لم يقض هنري ثورو عمره كله في كوخه؛ إذ هو رجع بعد سنة وشهور إلى المدينة، وهو بهذا يحملنا على أن نفهم أن عودة البشر إلى حياة الفطرة في الغابة لم تعد ممكنة، وإنما قصارى ما نفهمه من تجربته أنه أومأ إيماءة لنا بأن التكاليف الاجتماعية الباهظة نستطيع أن نستغني عنها، وأن في «الفقر الإداري» كما سماه قيمة يجب ألا نستهين بها، فإن حياة المدينة وما فيها من هرولة وعصبية وهموم، كل هذا يمكن النجاة منه بأن نجعل شعارنا: كيف نستغني؟ بدلا من كيف نقتني؟
والولايات المتحدة بعد مائة سنة من تجربة ثورو أحوج إلى عبرته مما كانت في عام 1851؛ لأن المباراة التي يعيش فيها الأمريكيون في هذه الأيام هي أقتل للنفس، وأبعث للقلق والخوف، مما كانت في أيامه. والأمريكي الذي ينبعث في عام 1950 إلى مثل تجربة ثورو هو رجل سعيد بالمقارنة إلى المهرولين العصبيين الذين يملئون أسرة المستشفيات للأمراض العقلية، وإنه لمن الحسن أن ينبهنا كاتب، بإسرافه في الحب للطبيعة، إلى أنه، إلى جنب الشارع والنادي وسهرات الكئول، وعد النقود، وشراء الأرض، واقتناء الضياع أو الأسهم في الشركات، إلى جنب هذا توجد أرض وسماء وأشجار وزهور وأنهار وجبال، وأن القمر يضيء في الليل ويكسو الحقول بأشعته، وأن النجوم تنادينا في الظلام كي نتأملها ونتحدث إليها، وأننا من وقت لآخر يجب أن نختلي ونستوحد، كي نعيد النظر في حياتنا، ونسأل هل نحن نعيش مسوقين بضغط العادات الاجتماعية التي لم نفكر من قبل في قيمتها؟ وألا يجدر بنا أن نغير هذه العادات أو ننقحها بإلهام الطبيعة التي تردنا إلى الأصول التي تردنا على الأصول والجذور؟
تولستوي
فيلسوف الشعب
ولد تولستوي في عام 1828 ومات في عام 1910، ومن هذين التاريخين نرى أنه عاصر القرن التاسع عشر كله تقريبا، ولكنه لم يكد يعيش في القرن العشرين، فقد مات قبل الحرب الكبرى الأولى بأربع سنوات، وما كان أحوجنا إلى أن نسمع صوته عن هذه المجزرة البشرية العظمى. ولكنه في القرن التاسع عشر رأى كثيرا واختبر كثيرا، فقد اشترك في حرب القرم في عام 1854، ورأى بعد ذلك حرب السبعين بين فرنسا وألمانيا، ورأى أحد القياصرة يقتل، ورأى تحرير العبيد في عام 1861، واصطدم بالكنيسة وطرد منها، واصطدم بعائلته حين أراد تسليم أرضه المورثة للفلاحين وانهزم، وصمت.
وكان طيلة حياته في النصف الثاني للقرن التاسع عشر ضمير أوروبا، يرتئي الرأي ويعظ الموعظة، ولكنه قلما كان يزيد على ذلك، وهنا أكبر إهماله أو خطئه، كان ضمير أوروبا، كما كان غاندي - منذ 1920 إلى 1948 - ضمير الهند والعالم، كلاهما تولستوي وغاندي، صورتان لشخص واحد، هما صورة الأستاذ وتلميذه، ولكن هذا التلميذ؛ غاندي، حاول أن يجعل آراء تولستوي ومواعظه أعمالا منفذة.
في هذه الحياة الطويلة التي عاشها تولستوي رأى أهوالا من الشقاء البشري كان أولها حرب القرم، فإنه يذكر أنه عقب هذه الحرب لم يطق إلا أن يأخذ قلمه ويكتب، وأن ينذر قلمه لمحو هذا الشقاء البشري؛ أي الحرب، ولكن حرب القرم يمكن، بالمقارنة إلى حروبنا الجديدة التي تخيم على عالمنا العصري، بالذرة المنشقة والذرة الملتحمة، يمكن أن تعد مباراة في كرة القدم، ولو أن تولستوي كان حيا في أيامنا، وكان يسمع أو يقرأ ما يقال عن الحرب المنتظرة، لطالب بإرسال جميع المسئولين إلى المارستان.
إنها الحرب التي جعلته يقول في عام 1854: لم أتمالك أن أتناول القلم وأكتب، وكل رجل شريف له قلم يجب أن يقول مثل هذا القول هذه الأيام.
والحرب بؤرة لمشكلات عديدة، اضطر تولستوي، كما يضطر غيره في مثل هذه الظروف، إلى أن يشتبك فيها، فاشتبك في معنى الدين، ودلالة الفن، وهدف الثقافة، وأسلوب العيش، وعادات الحب والزواج، وكتب القصة الفنية، والرسالة المناقشة وحاول أن يحس وفق ما يقول ويؤمن، ونجح قليلا وفشل كثيرا.
نجح من حيث إنه عمم الإيمان بأن المجتمع يعاني من الأسواء، ويحمل من الأوضار ما يجب أن يبعثنا على إصلاحه، فكانت بذلك مؤلفاته إيحاء للثورة، وفشل من حيث إنه كان يعتقد الاعتقاد الديني بأن إصلاح الفرد يؤدي إلى إصلاح المجتمع ... ولم يفقه قط إلى أن الفرد مسير بعادات المجتمع وأساليب عيشه، ونظم أخلاقه وعاداته، وأنه لن يتغير إلا إذا غيره المجتمع أو هيأ له أسباب التغير.
Bilinmeyen sayfa