وكنا في سيدي بشر وهي تبعد عن الإسكندرية بنحو عشرة كيلومترات، فاقترحنا على أن ننهض ذات صباح ونسير على الأقدام بحذاء الشاطئ إلى الإسكندرية، وكنت أحس وأنا أتحدث إلى كل منهما أني إزاء إنسان قد استحال إلى شخصية ناضحة تمتاز بجمال وكرامة وذكاء؛ وذلك لأن اختلاطهما بالمجتمع وخدمتهما له قد زاد ذكاءهما وكون شخصيتهما، ولو أن كلا منهما كانت قد نشأت النشأة المألوفة عند غيرهن، اللاتي يعشن في البيت وينتظرن الزوج، ثم يتزوجن ويقصرن اهتماماتهن على اللباس والخدم وقصص الزواج والثراء، لما كانت لها هذه الشخصية.
والذكاء ينهض على أساس طبيعي ولكنه يربى بالمجتمع، ونحن الرجال بما نمارس من اختبارات ونكابد من كسب أو خسارة ونصادف من أخطار، بل بما نرتكب من أخطاء، نتعلم وننمو ونزيد حكمة. والمرأة كذلك لن تكون إنسانا حكيما إلا إذا مارست جميع الأعمال التي يعملها الرجال واقتحمت ميادينهم وتعرضت للأخطار مثلهم. وهذه الصورة الجديدة للمرأة قد لا تعجب بعض الرجال الذين يؤثرون جهل الزوجة على معرفتها وقصورها على نضجها، وهم يجسون سيطرة ويمارسون تسلطا عليها في هذه الحال، ويلتذون هذه المرتبة أو الميزة العالية لهم عليها. ولكن المرأة الرشيدة يجب أن تتنبه وترفض أن تكون لعبة الرجل كما رفضت «نورا».
ونحن الرجال نعرف أن المدرسة والجامعة لا تربياننا وإنما الذي يربينا هو هذا المجتمع الذي نختلط به ونصطدم بمشكلاته، ونحن لا نستقطر الحكمة، وننضح النضج الفلسفي إلا بعد أن نخطئ ونصيب ونخسر ونكسب، وننساق ساعة الهوى، ثم نفيق عقبها سنين؛ لأننا عرفنا الحقائق بالخبرة، ومارسنا هذه الدنيا في حرية واستقلال بلا خوف من سلطة أو تقاليد، وهذه الحكمة التي ننالها نحن الرجال من اختباراتنا لهذه الدنيا يجب أن تنالها المرأة بمثل الوسائل التي نتوسل نحن بها؛ أي بالعمل والإنتاج والاختلاط والاستقلال والاختبار.
وهذه الصورة الجديدة التي رسمها لنا إبسن في نورا قد تحققت في المرأة الأمريكية إلى أبعد حد، وكذلك تحققت إلى حد ما في المرأة الإنجليزية والإسكندناوية والروسية حيث تعمل المرأة إلى جنب الرجل وتستقل بما تكسب، ولم يعد الرجل يعولها، وقد أصبحت شخصيتها قوية جلية تواجه الدنيا في شجاعة، وتحترف الحرف التي ترقيها وتنبه ذكاءها وتفتل عضلاتها، وهي في كل ذلك لم تهمل مهمتها البيولوجية في الزواج والحمل والولادة.
وقد جدت ظروف جعلت هذا الاتجاه نحو استقلال المرأة يسير بسرعة، ذلك أن وفرة الآلات الميكانيكية في البيت الأمريكي أغنت المرأة عن العمل في الطبخ والغسل، فزاد فراغها الذي احتاجت إلى أن تشغله بالعمل والكسب خارج البيت، ومعنى هذا أن التغير في الإنتاج المنزلي قد أحدث تغيرا في أخلاق المرأة، وحققت هذه الآلات الكهربائية دعوة إبسن من حيث لم يكن ينتظرها.
والمقارنة بين المرأة الأمريكية التي تعمل في المصانع والمتاجر والمكاتب، وتستقل بعواطفها، وترسم بيدها خارطة حياتها، وتقرأ وتناقش وتكسب وتخسر وتصيب وتخطئ، وقد تكونت لها شخصية رصينة بصيرة قوية من هذه الحياة، نقول إن المقارنة بينها وبين المرأة الأوروبية في الأقطار الجنوبية مثل إسبانيا وإيطاليا واليونان حيث لا يزال المطبخ يجري على تقاليده، وحيث يستأثر المطبخ والغسل بمعظم الوقت، وحيث يسود الرجل المرأة، وله عليها الكلمة العليا، بحيث يقرر لها، أو يكاد يقرر لها مصيرها؛ هذه المقارنة توضح لنا سمو المرأة الأمريكية الجديدة، باعتبارها إنسانا عاقلا مستقلا، على هذه المرأة الأوروبية الجنوبية التي لا تزال مقيدة بالتقاليد.
إن العمل والكسب والاختبار والإصابة والخطأ والاختلاط بالمجتمع قد ربى المرأة الأمريكية، في حين أن الانزواء في البيت قد قيد النمو الذهني للمرأة الأوروبية الجنوبية، ولا نذكر المرأة الشرقية.
نيتشه أو فتنة الشباب
اثنان انخدعت بهما سنوات كثيرة، أولهما: فيسمان الذي غرس في ذهني أن الصفات المكتسبة لا تورث، وإحساسي الآن نحو هذا الرجل هو البغض. أما الثاني: فهو نيتشه الذي خدعني، فافتننت به سنوات، قبل أن أتخلص منه، وإحساسي نحوه هو الحب.
وقد عرفت نيتشه في عام 1909 وكنت منغمسا في نظرية التطور، وكان «تنازع البقاء» و«بقاء الأصلح» و«الطبيعة حمراء بين الناب والمخلب» من المعاني التي أقبلها في صمت وتسليم، وهذه المعاني جميعها تنقض الديانات التي تقول بالرحمة والتعاون والإخاء البشري وحماية الضعيف.
Bilinmeyen sayfa