن إليك لتحسن إليهم؛ فلا تخن الله في أمانته، ولا تكفر بنعمته، فما كفر بها إلا كل معتد أثيم. أطع ولي أمرك واخضع له بالحق؛ فإن عيشك رهن الطاعة، وإن عصيته ولم يكن قد اعتدى عليك فقد أسأت إلى نفسك.
إذا وليت أمر قوم فلا تتحكم في أعناقهم بظلم، ولا تسع في سلب نعمتهم ؛ فإن الخير يذهب عنك بقدر ما تذهبه عنهم، ولا تغدر أخاك فيما له من مال؛ لأن الغدر منبت الأحقاد.
إذا شئت أن تسبر غور رجل تريده صاحبا؛ فإياك وسؤال الناس عنه؛ فما ذكروا لواحد حسنة إلا وأردفوها بمساوئ لا تعد، بل اكتف بعشرته أمدا محسنا إليه ما استطعت؛ فينبسط الرجل ويفضي لك بما في نفسه، فإن راقك بعد التجارب فأقبل عليه وفاتحه فيما تود، وإلا فاتركه بالمعروف والحسنى، وإن صحبته فلا تحتجر عليه في الحديث، وإن استصغرت شأنه فلا تشعره بما تراه فيه فينفر عنك وده، ولا تحرم أخا لك نفعا تملكه.
اعلم أن كل سعادة يتبعها شقاء، وكل غنى يتلوه فقر، وكل صفاء له كدر، وأن للأيام دورات؛ فكم من رفيع خفضت ووضيع رفعت! وكم من صعلوك أسكنت قصرا! وكم كريم إذاقت بؤسا وفقرا.
إذا اتجرت فأوصيك باكتساب ثقة الناس؛ فإنهم خير نصير إذا كبا بك الزمان، وعاكستك صروف الحدثان. اعلم أن الذكر الرفيع أعظم قدرا في نظر العاقل من المال الكثير؛ لأن المال يجيء ليذهب، ولكن الشرف إذا حل ألقى رحله ولم يتحول.
إذا سألت فاسأل بالحسنى، وإذا سئلت فتلطف في الجواب.
إذا أسأت إلى امرأة في عرضها، ودعوتها إلى بذل ماء حيائها، وجلبت عليها عارا يخلق أديم وجهها؛ فكن بها رحيما، وأفض من نعمائك عليها بقدر ما أسأت إليها؛ فإن في ذلك إحسانا وعدلا وتكفيرا عن الذنوب.
اعلم يا ولدي أنك إذا أطعتني وعملت بما نصحت إليك فقد نهجت سبل الخير، ومن ينهجها لا يضم.
إذا أردت أن تقوم من اعوجاج أهلك ومن حولك؛ فلا تضن على الأحداث والجهلاء منهما بعلم، واضرب لهم الأمثال، وعلمهم الحكمة ليرجعوا في أمور معاشهم إليها، ولعلك مؤد تلك الأمانة إلى أهلها، وتارك وراءك أثرا يبقى في بلاد النيل إلى ما شاء الله؛ فيكون نبراسا يستنير به الشعب والملك؛ لأن في كلمي ما يستفيد به المسترشد فينال من الخير ما ينفعه، وقد نصحت بالرفق والكرم والقناعة؛ لعلمي بأن الحكمة أفرغت في هذه الفضائل الثلاث.
إن من يقرأ قولي سيرضى به وتروقه حكمتي؛ فتستنير بصيرته، وتحل عقدة لسانه، ويصفو ذهنه، ويقوى جنانه، فيهذب أولاده، ويورثهم الحكمة من بعده، وهم يورثونها أبناءهم.
اعلم أن لا شيء أحسن لدى الوالد من طاعة الولد البار الذي يعنى بقوله ونصحه، وإذا تكلم أحسن الكلام، وإن ألقي إليه القول أحسن الإصغاء؛ فإن الصغير إذا شب على الطاعة استطاع أن يأمر وينهى في شيبه كما كان يؤتمر وينتهي. إن الطاعة زارع يغرس المودة، وإكسير يجلي صدأ القلوب، ودواء ناجع يشفي داء البغض، وآلة تنال بها حكمة الشيوخ وحنكتهم، وهيهات أن يخلص لك النصح حكيم لا تطيعه.
إن الله يحب الطاعة ويأمر بها في الخير، ويبغضها وينهى عنها في الشر، ولا ريب في أن القلب هو الذي يأمر صاحبه بالطاعة أو ينهاه عنها؛ لأن حياة الرجل بحياة قلبه، فإذا كان طاهرا تقيا كانت حياته طيبة شريفة، وإذا كان القلب خبيثا دنيئا كانت حياة صاحبه كذلك.
إذا كنت في فتوتك مطيعا ووليت الرئاسة في رجولتك كنت رئيسا عادلا، وإن للعدل قوة تؤثر في النفوس الجامحة، وتستل منها سخائم العناد.
رأيت الأمراء يحبون المطيع؛ لأنهم يعلمون أن الطاعة فضيلة مكملة للأخلاق، فعليك بتعليم الطاعة ولدك ليكون مقربا من الأمراء والكبراء.
رأيت الجهال يعصون فيهلكون؛ لأنهم لا يفرقون بين الخير والشر، ولا بين الربح والخسران، فيقترفون الذنوب فيذوقون أنواع الهوان. إن الجاهل قد يغلب العاقل بالثرثرة والهذر، ولكنه يقصر عن مدى الأطفال في مجال العلم والحكمة فيجتنبه الناس، ويبقى طول حياته مهجورا محسورا.
إذا رزقت ولدا فلا تضن عليه بالحكمة التي جدت بها عليك؛ فيناله من الخير بنصحك ما نالك بنصحي، وأوصه أن يبلغ رسالتك إلى ابنه من بعده؛ فتبقى الحكمة في بيتنا. وهذه نعمة كبرى.
توخ الصدق فيما تقول للأطفال؛ لأن نفس الحدث كالعجينة اللينة يسهل تشكيلها على أية صورة تريد، واعلم أن الصدق إذا كان أول ما يقابل النفس اعتادته، وبذا يمكن استئصال الرذائل منها، وغرس الفضائل مكانها.
اعلم أنك إذا فعلت ما أوصيتك به كنت قدوة عشيرتك وأهلك؛ فتتولى أنت وأولادك قيادة الشعب وزعامته، وتلك الدرجة أسمى ما تتطلع إليه النفوس الكريمة. عليك بالعدل في قولك وفعلك، واحرص على ما تفوه به حرص البخيل على درهمه، والجبان على دمه. كن خاضعا في حضرة الملك، وعيوفا في نظر أقرانك، وإذا نطقت فليكن حديثك مدعاة للإعجاب بك، والتحدث بفضلك. اقدر قولي قدره، واعلم أن نصيحة الوالد أثمن ما يقتنيه الولد.
إذا بلغت منصبي فاجتهد يا ولدي في إرضاء الملك بإتقان ما تمارس من الأعمال. احفظ شبابك تحفظ مشيبك. إذا مرضت فبادر إلى علاج جسمك فيطول بذلك عمرك، وتنتفع بحياتك أنت وغيرك، وتعيش كما عشت مائة وعشر سنين، خدمت أثناءها بلادي بالحق والعدل؛ فغمرني الملوك بالإحسان، وأغدقوا علي النعم، فكنت أسعد حالا من آبائي وأجدادي.
انتهت حكم فتاحوتب الحكيم المصري.
الكتاب الثاني
جولستان أو روضة الورد
للشاعر الفارسي مصلح الدين سعدي الشيرازي
تمهيد: آداب الفرس
فنون الأدب في الأمم تتبع في نموها وتنوعها تاريخهم وأخلاقهم، ومريد الإلمام بتاريخ آداب الفرس مضطر لدرس نشأة هذه الأمة العريقة، والوقوف على ما طرأ عليها من الحوادث. ولو أردنا أن ندون نبذة في هذا البحث زادت صحائفها عن كتاب السعدي مهما حاولنا الإيجاز، على أن الواصفين لآداب الفرس من أهل الشرق قليلون، وأقل منهم العارفون منها شيئا، وأقل من الفريقين الذين تفرغوا لدرس مبحث من مباحثها. أما أهل الغرب فإن الذين وقفوا أعمارهم للوقوف على آداب الفرس فكثيرون جدا، وإنني آت على ذكر بعضهم، وإن في ذكرهم لعبرة لنا وموعظة حسنة.
وهاك بيان فئة قليلة من مشهوريهم، ممن نرجع - نحن الشرقيين إخوة الفرس - لنفهم آدابهم إليهم، وهم من حضرتنا أسماؤهم لساعتنا، ومن غاب عنا ذكرهم أكثر عددا:
سيلفستر دي ساسي:
مذكرات في عاديات الفرس، باريس.
تاريخ الساسانية «ترجمة ميرخود».
إيوجين بورنوف:
درس على اللغة وشرح على نص الزند.
دي موهل:
الشاهنامة باريس - كتاب الملوك للفردوسي.
شودزكو:
تاريخ فن تأليف الروايات التمثيلية في الفرس.
باربييه دي مينار:
بستان السعدي .
جارسين دي تاسي:
الأشعار الدينية والفارسية في آداب الفرس.
جوبينو:
تاريخ الفرس.
جوبينو:
الأديان والمبادئ الفلسفية لشعوب - آسيا الوسطى.
يواقيم مينان:
مخطوطات الفرس - الألسن المنسية في الفرس وبلاد أنتور.
جيمس دار مستتر:
أصول الشعر الفارسي.
ديولافوا:
الفنون الجميلة في بلاد الفرس.
نييكولا:
الآلهة والخمر في دواوين الشعر الفارسية.
وعدا هؤلاء فإن في أوروبا وأمريكا عددا كبيرا من أهل الأدب والعلم أخصائيين بمؤلفات بعض فلاسفة الفرس أو شعرائهم، ومن هؤلاء أخصائيو عمر الخيام؛ وهم: إدورد ألن، وإدورد برون، وهونيفلد، وجارنر، وميكارثي، ولوران، وأشهرهم بالإجماع هو فتزجرلد الذي نقل رباعيات الخيام إلى اللغة الإنكليزية، وممن اشتغلوا بدرس كلمة مصلح الدين سعدي الشيرازي، مؤلف حديقة الورد: نيف، الذي وضع كتابا عنوانه «السعدي الشاعر»، طبع لوفان عام 1881، وخصه بيزي بفصل مهم في تاريخ آداب الفرس.
أخرج الفرس في كل الأزمان أدبا جما؛ لأنهم أمة ذات حيوية قوية، ورغائب نفسية، وخلال تدفع إلى التغني والمرح والمحاربة. والناظر في صحيفة آدابهم يقسم ما أخرجوه للناس إلى ثلاثة أقسام، شغل كل قسم منها بنوع من الشعر والنثر، وكان لكل عهد من تلك الثلاثة فحول ومجيدون.
كان العهد الأول: عهد الشعر الديني، والثاني: عهد الشعر الأيبيقي «القصصي»، والثالث: الليريقي أو الغنائي.
امتاز العهد الأول الذي يرجع إلى ما قبل المسيح بأربعة قرون بالأفستا، والثاني يمتاز بالشاهنامة التي حاك بردها الفردوسي، أسد الشعراء القصصيين وبطل الأيبوبية، ولكن تاريخ هذا العهد لا يمكن تعيينه بالدقة.
أما الشعر الغنائي «ليريقي» فقد ظهر فجأة بعد قرنين من تاريخ فتوح العرب، وسبب هذا أن الفرس بعد أن استردوا شيئا من حريتهم ظهرت مواهبهم العليا، وتجلت عبقريتهم، ومن ذاك الحين نما عدد الشعراء بكثرة وافرة حتى أصبح حصرهم مستحيلا؛ لأن الشعر الغنائي لا يظهر إلا إذا أصبح كل مخلوق مفكرا شاعرا قادرا على التغني بعواطفه، وإظهار أحوال نفسه.
أما العهد الثاني الذي كانت العواطف الدينية فيه هي الدافع للشعراء والكتاب، فقد امتاز - كما ذكرنا - بالأفستا، وهي مجموعة كتب أمة البارصية، أو عباد زوروسترا ، وهي مقسمة إلى خمسة أناشيد؛ النشيد الأول: صلاة لأرباب الأرض والسماء والهواء، كان يتغنى بها المتعبدون خلال التضحية، واسمه الياسنا.
والثاني: واسمه الفسبرية، وهو تكملة الياسنا.
والثالث: الفنديداد، وهو قانون ديني للفرس العتيقة، وفيه بيان لأصول عقيدة الماثنية.
الرابع: إلياشتس، وهو دعوات للأرباب المتحكمة في أيام السنة، لكل منها دعوة.
والخامس: الخوردا أفستا، وهو صلوات للشمس والقمر والماء والنار خاصة.
والأدب القصصي بدأ تقريبا من القرن العاشر للمسيح، وفي عهده ذاع فضل الشعراء وبان فضلهم، وقربهم الملوك. وأشهر شعراء هذا العهد الفردوسي أبو القاسم الجليل مؤلف الشاهنامة أو ديوان الملوك، وقد خلد فيه صورة الروح الشرقي الذي تتنازعه عواطف الحب والخيال، وتلا الفردوسي خسرو، من شعراء القرن الرابع عشر للمسيح، والجامي بعده بجيل ومستوف وعبد الله الحليفي والكمالي وأبو طالب من شعراء السابع عشر، وأشرات في الثامن عشر، وجابة المتوفى عام 1822، وهو آخر شعراء هذا العهد الجليل.
والشعراء الغنائيون يبدأ عهدهم في القرن الحادي عشر، وقد عاش معظمهم في بلاط السلطان محمود الذي ورد ذكره في قصائدهم وتآليفهم، ومن هؤلاء سوى الفردوسي: منبو تشهر، والأسدي، والأصوري، وكروماريا، والأنوري، وأفضلهم بعد الفردوسي منبو تشهر الذي تمثلت فيه روح الفرس الشعرية. وقد كان للصوفية نصيب من التأثير في الشعر الفارسي. وهذا رأي الكثيرين من الثقات في الأدب الفارسي، ونحن نخالفهم في هذا الرأي لا سيما فيما يتعلق بالخيام وحافظ، وقد يصح عن السعدي. وقد ذكروا بين الشعراء الغنائيين الصوفيين: الخيام صاحب الرباعيات، وفريد الدين العطار صاحب منطق الطير، وجلال الدين الرومي صاحب المثنوي، فالسعدي صاحب البستان والجولستان، فحافظ الشيرازي.
هذا قليل من أدب الفرس جئنا به مقدمة لحديقة الورد لسعدي؛ ليعرف القارئ العربي مكان السعدي من فضلاء وطنه.
سعدي الشيرازي
هو الشيخ مصلح الدين سعدي الشيرازي، شاعر إيراني ولد في شيراز سنة 1175 للميلاد، الموافقة سنة 571 هجرية، وقيل: بل سنة 1189، قيل: لقب بالسعدي نسبة إلى أتابك سعد بن زنكي، وكان في أيامه.
درس في بغداد، فأخذ العلوم الظاهرة عن الشيخ شهاب الدين، وأخذ العلوم الباطنة عن الشيخ عبد القادر الكيلاني، فامتاز بين أقرانه بالذكاء والاجتهاد، فنبغ في التفسير والحديث وسائر العلوم، وكان ورعا تقيا، دخل في سلك الدراويش القندريين، وكانوا يكثرون الحج إلى مكة المكرمة ويسيرون مع القوافل، ويرددون التسابيح أمام رفاقهم ويحرضونهم على الصلاة والتقوى، فحج السعدي على تلك الصفة 14 مرة، وكان لم يكتب بعد شيئا، بل كان منعكفا على الصلاة والتأملات.
ثم تجند في محاربة الصليبيين في سوريا، فلم يصب نجاحا، بل أسر لأول موقعة واقتيد إلى طرابلس الشام، فأدخلوه بين العملة في بناء الحصون، فدام أسره عدة سنوات إلى أن اتصل به تاجر حلبي فأذهله علمه وورعه في الدين، فافتداه من الأسر بعشرة دنانير ذهبا، وأعطاه مائة دينار وزوجه ابنته، فلم ير حظا في زيجته؛ لأن زوجته سببت له من الأكدار أعظمها، حتى إنه طعن فيها فيما بعد في أحد مؤلفاته، واضطر بشراسة أخلاقها وسوء تصرفاتها أن يطلقها، فاعتزل الأمور الحربية، وانصرف إلى نظم الشعر والقيام بالفروض الدينية، ونظم عدة قصائد وقدود ونشائد وسماها ملمعات، ومنظومة سماها البستان.
وكتب مؤلفا سماه الجولستان؛ أي روضة الورد، وهو مشهور في الشرق والغرب، بعضه منثور، وبعضه منظوم، ويحتوي على حكايات حربية، وقصص ملوك، وغزل ديني، وأمثال أدبية وسياسية. وهو في ثمانية فصول، في أولها كلام عن الملوك، والثاني في الدراويش، والثالث عن الزهد والقناعة، والرابع عن فوائد الصمت، والخامس عن الشبوبية، والسادس عن الشيخوخة، والسابع عن التعليم والتهذيب، وفي الثامن جمل متفرقة حاوية ملخص التأليف كله، ومع أن الكتاب المذكور أقل تآليف السعدي أهمية، فقد انتشر أكثر منها؛ فترجمه إدلياريوس إلى الألمانية، وطبع في شلسويك سنة 1654، وترجمه غراف إليها أيضا، وطبع في ليبسيك سنة 1846، وترجمه غودن إلى الفرنسية وطبع في باريس سنة 1791، وترجمه سميلي وطبع سنة 1828، وشارل دي فريميري وطبع سنة 1858، وترجمه جنتيوس إلى اللاتينية وطبع مع ترجمته إلى الإنكليزية بقلم جمس دومولين في كلكتا سنة 1807، وطبعه السيتول في هرتفرد سنة 1850 مع معجم لكلماته، وترجمه إلى الإنكليزية نظما ونثرا سنة 1852، وقد ترجم إلى التركية وطبع في الأستانة مع الأصل الفارسي، وترجم إلى العربية
1
وطبع في مصر، وله ترجمة أخرى غير مطبوعة.
