2
أي أن هذه الفكرة في أساسها نقدية تعبر عن موقف سلبي من العالم الذي يعيش فيه الفيلسوف.
وقبل أن نمضي قدما في متابعة هذا التحليل الطريف الذي يقدمه ماركيوز لمفهوم الماهية عند أكبر فلاسفة اليونان، نود أن نتأمل تحليله هذا بنظرة ناقدة، حتى لا يستقر في ذهن القارئ أن رأي ماركيوز هذا تعبير عن حقيقة موضوعية، وحتى يوضع هذا الرأي في موضعه الصحيح، بوصفه مجرد اجتهاد شخصي قد يكون فيه قدر غير قليل من التعسف.
ذلك لأن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن كل مذهب يقول بازدواج العالم، ويضع في مقابل العالم الذي نعيش فيه عالما آخر يتميز بكل ما يفتقر إليه عالمنا هذا من فضائل - كل مذهب كهذا يقف من عالمنا الواقعي موقفا سلبيا ويعبر عن رفضه له. ولكن الموقف السلبي أو الرفض يختلف معناه، وتتباين دلالته تباينا تاما، حسب نوع العالم المرفوض، ففي حالة أفلاطون كان العالم الذي رفضه هو عالم الديمقراطية الأثينية التي كان أفلاطون يضمر لها كراهية عميقة - كان عالما ديناميا متغيرا يتنافى مع المثل العليا الأوليجاركية السكونية التي يؤمن بها مفكر أرستقراطي مثل أفلاطون؛ ولذلك كانت نظرية المثل عنده أبعد ما تكون عن الدعوة إلى التغيير والنقد، بل كانت في حقيقتها رفضا لعالم متغير، وأملا في عودة العالم التقليدي السكوني القبلي مرة أخرى. أو هي - بعبارة أخرى - رفض لممكنات ظهرت وتحققت وازدهرت بالفعل في سبيل العودة بالأشياء إلى وضعها الأقدم والأكثر ثباتا، الذي كانت فيه ممكناتها هذه مطوية مخفية. ومجمل القول إن ماركيوز تجاهل نزعة أفلاطون المحافظة تجاهلا تاما، وأضفى على بحثه عن الماهية «طابعا ديناميا» هو أبعد ما يكون عنه.
وفي وسع المرء أن يذهب في هذا النقد شوطا أبعد، فيقول - ضد ماركيوز - إن البحث عن عالم الحقيقة تمثل الماهية الحقة للأشياء يمكن أن يكون في أساسه سعيا إلى إيقاف كل تغير، وكبت كل نقد، وقبول للأمر الواقع على ما هو عليه. ولدينا على ذلك مثال واضح في التفسير الرجعي لفكرة «العالم الآخر» في الأديان، وهو التفسير الذي يؤدي إلى الاستسلام لكل المظالم والشرور السائدة في عالمنا هذا، بحجة أنها ستعوض في العالم الآخر، وأن الظالم سيلقى جزاءه الحق في الآخرة، ومن ثم فلا داع للقصاص منه، أو حتى لمقاومته، في هذه الحياة. فإذا علمنا أن فكرة العالم الآخر تمثل «عالم الماهية الحقة» بالنسبة إلى العالم الحاضر الزائل والزائف، وأنه هو الذي تتحقق فيه الممكنات التي لا يكشف عنها الوجود الراهن للأشياء كشفا كاملا؛ لتبين لنا أن فكرة الماهية، بالمعنى الذي عرضها به ماركيوز، لا يتعين أن تكون ناقدة رافضة، بل قد تكون في بعض الأحيان تعبيرا عن أوضح أنواع الاستسلام وقبول الأمر الواقع.
ويشير ماركيوز إلى التحول الذي طرأ على مفهوم الماهية في العصر الحديث، وخاصة عند ديكارت، فينبه إلى أن وجود القوى اللاشخصية المجهولة، قوى السوق والعمل، قد جعل الفرد ينقل الماهية إلى ذاته بحيث يرى أنه هو وحده الثابت المضمون وسط عالم خارجي لا يمكن السيطرة على تقلباته، ومن هنا أصبحت الماهية الوحيدة هي ماهية الذات المفكرة، وأصبح الشعار الفلسفي السائد هو أنني «أدرك نفسي على أنني كائن تنحصر ماهيته الوحيدة في كونه مفكرا» ذلك لأن البورجوازية، التي حملت لواء الفلسفة الحديثة، قد فسرت العلاقة بين الماهية والمظهر في فجر عهدها، على أساس أن استقلال الذات العاقلة هو الذي يشيد ويبرر الحقائق النهائية القصوى التي تتوقف عليها كل حقيقة نظرية وعملية، فالفرد المفكر لديه حرية تضم في داخلها ماهية الإنسان والأشياء.
3
والخطوة الرئيسية التالية في تطور مفهوم الماهية، تتمثل في ظاهريات هوسرل. هنا تصبح الماهية ما لا يتغير في تلك التمثلات التي يمكن أن تطرأ عليها شتى أنواع التحول والتبدل بفعل الخيال . صحيح أن الماهية تظل في هذه الحالة، كما كانت دائما على مر تاريخ الفلسفة، هي الثابت وسط المتغيرات، ولكن التقابل لا يعود هنا بين ثبات الفكر الداخلي وتغير العالم الخارجي، بل بين ثبات وتغير ينتميان معا إلى مجال الذاتية. فالماهية لا تعود معبرة عن توتر بين الأنا المفكر وبين الوجود الواقعي ولا بين ما هو موجود بحكم الأمر الواقع وما يمكن أو يجب أن يوجد، بل إن الماهيات التي تصفها الظاهريات تتميز بأنها ماثلة على ما هي عليه، دون أي توتر في داخلها. ويرى ماركيوز في قبول الظاهريات لما يرد إلينا على النحو الذي يرد عليه، وفي اكتفائها بوصفه، ومناداتها بشعار «العود إلى الأشياء»؛ يرى في ذلك كله تعبيرا عن طابع الاستسلام، واختفاء لروح النقد والرفض التي كانت تميز الفلسفات الكبرى الماضية. ولنذكر ها هنا أن «الأشياء» التي تدعو الظاهريات إلى العودة إليها ليست تلك الأشياء المادية التي تصادفها في العالم الموضوعي، وإنما هي أشياء منتمية إلى مجال الذات الترنسندنتالية، وهو المجال الذي يتساوى فيه كل شيء من حيث هو واقعة للوعي؛ ولذلك فإن زعم الظاهريات أنها تتحرر من كل المسلمات والفروض السابقة (بشأن الوجود الفعلي للأشياء) يعني، في حقيقة الأمر، أنها تضع الأشياء جميعا على قدم المساواة.
إن الظاهريات تصل إلى ماهيات الأشياء عن طريق تجريد واقعيتها الحادثة
Facticité
Bilinmeyen sayfa