بل كذلك حدث في اليابان والصين والهند، ولكن في جميع هذه المصادمات يتغلب دعاة الحضارة الغربية لسبب مفرد بسيط، هو أنها ليست غربية؛ إذ إن وصفها الحقيقي أنها عصرية جديدة، في حين أن ما يسمى حضارة شرقية، أو صقلبية، إنما هو تلك العادات والتقاليد القديمة التي أثبت الاختبار أنها ليست كفئا للوقوف في وجه الحضارة العصرية.
الحضارة العصرية الصناعية منتجة، توفر المال والقوة للغربيين، أما الحضارة الشرقية الزراعية القديمة فلم تكن منتجة إلى حد الوفرة؛ ولذلك يحيا أبناؤها في فقر وضعف يغري المستعمرين الأوروبيين باستغلالهم واستعمار بلادهم.
بقيت هذه المعركة بين دعاة القديم الشرقي والجديد الغربي مستعرة إلى عام 1881، حين قتل القيصر إسكندر الثاني، وعندئذ سادت البلاد رجعية سوداء كان من نتائجها أو وسائلها منع المؤلفات اليسارية الأوروبية من الدخول في روسيا واضطهاد المؤلفين الاشتراكيين، وفي مثل هذه الظروف تجري الدعايات المضطهدة في الظلام، وتختمر بأشد وأعنف مما كانت تختمر لو كانت مكشوفة؛ إذ عندئذ يدخلها العنف الذي لا يتفق والحركات المكشوفة؛ ولذلك فشت الجمعيات السرية التي يحدثنا عنها جوركي، الذي كان وقتئذ شابا حوالي العشرين، يجوس خلال الأفكار والناس، ويحيا شريدا يتنقل من حرفة إلى حرفة لسد الرمق. وفي هذا الضغط أو الكبت، عقب مقتل القيصر، تبخر الصراع بين دعاة الصقلبية، أي الشرق، وبين دعاة الحضارة الغربية، وأخذ مكانه صراع أعمق وأبعد بين الرأسمالية والاشتراكية. وكانت الرأسمالية بازغة في روسيا، قد جلبها المستعمرون - أي المستغلون - من الغربيين الذي ألفوا الشركات لإيجاد المصانع، واشترك معهم الأثرياء من الروس الذين آمنوا بالحضارة الغربية، والذين وجدوا الظروف ملائمة لاستغلال الثروة المادية، والبشرية الروسية، وذلك عقب إلغاء النظام الإقطاعي السابق وتحرير عبيد الأرض - أي العمال - الذين لم يكن يسمح لهم من قبل بترك الأرض إلا بإذن المالكين.
واتحد الاشتراكيون والأحرار في التوجيه السياسي للشعب الروسي، وحدثت ثورة عام 1905 التي كانت في صميمها مظاهرة أحالها طغيان الحكومة القيصرية إلى مجزرة قتل فيها أكثر من خمسمائة، غير آلاف الجرحى، وكان يقودها إلى الفشل الكاهن «جابون» الذي دعا المتظاهرين إلى ألا يحملوا السلاح ضد «الأب الصغير» - أي القيصر - ولكن الأب الصغير كان يحمل السلاح هو وآلاف من جنوده، استعملوا جميعهم السلاح لقتل الجماهير المتظاهرة، والتي لم تكن تطلب من القيصر أكثر من حكومة دستورية عادلة توفر الخبز والعمل لأبناء الشعب الجائعين. وهنا نجد مكسيم جوركي لأول مرة يشترك في هذه الثورة، ويتعلم منها. وكان أول ما تعلم من دروسها أن عرش القيصرية لن يهدمه الأحرار، وأن أحزاب الأحرار لم يعد لها مكان في القرن العشرين، وأن الاشتراكية وحدها تتحمل عبء التغيير المنتظر بإيجاد جمهورية بدلا من القيصرية.
وقصته العظيمة «الأم» التي ظهرت في عام 1907 هي التعليق على ثورة 1905 الفاشلة، كما هي إرشاد وإلهام للشباب الثائرين في روسيا حتى لا يقنطوا من النجاح المنشود في ثورات أخرى. •••
ذكرت الصراع بين دعاة الصقلبية الشرقيين، وبين دعاة الحضارة العصرية الغربيين، هذا الصراع تغير - أو تطور - إلى حركتين جديدتين فيما بين عامي 1900 أو 1914، فإن الاتجاه الاشتراكي بين المفكرين والأدباء حملهم على الانحياز للإنسانية ضد الوطنية. «نحن للعالم ولسنا لروسيا. لسنا وطنيين، نحن عالميون.»
هذا كان موقفهم، وكان منطقهم هنا أنه ما دمنا نعمل للاشتراكية فيجب ألا تكون هناك فوارق في الوطن، وإنما نهدف إلى خدمة الإنسان مهما يكن سواء أكان روسيا أم مصريا أم صينيا أم إنجليزيا، في حين كان خصومهم يقولون: روسيا أولا، نحن وطنيون.
وجاءت الحرب في عام 1914 فتغلب بالطبع الوطنيون، ولكن لفترة قصيرة، واستحالت الوطنية إلى نزعة حربية عنيفة ضد ألمانيا، وهذا ما كان ينتظر. ولكن جوركي بقي على ما كان عليه داعية للسلم حتى مدة الحرب، داعية للإنسان؛ الإنسان العالمي. •••
عاش جوركي أربعين سنة، وهو يكافح في صدره مرض الدرن - أي السل - وأمضى معظم حياته في جنوب إيطاليا ابتغاء الشمس والدفء، ولم يستسلم لهذا المرض، ولم ينم له، بل كان يعمل، ويخرج في الهواء ويمرن عضلاته؛ لأنه كان يحس أنه في سباق مع الموت. وعاش 68 سنة كان يمكن بالطبع أن تكون 80 أو 90 لولا هذا المرض، ولولا هذا الكفاح الآخر الذي كافح به الفقر والحرمان في صباه كله وبعض شبابه.
لقد نشأ جوركي في أسرة من الفقراء الذين جر عليهم الفقر طائفة غير صغيرة من الكوارث، فرأى بعينه الإجرام في أعضاء أسرته. كما أن الجوع قد حمله على أن يحترف أوضع الحرف، بل كان احترافه لهذه الحرف أقرب إلى التشريد منه إلى الاحتراف فعمل خبازا، وبائعا جوالا، وجامعا للخرق، وبستانيا، وبائعا للأيقونات المقدسة. بل إنه احتاج أن يصيد العصافير كي يأكلها ويشبع بها جوعه. وليس غريبا علينا أن نفهم أن قصته «من الأعماق السفلى» تحتوي أشخاصا يشهدون أو يطابقون أولئك الذين خالطهم في صباه وشبابه، بل ليس غريبا علينا أن نفهم أنه قد ألهم الواقعية في الأدب؛ لأن ما رآه من واقع حياة هؤلاء الناس قد ألهمه هذا المذهب، إنما الغريب أن نعرف أنه تغلب على هذا الوسط السيئ فلم يقتد بأحد من أولئك المجرمين، بل رفع نفسه فوق وسطه، فلم يتعود شرب الخمور، ولم يقنع بالبطالة والتشرد، ولم يقع في جريمة أو فساد آخر، وإنما خرج من هذا الظلام ينشد النور في درس المذاهب واقتناء الكتب والتفكير في الإنسانية، وترقية شخصيته. تغلب على وسطه، وتغلب على هذا الميكروب الذي كان يأكل رئتيه مدة أربعين سنة.
Bilinmeyen sayfa