وأغرب ما في هذا الكتاب بلاغة إنشائه، وقد ذهب أكثرها في الترجمات المذكورة، وطالعه فلوريان وسان لمبر في الترجمة اللاتينية، ونقلوا عنه عدة استعارات أدخلوها في بعض القصص التي كتبوها.
وله أيضا مؤلف اسمه بندنامة؛ أي كتاب الأمثال، وكل كتاباته كانت بالفارسية والعربية، وطبعها هرنغتون في كلكتا سنة 1791 في مجلدين، والأسقف غودن في أواخر القرن الثامن عشر نشر تقليدا للجولستان، إلا أنه لم يشابهه في شيء من الطلاوة، وترجم البستان إلى الألمانية، وطبع في همبرغ سنة 1696، وإلى الفرنسية ولم يطبع بعد، وترجمت البندنامة إلى الإنكليزية وطبعت سنة 1788، وترجمت إلى الفرنسية سنة 1822.
واختلف في تاريخ وفاته؛ فقال بعضهم: إنه بعد ظهور آخر مؤلفاته سنة 656 هجرية عاش 30 سنة في الزهد والتنسك، فيكون قد توقف عن التأليف لما بلغ سن 85 سنة، وتوفي عن 115 سنة، وقال اللامعي - أحد المؤلفين الإيرانيين: إن السعدي كتب آخر مؤلفاته وله من العمر 70 سنة، وتوفي سنة660 هجرية عن 89 سنة، وذهب بعض المؤرخين إلى أنه توفي عن مائة وسنتين سنة 1291 للميلاد.
وقد شهد له علماء الشرق والغرب بطلاوة كتاباته ومنظوماته، وبداعة معانيها ورقتها، وقد جمع في كتاباته بين التصوف والتورع ففاق فيه لوكان الفيلسوف القديم الزينوي المذهب، وبين الطلاقة ورقة المعاني ففاق فيها هوراس الفيلسوف اليوناني القديم. وكانت معارفه متسعة، وله إلمام بأهم اللغات الشرقية واللاتينية، وقد نال شهرة كلية في كل أقطار العالم، وله مقام سام بين أصحاب الذوق والتآليف الشعرية والنثرية، وكتبه كثيرة الانتشار والتداول في بلاد العجم والعراق حتى لا يكاد يخلو منها أحد.
وقد كان على غزارة معارفه وسعة اطلاعه وانعكافه على الصلاة لطيف المعشر، رقيق الجانب، سريع الجواب؛ حكي أنه دخل الحمام يوما، وكان فيه الخوجة همام التبريزي، فسأله: من أين الرجل؟ فقال: شيرازي، فقال: كل العجب من ذلك؛ فإن الشيرازيين عندنا أكثر من الكلاب، فأجابه على الفور: والأمر عندنا بالخلاف؛ فالتبريزيون أقل من الكلاب. ا.ه .
2
جولستان أو روضة الورد
في الزهد والحكمة «لم نعلمك حق العلم»
باب الإلهيات
أياعجبا كيف يعصى الإل
ه أم كيف يجحده الجاحد؟!
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد «سألوني عن ذاته المقدسة وقالوا: صفها؛ فأنت بها خبير، فعجزت عن الوصف والتعبير وقلت: جل عن أن يكون له مثيل أو نظير؛ فهو الواحد الأحد، والفرد الصمد، أحيانا فعشنا به، ويميتنا فنموت في حبه.»
حديقة الورد
غاص ولي من أولياء الله في بحر التأمل والتفكير، فلما هب من نومه وصحا من نشوه، قال له إخوان الوفاء: «ماذا جلبت لنا من تحف الحديقة الغناء؟»
فقال الولي: فكرت فيكم وأنا أتنقل بين الخزامى والياسمين، وأمتع النفس بشم الأزهار والرياحين، فصحت عزيمتي على أن أهديكم بعض التحف، وأنفحكم بما أستطيع من الطرف، فلما بلغت بستان الورد اجتنيت منه ما اجتنيت وملأت حجري، فأصابني من الأريج والعطر ما غيب عني الرشد والفكر، فانفلتت أهدابي من يدي، وانتشر الورد في الروضة البهية، فعدت إليكم بلا هدية.
الأسرار الإلهية
اضرب للعاشقين مثل الفراش والنار؛ فهو الذي يسعى بجناحه إلى الهلاك والدمار، وهذا جزاء من يحاول الوقوف على الأسرار قبل الأوان، فلا هو مصيب غرضا، ولا مطفئ ما به من أوار، فيا أيها الباحث، أقصر فسوف يكون نصيبك الفشل، واعلم أنه ما اهتدى إلى الحق إلا من غادر عالم الفناء، وهيهات هيهات أن تبوح النفوس بسر الوجود قبل أن تعبر من عالم الزوال إلى عالم الخلود.
تمجيد واجب الوجود
جل جلالك يا من تعالى عما يقول القائلون، يا من لا تحيط به الشكوك، ولا تلحقه الظنون، يا من يعجز عن معرفة كنهه الحكماء والعارفون، أنت القديم منذ القدم، وأنت المعطي الكريم، بل أصل الكرم، بل أنت البقاء والوجود، وكل ما عداك فناء وعدم.
إصلاح النفوس الشريرة بعشرة النفوس الخيرة
أعطاني محبوبي قبضة من طين ذات ريح زكية، فقلبتها بين يدي قائلا: يا لها من هدية! وسألتها قائلا: يا أيتها الطينة العطرية، أأنت من العنبر الإلهي أم من المسك المقدس؛ فإن أريجك يطهر الفؤاد ويجلي مرآة النفس؟
فقالت: اعلم أنني حسوت عطر الورد فانتعش جسمي، وأضاءه شعاع من الروح العلية، وسرى فيه الطيب فتضوعت منه تلك الريح العبقرية.
قوة الجنان وفصاحة اللسان
إذا منحك الله قوة الجنان وفصاحة اللسان فلا تكتمن ما يجول بصدرك، وعبر ما استطعت عما تشعر به في جهرك وسرك، وأفرغ المعاني الدقيقة في قوالب الألفاظ الرقيقة، وكن كالصائغ الحاذق الماهر الذي يرصع الذهب بالدراري والجواهر، وليكن لك في المحافل منطق يشفي الجوى، ويسوغ في أذن السامعين سلافه:
فكأن لفظك لؤلؤ متنخل
وكأنما آذانهم أصدافه
واعلم أن الموت سوف يطفئ شعلة الفؤاد، فيطول أمد الرقاد، ويعجز اللسان عن البيان، وتدفن جواهرك معك في القبر، وليس هذا هو المقصود في الحياة ولا تلك غاية العمر.
فما اكتمل البدر إلا ليضيء وينير، وما فاض النهر إلا ليغدق على الوادي الخير الغزير.
حديقة السعدي
ولما نزلنا منزلا طله الندى
أنيقا وبستانا من النور حاليا
أجد لنا طيب المكان وحسنه
منى فتمنينا فكنت الأمانيا
عرفت جنة ذات أنهار حذاء نهر جرار، وحوض ثرثار، ذات أشجار باسقة، وغصون متقاربة متلاصقة، قد كساها الجمال ثوبا قشيبا باهرا، وحباها الحسن نصيبا وافرا؛ فخضرتها تسر الناظرين، ومنظرها يبهج الرائين، سيما وقد ازدانت مروجها بالأزهار كما تزدان بالعقود النحور، فقصدتها في يوم النيروز وإذا بالبلابل تغرد على الأغصان، والطيور تسبح باسم المهيمن الديان، فكأن تلك الجنة جامع فسيح، وتلك الطيور خطباء تصيح بالوعظ الصحيح، وكأن قطر الندى على الشجر دموع انهملت من عين عابد في السحر، أو بكاء عاشق بان عنه معشوقه وبان له القمر.
قضيت مع صديق لي في تلك الجنة ليلة لا تحسب من العمر، بين الغصون والرياحين والزهر، وكنا إذا سرنا خيل لنا أن حصاها من البلور، وأن قطوفها جوهر، وأن ماء أنهارها من زبرجد، وأزهارها من عسجد، ومن رأى زهر الخزامى وهو يميل نحو الورد للتقبيل، أو لحظ النرجس وهو ينظر إلى السماء بمقلته النجلاء، ورأى الماء أزرق كعين السنور، صافيا كقضيب البلور، بل كلسان الشمعة في صفاء الدمعة، قال: لا ريب في أن هذه روضة من رياض الجنان، وهبها الرحمن لبني الإنسان؛ ليتحدثوا بنعمته، وليسبحوا بحمده.
فلما هزمت جيوش الصباح جنود الظلام، وولى الليل مدبرا، وجاء الفجر مقبلا بسلام، وعزمنا على الانصراف عن تلك الحديقة الأنيقة، عز علينا فراق ذلك الجمال، ووددنا لو أننا نبقى فيها سبع ليال نمتع أثناءها الطرف والشم، ونفرج في خلالها الكرب والهم، ولكن هيهات أن يتم لنا ما نرجو في تلك الدنيا الفانية، أو ننال في الأولى ما نمتع به في الثانية، فنهضنا والأسف ملء القلوب، واستسلمنا للقضاء استسلام أيوب.
وإني لكذلك أتحفز للمسير، وإذا بصاحبي يشد ثيابه ليملأ أهدابه بالأزهار الزكية، كالورد الذي أسكرنا عطره، والنرجس الذي ملأ المكان عبيره ونشره، فقلت له: ماذا أنت صانع، يا أخي، بتلك الأزهار البهية؟ قال: أحملها لإخواننا ممن لم يسعدهم الله بمثل ما أسعدنا، فأجبته لساعتي: ألست تعلم أن الأزهار النضرة سوف يئول أمرها إلى الذبول؟! وأن عطرها لا يدوم أكثر مما يدوم أثر الشمول؟! فلا نفع والحال كما ذكرت بتعزيز ما كان مصيره للفناء، فقال صاحبي: بماذا نعود إذن إلى أصحابنا بعد أن غبنا عنهم، وكان نصيبنا من الخير أوفر من نصيبهم؟
فوعدته بأن أكتب كتابا يكون كتلك الحديقة، غير أنه سهل المنال، وتبقى أزهارها على الدوام نضرة، لا يؤثر فيها تقلب الأيام والليالي، فإذا أنجزت ذلك الكتاب استغنى الناس عن البساتين؛ لأن وردها يبقى غضا يوما وليلة، أما ورد روضتي فسيبقى غضا على كر القرون والسنين.
أخلاق الملوك
غرور الحياة الدنيا
عجبا لي ومن رضاي بدنيا
أنا فيها على شفا تغرير
إذا أدبرت كانت على المرء حسرة
وإن أقبلت كانت كثيرا همومها
هذا ما أمر الملك فيردون بنقشه في إيوان قصره: حذار أيها الإنسان من خداع الدنيا وغرورها، فما دامت لحبيب، ولا أبقت على صاحب؛ فهي اليوم تخدعك وتقبل عليك، وغدا تخلعك وتذهب عنك، فإن كنت غنيا فسوف تبدد شمل مالك، وإن كنت ذا منى فهي القاضية على مناك وآمالك. يا أيها المفتتن بغرورها، متى غرتك؟ أبمصارع آبائك من البلى، أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟! واعلم يا صاحبي، أنك لا محالة ذاهب عنها؛ فأجدر بك أن لا تأبه لها إذا رفعتك إلى عرش الملك والسلطان، أو وضعتك إلى أسفل دركات الذل والهوان؛ فإن الموت داعيك، والفناء مناديك في أية حال كنت، فلا ينفعك بكاؤك، ولا يغني عنك أحباؤك، ولا عرشك بمطيل عمرك، ولا فقرك بمدنيك من أجلك.
السلطان محمود
لعمرك لا يرد الموت حصن
ولا هذي العساكر والجنود
زعموا أن سلطانا من سلاطين خراسان رأى فيما يرى النائم السلطان محمودا بعد موته بمائة عام، فإذا الجسم قد اعتدى عليه التلف فصار ترابا، سوى أنه رأى عيني السلطان تحملق به وتجولان في محاجرهما؛ فهب من نومه فزعا، واستدعى الحكماء والعلماء، وطلب منهم أن يفتوه في رؤياه، فعجز المفسرون عن التفسير، وقصر مدى الحكماء عن البيان والتعبير، سوى درويش من الصالحين، وكان الملك خاشعا خاضعا، فقال له: إنني يا مولاي أوتيت علم الرؤى، فقال الملك: فسر ما ذكرت إن كنت من الصادقين، قال المفسر: إن السلطان محمودا لا يزال ينظر إلى هذه الدنيا بعين الحنق والغيظ، وهو محملق بك في المنام كأنه يسألك: كيف استبحت لنفسك ملكا كان يدعيه لنفسه؟! ويسائل العرش كيف يرضى بغيره بعد أن طواه الردى في رمسه؟!
عظة الأحياء بالأموات
هي القناعة فالزمها تعش ملكا
لو لم يكن فيها إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها
هل راح منها بغير القطن والكفن؟!
كم من ملك تحت التراب! وكم عاهل طواه الثرى طي السجل للكتاب! وكلهم ذهب ولم يترك وراءه أثرا، ولم يخلف بعده ذكرا ولا خبرا، إلا جسدا باليا، وعظاما نخرة، أين كسرى وأين ملكه وسلطانه؟ أين قصره وإيوانه؟ أين حشمه وحوره وغلمانه؟ أين مجده وثراؤه؟ أين عماله ووزراؤه؟ ألم يلحقهم الموت والخراب؟ ألم يصبهم ما أصاب أهل القرون الأولى من الدمار والتباب؟! فيا أصحاب الجدود المفروزة، والأردية المطروزة، والدور المنجدة، والقصور المشيدة، إنكم لن تأمنوا حادثا، ولن تعدموا وارثا، فبادروا بالخير ما أمكن، وأحسنوا الدهر ما أحسن.
نفوس الرجال
رأيت صاحبا لي طويل الصمت، كثير الأناة، لا ينبس ببنت شفة، فقلت: لئن لم تكن نفس هذا الرجل من فضليات النفوس المتشبعة بالخير؛ فهي بلا ريب روح خبيث تمكن من الفساد واحتواه الشر، ومثل تلك النفس كمثل الأحراج المجهولة، يراها الناظر فتلحقه من رؤيتها رهبة وجزع، وقد تكون خالية من كل ما هب ودب، وقد تكون مأوى النمر والدب.
اختيار الأصدقاء
إذا شئت أن تتخذ صديقا، فلا يكن ذلك الذي يقبل عليك والدنيا في إقبال، ويدنو منك ما حامت حولك الآمال، إنما الصديق هو الذي يذكرك في الضيق، أو ينقذك من عدو.
اعلم أن المصائب محك الأصدقاء المخلصين، وبها يعرف الصاحب الصادق من العدو المنافق:
جزى الله الشدائد كل خير
عرفت بها عدوي من صديقي
العزلة والوحدة
حكي أن وزيرا عزل فانخرط في سلك الدراويش، فلما عاش فيهم وامتزجت نفسه بنفوسهم استل خيرهم ما كمن في نفسه من الشرور التي تلصق برجال الدولة، فعادت إليه القناعة بعد أن هجرته، ووصلته الفضيلة بعد أن عقها فعقته، وحدث أن السلطان عاد فرضي عنه واستدعاه إلى منصبه، فأبى الوزير القنوع أن يعود إلى متاعب الوزارة، وفضل الاعتزال على السفر والمال، واختار الوحدة في التقشف على الاجتماع بالناس وما يقتضيه ذلك من التزين والتصرف، وحسنت لديه حياة الزاهدين المتصوفين بقدر ما قبحت في عينه عيشة الوزراء والسلاطين، فلما ألح السلطان في طلبه أجابه الوزير:
اعلم يا مولاي، أنني تركت وراء ظهري حدائق أعنابا، وكواعب أترابا، وخيلا مسومة، وقناطير مقنطرة، وعدة وعديدا، ومراكب وعبيدا، وخرجت خروج الحية من جحره، وبرزت بروز الطائر من وكره، مؤثرا ديني على دنياي، جامعا يمناي إلى يسراي؛ لأنني آثرت الفقر مع الحرية على الغنى في المذلة، ومن كان مثلي فقد عتق رقبته، واستل من قلبه سخائم الضغن والحقد، وأخرج منها سموم الغيظ والحسد، ودان بدين التساهل والتسامح، وبذا نجوت من لوم اللائمين ، وقطعت ألسنة القادحين.
فأجابه الملك: لا ريب في أن الدولة محتاجة إلى حكيم مثلك، طاهر النفس، قويم الخلق، حسن السلوك؛ ليدبر شئونها ويصلح ما فسد من أمورها، فقال الوزير: إنه من الحكمة التي تصفني بها أن أبتعد بطهري وعفتي عن شئون الملك؛ لئلا يعتريها الرجس، ويشوهها الكدر.
