19
عليها محمد وأصحابه ويغلوا في الفداء. وانقضى زمن وقريش صابرة على محنتها، حتى سنحت فرصة افتدائها أسراها. إذ ذاك قدم مكرز بن حفص في فداء سهيل بن عمرو. وكأنما عز على عمر بن الخطاب أن يفتدى وينجو من غير أن يصيبه مكروه، فقال: يا رسول الله، دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو فيدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا. فكان جواب النبي هذا الجواب البالغ غاية السمو: لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا.
وبعثت زينب ابنة النبي تفتدي زوجها أبا العاص بن الربيع، وكان فيما بعثت قلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على العاص حين بنى بها. فلما رآها النبي رق لها رقة شديدة، فقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا. ثم إنه اتفق فيما بينه وبين أبي العاص على أن يفارق زينب وقد فرق الإسلام بينه وبينها. وبعث محمد زيد بن حارثة وصاحبا معه فجاء بها إلى المدينة. على أن أبا العاص ما لبث بعد مدة إساره أن خرج إلى الشام في مال قريش؛ حتى إذا كان على مقربة من المدينة لقيته سرية لمحمد فأصابوا ما معه. فانحدر تحت الليل إلى أن دخل على زينب واستجارها فأجارته، ورد المسلمون على الرجل ماله فانطلق به آمنا إلى مكة، فلما رده لأصحابه من قريش قال: يا معشر قريش! هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا! جزاك الله خيرا فقد وجدناك وفيا كريما. قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا مخافة أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت. وعاد إلى المدينة ورد عليه النبي زينب. واستمرت قريش تفتدي أسراها. وكان الفداء يومئذ أربعة آلاف درهم للرجل إلى ألف، إلا من لا شيء عنده فقد من عليه محمد بحريته.
لم يهون ذلك على قريش مصابها، ولا هو دعاها إلى أن تهادن محمدا أو أن تنسى هزيمتها؛ بل ناحت نساء قريش من بعد ذلك على قتلاها شهرا كاملا، فجززن شعر رءوسهن، وكان يؤتى براحلة الرجل أو بفرسه فينحن حولها؛ ولم يخالف في هذا إلا هند بنت عتبة زوج أبي سفيان. ولقد مشى نساء منهن يوما إليها فقلن: ألا تبكين على أبيك وأخيك وعمك وأهل بيتك؟! فقالت: أنا أبكيهم فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بنا ويشمت بنا نساء الخزرج ؟! لا والله حتى أثأر من محمد وأصحابه! والدهن علي حرام حتى نغزو محمدا! والله لو أعلم أن الحزن يذهب من قلبي لبكيت، ولكن لا يذهب إلا أن أرى ثأري بعيني من قتلة الأحبة. ومكثت لا تقرب الدهن ولا تقرب فراش أبي سفيان وتحرض الناس حتى كانت وقعة أحد. أما أبو سفيان فنذر بعد بدر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا.
الفصل الرابع عشر
بين بدر وأحد
(المسلمون واليهود - غزوة بني قينقاع - جلاء اليهود عن المدينة - قريش تتحرك - غزوة السويق - القبائل تتحرك فتفر - هزيمة صفوان بن أمية) ***
تركت بدر بمكة من عميق الأثر ما رأيت. تركت الحرص على الثأر من محمد والمسلمين يوم تتهيأ فرصة الثأر. لكن أثرها بالمدينة كان أوضح وأكثر اتصالا بحياة محمد والمسلمين معه. فقد شعر اليهود والمشركون والمنافقون بعد بدر بمزيد قوة المسلمين؛ ورأوا هذا الرجل الأجنبي الذي وفد عليهم منذ أقل من عامين فارا مهاجرا من مكة، يزداد سلطانا وبأسا، ويكاد يكون صاحب الكلمة في أهل المدينة جميعا لا في أصحابه وحدهم. وكان اليهود، على ما رأيت؛ قد بدأ تذمرهم من قبل بدر وبدأت مناوشاتهم المسلمين، حتى لكأن ما بين الفريقين من عهد الموادعة هو الذي حال في أكثر من حادث دون الانفجار. لذلك ما كاد المسلمون يعودون من بدر معتزين بالنصر حتى جعلت طوائف المدينة الأخرى تتغامز وتأتمر، وحتى بدأت تغري بهم وترسل الأشعار في التحريض عليهم.
بذلك انتقل ميدان الثورة من مكة إلى المدينة. وانتقل من الدين إلى السياسة. فلم تبق دعوة محمد إلى الله هي وحدها التي تحارب، بل كان كذلك سلطانه ونفوذ أمره موضع الرهبة والخوف، وكان لذلك سبب الائتمار به والتفكير في اغتياله. ولم يكن محمد لتخفى عليه من ذلك كله خافية؛ بل كان يقع على أخباره جميعا ويتصل بعلمه كل ما يدبر ضده، وجعلت النفوس من جانبي المسلمين واليهود تمتلئ بالغل والضغينة شيئا فشيئا ، رويدا رويدا، وجعل كل فريق يتربص بصاحبه الدوائر.
وكان المسلمون إلى حين نصرهم الله ببدر يخشون مواطنيهم من أهل المدينة، فلا تبلغ منهم الجرأة إلى الاعتداء على من يعتدي على مسلم منهم. فلما عادوا منتصرين أخذ سالم بن عمير نفسه بالقضاء على أبي عفك (أحد بني عمرو بن عوف)؛ لأنه كان يرسل الأشعار يطعن بها على محمد وعلى المسلمين، ويحرض بها قومه على الخروج عليهم؛ وظل كذلك بعد بدر يغري بهم الناس. فذهب إلى سالم في ليلة صائفة كان أبو عفك نائما فيها بفناء داره، فوضع سالم السيف على كبده حتى خش في الفراش. وكانت عصماء بنت مروان (من بني أمية بن زيد) تعيب الإسلام وتؤذي النبي وتحرض عليه، وظلت كذلك إلى ما بعد بدر فجاءها يوما عمير بن عوف في جوف الليل حتى دخل عليها بيتها وحولها نفر من ولدها نيام ومنهم من ترضعه؛ وكان عمير ضعيف البصر، فجسها بيده فوجد الصبي ترضعه فنحاه عنها، ثم وضع سيفه في صدرها حتى أنفذه من ظهرها. ورجع عمير من عند النبي بعد أن أخبره الخبر، فوجد بنيها في جماعة يدفنونها، فأقبلوا عليه فقالوا: يا عمير أنت قتلتها؟ قال: «نعم! فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون. فوالذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي حتى أموت أو أقتلكم.» وقد كان من أثر جرأة عمير هذه أن ظهر الإسلام في بني خطمة، وكانت عصماء زوجة رجل منهم، فأظهر منهم من كان يخفي إسلامه وانضم إلى صف المسلمين وسار معهم.
Bilinmeyen sayfa