ويكفي أن نضيف إلى هذين المثلين مصرع كعب بن الأشرف، وهو الذي قال حين علم بمقتل سادات مكة: «هؤلاء أشراف العرب وملوك الناس. والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.» وهو الذي ذهب إلى مكة لما تيقن الخبر يحرض على محمد وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب؛ وهو الذي رجع بعد ذلك إلى المدينة فجعل يشبب بنساء المسلمين. وأنت تعرف طبائع العرب وأخلاقها، وتعرف مبلغ تقديرهم للعرض وثورتهم من أجله. وقد بلغ غيظ المسلمين أنهم أجمعوا على قتل كعب، واجتمع في ذلك عدة منهم؛ وذهب إليه أحدهم يستدرجه بالطعن على محمد إذ يقول له: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء؛ عادتنا العرب ورمونا على قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس. ولما أنس إلى كعب وأنس إليه كعب طلب إليه مالا لنفسه ولجماعة من أصحابه على أن يرهنوه دروعهم؛ ورضي كعب على أن يجيئوه من بعد.
وإنه لفي داره على بعد من المدينة إذ ناداه صدر الليل أبو نائلة (أحد المؤتمرين به) فنزل إليه على رغم تحذير عروسه إياه النزول في مثل هذه الساعة من الليل. وسار الرجلان حتى التقيا بأصحاب أبي نائلة وكعب آمن لا يخافهم. وخرج القوم يتماشون حتى مشوا ساعة بعدوا بها عن دار كعب وهم يتجاذبون أطراف الحديث، ويذكرون من حالهم وما وصلوا إليه من شدة ما يزيد في طمأنينة كعب. وفيما هم يسيرون كان أبو نائلة يضع يده في رأس كعب ويشمها ويقول: ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط. ولما لم تبق لدى كعب شبهة فيهم، عاد أبو نائلة فوضع يده على شعر كعب ثم أخذ بفوديه وقال: اضربوا عدو الله فضربوه بأسيافهم حتى مات.
زاد هذا الحادث في مخاوف اليهود، فلم يبق منهم إلا من يخاف على نفسه. مع ذلك لم يسكتوا عن محمد ولا عن المسلمين حتى فاضت النفوس أي فيض. قدمت امرأة من العرب إلى سوق اليهود من بني قينقاع ومعها حلية جلست إلى صائغ منهم بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها وهي تأبى، فجاء يهودي من خلفها في سر منها فأثبت طرف ثوبها بشوكة إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها فصاحت؛ فوثب رجل من المسلمين على الصائغ - وكان يهوديا - فقتله، وشددت اليهود على المسلم فقتلوه. فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع. وطلب محمد إلى هؤلاء أن يكفوا عن أذى المسلمين وأن يحفظوا عهد الموادعة أو ينزل بهم ما نزل بقريش. فاستخفوا بوعيده وأجابوه: «لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة. إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس.» لم يبق بعد ذلك إلا مقاتلتهم أو يتعرض المسلمون ويتعرض سلطانهم بالمدينة للتداعي، ثم يصبحوا أحدوثة قريش وقد جعلوا قريشا بالأمس أحدوثة العرب.
وخرج المسلمون فحاصروا بني قينقاع في دورهم خمسة عشر يوما متتابعة لا يخرج منهم أحد ولا يدخل عليهم بطعام أحد، حتى لم يبق لهم إلا النزول على حكم محمد والتسليم بقضائه. وسلموا؛ فقرر محمد بعد مشورة كبار المسلمين، قتلهم جميعا، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول، وكان لليهود كما كان للمسلمين حليفا، فقال: يا محمد أحسن في موالي.