خدمة السلطان
لا تخضعن لمخلوق على طمع
فإن ذلك وهن منك في الدين
واسترزق الله مما في خزائنه
فإن ذلك بين الكاف والنون
كان في مصر شقيقان، أحدهما يخدم السلطان، والآخر يعيش بجده وكده، وكان الأول غنيا لقربه من صاحب الملك، والآخر فقيرا لاكتفائه بالقليل، وجد في الابتعاد عن القال والقيل، فأشفق الغني على أخيه، وأراد أن يقربه منه ويواسيه، فقال له: لماذا يا أخي لا تخدم السلطان، وتريح نفسك من عناء العمل فيما لا يعود عليك بالمال الكثير، والشرف الخطير؟! فقال له أخوه وهو يحاوره: ولماذا أنت يا أخي لا تعمل كما أعمل لتنقذ نفسك من ربق الخدمة وذلها؟! ألا تذكر قول من قال: العيش في ظلال الفقر خير ممن عاش ذلا في ظلال الغنى؟ ألا تعلم يا أخي أن حمل الأثقال ورقع النعال خير لدى الحر من احتمال كبرياء الأنذال؛ طمعا فيما ينال المرء من نوال؟
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد
ذخرا يكون كصالح الأعمال
اعلم يا أخي، أن الغر يقضي أيام عمره في اللهو والطرب، ولا يهتم إلا بالمأكل والمشرب، والعاقل يقنع بكسرة من الخبز اليابس إذا عاش حرا؛ فهي لديه أفضل من موائد الأغنياء، وحبذا كسرة مقرونة براحة الضمير وحرية النفس، ولا حبذا طعام الملوك مقرونا بالمذلة:
وأفنية الملوك محجبات
وباب الله مبذول الفناء
فما أرجو سواه لكشف ضري
ولا أفزع إلى غير الدعاء
كسرى أنوشروان
سبيل الموت غاية كل حي
فداعيه لأهل الأرض داعي
أراد منافق أن يملق أنوشروان، فدخل عليه يوما وهو فرح باش وقال له: بشراك يا ملك الملوك، فقد مات عدوك، فتقطب جبين كسرى ونظر إلى مبشره شزرا وقال له: ومن ذا الذي أنبأك بأنني لست أتبعه إلى الرمس قبل أن تغيب الشمس؟! اعلم أيها الغر الأحمق، أن لا شماتة في الموت، وأنه كارثة لا يسر لها العدو العاقل، إنما هي آجال بعضها قبل بعض، ولكنها آتية.
محاسن الكلام
احتفل مجلس كسرى بوزرائه يوما، وكان بزرجمهر بينهم جالسا لا يحرك لسانه، فلما سئل في ذلك قال: اعلموا أيها الوزراء، أن حكماء النفوس كأطباء الأبدان لا يصفون الدواء إلا لمن به داء، وحيث إنني أراكم تصيبون الغرض، فلست أرى في نفوسكم من مرض؛ لذا ترونني ساكتا صامتا، وهذه خلة أهل العلم والفضل؛ فإذا رأى أحدهم أن حال الناس مستقيمة بدونه تركها وشأنها، ولا حرج عليه إذا صان نفسه عن الكلام، أما إذا رأى أعمى يريد أن يقع في بئر وسكت؛ فقد عرض نفسه للتأنيب والملام.
الدنيا متاع الجهلاء
الذنب للأيام لا لي
فاعتب على صرف الليالي
بالحمق أدركت المنى
ورفلت في حلل الجمال
حكي أن هارون الرشيد لما بلغه خبر فتح مصر على يديه، وإذعان جبارها الذي تأله فيها قال: لأكلمن في تلك البلاد أحقر خدمي؛ نكاية في ذلك الطاغية - وكان للخليفة خصي اسمه خصيب، نذل من الأنذال، حقير لدى أحقر الرجال - فسلمه زمام مصر، فلما تولى أمرها كان مقدمه على البلاد شؤما ونحسا؛ فشكا أهل مصر إليه أمرهم وقالوا: لقد زرعنا قطنا فأصابه وابل من السماء أتلف الزرع وأهلك الحرث؛ فأصبحنا في حال يرثى لها، وليس أمامنا سواك نقصده لتدبرنا في أمرنا، وتنقذنا مما حل بها.
فصعر العبد خده وقال: لقد أخطأتم فيما صنعتم، وحق عقاب السماء عليكم، وكان الأجدر بكم أن تزرعوا صوفا بدلا من القطن؛ فلا يؤذيه المطر، ولا يتلفه المزن.
وكان في حضرة الخصي عالم زاهد، فلما سمع الجواب نهض يقصد الباب وهو ينشد:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه!
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا!
هذا الذي ترك الأوهام حائرة
وصير العالم النحرير زنديقا
فسمع الزاهد هاتفا يقول: أقصر؛ فهذه سنة الحياة الدنيا تؤتي الجاهل رزقه بسهولة، وأولو الفضيلة رزقهم محبوس :
يسعى الذكي فلا ينال بسعيه
حظا ويحظى عاجز ومهين
آداب الزاهدين
الغيبة وغرور المرء بنفسه
كنت فيما مضى من أيام الشباب ورعا تقيا، طاهر النفس نقيا، أصوم النهار وأقوم الليل، وأقضي زمني في التسبيح بحمد الواحد القهار، وإني لأجلس ليلة إلى والدي والكتاب الكريم بين يدي، وقد أخذ النوم بمعاقد أجفان من كانوا بقربنا، وإذا بي أشعر بالعجب قد داخلني لقيامي ونوم من حولي، فقلت لأبي: أليس في هؤلاء رجل رشيد يحيي الليل بالركوع والسجود؟! هل أصابتهم غشاوة، أم خدعتهم تلك الحياة حتى فضلوا النوم والهجوع على القيام والصلاة؟!
فنظر إلي والدي نظرة الحكيم، وأجابني إجابة الخبير العليم: يا حبذا لو كنت مثلهم ونمت نومهم؛ فإن الله يحب منك القعود عن عبادته، ويبغض فيك القيام لتأكل لحم عبيده. واعلم يا ولدي أن الصلف والإعجاب والغرور أدوات الدمار، وأن عجبك بنفسك يؤدي بك إلى استصغار شأن غيرك، ولو أنك ترى شخصك كما يراك الواحد القدير لرأيته أقل من ذرة، وأدنأ من تمرة.
نحن أقرب إليه من حبل الوريد
قمت يوما في المسجد الأقصى بدمشق أعظ الناس في حلقة رجال مزدحمين ملتحمين، وإذا هم حاضرو الأجسام، منصرفو الأذهان والأحلام؛ فعلمت أنهم لم يتركوا بعد سبل الظلمة والضلالة، ولم يسلكوا طرق النور والهداية، ورأيت أن وعظي لو لقي الشعر لحلقه، أو الصخر لفلقه، وأن قلبا لم ينضجه ما قلت لنيئ، ولكن كيف تشعل النار العود الأخضر؟! وكيف يطهر الوعظ نفسا لا تطهر؟! وإني لكذلك ألوم نفسي على تعليم تلك الأنعام، وأؤنب ضميري على صرف زمني وعلمي في تفهيم صغار الأحلام إذ خطر ببالي أن أفسر قوله تعالى:
نحن أقرب إليه من حبل الوريد .
فهاج نفس ما تضمنته تلك الآية الكريمة من المعنى الجميل، والرمز الجليل، فاندفعت كالسيل الجارف أشرح للقوم قرب الله وبعده، وعطف الحبيب وصده، حتى ثملت من الطرب، وأوشك السرور أن ينال مني أكثر مما أود؛ وإذا برجل من أهل الرشاد قد فقه المبنى، ووقف على المعنى، وهو في آخر صف من صفوف الملأ؛ فقام يصيح سرورا، ويرقص فرحا وحبورا، فقلت للقوم: الحمد لله الذي جعل فيكم واحدا يعقل، وسبحانه فتح قلب البعيد، وأضاء بصيرته، وجعل على فؤاد القريب غشاوة؛ فهو لا يرى الحق مهما ظهر.
مخافة الله
رأيت وليا من أولياء الله راقدا على شاطئ البحر وهو يتضور ألما، ويشكو جراحا أصابته منذ أنشب وحش ضار فيه أظفاره فمزق أطماره، ونهش لحمه، ودق عظمه، فقلت: كيف أنت؟ فقال: أحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه؛ لأنه أصابني في جسدي ولم يصبني في نفسي؛ فلست أخشى غير وقوعي في حبائل الشيطان، واندفاعي في طريق البغي والعصيان.
ملك في النعيم وتقي في الجحيم
ويلي لمن لم يرحم الله
ومن تكون النار مثواه
رأى أحد الصالحين فيما يرى النائم ملكا من الملوك ينعم في الجنة، وورعا يعذب في نار الجحيم، فقال: عجبت لهذا الورع التقي يعذب بالنار وهو من الأخيار الأبرار، ويمرح أحد السلاطين في النعيم وهو من المترفين الذين أرادهم سبحانه وتعالى بقوله:
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ، فسمع الزاهد هاتفا يقول: لقد متع الله السلطان بنعيم الجنان، وأصاب الورع بالحرمان لأن الأول كان يحب الحق، ويشد أزره، ويناصر أهله، أما الثاني - وإن كان بالزهد مجاهرا - فليس ورعه إلا ادعاء وتظاهرا، واعلم أن الله لا تنطلي عليه حيلة، وهو القائل في كتابه الكريم:
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين .
فيا أيها الزهاد، لا خير في المسبحة والثوب المرقع إذا لم تصونوا نفوسكم عن الذنوب، وتحتفظوا بقلوبكم من الرجس، واعلموا علم اليقين أن الظهور بمظهر الزاهدين وأنتم أخبث من الأبالسة والشياطين سوف يسوقكم إلى العذاب قهرا؛ فتجزون بما جزيتم شقاء وشرا، واعلموا أن الواحد منكم لو كان له من المال ما لا يسعه الخزن، ومن الصامت ما لا يحصره العد والوزن، وهو حسن النية طيب الطوية، كان نصيبه لدى الله أوفر ممن يرتضع من الدهر ثدي عقيم، ويركب من الفقر ظهر بهيم، مع خبث في سريرته، وخسة في غريزته:
بالصبر تبلغ ما ترجوه من أمل
فاصبر فلا ضيق إلا بعده فرج
صبر الصالحين
لقيت طغمة من الأراذل عبدا من عباد الله الصالحين، فأحرجت صدره سبا وشتما، وأوسعته لطما ولكما، فذهب بفارغ الصبر وشكا أمره إلى ولي الأمر، فلما سمع شكايته هدأ روعه وطيب خاطره، وقال له: اعلم يا ولدي، أن ثوب الزاهد هو ثوب الاستسلام، ومن يتشح به ولا يقوى على احتمال الكوارث والنوازل، أو لا يحلم لدى حماقة الثقلاء والأراذل فهو طالح في ثوب صالح، ودعي في زي تقي، وقد حرمت الجنة على الأدعياء كما حرمت على الأشرار والجهلاء؛ فأية الحالتين تختار: العفو والجنة أم الانتقام والنار؟
إني رأيت وفي الأيام تجربة
للصبر عاقبة محمودة الأثر
فقال الزاهد: لقد علمتني يا أستاذي ما لم أكن أعلم، فأنا أختار الصبر والحلم؛ لأن عاقبتهما أفضل وأسلم، فقال له: الحمد لله، يا ولدي، على أنك اهتديت وما غويت. واعلم أن الحكيم الصابر كالبحر الزاخر لا يسبر غوره، ولا يبلغ قعره، أما من كان الغضب أقرب إليه من حبل الوريد، فكالغدير الصغير يبلغ قراره في طرفة عين، وينزح ماؤه باليدين. واعلم يا ولدي، أن العفو شيمة الكرام، وهو حلية القلوب الطاهرة، وجلاء يجلي النفوس، وخير للمرء أن يعتاد الذل قبل أن يرغم عليه؛ فهو من التراب، وهو لا ريب عائد إليه:
عجبت للإنسان في فخره
وهو غدا في قبره يقبر
ما بال من أوله نطفة
وجيفة آخره يفخر
من تواضع لله رفعه
تواضع إذا ما نلت في الناس رفعة
فإن رفيع القوم من يتواضع
زعموا أن علما من أعلام جيش الرشيد تنافس مع ستار من ستور القصر، فقال العلم: كيف تنكر أنك أقل مني قدرا، وأنني أعظم جاها وأرفع ذكرا؟ ألست العلم المحمول فوق الرءوس إذا التحمت الجيوش، وحصر الموت النفوس؟ ألم أقض عمري في خدمة السلطان، فلا الليل يخيفني بوعيده، ولا البعد يلويني ببيده؟
أخو سفر جواب أرض تقاذفت
به فلوات فهو أشعث أغبر
أخبط ورق النهار بعصا التسيار، وأخوض بطن الليل بحوافر الخيل:
وقد كشرت عن سنا نابها
عروس المنية بين الشعل
وجاءت تهادى وأبناؤها
كأن عليهم شروق الطفل
فكم شاهدت حربا، ورأيت طعنا وضربا! وكم حصارا فككت! وخميسا كالجبل دككت! وكم جبت الفيافي والشمس لها في الجو تدويم! وقطعت القفار والشهب تحسد همتي وتضيء محجتي! وكم هبت رياح الموت نكباء فلم ينسخ لهيبها آياتي، ولم يطفئ هبوبها سراج حياتي! هذا وأنت، أيها الستار، باق في الدار، تطويك أيدي الحور الحسان، من كل قينة كغصن البان، ما يزهد حسنها الحكيم في حكمته، وتفتن سقراط ولقمان، وينشرك ظبي رومي الأصل عراقي النشء: إذا حسر عن رأسه، وشمر عن ساقه، وافتر عن ثغره رأيت العسجد والبلور واللؤلؤ في المرجان.
أما أنا فيحملني جندي شديد، ويحتفظ بي بطل صنديد، لا ترهبه الحروب، ولا تحرجه الكروب، فإذا مسني لا يشفق على بدني الضئيل، ولا يرفق بعودي النحيل، فأي ذنب جنيت حتى كتب علي أن أذوق من العذاب الألوان والصنوف، وأقضي أيامي بين أنياب المنايا والحتوف؟ وأنت بماذا امتزت حتى نلت الحظوة الكبرى، وتفردت بالإكرام؟
فقال الستار، بعد أن علا وجهه اصفرار: على رسلك يا فتى، ولا تضن علي ببعض حلمك، ولك فيما أقول حكمك: اعلم أنني أفضلك بالتواضع، ومن تواضع لله رفعه؛ فكان نصيبي من العز ما ذكرت، أما أنت فشمخت بأنفك وعلوت الصفوف، وغرك السير في طليعة الألوف، على أنك إذا نشرت اليوم على الرءوس وخفقت فوق الهام، فستداس غدا بالأقدام إذا حمي وطيس الحرب واشتد الصدام:
ورافع نفسه بالكبر يخفضها
تدنو ويحسبها تعلو به درجا
أما أنا فرضيت منذ نعومة أظفاري بالقيام على باب السلطان، وسوف أبقى معززا ما دام النيران، فلا تغتر بلمسك السحاب؛ فإنك لا تأمن أن يمسك التراب:
ومن جهلت نفسه قدره
رأى غيره منه ما لا يرى
يا من ترفع بالدنيا وزينتها
ليس الترفع رفع الطين بالطين
إذا أردت شريف القوم كلهم
فانظر إلى ملك في زي مسكين
ذاك الذي عظمت في الناس همته
وذاك يصلح للدنيا وللدين
صفات الزاهدين
من صفات الزاهدين الصالحين عرفان الجميل، وحمد الله على المحبوب والمكروه، والطاعة في الحسنات، والقناعة بالقليل، والإحسان إلى المعوزين، والأمانة في التقى، والإخلاص في العبادة، والصبر على الشدائد؛ فمن كانت هذه صفاته فهو المقبول، ولو كان ممن يلبسون الديباج، ويركبون الهملاج، ويفترشون الحشايا بالعشايا.
أما من كان التراخي في العبادة والحماقة من نقائصه، والشره والغدر من غرائزه، يحفظه القول الخفيف، ولا تشبعه كسرة من رغيف، ولا يقنعه إلا اللحم الغريض والخل الثقيف، ولا يطفئ ظمأه سوى الماء المثلج في الإناء الظريف، لا يصلي إلا وهو يروم كيدا بصلاته، فيخدع الناس بتعبده وصومه وزكاته، ويلبس ثياب الزاهدين تغريرا بالناظرين ممن لم يسبروا غوره، ولم يقفوا على كنه أمره، فتارك الصلاة عمدا أقرب منه إلى الله، ومرتكب الموبقات جهرا أحسن عاقبة، وأفضل مغبة.
الجواب المسكت
حكي أن رجلا من صغار العقول الألى قضوا أعمارهم في الخمر والزمر، وأفنوا أيامهم في النرد والقمر، مر بحقل من الحقول، فرأى باقة من الأزهار والورد بينها كالياقوت في النحور، وقد وضعت الباقة في حشيش أخضر، فقال الرجل: عجبا لهذا النبت! كيف يدنو من ذلك الورد الأزهر ولا هو في قيمته وقدره، ولا في لونه وطيب عبيره ونشره؟! فانتفض الحشيش وقال بلسان من الله عليه بالفصاحة والبيان: عجبا لك أيها الإنسان العاجز، كيف جاز لك أن تعترض وتناجز! ألست تعلم أنني وإن كنت خلوا من لون الزهر، ورائحة الورد والعطر، فإن هذا لا يقلل من قيمتي، ولا يستدعي استصغار شأني ومذلتي؛ لأنني بأمر الله نموت كما نما الورد بإذنه، وهو جل وعلا الذي أرسل على الأزهار الزاهية قطره ونداه كما جاد علي بغيثه ومزنه.
في الزهد والقناعة
الحكمة ومتاع الدنيا
روي أن ملكا من ملوك مصر خلف ولدين، فاختار أحدهما العلم حليفا، والكتاب أليفا، وانقطع يطلب الحكمة، فكان يلتقط دررها أنى وجدها، ويصل للوصول إليها ليله بنهاره، وأصائله بأسحاره، حتى برز في أقرانه، وفاز على إخوانه، فعقدت له الحكمة لواءها، وقلدته تاجها وصولجانها، وفتحت له العلوم كنوز أسرارها، فما زال يسرح في رياضها، ويمرح في غياضها، حتى صار فريد عصره، ووحيد دهره.
