إن الحقيقة الفلسفية، في رأى ماركيوز، لا تعيش في عالمها الخاص، عالمها المفارق الذي انقطعت جميع روابطه بعالم الإنسان، بل إنها ترتبط ارتباطا وثيقا بممارسة الإنسان العملية، وبوجود الإنسان في معناه العيني لا المجرد. هذا الوجود العيني لا يمكن أن يفهم بمعزل عن اللحظة التاريخية التي يتحقق فيها، وعن المجتمع الذي يحدد لقدرات الإنسان وإمكاناته مجالا تمارس فيه. وينبغي أن نذكر أن هذ العنصر التاريخي الذي يتحكم في تحديد معنى المفاهيم والمشكلات الفلسفية وفي تطورها ليس مجرد حالة عارضة تضاف إلى أساس ثابت، بل جزء لا يتجزأ من بناء هذه المفاهيم والمشكلات. ولا جدال في أن التشابه واضح بين نظرة ماركيوز الديناميكية العملية إلى الفلسفة، وبين رأي ماركس القائل إن على الفلسفة ألا تكتفي بفهم العالم، بل ينبغي أن تعمل على تغييره.
ولو أمعن المرء النظر في موقف ماركيوز لتبين له أن ينطوي على نقد لنوعين من المذاهب الفلسفية: الأولى هي تلك المذاهب التي تؤمن بأن للفلسفة طابعا مطلقا يعلو على الزمان، وبأن مشكلاتها أزلية لا يؤثر فيها أي تطور تاريخي، أعني المذاهب التي لا تعتقد بأن هناك تطورا فلسفيا، وربما ذهبت إلى حد القول بأن هذا التطور - إن وجد - قابل للانعكاس. أما النوع الثاني من المذاهب التي ترفضها نظرة ماركيوز هذه، فهي تلك التي تقوم على أساس تجريبي محض. وقد يبدو لأول وهلة أن المذاهب التجريبية تقترب من تحقيق هدف ماركيوز في إقامة الفلسفة على أساس عيني، ولكن حقيقة الأمر هي أن حرص هذه المذاهب على التقيد بالتجربة يجعلها تلتزم الواقع في صورته القائمة بالفعل، ولا تلقي بالا إلى أية إمكانات قد تكون كامنة في قلب هذا الواقع دون أن تظهر فيه ظهورا فعليا في حالته الراهنة، وتلك، في رأي ماركيوز، آفة من الآفات التي يمكن أن تصيب الفلسفة، إذ إنها تحكم عليها بأن تظل إلى الأبد حبيسة «الوضع الراهن»، عاجزة عن المشاركة بأي نصيب في نقل ما هو ممكن، وما يسعى جاهدا إلى تحقيق ذاته، إلى مستوى الواقع الفعلي.
ولعلنا نستطيع، في ضوء نقد ماركيوز هذا لكافة ضروب المذاهب التجريبية، أن نزيد فكرته عن «الفلسفة العينية» إيضاحا. فمن الواضح، بعد ما قلنا، إن المقصود بالفلسفة العينية ليس على الإطلاق تلك الفلسفة التي تقتصر على ما هو عيني مباشر، أو تلتزم عالم الواقع على ما هو عليه. إنها على عكس ذلك، تستخلص من قلب الواقع ما هو ممكن فيه، وبذلك يمكن القول إنها تعترف بالواقع من ناحية، وتنكره وترفضه من ناحية أخرى. ولا بد أن تتسم كل فلسفة عينية أصيلة بقدر من عنصر الرفض هذا - ومن هنا كان للفلسفات التي تستهدف العلو على الواقع بعض العذر، وإن كان معظمها يذهب، كما ذكرنا من قبل، إلى حد إقامة عالم مفارق انقطعت كل الأسباب بينه وبين عالم الوجود الإنساني الفعلي - فليس هناك، في رأي ماركيوز، حد فاصل قاطع بين الممكن والواقع؛ إذ إن الإمكانات الكاملة لأي شيء لا تتحقق في أية لحظة بعينها من لحظات واقعه، كما أن الواقع، من جهة أخرى، لا يفهم إلا بالإشارة إلى وجود هذه الممكنات في الماضي واحتمال تحققها في المستقبل، ومن هنا كان الموجود والممكن متداخلين، يستحيل فهم أحدهما بدون الآخر.
وعلى أساس هذا الفهم للفلسفة العينية عند ماركيوز نستطيع أن نقدم عرضا موجزا لبعض تحليلاته الفلسفية التي ارتكزت على فهمه هذا، والتي يتجلى فيها كلها وجود خط واحد يتبعه في تحليل المفاهيم الفلسفية من ناحية، وفي تحليل المذاهب من ناحية أخرى. وسوف نختار نماذج من تحليلاته هذه توضح، بصورة أقرب إلى الطابع العلمي، طريقته في التراث الفلسفي. •••
لا شك في أن أشهر المفاهيم التي قام ماركيوز بتحليلها هو مفهوم «الماهية»
Essence
الذي خصص له دراسة كاملة أعيد نشرها حديثا في كتاب
Negations . ففي رأيه أن مفهوم «الماهية» كان يعبر دائما عن الوجود الحق، الأصيل، في مقابل الوجود العارض المتغير. وتتجلى هذه الصفة بوضوح منذ أول استخدام فلسفي عميق لهذا المفهوم؛ أي منذ عهد أفلاطون؛ ذلك لأن أفلاطون عندما أكد أن الوجود الحق هو الوجود الكلي الشامل، وهو الوحدة داخل الكثرة، لم يكن يقدم رأيا معينا في المعرفة أو في كيفية حصول العلم فحسب، ولم يكن يعبر عن رأي أنطولوجي في طبيعة الوجود فحسب، بل كان يعرض فكرة أخلافية نقدية في أساسها. إن التفرقة بين الماهية وبين المظهر أو المثال الجزئي هي في واقع الأمر تفرقة بين وجود أصيل يستحق أن يكون، ووجود زائف يتصف بأنه كائن فحسب. وحين يبني أفلاطون نظريته في المثل على أساس وجود عالم آخر «حقيقي» من وراء عالم الحواس الخادعة، فإن في هذه التفرقة بين العالمين تأكيدا ضمنيا بأن وجود الأشياء لا يستنفد كله فيما تكون عليه هذه الأشياء في صورتها المباشرة، وبأنها لا تبدو على النحو الذي تسمح لها إمكاناتها بأن تكون عليه، أي أن الوجود المباشر (المظهر) ناقص بالقياس إلى الإمكانات التي يدركها الذهن بوصفها ماهية للشيء. وعندئذ تكون فكرة المثال أو الصورة
eidos
عند أفلاطون تعبيرا عن معيار تقاس به المسافة التي تفصل بين الوجود المباشر للشيء، وبين ما يمكن أن يكونه الشيء،
Bilinmeyen sayfa