فأبطأ عليه النبي فكرر الطلب، فأعرض النبي عنه فأدخل يده في جيب درع محمد فتغير محمد وقال له: أرسلني؛ وغضب حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم أعاد وأثر الغضب في نبرات صوته: «أرسلني ويحك!» قال ابن أبي: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي! أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة! إني والله امرؤ أخشى الدوائر. وكان عبد الله لا يزال ذا سلطان في المشركين من الأوس والخزرج، وإن كان هذا السلطان ضعف بقوة المسلمين. فرأى النبي في إلحاحه ما جعله يعود إلى سكينته، وخاصة بعد إذ جاء عبادة بن الصامت يحدثه بحديث ابن أبي؛ إذ ذاك رأى أن يسدي هذه اليد إلى عبد الله وإلى المشركين موالي يهود جميعا حتى يصبحوا مدينين لإحسانه ورحمته؛ على أن يجلو بنو قينقاع عن المدينة جزاء لهم على صنيعهم.
وقد حاول ابن أبي أن يتحدث مرة أخرى إلى محمد في بقائهم ومقامهم. لكن أحد المسلمين حال دون ابن أبي ولقاء محمد واشتجر حتى شج عبد الله. فقالت بنو قينقاع: والله لا نقيم ببلد تشج فيه يا ابن أبي ولا نستطيع عنك دفاعا. وعلى ذلك سار بهم عبادة بعد الذي كان من تسليمهم وإذعانهم تاركين المدينة، تاركين وراءهم السلاح وأدوات الذهب الذي كانوا يصوغون، حتى بلغوا وادي القرى. هناك أقاموا زمنا، ومن هناك احتملوا ما معهم، وساروا صوب الشمال حتى بلغوا أذرعات على حدود الشام، وبها أقاموا. ولعلهم إنما استهوتهم إلى الشمال أرض المعاد التي كانت وما تزال تهوي إليها أفئدة اليهود.
ضعفت بالمدينة شوكة اليهود بعد جلاء بني قينقاع عنها. فقد كان أكثر اليهود المنتسبين إلى المدينة يقيمون بعيدا عنها بخيبر وبأم القرى. ولهذه النتيجة كان يقصد محمد من إجلائهم. وهذا تصرف سياسي آية في الدلالة على الحكمة وبعد النظر. وهو مقدمة لم يكن منها بد للآثار السياسية التي ترتبت بعد ذلك على خطة محمد؛ فليس شيء أضر على وحدة مدينة من المدن من تنازع الطوائف فيها. وإذا كان نضال هذه الطوائف لا بد منه فهو لا بد منته إلى تغلب طائفة على سائرها غلبة تنتهي إلى سيادتها. وقد تحدث بعض المؤرخين منتقدا تصرف المسلمين إزاء اليهود، زاعما أن حكاية المسلمة التي ذهبت إلى الصائغ كان من اليسير إنهاؤها ما دام قد قتل من المسلمين رجل ومن اليهود رجل، وقد نستطيع دفع هذا القول بأن مقتل اليهودي والمسلم لم يمح ما لحق من إهانة في شخص المرأة التي عبث اليهودي بها، وأن مثل هذه المسألة عند العرب، أكثر منها عند غيرهم من الأمم، جديرة أن تثور لها الثائرات، وأن يقوم من أجلها القتال بين قبيلتين أو طائفتين سنوات متتابعة. وفي تاريخ العرب من ذلك أمثال يعرفها المطلعون على هذا التاريخ.
ولكن هنالك إلى جانب هذا الاعتبار اعتبارا آخر أقوى منه. فحادث المرأة كان من حصار بني قينقاع وإجلائهم عن المدينة ما كان مقتل ولي عهد النمسا بسيراجيفو سنة 1914 من الحرب الكبرى التي اشتركت فيها أوروبا جميعا. هو إنما كان الشرارة التي ألهبت ما تؤجج به نفوس المسلمين واليهود جميعا لهبا أدى إلى انفجارها وإلى كل ما يحدث الانفجار من آثار. والحق أن وجود اليهود والمشركين والمنافقين إلى جانب المسلمين بالمدينة وما أذكى ذلك من أسباب الفرقة ، قد جعل المدينة - من الناحية السياسية - على بركان لا مفر له من أن ينفجر؛ وقد كان حصار بني قينقاع وإجلاؤهم عن المدينة أول مظاهر هذا الانفجار.