أما الثاني فحسنت لديه الدنيا، فانطلق يجمع المال ويشيد القصور، ويؤسس دعائم العزة والسلطان، ويحشد الجنود والأعوان، حتى تمكن من دنياه، ونال منها مناه، فبنى الحصون والدساكر، وجمع الأعلاق والعساكر، فأذعنت مصر لبأسه وقوته، واستسلمت لبطشه وسلطته، فتفرد بالملك دون غيره، وخلا له الجو فباض وصفر، وطغى على أخيه واستكبر، فقال له يوما وهو يحاوره، وحوله وزراؤه وعساكره: لقد بلغت الذرى ونلت المنى، وأصبحت صاحب الحول والطول، فأعطتني مصر زمامها، وصيرتني أميرها وإمامها. أما أنت، فماذا صنعت بحكمتك وعلمك وفطنتك؟ ألا تزال أيها الغر حقيرا فقيرا؟ أعين أمثالك من الفقراء بفاضل ذيلي، وأعطيهم من نيلي، وهم في حاجتهم يقبلون الذرة، ولا يردون التمرة.
فاستخف الحكيم بقول ذلك الغشوم وقال له: الحمد لله الغفور الكريم؛ فقد قسم لي أن أرث الأنبياء المرسلين والحكماء الأخيار، واختار لك أن ترث الفراعنة العتاة الأشرار، واعلم يا أخي، أن مثلنا كمثل الأفعى والنحلة، فقد ركب السم في غريزتك، وأصبح الشر من طبيعتك، فأنت كالحشرة العمياء تلدغ من تشاء ومن لا تشاء، وكفاك شرا أنك كالعقرب تمس بأذاها ما تبغض وما تحب. أما أنا فكالنحلة الضعيفة الضئيلة، فليس لي حول ولا حيلة، ولئن قدحك الناس واستغاثوا من أذاك مرة مدحوني وحمدوا الله على خيري ألف مرة:
دع الحرص على الدنيا
وفي العيش فلا تطمع
ولا تجمع لك المال
فما تدري لمن تجمع
حكي أن وليا من أولياء الله لحقته الفاقة والحاجة، فأخلقت ثيابه، وتمزقت أهدابه، فجلس إلى جدار يرقع هدومه، ويرتق فتوقه، ويسد ثلومه، ويقول في نفسه: لئن بلغ مني السغب مبلغه، وعزت علي المضغة، وبدد الفقر شمل اللباس، فذلك أسهل لدي من بسط اليدين، وأخف علي من وطأة الدين. فمر به أبناء السبيل، ورآه أحدهم يخفي حاله بالانزواء في أركان الجدران، فقال له: أيها الفقير، كيف تبقى كذلك وفي هذا البلد الطيب محسن كريم الأخلاق، طاهر الأعراق، وله على المعوزين أمثالك يد بيضاء تقودها إلى فعل الخير شيم سمحاء؟!
فهو يسبغ على أهل الفاقة نعمته، ويطعمهم من جوع، ويؤمنهم من خوف، وينقذهم من الهوات، ويشد أزرهم إذا أصابهم الضيم والحيف، وإنه لو عرف حالك قتل فقرك، وفرج أزمتك، وستر عورتك، وخفف عنك ويلتك؛ فما عرفنا عنه أنه يخذل فاضلا قعد به الزمان، أو عالما لعبت به طوارئ الحدثان، فقال الزاهد: اعلم يا أخي، أن الزاهد يفضل أن يأوي إلى جحر اليربوع، وأن يموت من العري والجوع على أن يستجدي. وقد جاء في الحكم أن ترقيع الثياب خير من سؤال الأصحاب، وإحراق المرء بنار الوعيد سيدا أولى له من أن يدخل الجنة عبدا.
البرة العاجلة خير من الدرة الآجلة
سرت يوما في سوق بغداد، حيث يجتمع السائحون من رائح وغاد، فلقيت طائفة من تجار الجواهر قد التفت حول تاجر غريب، وهو يقص عليها من أخبار الأسفار كل مطرب وعجيب، فسمعته يقول: ضللت يوما سبيلي في صحراء متباعدة الأطراف، مترامية الأكناف، تضل في مفاوزها العواصف، وتتعثر في مهامهها الرياح القواصف، فلما أن استحكمت علي حلقات الضيق بعد أن ضللت الطريق، بقيت أخبط في الصحراء خبط عشواء، وأسير ذات الشمال وذات اليمين؛ علي أهتدي بعد حين.
وما زلت كذلك حتى نال مني الأين والسغب منالهما، وحتى حل القنوط بالقلب، واستولى اليأس على النفس، فارتميت في مكان لست أدري ماذا ساقني إليه، وتناولت صخرا أشده إلى بطني؛ لتعتمد الأمعاء عليه، وإني لأشد ذلك الصخر إذ بصرت بين الصخور والرمال بجراب من جلد الغزال، فظننت فيه رطبا جنيا، وأن ما فيه سوف ينقذني من العدم، ويريحني من العناء والألم، وكنت والله من الجوع بحيث لو رأيت صخرة لقضمتها، أو حية تسعى لالتهمتها، فما بالك بالرطب بعد الشقة والتعب؟! فأهويت بيدي إليه أريده، فما قاسيت والله في حياتي ألما أشد من ألمي لما فككت عقدته، وفضضت ختامه، ورأيت أن حشوه لآلئ غالية، وجواهر ثمينة، ومنذ ذلك اليوم علمت أن رغيفا من الخبز في المهمه القفر خير من الجوهر الغالي والدر:
لعمرك لا ينيل المجد مال
ولا خيل ولا إبل ترود
ولا ثوب على طرفيه وشي
ولا قصر على تل مشيد
فإن المجد في أدب غزير
وإن المجد في علم يفيد
خنازير البشر
بصرت بغني بادن مكسو ثيابا مطروزة، معتم بالدمقس، وممتط مهرة عربية وهو يسير في الطريق مختالا، مصعرا خده، معجبا بنفسه، فقال لي رفيق: ماذا ترى في هذا الخنزير يلبس الديباج، ويركب الهملاج؟ فقلت: مثله كمثل فحش القول منقوشا بماء الذهب، ولولا العمامة والقنطار والفرس لكان الإصطبل أجدر بهذا الفحل؛ لأنه لا قيمة له إلا بها، ولا قدر له إلا قدرها، واعلم أن العاقل مهما نالت منه الحاجة فهو غني بنفسه، والجاهل وإن صاغ بابه من ذهب، ورصف بيته بالزبرجد، واكتسى ثوبا منسوجا بخيوط العسجد، فلا هذا يعلي من قدره، ولا ذاك يرفع من ذكره.
الطبيب والملك
كل قليلا تعش طويلا وتسلم
من عوادي الأسقام والأدواء
إنما يغتذي الكريم ليبقى
وبقاء السفيه للاغتذاء
ورد في الآثار عن أزدشير بانجان أنه سأل طبيبا عربيا خبيرا بالعقاقير وتركيبها، والأمراض وأعراضها، عن قدر ما يكفيه من الطعام، فقال الطبيب: إن مائة درهم تسد الرمق، وتجدد القوى، وتعيد إلى البدن نشاطه، فقال الملك: وأي رمق تسد تلك الدراهم المعدودة وهي لا تشبع من سغب ولا تسمن من جوع؟ فقال الطبيب: إن هذا القدر يكفي القنوع، ويحفظ كيان الجسد، وأما ما زاد عنه فمجلبة العناء، ومدعاة العلل والأدواء. واعلم أيها الملك، أن المرء إذا وقف عمره على الموائد الممتعة والمآكل السائغة هلك.
حاتم طيء
تكلفني إذلال نفسي لعزها
وهان عليها أن أهان لتكرما
تقول: سل المعروف يحيى بن أكثم
فقلت: سليه رب يحيى بن أكثما
سئل حاتم الطائي عن أي الناس أعظم منه كرما، وأفضل نفسا، وأحسن شيما، فقال: ذبحت يوما أربعين حلوبة للأضياف، ثم سرت في البيداء أريد أمرا، فبلغت أجمة فيها رجل يحتطب، فقلت له: أما سمعت بكرم حاتم طيء وسماحته؟ قال : بلى، قلت: هلا استضافك؟ قال: ثكلتني أمي لو أنه استضافني وقبلت ضيافته، ودعاني فأجبت دعوته؛ فإنني ما دمت أستطيع الكسب بعرق جبيني، وتعب يميني، فمن العار أن يكون لكريم علي يد أغضي لها حين يغضب:
ولا خير في مال عليه ألية
ولا في يمين عوقدت بالمآثم
فقلت للمحتطب: أنا حاتم طيء، وأنت ورب الكعبة أعلى كعبا مني في الكرم، وأقرب إلى المروءة، وأسبق إلى محاسن الشيم.
فضيلة الصمت
سألني صديق عن طول صمتي وملازمتي للسكوت، فقلت له: إنني اخترتهما لأن الحديث يستلزم امتزاج طيب الكلام بخبيثه، وأذن العدو لا تسمع إلا المساوئ، فقال لي صاحبي: إن في ترقب العدو لما تقول وتفعل نعمة كبرى؛ فهو يغض الطرف عن الحسنات ويأخذنا بالسيئات، فيدعونا هذا إلى التنصل عنها والخلاص منها، قلت: لئن اتقى أحدنا الغرق كان اغتباطه به أعظم من اغتباطه بالنجاة منه.
كان سحبان وائل أخطب العرب، وأقواهم جنانا، وأفصحهم لسانا، وأبلغهم بيانا، يخطب في قومه عاما فلا يعيد لفظا مرتين، وإذا عرض له معنى كان ذكره احتال على البلاغة حتى تدله على قالب جديد يفرغ فيه المعنى القديم، وهذه صفة لازمة لمن يعاشرون الأمراء، ويخطبون في الناس، ويبتغون الكمال في فن الكلام.
سمعت كليما يقول: ما رأيت رجلا يعرض على الناس جهله، ويعرفهم بمقدار نقصه كمن يقطع الحديث على رجل، أو يسرع في القول ولما يفرغ مخاطبه، وقد قالت الحكماء: إن الأريب من كانت ألفاظه منظمة متناسقة متناسبة كالوشي في الثوب المطروز، والبليد من خلط الإصابة بالغلط، فإذا قال قولا عجز عن تبيين قصده، فلا يصيب ذهن محدثه سوى الاضطراب والتشويش؛ فهو كمن يملأ حفرة لا يدري أي الحجارة يقذف أولا.
الخطيب المزعج
كان لخطيب من الخطباء صوت يزعج النفوس، ويؤلم الأسماع إذا استأذن عليها، وكان إذا خطب أن الناس ألما، وتميزوا غيظا، فكان يظن أنينهم إعجابا بصوته، وأنهم يطربون لوقعه، فكأنه لم يتل قوله تعالى:
إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ، ولما كان هذا الخطيب ذا مكانة في نفوس قومه ، كانوا يحتملون الضيم في سماعه، ويفضلون أن يؤلموا أنفسهم على أن يؤلموه في نفسه.
فحدث أن خطيبا نزل بالبقعة التي كان فيها صاحب الصوت الفظيع، وكان بينهما حقد، فقال له يوما: رأيتك فيما يرى النائم تخطب في الناس بصوت لطيف يبهج السامعين، فكانوا مقبلين على صوتك إقبالهم على قولك، فدعوت الله أن يحقق ذلك الحلم، ويا حبذا لو صحت الأحلام، فقال الخطيب ذو الصوت المزعج: لعل الله يجيب دعاءك، ويحقق رؤياك؛ فقد نبهتني إلى عيب في نفسي كنت عنه غافلا، فجعلتني أفطن منذ اليوم إلى قبح صوتي، وسوف أبدأ بتخفيف وطأته على الأسماع، فيكون في ذلك تحقيق لحلمك وراحة للناس.
قرناء السوء
سئل حكيم عن قرناء السوء، فقال: هم الذين إذا جالسوك ذبحوك بمدحهم، وأغمضوا عيونهم لعيوبك، وغضوا أبصارهم عن ذنوبك، وبدلوا سيئاتك حسنات، ورذائلك خلالا فاضلات، وقالوا عن باطلك إنه حق، وعن سمك إنه ترياق، ولا خير في هؤلاء وإن كانوا من الأصدقاء، وإن عدوا جسورا لا يملقك ولا يداجيك أفضل من صديق يخدعك ويغشك، فلا يكون الرجل كاملا إلا إذا عرف عيوب نفسه، فأخذ في إصلاحها. أما من لا يود أن يسمع عن نفسه إلا الثناء فهو فريسة الغرور، وهيهات أن ينتبه من غفلته، أو يصحو من نشوته قبل أن يفوت الأوان، وتصير الأغصان أخشابا؛ فيعجز عن تقويم اعوجاجها.
خطيب المسجد
يحكى أنه كان في مسجد من مساجد سنجار مؤذن تجزع النفوس من قبح صوته إذا دعا الناس إلى الصلاة، وكان صاحب المسجد أميرا فاضلا؛ فلم يشأ أن يسيء الرجل في نفسه فقال له: إن في هذا المسجد غيرك من المؤذنين ثلاثة شهد لهم بالحذق والبراعة وحسن الصوت، ولا يزالون في عنفوان الشباب. أما أنت فقد بلغت سنا ينبغي أن تلزم فيه دارك، فإذا أردت ذلك أعطيتك ضعف ما تناله الآن، فقبل المؤذن الثقيل تلك العطية، وأراح المصلين من أذى صوته.
وقد لقيه صاحب المسجد بعد حين فسأله عن حاله، فقال: قصدت مسجدا غير مسجدك وشرعت أؤذن، فلما أن قضيت يومي قال لي صاحب المسجد: إنه في غنى عني، ففطنت إلى أنك لم تجعل لي جعلا إلا لقبح صوتي، وذكرت ذلك لصاحب المسجد فمنحني عشرين دينارا، على أن أولي عنه، فقال صاحب المسجد الأول: تشدد يا بني في الطلب؛ فإن مولاك الجديد لا يألو جهدا في صرفك عن مسجده، ولا يدخر وسعا في الخلاص منك ولو كلفه ذلك خمسين دينارا مشاهرة.
الشيخوخة
يا عجبا للناس لو فكروا
وحاسبوا أنفسهم أبصروا
وعبروا الدنيا إلى غيرها
فإنما الدنيا لهم معبر
كنت أجادل بعض أهل العلم في المسجد الأقصى بدمشق، وإنا لكذلك نقرع الحجة بالحجة، ونصدم البرهان بالبرهان، وإذا بصبي يشق صفوفنا حتى وقف بين أيدينا، وسألنا عن رجل يعرف الفارسية، فحول الجمع أبصارهم إلي، ودلوا الفتى علي، فاستدعيته وقربته وسألته عن حاله، فقال: إن شيخا يعالج سكرات الموت، وهو يتكلم الفارسية وليس بين أهله من يفقه قوله، ولعل الشيخ يوصي فتذهب وصاياه هباء جزاء جهل أهله بلسانه. فوقع كلام الفتى من قلبي، وصح عزمي على اصطحابه إلى حيث يكون ذلك الشيخ.
فلما بلغناه وجلست إليه سمعته يقول بالفارسية: «ما أوشكت أن أطمئن وأشعر بلذة الحياة حتى سئمت نفسي البقاء، فكنت كالضيف الجائع إذا جلس إلى المائدة لا يكاد يستقر به المكان حتى يصرفه رب الدار.» فلما فسرت هذا القول لأصحابي من العلماء عجبوا لتعلق الرجل بأهداب الحياة، وهالهم أن يخشى الموت من كان شيخا مثله بعد أن نال من العيش مناه. ولما فرغ الشيخ من قوله سألته عن حاله، أنشد:
ما راح يوم على حي ولا ابتكرا
إلا رأى عبرة فيه إن اعتبرا
ولا أتت ساعة في الدهر فانصرفت
حتى تؤثر في قوم لها أثرا
ثم قال: «كيف تسألني؟ ألست تعلم لشدة ما تعانيه إذا انتزع الطبيب من فيك ضرسا؟» قلت: نعم، قال: «إني أقاسي أضعاف هذا الألم لدى نزع النفس من البدن، والله إنني أريد سفرا بعيدا بغير زاد، وقادم على ملك عادل بغير حجة، وسأسكن قبرا موحشا بغير أنيس، مثل الجواد والإبل.»
سرت يوما وأنا بعذرة الشباب في واد حتى بلغ مني الأين، ونال التعب مني منالا، وفرى المسير جلد قدمي، وكنت بلغت سفح الجبل فاستلقيت منتهكا لا أقدر أن أحرك ساكنا، وإني لكذلك وإذا بشيخ كان مسافرا قد بلغ مكاني، فلما رآني قال: كيف تلقي رحلك بسفح الجبل؟
فقلت: عجزت يا عماه عن السير، ولست أستطيعه؛ لذا تراني رقدت حيث أمكنني الرقود، فقال: ألا تعلم أنه خير لك أن تسير الهوينى وأن تستريح قليلا من أن تسرع في المشي فينهكك التعب، ويلجئك الكلل إلى ما لا تحمد عاقبته؟ واعلم يا ولدي، أن الجواد الكريم الذي إذا سابقته الريح ولت عليلة، وألقى في يد الريح التراب، لا يسير أكثر من ميل، أما البعير المتثاقل، فيستطيع أن يصل في سيره الليل بالنهار، والأصائل بالأسحار؛ لأن الأول ينهك نفسه، والثانية تسير بالأناة والتؤدة.
الشيب
ما تنقضي حسرة مني ولا جزع
إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع
ما كنت أوفي كنه عزته
متى انقضى فإذا الدنيا له تبع
رأيت في مجمع حافل بالفضلاء والعلماء فتى غض الشباب، لدن الإهاب، حسن الهيئة والثياب، حلو الفكاهة والحديث، وما رأيته مرة عابسا، إنما كان دائما باشا هاشا؛ لأن الحزن لم يطرق باب قلبه، ولم تخترق سهام أسى صميم فؤاده، وضرب الدهر بيننا فافترقنا، ولقيته بعد ذلك فإذا هو ذو زوجة وأطفال، فلما جلست إليه لمحت أن ورد خدوده قد اعتراه الذبول، وأن فراغ البال وسعادة القلب وصفاء النفس قد تبدلت، فصارت أحزانا مقيمة وهموما مستديمة، فسألته عن حاله، وكيف غير الزمان ما به؟
فقال: كنت قبل العيلة خلي البال فتيا، حتى رزقت أولادا فبلغت من الكبر عتيا، وقبيح بالشيخ أن يعود صبيا، وقد دلتني الخبرة على أن الشباب جنون لا يزول إلا بالشيخوخة، وأن فراغ البال داء يعالج بالمحنة؛ لذا تراني اليوم أعقل مني بالأمس وأشغل خاطرا:
تولى الجهل وانقطع العتاب
ولاح الشيب وافتضح الخضاب
لقد أبغضت نفسي في مشيبي
فكيف تحبني الخود الكعاب؟!
الشعر والظهر
رأيت امراة لحقتها الشيخوخة، فذهبت نضرتها، وتجعدت أسرتها، وابيض شعرها، وانثنى ظهرها، فصبغت شعرها خلاصا من عارها، فقلت لها: لئن استعدت بالصبغ سواد الشعر، فكيف تستعيدين اعتدال الظهر؟! ورأيت رجلا أدبر صباه وتولى عنه الشباب، وأقبل عليه الشيب، فحاول إخفاءه بالخضاب، فقلت له:
يا خاضب الشيب بالحناء تستره
سل الإله له سترا من النار
من يرحل الشيب عن دار يلم بها
حتى يرحل عنها صاحب الدار
ولا تنهرهما
كنت في جنون شبابي أنهر أمي، فجلست أمامي يوما وأسندت رأسها بيدها وبكت حتى أبكتني، وقالت لي: هل نسيت أيام طفولتك حتى تسيء إلي، وأنا التي أحسنت إليك، وسهرت عليك، أم زينت لك نفسك أن تقابل الكرامة بالإهانة، وأن تكافئني على الخير بالشر - وكلا الأمرين مر؟! وما زلنا نبكي وأستعطفها وتلومني حتى ثبت إلى الله، وثبت إلى الحق، فعفت عني، وما زلت أكرمها وتحبني حتى فرق الموت بينها وبيني، فخرق الحزن قلبي، وقرح البكاء عيني.
التهذيب
كان حكيم يهذب أحداثا فقال لهم: يا أكباد آبائكم، تعلموا حرفة ولا تعتمدوا على ما لديكم من ثروة أو متاع؛ لأن من اعتمد عليهما وقصر في تعليم نفسه هلك، واعلموا أن الذهب واللجين منبع المتاعب ومصدر المصائب، فإن لم يسلبها سالب أسرف فيها صاحبها وبذرها، أما الحرفة فكالبئر البكر لا ينضب معينها، أو الأرض الخصبة لا يهلك زرعها، ولو أن صاحب فن فقد مالا فلا يحزنه ذلك؛ لأن في فنه ماله وغناه، ولا يعزب عن أذهانكم أن الإكرام والتبجيل لا يكونان إلا لذي صنعة، أما من لا صنعة له فنصيبه المذلة والهوان والفقر. •••
حدثت في دمشق الفيحاء ثورة، فهاج البلد وماج، فلما أصاب المدينة من الاضطراب ما أصابها اختلط الحابل بالنابل، وضربت الفوضى أطنابها، فتخلى الوزراء عن مناصبهم، وترك الكبراء مراتبهم؛ ففاز المهذبون من أبناء الفقراء بتلك المناصب، وكان نصيب الأغنياء الجهال الفقر وذل السؤال:
العلم يرفع بيتا لا عماد له
والجهل يخفض بيت المجد والشرف
مرض تاجر غني وشعر من نفسه بدنو أجله، وانقضاء عمره؛ فاستدعى ولدا له وأوصاه فقال: يا ولدي، إن ورثتني وفزت بثروتي فلا تهمل تهذيب نفسك وتدريبها على عمل من الأعمال؛ فقد يذهب الذهب، وتدول دولة الغنى، ولا ترى لك نصيرا تلجأ إليه في الفاقة، وتستغيث به لدى الحاجة، فلا يبقى لك سوى ما اكتسبت من المعرفة، وما علمته بالممارسة.
سمعت أستاذا يقول لتلميذه: لقد شغلت الدنيا قلوب الناس، ولو أنهم شغلوا أنفسهم بخالقهم عشر شغلهم بها لكان مكانهم في الجنة أعلى من أماكن الملائكة، ولو فطن الإنسان إلى أن الله لم يتركه سدى وهو نطفة مذرة، بل وهبه نفسا زكية، وفؤادا عاقلا، وحلاه بحلية النطق، وجعله في أحسن تقويم لم يخش قط أن يهمله أو يعوق عنه رزقه.
صبر الحكماء
احتسب عالم في ولد له، فلما ووري التراب سألوه عن أي آي القرآن الكريم يكتبون على قبر ولده، فقال: إن آيات الكتاب الكريم أرفع من أن تكتب على القبور؛ فقد يعدو الزمان عليها فيطؤها الناس بأقدامهم إذا طال العهد على الجدث وتهدم، وإذا كان لا بد من النقش على اللحد فانقشوا: «كان ولدي كزهرة الربيع، فتعهدتها حتى نمت وأزهرت، ولما أن جاء الخريف ذوت وذبلت، فمصابي بها مصاب الزارع حرث وغرس، فلما أن نضج الزرع أرسل الله عليه وابلا من السماء؛ فهو جل وعلا منع ما أعطى، واسترد ما منح، فله الحمد من قبل ومن بعد.»
حكم ومواعظ شتى
المال متاع الحياة الدنيا، وما كانت أعمار الرجال لتقضى في حشد أموال.
سئل حكيم عن أسعد الناس وأشقاهم، فقال: «أسعدهم من زرع وحصد، وأشقاهم من خلف التراث للوارث، وترك المال للولد.» •••
مثل العالم الذي لا يعمل كمثل حامل الشعلة يضيء لغيره ولا ينتفع بالنور.
إن مثل من لا يسعى إلى غرض في حياته كمثل من ينثر ذهبا في الطريق وهو إليه في حاجة شديدة. لا بد لثلاث من ثلاث: الثروة تحتاج إلى حرفة، والعلم يحتاج إلى الجدل، والشعب إلى حكومة. •••
لا تكشف لكل سرك؛ فإنك لا تدري ماذا تكتمه لك الأيام؛ فقد يصبح الصديق عدوا؛ فيكون أعلم بمضرتك. إذا سهل لديك الانتقام من عدو لك فلا تفرغ جهدك في أذاه؛ فلربما احتجت إليه في المستقبل. إذا تمكنت من عدو لك فلا تشفق عليه في ضعفه؛ فلربما لا يرحمك في قوته.
لا تكن رسول سوء؛ فإذا علمت خبرا يسيء فلا تكن بإفشائه بادئا، واترك ذلك لغيرك، واعلم أن بلابل السحر تنقل كل خبر سار، والغربان والبوم تنبئ بأخبار الهلاك والدمار.
رضى الجسم مع سخط القلب كجمال القشور وقبح اللب.
لا يخدعنك جمال الوجه؛ فقد يكون الجسم مليحا والروح قبيحا، واعلم أن الفضيلة كامنة في نفوس الرجال لا في أبدانهم. لا يستهان بالدرة أينما كانت، ولا يؤبه للغبار ولو حمله الهواء إلى عنان السماء. المسك يعرف بعبيره.
الحكيم كوعاء الدواء؛ فهو صامت ولكنه مملوء بالفوائد، أما الجاهل فكالطبل كثير الجعجعة قليل المنفعة.
أمران مخالفان للحكمة: أن يتمتع المرء بأكثر مما في وسعه، وأن يعمل على قتل نفسه قبل انقضاء أجله.
اعلم أن آهة المحزون لا تبدل حرفا مما كتب على الجبين، ومثل القضاء كمثل مصرف الرياح يطلقها في الوديان والبطاح، فتصلح زرعا وتهلك نبتا، وتميت فردا لتحيي جمعا.
الساعي يطلب رزقا ليس له كالفارس في قفر أو كالزارع في صخر.
يقول مؤلف هذا الكتاب:
انتهى كتاب روضة الورد بعون الله وفضله، وقد اعتاد المؤلفون أن يزينوا كتبهم بما يقتبسونه من شعر القدماء وحكمهم، أما أنا فقد استعنت بالله واكتفيت ببضاعتي المزجاة، وصدفة لك خير من درة تستفيدها ممن كان مثلك.
الكتاب الثالث
كتاب أونادايجاكو أو التعليم الراقي للمرأة في اليابان
نقله من اليابانية إلى الإنكليزية
العلامة شتجور وتاكاياشي
ومن الإنكليزية إلى العربية
محمد لطفي جمعة
مقدمة
الثورة اليابانية
كل مؤرخ يبحث في تايخ اليابان الحديث ويدون أسباب نهضتها يذكر أن تاريخ تلك النهضة، وحوادث ذلك العصر الذهبي تبتدئ منذ زار القومندور بيري الأمريكي شواطئ اليابان على ظهر مدرعته الحربية، التي كان اليابانيون يسمونها «المركب السوداء»؛ لهول منظرها وعدم اعتيادهم إياه ، ويقول اليابانيون أنفسهم: إن طلقة المدفع الأولى التي أطلقتها المدرعة في الفضاء كانت إيذانا بتغيير حياة اليابان، ونهوضهم من سباتهم العميق، وتنبههم بعد غفلتهم، وصحوهم بعد سكرتهم، بل رفعت تلك الطلقة الأولى غشاوة كانت تحجب نور المدنية الغربية عن اليابان، فسعوا إلى الاختلاط بأصحاب تلك المدنية بعد طول الوحدة، ولحقوا بالأمم الكبرى في سنين معدودة.
وكانت زيارة القومندور بيري التي زار فيها اليابان لتوطيد عرى المودة بينها وبين جمهورية الولايات المتحدة في سنة 1853، وقد احتفل اليابانيون في طوكيو منذ سنين قلائل بمرور خمسين عاما على تلك الزيارة احتفالا شائقا، اعترفت فيه الأمة اليابانية بأسرها بفضل القومندور بيري، وفضل بلاده عليها.
ويحسن بنا في هذا المقام أن نصف الحال التي كانت عليها اليابان في ذلك العهد؛ فقد كانت الحكومة تسير بمقتضى نظام معروف باسم «توكوجاوا شيجون»، وهو النظام الذي كانت تسير عليه أمم أوروبا في القرون الوسطى، وقد جاهد واضع هذا النظام - وهو مؤسس أسرة توكوجاوا - جهده في إحكامه حتى بقيت أسرته متمتعة بالحكم قرنين ونصف قرن، وهذا أطول أمد دام فيه الحكم لأسرة التزامية. وكان الشيجون في مبدأ الأمر وكيل الإمبراطور - المعروف في أوروبا باسم الميكادو - ولكن العلاقة بين الميكادو ووكيله لم تكن مكتوبة في شرائع البلاد وقوانينها، إنما كانت عرفية؛ لأن السلطة التي كان يتمتع بها الوكلاء انتزعت من الإمبراطور على ممر الزمان بطرق سلمية، فأصبحت على كر القرون ومر السنين كأنها حقوق شرعية ثابتة لا نزاع فيها.
ولم تكن سلطة الوكيل محدودة؛ فكان يؤذن الناس بأنه المفوض الوحيد الذي له حق المراقبة على كل شيء، وأن الإمبراطور يرضى ما يرضاه ويأبى ما يأباه، ولا يعترض على شيء قبله الوكيل، وبالجملة فقد تخلى الميكادو عن كل ما له من النفوذ والسلطة، وتنازل عن سائر حقوق الملك سوى الجلوس على العرش وهز الصولجان.
وكان من حقوق الوكيل الإمبراطوري أن يعلن الحرب على أمة أجنبية، وأن يسالمها ويعقد معها اتفاقية الصلح بدون علم الإمبراطور وبدون استشارته، وكان الوكيل يسكن يدو «طوكيو الآن» هو وسائر رجال حكومته، كما أن الإمبراطور كان يقطن كيوتو. وغني عن البيان أن الشأن الأول كان لطوكيو التي أصبحت عاصمة البلاد لثروتها، ووفرة سكانها، واتساع تجارتها، وما فيها من أسباب الرفاهية والترف.
وكان تحت سلطة الشيجون أو الملتزم الأعظم ثلاثمائة ملتزم يسمى الواحد منهم دايمبو، ولكل دايمبو من هؤلاء الثلاثمائة أرض وجند ورعية خاصة به. وقد وضع مؤسس أسرة توكوجاوا قانونا خاصا ببلاد اليابان جعل شعاره عدم اختلاط أمته بأية أمة من أمم الأرض قاطبة.
وكانت هذه الوسيلة أفضل الوسائل لحفظ الأمن والنظام في البلاد، وإذعان الشعب الياباني للشيجون وطاعته طاعة عمياء في كل ما يأمر به وينهى عنه، وقد بلغ جهل الأمة بما وراء بلادها أنها لم تكن تعرف غير بلاد الشمس المشرقة وبلاد الصين، ولم يكن يعلم بوجود أمريكا وإنكلترا سوى نفر قليل؛ فلا تستغرب - والأمر كما ذكرنا - دهشة اليابانيين لما علموا بوجود أسطول أمريكي على مقربة من خليج يدو.
وقد جزعوا وهلعت قلوبهم وتولاهم الوجل والفرق لما علموا بوجود مركب أجنبية؛ لأنهم حسبوا أنهم سيذهبون هباء إذا دخلوا مع الأجانب في حرب؛ لأنهم لم يعرفوا معنى العلاقات الودية بين الأمم والشعوب، إنما كانوا يعرفون من سياسة الأمم أمرا واحدا، هو أنه لا بد من هلاك الأمة الضعيفة إذا احتكت بأمة قوية، وأن توثيق عرى الصداقة بين شعبين مختلفين يعد من المستحيل؛ لأن الضعيف مهما أخلص للقوي لا بد من أن تدور عليه الدائرة.
ولنعد الآن إلى حديث المركب السوداء التي أثار مجيئها كامن الداء؛ فتنبهت اليابان إلى أمرها من فرط دهشها، وعلمت أن وراء بلادها أمما كبرى، ومتاجر واسعة، ومصانع عظيمة، ومن عجائب تلك الأمم هذه السفائن المهولة المخيفة، وكذلك كان بلوغ مدرعة القومندور بيري نذيرا مبينا بسقوط دولة توكوجاوا. وتفصيل الخبر أن حكومة يدو التي يرأسها وكيل الإمبراطور استعظمت الخطب، ورأت أن الفصل فيه أصعب من أن تستطيعه؛ فاستدعت سائر الملتزمين.
وعقدت مؤتمرا للبحث فيما يجب القيام به نحو الأعداء المهاجمين، ثم رفعت إلى الحكومة الإمبراطورية التي كان مقرها كيوتو - على ما ذكرنا - تقريرا فيه تفصيل خبر بلوغ الأسطول الأمريكي شواطئ اليابان، وكانت هذه أول مرة استشارت فيها حكومة الوكيل سائر الملتزمين، ورفعت تقريرا رسميا إلى الميكادو، فكأنها في الواقع أقرت بعجزها، واعترفت بضعفها، وتنازلت تنازلا حقيقيا عن سائر حقوقها الاستبدادية التي تفردت بها في الحكم. هذا ما كان من أمر الحكومة.
أما ما كان من أمر الشعب، فقد أبى أغلب أهل البلاد أن يفتحوا بلادهم للأجانب؛ محتجين بأن الوحدة أمر يقضي به الدين عليهم، وأنهم إذا كفروا نعمة العزلة التي نشئوا هم وآباؤهم عليها كان ذلك مجلبة الدمار على الديار، ولكن البلاد كانت في الواقع منقسمة إلى ثلاثة أحزاب: الحزب الأول حزب الأحرار، وهو الذي أشار بفتح أبواب اليابان في وجه الأجانب ومعاملتهم، والاختلاط بهم، وكان أنصار هذا الحزب يرون ما يراه أنصار حزب التجارة الحرة في البلاد المتمدنة الآن، ولكن قلة عدد هذا الحزب كانت سببا في عدم العناية بآرائه.
أما الحزب الثاني فكان من المحافظين الذين يرون ضرورة العزلة في كل وقت، ما عدا الوقت الحاضر، وهؤلاء كانوا يلحون على الحكومة في التصريح للأجانب بالدخول ريثما تتخذ اليابان أهبتها، وتعد عدتها لمكافحة الأعداء المهاجمين في مستقبل الأيام. وكان هذا الرأي منتشرا بين فئة كبيرة جدا من المنورين والمهذبين، وقد انتحلته حكومة يدو - حكومة وكيل الميكادو - نفسها. وقد استغرقت هذه المسألة السياسية عاما بالبحث فيها، وكان القومندور بيري لما طلب الدخول في 1853 وعاقته الحكومة أمهلها، بعد أن وعدته بالفصل في المسألة، عاما آخر، ثم عاد إليها في 1854، وطلب منها الوفاء بوعدها؛ بأن تجيبه جوابا صريحا، وبعد التي واللتيا قر قرار حكومة يدو «طوكيو» على افتتاح أبعد المواني الصغيرة التي لا شأن لها منذ عام 1858 للتجارة الأجنبية.