كان طبيعيا أن ينكمش غير المسلمين من أهل المدينة بعد إجلاء بني قينقاع عنها، وأن تبدو من الهدوء والسكينة في المظهر الذي يعقب كل عاصفة وكل إعصار. وعلى هذا الهدوء ظل الناس شهرا كاملا كان جديرا أن تتلوه أشهر لولا أن أبا سفيان لم يطق البقاء بمكة، قابعا تحت خزي هزيمة بدر، دون أن يعيد إلى أذهان العرب بشبه الجزيرة أن قريشا ما تزال لها قوتها وعصبيتها ومقدرتها على الغزو والقتال. لذلك جمع مائتين - وقيل أربعين - من رجال مكة وخرج فيهم مستخفين؛ حتى إذا كانوا على مقربة من المدينة خرجوا سحرا فأتوا ناحية يقال لها العريض، فوجدوا رجلا من الأنصار وحليفا له في حرث لهما فقتلوهما، وحرقوا بيتين بالعريض ونخيلا. ثم رأى أبو سفيان أن يمينه بغزو محمد برت، فانكفأ هاربا خائفا أن يطلبه النبي وأصحابه. وندب محمد أصحابه فخرجوا في إثره وهو على رأسهم حتى بلغوا قرقرة الكدر، وأبو سفيان ومن معه جادون في الفرار يتزايد خوفهم فيلقون ما يحملون من زادهم من السويق، فإذا مر المسلمون به أخذوه. ولما رأى محمد أن القوم أمعنوا في الفرار عاد وأصحابه إلى المدينة. وقد انقلب فرار أبي سفيان عليه بعد أن كان يحسب الغزوة ترفع رأس قريش من مصاب بدر. وبسبب السويق الذي ألقت قريش سميت هذه الغزوة من غزوات محمد غزوة السويق.
استفاضت أنباء محمد هذه بين العرب جميعا. أما القبائل البعيدة عنه فظلت في مأمنها لا تعنى إلا قليلا بأمر هؤلاء المسلمين الذين كانوا إلى يوم بدر - أي إلى أشهر قليلة خلت - أذلة يلتمسون بالمدينة ملجأ، والذين أصبحوا اليوم يقفون في وجه قريش، ويجلون بني قينقاع، ويرسلون الرعب إلى روع عبد الله بن أبي، ويطاردون أبا سفيان، ويظهرون مظهرا لم يكن من قبل مألوفا. فأما القبائل القريبة من المدينة فقد بدأت ترى ما يتهدد مصيرها من قوة محمد وأصحابه، ومن تعادل هذه القوة وقوة قريش بمكة تعادلا تخشى نتائجه. ذلك بأن طريق الشاطئ إلى الشام هي الطريق المعبدة المعروفة. وتجارة مكة في مرورها بها تفيد هذه القبائل فائدة اقتصادية تذكر. وقد عاهد محمد كثيرا من القبائل التي تتاخم الشاطئ، فهدد هذا الطريق وعرض رحلة الصيف لمخاطر قد تضطر معها قريش إلى العدول عن متاخمة الشاطئ. فما عسى أن يصيب هذه القبائل إذا انقطعت تجارة قريش؟ وكيف تراهم يحتملون شظف الحياة في هذه البقاع الشديدة الشظف بطبعها؟ فمن حقها إذن أن تفكر في مصيرها وفيما عسى أن يصيبها من أثر هذا الموقف الجديد الذي لم يعرف قبل هجرة محمد وأصحابه إلى يثرب، والذي لم يصل إلى ما وصل إليه من تهديد حياة هذه القبائل قبل بدر وانتصار المسلمين فيها.
Bilinmeyen sayfa