فأحفظ
1
هذا القرار سائر الطبقات العالية اليابانية، وظنوا تصريح الوكيل للأجانب بدخول بلادهم انتهاكا لحرمتها، واحتقارا لشأنها، ومعولا لهدم عزلتها. وفي أثناء تلك الثورة الفكرية قام بعض العلماء والمفكرين ونشروا بين الشبيبة اليابانية مذهبا سياسيا جديدا ، وهو الالتفاف حول عرش الميكادو وتعزيز شأنه، وكانت هذه الفكرة قد أذيعت منذ نصف قرن وكمنت، ولم تظهر وتزهر وتثمر إلا في تلك الظروف.
فنهضت الأمة اليابانية عن بكرة أبيها، وألفت حزبا واحدا لا غرض له إلا مقاومة حكومة الملتزمين، واتقاء ما يصيب الوطن والأمة على أيدي تلك الحكومة التي صرحت للأجانب بأن يطئوا أرض الشمس المشرقة، واتخذت الأمة بأسرها شعارا تنادي به على رءوس الأشهاد، وهو «سو-نو-جوي»، ومعناه «أكرموا الإمبراطور واطردوا الأجانب»، وكان هذا النداء مبدأ الثورة اليابانية.
والمشاهد في مثل هذه الأحوال أن المسائل الصغيرة تكون منشأ للمسائل الكبيرة؛ فقد حدث أن اليابانيين حولوا أنظارهم عن مسألة إدخال الأجانب، وانتبهوا إلى مسألة عظمى، وهي انتخاب حكومة قوية الجانب تتناول أعمال الأمة بحزم وهمة، وتحفظ كرامة البلاد كما كان يحفظها الآباء والأجداد. ولا ريب في أن منشأ هذه الفكرة كان ضعف حكومة «التوكوجاوا شيجون» الذي أظهرته بإذعانها لوعيد قائد الأسطول الأمريكي القومندور بيري.
وقد أسست في ذلك الحين جمعية سياسية سرية كانت غايتها إنقاذ البلاد من أنصار الاستبداد، واسمها «ليتوكلان ساموراي»، وبدأت برئيس الوزارة في حكومة الوكيل الإمبراطوري، وهو تايرو لي، فقتلته أبشع قتلة؛ لأنه كان ينتقم من أعدائه في السياسة بالقتل والذبح والسجن الأليم.
وقد خسرت حكومة الشيجون بموت هذا الوزير خسارة كبرى؛ لأن الوكيل أصبح عاجزا عن تدبير شئون الشعب الياباني، فسارت الفوضى في البلاد، وضاعت حقوق العباد، وانتهكت الحرمات وساد الفساد. وبعد قليل من الزمن اقترح بعض عقلاء الأمة نظاما يوحد الحكومتين، ويوفق بين الطرفين، فيشترك الوكيل مع الإمبراطور في الملك، ويشترك الإمبراطور مع الوكيل في الحكم. وهذا ما يسمى الآن بالسلطتين الاسمية والفعلية.
ويظهر لنا أن أغلب الملتزمين عضدوا ذلك الاقتراح المعقول ووافقوا عليه؛ لأن حبهم للإمبراطور كان يعادل طاعتهم لوكيله، وهو رئيسهم الأكبر، ومقسم أرزاقهم، وواهبهم أملاكهم، ولكن أنصار هذا الاقتراح لم يخطر ببالهم أنه سيؤدي إلى زوال دولة الوكيل وسقوطها سقوطا لا نهوض لها بعده.
وكان في اليابان في ذلك العهد فئة من الأشراف تسمى فئة الكوج، وهم أشراف البلاط الإمبراطوري، وكانت هذه الفئة بالطبع متفانية في حب الميكادو؛ لأنه لم يكن يحجب نفسه عن فرد من أفرادها، كما أنها لم تكن متعصبة للشيجون لاستغنائها عنه وعدم ارتباطها به. وكان هؤلاء الأشراف من سلالة النبلاء الذين كانوا يلتفون حول العرش الإمبراطوري قبل أن يتغلب الوكيل على الميكادو، ويسلبه سائر حقوقه الشرعية، ويحرمه من التمتع بالعرش الذي ورثه عن آبائه وأجداده.
فلما دالت دولة الميكادو، وأصبح الحل والعقد بيد الوكيل، قل نفوذ هؤلاء النبلاء، وأصبحوا كواو عمرو لا نفع لهم ولا نفوذ، واقتصروا على حضور بعض الاحتفالات الرسمية في البلاط الإمبراطوري، بعد أن كان لهم في عهد السلطة الإمبراطورية من القوة والشأن ما لم يكن لغيرهم، فكأن العداوة بين الوكيل والأشراف كانت طبيعية؛ لأن في قوته ضعفهم، وفي فوزه فشلهم، وفي غناه فقرهم، وفي مجده خزيهم وعارهم.
فلما سنحت لهم تلك الفرصة نهضوا نهضة كبرى، وعضدوا الحزب الإمبراطوري بكل ما في وسعهم، وكان بينهم جماعة من كبار السياسيين، فدبروا من المكائد ما دبروا، ولم يألوا جهدا في خذل حكومة طوكيو، ولم يدخروا وسعا في نصرة الميكادو، وقام بعضهم يقول بأن الحكومة المزدوجة لا تنفع ولا تفيد، ولا يمكن للأمة اليابانية أن ترضى إلا برد حقوق الإمبراطور إليه، والاعتماد في سائر شئون الدولة عليه، وكان حزب من الشبان المنورين الفقراء يسعون في التقرب من بلاط الإمبراطور؛ فلم تفر تلك الفرصة من أيدي الأشراف، بل انتهزوها وانتفعوا بها؛ بأن عضدوا هؤلاء الشبان، فأشار الشبان على رؤسائهم وأولياء نعمتهم من الملتزمين بتعضيد الإمبراطور.
ثم طلبوا ذلك التعضيد منهم ملحين ملحفين، وبعد قليل انضمت عشيرة جديدة اسمها عشيرة شيوسكي إلى العشيرة الأولى، فقوي حزب الإمبراطور في زمن قصير. فلما اشتد ساعد الأشراف اشتغلوا بالدسائس السياسية، ودبروا دسيسة لخلع وكيل الإمبراطور، ونزع السلطة من حكومته مرة واحدة، ولكن الوكيل اكتشف الدسيسة وسعى في الانتقام من المدبرين، ولما علم الإمبراطور كومي، سلف الإمبراطور الحالي متسوهينو، بافتضاح أمر الأشراف غضب عليهم ، وأبعد من اشتغلوا بالدسائس، وقال: إنه يقنع بالسلطة المزدوجة؛ أي باشتراكه مع الوكيل في حكومة البلاد. وكان هذا الرأي هو الغالب لدى فئة من الأشراف المعتدلين، ولكن القدر لا يعوقه شيء، والدول إذا دالت لا ينفعها الحذر، والحين إذا حان لا يؤجله إنسان، وكذلك كانت الحال في بلاد اليابان؛ فقد آن لها أن تخلص من ربق الشيجون مهما قنع الإمبراطور بالقليل، ومهما افتضح سر المتآمرين.
فقد شعر الوكيل أن مركزه أصبح حرجا للغاية، وأن القوة التي كان آباؤه وأجداده متمتعين بها من قبله قد أصبحت قوة وهمية، وقد استبان أن أسلافه هم الذين أخطئوا وأوقعوا نسلهم في تلك البلية؛ لأنهم لم يحتفظوا بالشرائع الوطنية، ولم يراعوا مصلحة الأمة اليابانية، بل عاثوا في الأرض فسادا، وحصروا في أنفسهم السلطة الاستبدادية، وتفردوا بالحكم؛ فجنوا عليه تلك الجناية.
ومنذ ذلك اليوم بقيت حكومة طوكيو على ما هي عليه، ولكنها صارت جسما بلا روح، وأصبحت هدفا لسخط العشائر والقبائل؛ فقامت عشيرة نوسا، وهي لا تقل في الأهمية والنفوذ عن العشائر التي عضدت الإمبراطور، وعرضت على حكومة الوكيل التسليم للقضاء والقدر، والتنازل عن الحكم، ورد حقوق الإمبراطور الشرعية إليه.
ولو لم يكن نفوذ الوكيل قد ولى وأدبر لما أصغى لذلك الطلب، ولكنه انتهز تلك الفرصة وأظهر حبه وطاعته للإمبراطور، ورأى أن الحكمة تقضي عليه بالتنازل عن سلطته بمحض إرادته؛ لئلا يرغم على ذلك قسرا وجبرا، فيكون سببا في محو اسم أسرته من تاريخ اليابان بعناده، وفي هذا من العار ما لا يمحوه كر الأيام ومر الأعوام، وفي سنة 1867؛ أي بعد زيارة الأسطول الأمريكي لمياه اليابان بأربع عشرة سنة، تقدم الشيجون توكوجاوا، واسمه كيكي، إلى الإمبراطور الحالي تستوهيتو، والتمس من جلالته أن يقبل منه تنازله عن سلطته الإدارية ليتفرد بها الإمبراطور.
وقد استدعى عمل الوكيل إعجاب أهل وطنه بشممه وشجاعته وصبره وقناعته، كما امتدحوه لبعد نظره وحكمته؛ فقد استغنى مع تنازله عن السلطة الفعلية عن بلاطه في طوكيو، وكان شاملا لسائر الملاذ التي يتمتع بها الملوك والسلاطين، وعاش عيشة الملاك والملتزمين، ولكن الأشراف وحزب الأحرار المتطرفين أبوا عليه أن يبقى له شيء من هذا، وطلبوا أن يتنازل عما يملك من الأراضي، ويتخلى عن أتباعه وعشيرته.
ويظهر أن التوفيق بين حزب الأشراف وبين حزب الوكيل كان أصعب من التوفيق بين النار والماء؛ لأن جماعة النبلاء كانوا يريدون تأسيس حكومة قوية تكون سلطتها محصورة في يد الإمبراطور مباشرة، وأن لا يكون للوكيل أدنى علاقة بها؛ فهاج هذا التطرف والتشدد غضب أنصار الوكيل، فأشاروا عليه بإعلان الحرب الوطنية على الحزب الإمبراطوري، ولكن جيشه لم يوشك أن يحشد حتى هزمته إحدى القبائل المحازبة للإمبراطور على مقربة من بيرو «طوكيو»، فلجأ إليها، فقر قرار الحزب الإمبراطوري على تجريد جيش عرمرم لأخذ طوكيو، ولما علم الوكيل كيكي بذلك تنازل مرة ثانية عن سلطته بمحض إرادته.
هذا مع العلم بأن أغلب الملتزمين برجالهم كانوا طوع أمره؛ لو أنه أراد الحرب لجرد جيشا أعظم وأقوى عددا وعددا من جيش الإمبراطور. وقد حدث أن العشائر المحازبة للوكيل حشدت جيشا لمحاربة الإمبراطور دفاعا عن حقوقها ومنافعها، التي أصبحت مهددة بعد تنازل الشيجون كيكي، وقد أظهروا في الحرب من الشجاعة والشهامة والإخلاص ما يمدحون عليه، ولما أن هزموا في جنوب اليابان ساروا إلى شمالها، وأسسوا في هوكايدو جمهورية يابانية، ولكنهم هزموا مرة ثانية وردوا إلى حظيرة الطاعة بعد العصيان.
ومن بين الذين قادوا جيوش ذلك الحزب الجمهوري الفيكونت هباشي، سفير اليابان في بلاط سان جيمس بإنكلترا، وكان من زعماء حزب الشيجون، وقد حارب إلى أن لم يبق في القوس منزع، فسلم بعد حصار طويل إلى جنود الإمبراطور، وبعد ذلك سادت السكينة على البلاد، وحقن البعض دماء البعض بعد طول عهد العداوة والشحناء.
هذا هو ملخص الثورة اليابانية، ولا بد من ختام ذلك الملخص بوصف تأثير تلك الثورة على سياسة البلاد؛ فالقارئ يذكر أن منشأ تلك الحركة الفكرية كان بعض الأجانب والسعي في وقاية البلاد من شرهم، فكانت الحكومة اليابانية الجديدة قائمة على كراهية الأجنبي، والتفاني في حماية البلاد مما يصيبها منه، ومع ذلك فإن الأحوال تغيرت في الحال، وانقلب بغض الأجانب حيال عداوتهم صداقة، وأسرعت الحكومة الجديدة في إدخال المدنية الغربية إلى بلاد الشمس المشرقة بأسرع ما يمكنها؛ فاطمأن الشعب الياباني كله إلى تلك السياسة، وعضدوا الحكومة في سائر أعمالها، واستبدلوا حب الجديد بحب القديم، وأقبلوا اليوم على ما كانوا منه بالأمس نافرين.
ولذلك التغير سببان؛ الأول: أن الأمة لم تثر ضد الأجانب، إنما ثارت ضد حكومة الشيجون التي اتخذت التعصب ضد الغرباء آلة لمحاربة الوكلاء؛ ليكون ذلك لأعمالها مبررا، ولسياستها مزكيا، والثاني: أن اليابانيين استبانوا عظمة المدنية الغربية، ووقفوا على أخلاق أهل أوروبا وأمريكا، وفطنوا إلى أن الوكلاء لم يمنعوهم عن الاختلاط إلا رغبة في تأييد سلطتهم، والاستبداد بالأمر في بلاد اليابان. وما زال التقدم سائرا على قدم وساق حتى كانت سنة 23 بالتاريخ الميجي الياباني، فتنازل الإمبراطور منسوهيتو عن السلطة المطلقة، ومنح أمته دستورا يشبه الدستور الإنكليزي، ووضع في رأس الوزارة المركيز إيتو الذي كان من عشيرة شيوسكي، وهي من أنصار أبيه.
وقد شهد العالم منذ سنتين ما أظهرته اليابان من الشجاعة والثبات في ميادين الحرب والطعان، فهزمت دولة ضخمة لم يسمع بمثل ضخامتها في تاريخ بني الإنسان، وبعد أن عقد الصلح بين الدولتين، واستتب الأمر في الشرق الأقصى لأمة الشمس المشرقة، خطبت إنكلترا سلطانة البحار ودها، وعقدت معها معاهدتها المشهورة، ثم تنازل الإمبراطور منسوهيتو في هذا العام لنجله الأكبر؛ فقد قام هذا الميكادو الجليل بعملين عظيمين؛ الأول: أنه تنازل عن سلطته الاستبدادية، وهذا عمل كان يجدر بقيصر الإمبراطورية الروسية، والثاني: أنه تنازل عن الملك لابنه مع أنه لا يزال قادرا على التمتع به.
مقدمة ثانية
إن رأس الآداب النفسية لدى اليابانيين فضيلة الإيثار، وهي أن يقدم الإنسان نفع غيره على نفسه؛ فلا يستطيع أحدهم أن يدعي لنفسه الأخلاق الفاضلة والخلال السامية إلا إذا كان منكرا لذاته؛ لأن الأثرة مجلبة الرذائل، ومزرعة النقائص، كما أن الإيثار هو تاج الفضائل، ومنبت الكمالات؛ لأنه يستلزم التواضع وبغض الشهرة لذاتها، ويستدعي الخضوع للشرائع وللقوانين الوضعية. وهذا لا يكون إلا لمن كانت العفة والقناعة من صفاته.
والناظر في أخلاق أهل الشرق بأسرهم يوشك أن يستقصي تلك الحسنات فيها، إنما طمستها أحوال عرضت على الشعوب الشرقية فأصابتها بجمود عرضي، لو دام طويلا ولم يجد من يقتلع جذوره بالحكمة والتعقل يصير جوهريا، وحينئذ يصعب تحويل هاتيك الأمم عما يكون قد لصق بها من المعايب المذمومة.
وبين يدي القارئ كتاب نقلناه من اليابانية اسمه بلغته «أونادايجاكو» أو «التعليم الراقي للإناث»، ألفه منذ قرنين الأخلاقي الياباني «كايبارايكن»، وقصد به أن يكون ما تضمنه من الحكم والآداب والإرشاد خاصا بالنسوة. وقد كان المؤلف أونادايجاكو متمكنا من آداب اللغة الصينية تمكنه من لغته الأصلية، وهذا الذي دعاه ودعا غيره إلى النسيج على منوال كتاب الصين، والسير على دربهم. وهذه كانت عادة اليابانيين في عهد أونادايجاكو؛ أي منذ مائتي سنة.
ولكن هذا المؤلف الأديب برز في أقرانه، وتفوق عليهم بسهولة أسلوبه ورقته، وقد بلغ من امتلاك ناصية الحكمة والأدب بفضل الحكومة الالتزامية التي استتب لها الأمر في اليابان، فنشرت أعلام السلام، وعضدت الفنون والصنائع، وبينها صنعة القلم، فأينعت دولة الأدب وأزهرت وأثمرت، وقد انقطع في عهد تلك الدولة كبار العلماء والأدباء للتبحر في العلوم وفنون الأدب والحكمة اليابانية والصينية، وعنوا بوضع مؤلفاتهم باللغة الصينية، أو بأرقى أساليب اللغة اليابانية؛ صونا لها، واحتفاظا بها من الضياع على كر الدهور ومر الأعوام إذا هم أودعوها لغتهم المحكية.
أما «كايبارايكن» - واضع هذا الكتاب - فقد انقطع لوضع كتب الحكمة والفلسفة، وإفراغها في قالب سهل ممتنع، يقرب من فهم السوقة، ولا ينكره الخاصة والمتأدبون؛ فلم يذهب عمل كايبارا هباء، إنما أقبل القراء عليه إقبالا عظيما، وتناولوا مؤلفاته بشغف شديد، فكان التاجر يقرؤها في حانوته، والطالب في مكتبه، والفتاة في خدرها. وقد نال كتابه «التعليم الراقي للإناث» أعظم إقبال، وورثه الأبناء عن الآباء، والبنات عن الأمهات، حتى اعتادت الأمة عليه، وحتى أصبح من لا يراه في خزانة كتب صديقه ينكر عليه ذلك، وهو اليوم؛ أي بعد مرور مائتي عام، لا يزال واسطة عقد المؤلفات اليابانية ودرة تاجها.
ولا يمتاز كتاب كايبارا بمذهب جديد أو سنة حديثة؛ فقد سبقه إلى بعض ما جاء به فيه غيره من كتاب الرسائل والمصنفين، ولكن الذي فرق بين «التعليم الراقي للإناث» وبين غيره كون صاحبه وصف فيه ما كان يطلب من المرأة أن تكون عليه في عهده، وكونه جمع في صفحاته ما قاله الأقدمون، ووفق بين التعاليم الدينية والآداب الدنيوية؛ فتمكن بذلك من إرشاد العامة الذين لا مقدرة لهم على فهم روح الفضيلة إلى طريق قويمة، إذا سار عليها فتياتهم ونساؤهم قربن من الغاية المقصودة.
واستطاع بحذقه وبراعته أن يقنع القراء بصحة مبدئه واستقامة رأيه، وقد ساعده على ذلك حاجة عامة القراء في عهده - لا سيما الإناث منهم - إلى كتب ذات قيمة نافعة، وقد يصعب على الغربيين أن يعرفوا مقدار تأثير هذا الكتاب في الرأي العام الياباني؛ لأنهم لم يعتادوا من أغلب الكتب الأخلاقية نفعا كبيرا في بلادهم، أما في بلاد اليابان فقد كان تأثير «التعليم الراقي للإناث» كتأثير الكتب المنزلة؛ لأنه أحدث ثورة فكرية، وصار بعد قليل من الزمان كعبة آمال المهذبين والمهذبات، ومرجع الآباء والأبناء والأمهات.
إن الناظر في عادات الشعوب الشرقية والغربية يدهش لما بين الشرق والغرب من التباين في معاملة المرأة؛ فللمرأة الغربية قوة مهولة ونفوذ سائد على الرجل الغربي؛ فهي سيدة وهو عبدها، وهي معلمة وهو تلميذها، وهي آمرة وهو منفذ رغائبها. أما في الشرق، فللرجل على المرأة ما للمرأة على الرجل في الغرب؛ فهو القوي القادر وهي الضعيفة العاجزة، وهو الأستاذ المرشد وهي الطفلة المسترشدة.
ويغلب على الظن أن منشأ ذلك الخلاف في العادات نبه حكماء الشرق الأقدمين إلى خطورة شأن المرأة وقوتها، وخوفهم من عاقبة تحريرها وإعطائها سائر ما تود من الحقوق؛ فأذاعوا ما أذاعوا من التعاليم التي تقضي بخنوع الأنثى للذكر، وخضوعها لأوامره واستسلامها له. ومنشأ هذا الرأي عريق في القدم؛ فقد وضع الحكيم كونفوشيوس قاعدة الحجاب منذ أربعة وعشرين قرنا؛ إذ قال: «لا ينبغي للمرأة أن تجالس الرجل بعد دخولهما سن السابعة.» وكانت هذه السنة جرثومة ما نراه الآن في الشرق من ترك المرأة مهملة بلا تعليم ولا ترقية؛ لأن الشرقيين يعتقدون أنها كلما ارتقت وتقدمت زاد شرها، وضعف الرجل حيالها.
وقد جاء في الديانة البوذية أن المرأة تظهر جمال الملائكة، وتبطن خبث الشياطين، وأنها مملوءة شرا، وليس في المخلوقات ما يخشى ضره ولا يرجى خيره مثلها، ولم يكن الشرقيون وحدهم المتشبعين بتلك الآراء، بل كان فلاسفة الغرب أنفسهم لا يقلون عنهم في سوء الظن ببنات حواء؛ فقد قال سقراط في تعاليمه: إن المرأة منبع الشر، وإن عداوة الرجال وبغضهم آمن عاقبة من صداقتها وحبها، وإن مثل الشاب يطلب زوجة كمثل باحث عن حتفه بظلفه، أو كمثل من يلقي بنفسه في حبائل الصياد.
فكأن الشرق والغرب اتحدا في زمن واحد ضد المرأة، فرماها الواحد بالخبث والشر، ونفر الآخر منها الرجل وأمره بأن لا يجالسها ولا يخالطها؛ لما في ذلك من عقوق الشرائع الدينية، فسرت تلك الأحكام إلى اليابان سريان الكهرباء في الأجسام؛ فأهمل تهذيب المرأة، فضاق نطاق عقلها، وأصبحت محكومة تعيش عيشة الأنعام، وبقيت معارفها مقصورة على ما حولها من لوازم تدبير المنزل، وطهي الطعام، حتى أصبحت صغيرة الشأن، صغيرة القدر في عين الرجل، مع أن هذه كانت جناية عليها في بداية الأمر، وقد جرت الإساءة وراءها ألف إساءة.
وقد انحط مركز المرأة في الهيئة الاجتماعية اليابانية انحطاطا فظيعا، لا سيما في العهد الذي كانت فيه البلاد كلها ميدانا للحرب التي اشتعلت نيرانها بين أنصار الالتزام وبين أتباع المذهب الجديد، مذهب الحرية الفكرية والسياسية، وكانت نار تلك الحروب تزداد كلما كرت السنون ومرت الأعوام، وكأن أهل اليابان راق في أعينهم منظر الدماء المسفوكة، والأعراض المهتوكة، فأبوا أن يحقنوا هذه أو يصونوا تلك. واستمرت الحال على ذلك المنوال بضع مئات من السنين. هذا ما أصاب اليابان مع أنها تلك الأمة التي كانت منذ سبعة عشر قرنا تفاخر بكواتبها وشواعرها مفاخرتها بأبطالها وعساكرها.
وكان ذلك في إبان حكم الملوك الأول، فلما تحولت السلطة من أيدي الملوك وظفر بها الشيجون - وهم جماعة الوزراء والوكلاء الذين استولوا على النفوذ الفعلي في بلاد اليابان منذ قرون طويلة، وما زالوا كذلك حتى عزلتهم الأمة وردت الملك لصاحبه - انحطت المرأة؛ لأنها لم تلق من يناصرها، ولم تجد مجالا لإظهار قواها الأدبية وفضائلها النفسية في العهد الذي ساد فيه الظلم والفساد.
وقد أهمل اليابان في ذلك العهد كل شيء، واكتفوا بإعداد آلات الحرب، فاقتنوا الدروع والزرد والسيوف والأقواس والسهام، وأعرضوا عن الكتب والأوراق والمحابر والأقلام، وكان الياباني إذا ولدت له زوجته بنتا ضيق عليها، وعاد باللائمة على سواد حظها؛ لأنه كان يرجو في الآلهة أن ترزقه غلاما زكيا يكون في مستقبل الأيام بطلا منازلا، وشهما مناجزا.
وما زالت هذه الأفكار تنشر حتى أهملت المرأة تمام الإهمال، وأمست مخلوقا لا قيمة له ولا قدر، يعيش كسائر الحيوانات بلا عقل ولا إرادة ولا فكر، ولم تكن للمرأة في ذلك الحين وظيفة سوى تدبير المنزل وحمل الجنين، وكان من نكد الدنيا على الياباني أن يعلم عنه أنه استشار زوجته، أو سألها رأيها في أمر من الأمور، وكان من يعشق زوجته أو يحب ابنته يرمى بالجبن والضعف. وحجة اللائمين في ذلك أن من كان يخدم الإمبراطور فلا حاجة له بحب النساء، أو الاهتمام لشأن أسرته، فكان حب النساء في ذلك العهد رأس كل خطيئة، ومصدر كل سيئة.
وكان أحدهم إذا رأى امرأة ضعيفة وأوعزت له نفسه أن يعضدها أو يفرج كربها راعى في ذلك الشدة والقسوة؛ لئلا يرمى بلين العريكة وسهولة القياد. ولا ريب في أن حب المرأة إذا ذهب من قلب الرجل أصبحت تلك المخلوقة ضعيفة الحول والطول لا تملك لنفسها خيرا ولا شرا.
قال الكاتب: فلما أشرق علينا نور العلم والمدنية، وعادت المياه إلى مجاريها، وأصلحنا ما فسد من شئوننا، وسرنا في طريق التقدم؛ لحظنا أننا نسير سيرا حثيثا؛ فبحثنا عن سبب ذلك فلم نجده؛ لأننا كنا حاصلين على سائر الصفات الطيبة التي امتازت بها أوروبا عن غيرها، وقد أوشك أن يتسرب الشك إلى قلوبنا، فرمينا أمتنا كلها بالخمول والقصور عن الوصول إلى ما وصلت إليه أوروبا في عدة قرون، وقام بيننا من كانوا يريدون تثبيط هممنا، وادعوا أننا أمة شرقية، وهيهات أن يصل الشرق إلى ما وصل إليه الغرب.
وكدنا نصدق هذه الادعاءات الباطلة، ونؤمن بتلك الأقاويل الضئيلة، وإذا بالأستاذ شمبرلين نبهنا إلى علة العلل، ومسألة المسائل؛ قام الأستاذ شمبرلين وبين لنا بكل جلاء ووضوح أن سبب سيرنا الهوينى ليس راجعا إلى ضعف في أخلاقنا، أو تقصير في عملنا، أو نقص في شمائلنا، إنما هذا التأخر راجع في الحقيقة إلى جهل المرأة اليابانية؛ فأدهشنا ذلك الرأي، ونهضنا في الحال للعمل بما أشار به علينا ذلك الحكيم العظيم. إن تاريخ نهضتنا لتعليم نشأتنا يحتاج إلى مجلد ضخم، ولكن علي أن أوجز في القول على قدر الاستطاعة.
أول ما هممنا به أننا اكتتبنا بمالغ طائلة، ولا أبالغ إذا قلت إنها زادت في ظرف سنتين عن ثلاثة ملايين من الجنيهات، وبهذه المبالغ الطائلة أنشأنا في وقت واحد في سائر جهات اليابان مدارس الإناث، واستجلبنا لها معلمات أخصائيات لتهذيب الإناث من أوروبا وأمريكا.
وكان التعليم في تلك المدارس في أول الأمر مجانيا، ثم جعلنا أجوره بالتدريج ملائمة لحال الأهالي، ولم يكن اهتمامنا مقصورا على إنشاء المدارس في المدن الكبرى، بل أنشأناها في أصغر القرى؛ فكنا نؤسس المدرسة بجانب المعبد؛ ليدرب العقل في المكان الذي تهذب فيه النفس. وقد اضطررنا في العهد الأخير إلى جعل تعليم الإناث كتعليم الذكور إجباريا، فلا تبلغ الطفلة السادسة من عمرها حتى يرغم أهلها على إرسالها إلى المدرسة؛ حيث تبقى أربع سنين في أثنائها تتعلم القراءة والكتابة والحساب، وآداب النفس والشعر، وبعض الأعمال اليدوية. وكان عدد البنات بباريس اللواتي تعلمن في المدارس في سنة 1898 نحو 2081209، مع أن عدد أطفال اليابان كلهم في تلك السنة كان 7125966؛ أي بمعدل 34,9 في المائة، وقد ازدادت الرغبة في التعليم منذ 1898 إلى الآن؛ أي منذ تسع سنين، فأصبح معدل الذكور الملتحقين بالمدارس 82,42، ومعدل البنات الملتحقات بها 53,73.
قال الكاتب: وليس هذا كل ما قمنا به نحو نسائنا؛ فإننا فوق ذلك جعلنا للفائزات منهن في كل عام جوائز سنية، وتحفا ثمينة، فلا يأتي آخر السنة الدراسية حتى تكتتب جلالة الإمبراطورة وصواحبها وسائر الأسر الشريفة بالمال والهدايا؛ لتقدم للفتيات المجدات المجتهدات، وقد أرسلن كثيرا من نسائنا منذ عشر سنين لتلقي فنون التعليم والتهذيب في مدارس إنكلترا وأمريكا وألمانيا، حضرن إلينا وقمن بتهذيب بناتنا خير قيام.
ثم إن الأمة نفسها تناصر الحكومة على هذا العمل؛ فإن الياباني المتعلم - وعدد المتعلمين عندنا كما رأيت لا يقل عن 84 في المائة - يأنف أن يتزوج فتاة غير متعلمة، وانتشار هذا الرأي وحده جعل البنات تقبلن على التعليم أكثر من إقبال الصبيان؛ لرغبة كل منهن في الزواج. ا.ه. كلام العلامة شنجورو تاكايشي الياباني.
أقول: ولا ريب في أن المنازل اليابانية أصبحت تفوق في تربيتها ونظافتها أغلب المنازل الأوروبية، بعد أن عرف قدرة المرأة وعني بتربيتها.
وهي ولا شك تقدر هذا العمل النافع قدره، وتهتم بشأن أولادها، فتنبتهم نباتا حسنا، وتمنح وطنها رجالا أشداء أقوياء يفاخرون بأمهاتهم كما يفاخرون بآبائهم.
وكم من حادثة في الحرب الأخيرة دلت على سمو آداب المرأة اليابانية، وعلو نفسها، وتفانيها في خدمة وطنها، وقد نقلت لنا صحف الأخبار في أثناء تلك الحرب عن المرأة اليابانية قصصا وحوادث لا تقل عما يتناقله مؤرخو العرب عن نسائهم في أيام المواقع الشهيرة، أو نساء إسبرطة لدى هجوم الفرس على مضائقهم.
فقد خرج العذارى والمخدرات إلى ميدان الوغى لتطبيب المرضى، وتضميد جراح الجرحى، وتعزية القتلى قبل موتهم بابتسامة تشبه ابتسامات الملائكة، أو كلمة حلوة تخفف آلام الموت، وقد حق للغادة اليابانية أن توصف بقول حافظ، الشاعر المصري:
أنا يابانية لا أنثني
عن مرادي أو أذوق العطبا
أنا إن لم أحسن الرمي ولم
تستطع كفاي تقليب الظبا
أخدم الجرحى وأقضي حقهم
وأواسي في الوغى من نكبا
كتاب التعليم الراقي للمرأة
لما كان حظ الفتاة يقضي عليها عند بلوغ طور المرأة أن تدخل دارا جديدة، وتعيش مع أسرة جديدة، تكون فيها مرغمة على طاعة حميها؛ فالواجب عليها أن تقدر نصائح والديها حق قدرها، وتعمل بما يأمرانها به من الطاعة والأخلاق الفاضلة؛ لأنها في الواقع أحوج إلى تعليم الوالدين والانتفاع بحكمتهما أكثر من الفتى، ولو أن والديها أهلا تربيتها لوقتها وغضاضتها، وصرفا همهما إلى إرضائها؛ نشأت الفتاة أسيرة هواها، لا تخشى في نيل مآربها وتقلبها لومة لائم؛ فإن كان حموها رجلا قويم الأخلاق شديد المراس عجزت عن أن تطيق حكمه، فتبغضه لما تراه فيه من الاستقامة التي تحسبها شدة وقسوة، ولا تزال معه ومع أفراد أسرته في شقاق، وينتهي الأمر بخروجها من دار زوجها ملومة محسورة، عدا ما يصيبها من العار والفضيحة؛ فيكون والداها قد نسيا أنهما أساءا تربيتها، فيعودان باللائمة على حميها وينسبون إليه كل نقيصة، ولكنهما لا ريب مخطئان؛ لأن اللوم في الواقع واقع عليهما وعلى التربية الناقصة التي أنشأا عليها ابنتهما، ومن شب على عيب شاب عليه.
إن القلب الطاهر في النساء أفضل من الوجوه السمحاء؛ لأن ذات القلب الشرير تلقى على الدوام ثائرة؛ فهي تحملق بعينيها في وجوه الناس، وتصب عليهم صاب غضبها، وإذا نطقت نطقت بفحش القول، وإذا حادثت أحدا ذمته في وجهه وعنفته لغير سبب ظاهر، سوى قلة حيائها. أما إذا تكلمت عن نفسها فلا تقول إلا المدح والثناء، فتضع نفسها فوق سائر الناس. ومن عاداتها الذميمة انتفاخ أوداجها عجبا بنفسها، وسخريتها من غيرها، وبالجملة فهي تعمل كل ما ينبغي للمرأة الفاضلة أن تتخلى عنه؛ لأن صفات المرأة هي الطاعة والعفة والشفقة وغير ذلك مما يدل على أدب النفس. (1) الحجاب
ينبغي للفتاة أن تعتاد منذ نعومة أظفارها التمييز بين أخلاق المرأة وأخلاق الرجل؛ لئلا تتصف بما لا يليق بها، فلا يسمح لها بقول أو فعل مخالف لأخلاق المرأة، كذلك يجب على الحر الدين أن يبعدها عن مواطن الفساد؛ حتى لا ترى بعينها شيئا يؤثر على طباعها. وقد كانت العادات القديمة تقضي على الرجل والمرأة بأن لا يجتمعا في غرفة واحدة، وأن لا يتركا ثيابهما في مكان واحد، وأن لا يغتسلا في مكان واحد، وأن لا تتناول المرأة شيئا من الرجل يدا بيد، وأن المرأة إذا خرجت من دارها ليلا تحمل مصباحا تستضيء به، وأن تراعي حدودا خاصة في معاملة زوجها وأقاربها وإخوتها، دع عنك ما كان يقضى عليها به في معاملة الأجانب.
أما في وقتنا هذا فقد أعرض نساء الطبقات النازلة عن تلك الآداب، وسلكن مسلكا سيئا؛ فأتلفن صيتهن، وجلبن اللوم على آبائهن وأمهاتهن وإخوتهن، وعلى وطنهن، وتعودن صرف الزمان فيما يضر ولا ينفع. إن ديننا وآدابنا القومية تقضي على المرأة بأن لا تصاحب رجلا إلا إذا أمرها بذلك أحد والديها، أو وسيط يريد تزويجها، وأن تكون ثابتة القلب، وأن تضحي بكل شيء في سبيل حفظ كرامتها، وصيانة شرفها وعرضها من الأذى، ولو كان ذلك يؤدي إلى هلاكها. (2) سبعة أسباب للطلاق
أهل الصين يسمون الزواج «العود»؛ لأنه يجب على المرأة أن تعد بيت زوجها بيتها، وأنها لدى الزواج تعود إليه، أما بيت أبيها فلم يكن إلا مقرا عرضيا تقيم فيه ريثما تلقى بعلها؛ فإذا وفقت وصارت أهلا لبعل ما، فلا يليق بها أن تعيبه مهما كان فقيرا أو وضيعا؛ لأنها أصبحت شريكته في الغرام وانشراحه، وعلى الشريك العادل أن يستر عيوب شريكه، وأن يحتمل الضيم الذي يحتمله صاحبه، فإذا كان الدهر قاسيا عليهما استعانا عليه بالاتحاد؛ لأن الضعيفين يغلبان قويا.
وكان الحكماء الأقدمون يوصون المرأة بأن لا تغادر منزلها بعد الزواج؛ فلو أنها سلكت طريقا غير قويمة، وأعرضت عن الأخلاق المستقيمة، حتى استدعى سلوكها طلاقها؛ فقد عرضت نفسها لعار أبدي لا يزول عنها ما دامت في قيد الحياة. وقد ذكروا في تلك المسألة سبعة دواع سموها أسباب الطلاق السبعة؛
1
وهي:
أولا:
تطلق المرأة إذا خالفت حماها أو حماتها.
ثانيا:
إذا كانت المرأة لا تحمل. وسبب سن تلك القاعدة أن أهم أسباب الزواج حفظ نسل الرجل واستبقاء ذريته . وقد يجوز إبقاء العاقر إذا كانت صالحة طيبة القلب، فاضلة الأخلاق، خالية من نقائص الحسد والغيرة والحقد، ويمكن في مثل تلك الحال تبني ولد من أقاربها أو أقارب زوجها، ولا يجوز للزوج أن يطلق زوجته العاقر إذا كان له ولد من إحدى سراريه.
ثالثا:
المرأة الفاجرة تكون طالقا.
رابعا:
البرص والجذام وغيرهما من الأدواء المعدية الشديدة الوطأة، إذا أصيبت المرأة بواحد منها وجب تطليقها.
خامسا:
إذا كانت المرأة شديدة الغيرة فهذا يستدعي طلاقها؛ لأن الغيرة دليل على غيرها من النقائص.
سادسا:
المرأة الثرثارة التي تلحف في الطلب وتقلق راحة الزوج، وتغرس بذور الشقاق بين أفراد الأسرة، وتجلب عليها الشر؛ يجوز لزوجها أن يطلقها.
سابعا:
إذا كانت المرأة مولعة بالسرقة يجوز لزوجها تطليقها.
وقد قال الحكماء: إن المرأة إذا طلقت لسبب من تلك الأسباب السبعة، ثم تزوجت من رجل غني رفيع القدر؛ فإن ذلك الزواج الجديد يمحو عارها ما دامت على قيد الحياة، ولو بعد أمد مديد. (3) واجبات المرأة
ليس للمرأة سيد سوى زوجها؛ فينبغي لها أن تحترمه وتحبه، وأن لا تحتقر شأنه.
من واجبات الفتاة نحو والديها ما دامت في بيتها أن تظهر لهما كل حب وتبجيل؛ ليكونا عنها راضيين؛ لأن رضاهما دليل على رضى الآلهة، حتى إذا تزوجت فليكن واجبها حب حميها وحماتها وتبجيلهما أكثر مما كانت تحب والديها وتبجلهما.
ومن دلائل الحب الطاعة
شأنه. إن واجبات المرأة محصورة في الطاعة؛ فإذا حادثت زوجها فلا بد أن تكون علامات اللطف والدعة بادية على وجهها، وأن يكون حديثها لطيفا منظما بعيدا عن أسباب الشقاق، لا شديدا غليظا؛ لأن الشدة في القول تدل على ميل صاحبها للشر، وعلى غطرسته وكبريائه. إن الطاعة رأس الواجبات؛ فإذا ارتابت الزوجة في أمر فعليها باستشارة بعلها، وإذا غضب الزوج مرة فالواجب على زوجته أن تظهر له ضعفها، وأن تبدي أعذارها، وأن تلين عريكتها على قدر استطاعتها، لا أن تجعل العناد دينها، والمكابرة عادتها؛ فيحمى وطيس الجدال، ويشتد الشقاق بينهما. وبالجملة فعلى المرأة أن تعتبر زوجها إلها فلا تمل من مطالبه، ولا تكل من طاعته، ولا تألو جهدا في إرضائه؛ لأن في رضى الزوج منجاة من عقاب السماء. •••
يجب على الزوجة أن تحب إخوة زوجها وأخواته وتبجلهم قاطبة؛ لأنها لو هزأت بأحدهم أو أظهرت نحوه بغضا استلزم ذلك سخط حميها وحماتها، ونفر عنها قلوب أسرة زوجها. أما إذا أحبت الجميع واحترمتهم أحبوها واحترموها، وكان في ذلك سعادة الأسرة بأسرها، وكذلك يجب عليها أن تحب زوجة أخي زوجها «سلفتها»، وأن تعاملها معاملة الشقيقة.
أفضل صفات المرأة العاقلة أن لا تخطر الغيرة على بالها، فإذا كان زوجها خليعا فاجرا فالأولى بها أن تنصحه بلطف وتنهاه عن خلقه، وهذا أنفع من الحقد عليه؛ لأن الحقد يسبب الغيرة، والغيرة تشوه الوجه، وتفسد الأخلاق، وتنفر الناس ممن يوصم بها، وتنتهي بنفور الزوج من الزوجة. ولو أساء الزوج معاملة زوجته بلا سبب ينبغي لها أن تظهر الهدوء والسكينة، وأن تلومه على ذلك بلطف، فإذا كان في ساعة من ساعات غضبه فلتتركه حتى يعاوده السرور والرضى فتنصحه؛ ففي مثل هذه الحال يجدي النصح لا محالة. وإياك أيتها الزوجة العاقلة أن تصعري خدك، أو تعنفي زوجك، أو تحادثيه بصوت خشن يزعجه. •••
يليق بالمرأة أن تكون شديدة الحذر في كلامها، وأن تقتصد في الحديث على قدر طاقتها، وأن لا تغتاب أحدا، وأن لا تنطق بغير الصدق، وإذا سمعت إنسانا يأكل لحم غيره فلا تنم بما سمعت، بل تسر الغيبة في نفسها؛ لأنه جاء في الأمثال: من بلغك مسبتك فهو شاتمك. ولم يشتت شمل الأسرات ويفرق بين الزوج وزوجته، والولد ووالده، والصاحب وصاحبه شيء كالغيبة والنميمة. •••
يجب على المرأة أن تكون على الدوام متيقظة متنبهة، وأن تراقب أخلاق نفسها مراقبة شديدة، وأن تنهض في الصباح مبكرة، وأن لا تنام إلا بعد أن ينام أولادها وزوجها، وخير لها من القيلولة أن تقوم بأعمال المنزل، وأن لا تضجر من تدبير دارها.
ولا ينبغي لها أن تكثر من شرب الخمر أو الشاي، وأن لا تملأ عينيها وأذنيها بمنظر الملاهي وأغاني العشق والغرام، وإذا قصدت المعابد والهياكل حيث يجتمع الناس من كل فج؛ فليكن ذلك نادرا حتى تبلغ الأربعين، فيجوز لها بعد بلوغ هذا السن أن تكثر من الذهاب إلى الهياكل للتعبد.
لا ينبغي للمرأة أن تطيع هوى الراهبات ليقربنها من الآلهة لأي سبب من الأسباب، ولا يجوز لها أن تقضي وقتها في الصلاة؛ فإنها لو قامت بواجباتها التي يطلبها منها زوجها وأولادها وأقاربها وتركت الصلاة جانبا؛ لكان ذلك كافيا لرضى الآلهة عنها، وإذا كان زوج المرأة فقيرا أو غنيا فلا يليق بها أن تبذر ماله، بل ينبغي لها أن تعتدل في النفقة، وأن تقتصد على قدر الإمكان، وإذا كان الزوج خفيف الحال فلا بد من عدم الخروج عن الحد في المآكل والملابس حبا في تقليد الأغنياء والمترفين.
ينبغي للمرأة في شبابها أن تبتعد عن توثيق عرى المودة بينها وبين أقارب زوجها وأصحابه وحاشيته، وأن تتبع القواعد التي تأمر بها الآداب الاجتماعية؛ كعدم الاختلاط بالرجال إلا إذا اقتضت الحال، ولا يجوز للمرأة في شبابها أن تراسل رجلا غير زوجها مهما كانت الأسباب التي تستدعي المراسلة.
وإذا اخترت أيتها الزوجة ثيابا وحليا؛ فلتكن مما لا يلفت إليك الأنظار، ويبهر من يراك؛ لأن غاية اللباس والزينة أن يكون بدنك وثوبك نظيفين، وما عدا ذلك يدعو إلى ذمك، ونفور زوجك، واحتقار الناس لشأنك.
لا تفكري في أهلك قبل أن تفكري في عشيرة زوجك؛ لأن ذلك يدل على أثرتك، فإذا حل يوم رأس السنة أو غيره من الأعياد والمواسم؛ فقومي بواجب الإكرام والمعايدة نحو أهل زوجك أولا، ثم أدي ذلك الواجب نحو أهلك ثانيا، ولا تذهبي إلا حيث يريد زوجك، ولا تقصدي مكانا إلا بإرادته ورضاه، ولا تأخذي على عهدك أشياء تخشين مسئوليته؛ فلا تقدمي لأحد هدية لا يريد زوجك تقديمها، ولا تجودي بما أنت وبيتك في حاجة إليه.
لما كانت المرأة تخلف نسلا ينتسب إلى حميها وحماتها؛ فواجب إكرامهما وحبهما أعظم - في الواقع عقلا وشرعا - من واجب إكرامها لوالديها. يجب على المرأة بعد الزواج أن تقلل من زيارة أبيها وأمها، وأن لا تشغل نفسها بزيارة الناس، بل يكفي أن تبعث إلى أصحابها وصواحبها وأترابها من يسأل عن حالهم، وإذا كانت دار أبيها أفخم من دار زوجها؛ فلا يليق بآدابها أن تجعل الافتخار بذلك شغلها الشاغل وحديثها ليل نهار؛ لأن هذا يدل على غرورها، والغرور مطية الدمار. (4) معاملة الخدم
مهما كان عدد خدم الزوجة فلا بد لها من الوقوف على كل ما يحدث في دارها، ومراقبة سائر شئونه، ويجب عليها أن تخيط ثياب حميها وحماتها، وأن تعد لهم طعامهم، وأن تكون كلها آذانا تصغي إلى مطالبهم، وأن تنجز ما يريدان إنجازه، وأن تنظر في شأن زوجها؛ فتغسل ثيابه، وتنظم فراشه، وأن تعنى كل العناية بأولادها؛ فلا تهمل أمرهم، وتسعى جهدها في أن يكونوا في غاية النظافة. وكل هذا لا يسهل عليها إلا إذا لازمت بيتها ولم تخرج منه إلا نادرا، عندما تقضي عليها الضرورة بذلك.
ويجب على الزوجة العاقلة أن تحترس في معاملة الخدم؛ فإن الخادمات يكن دائما من الطبقات النازلة ممن لم يتعلمن ولم يهذبن في صباهن، ومن صفاتهن العناد والبلادة والغلظة في الكلام، ومن طباعهن افتراء الأكاذيب، واختلاق القال والقيل على من لا يرضيهن أو يخالف رغبتهن في أمر من الأمور؛ فإذا أصغت الزوجة لترهاتهن نغصت عيشها، وسببت سخط زوجها وغضب أسرته كافة، فإذا استسلمت المرأة نفسها لتكون ألعوبة في أيدي هؤلاء الفتيات؛ فليكن قلبها من صخر لا يحس ولا يشعر، وإلا فقد عرضت نفسها للبلاء والعناء.
ولتعلم الزوجة أن من كان غريبا عنها منذ نعومة أظفارها كحميها وحماتها لا يبقي على حبها إذا قصرت في واجباتها، أو سارت على غير الدرب الذي كانت تسير عليه من الطاعة واللطف. ومن العار على المرأة العاقلة أن تسبب مثل ذلك الشقاق بينها وبين أهل زوجها استنادا على اختلاق خادمة حقيرة، وإذا رأت الزوجة أن في البيت خادمة كثيرة الكلام قليلة الحياء؛ فلا بد من صرفها بأسرع ما يمكن؛ لأن إبقاء خادمة هذه صفاتها قد يؤدي إلى انفصام عروة المودة بين الزوجة وزوجها، وبين الرجل وأهله، ولو فرضنا أن الزوجة سلمت من حبائل هؤلاء البنات؛ فإنها إذا تدفقت معهن في الحديث ورفعت الكلفة من بينها وبينهن رأت في سلوكهن وأقوالهن ما لا ترضاه.
وهي - كذلك - إذا بقيت طول يومها تعنفهن وتسبهن وتلومهن جعلت بيتها عرضة للاضطراب والارتباك؛ فخير وسيلة لمعاملة الخدم والانتفاع بهم مع اتقاء شرهم أن تظهر ربة المنزل للخادم أو الخادمة خطأها إذا لحظت عليها ذلك، وترشدها إلى طريق الصواب، فإذا عادت الخادم إلى الخطأ وجب على السيدة توبيخها بلطف، أما إذا لحظت السيدة خطأ لا يستحق الذكر؛ فالواجب في مثل هذه الحال إغفاله وغض الطرف عنه.
ويجب على المرأة العاقلة أن تكون شفوقة القلب على خدمها؛ لضعفهم وفقرهم، وأن تظهر أمامهم بمظهر الحاكم الشديد الذي لا يرحم إذا رأى اعوجاجا، ولا يظلم إذا رأى استقامة، ولا مانع من تعضيد الخادم بالمال في وقت الحاجة، ولكن لا بد أن يكون ممن يستحقون المساعدة والإحسان. (5) عيوب المرأة
عيوب المرأة خمسة: العصيان، والشره، والغيبة، والغيرة، والرعونة، ولا ريب في أن هذه الصفات أو بعضها لاصقة بأغلب النساء، وهذه النقائص هي التي سببت نقص الإناث عن الرجال، وجعلت الرجال قوامين على النساء؛ فمن تربت تربية حسنة ورأت في نفسها كل تلك العيوب أو بعضها؛ فعليها أن تسعى جهدها في علاج نفسها بأن تحاسبها على ما تقترف من الذنوب.
ولا ريب في أن رأس تلك المعايب: النقيصة الخامسة، وهي الرعونة؛ لأنها إذا كانت متمكنة من امرأة حجبت عنها النور والضياء، وأعمتها عن واجباتها؛ فتصبح ولا فرق عندها بين ما يستحق الشكر وما يستدعي اللوم والتأنيب، وقد تنال الرعونة من بعض النساء أكثر من ذلك، فيصبحن عاجزات غافلات عما يجلبنه بأعمالهن لأزواجهن من الهموم والمصائب.
ومن نكد الرعونة على المرأة أنها إذا سبت الأبرياء، وحقدت على الأصدقاء، وأثنت على شخصها واغتابت غيرها لا تدري أنها عدوة نفسها، وأنها وحدها جديرة باللوم والتعنيف، وقد تسبب هذه الرعونة تساهل المرأة في تربية أولادها؛ فيشبون على عيوب تضرهم في حياتهم، فإذا كبروا ونموا وعاشروا الناس وخالطوهم وامتزجوا بهم فطنوا إلى أن أمهاتهم هن اللواتي جنين عليهم، وسببن بؤسهم وشقاءهم. •••
قرأنا في أساطير الأولين أن عادات الأقدمين ترك المولود إذا كان أنثى ثلاثة أيام على الأرض؛ رمزا إلى أنها أقل من الرجل، وأنها جديرة بأن تكون خادمة وأن يكون سيدها.
فيجب على المرأة أن تجتنب الكبرياء ما أمكن، ولو كان في صفاتها ما يستلزم الإعجاب، وإذا اقترفت ذنبا؛ فعليها أن تجتهد بما في وسعها في التكفير عنه، وأن تحترس من الوقوع فيه وتعريض نفسها للوم والمذمة، فإذا قامت المرأة بكل تلك الواجبات؛ فإنها بلا ريب تعيش في دارها مع زوجها وأولادها عيشة راضية. •••
أيها الآباء والأمهات، علموا هذه النصائح بناتكم منذ نعومة أظفارهن، واقرءوها لهن وهن في المهد بدلا من الأغاني والأناشيد، وإذا شببن فكلفوهن بنقشها على صفحات القلوب؛ فإنكم إذا زودتم بناتكم بتلك الجواهر لدى أزواجهن كان ذلك أثمن وأفضل وأنفع من سائر الحلي والحلل التي تفتخرون بها؛ لأن الثياب والجواهر تفنى وتذهب، ولكن تلك الجواهر الحقيقة تبقى على الدوام سببا للراحة والسعادة المنزلية. ولله من قال: «إن الرجل ينفق ألف ألف من الذهب في تجهيز ابنته للزواج ولا يدري كيف يصرف مائة ألف في تعليمها وتهذيبها!» فليفقه الآباء والأمهات معنى تلك الكلمات.
Bilinmeyen sayfa