فصاح ابن المكري: ابن جهور أقدر الناس على حمل هذا العبء العظيم بذكائه ودهائه وبعد رأيه، ولا يقف في طريقه إلا أنه ليس من سلالة الملوك. والقرطبيون خلقوا وفي دمائهم حب الملوك، فهم لا يبذلون أرواحهم رخيصة، ولا يجبهون الموت، إلا إذا قادهم ملك أو خليفة.
فهز ابن زيدون رأسه في حزن وقال: هذا صحيح يا أبا يزيد. فأسرع الخبيث يقول: لم يبق بقرطبة اليوم أحد يصلح لمقاومة الإفرنجة. وكان الناس منذ حين يلتفون حول فتى من أبناء الناصر لدين الله يسمى ابن المرتضى، ولكنه لا يعلم له الآن مكان، وأظنه قضى نحبه.
فتحرك الباجي في مجلسه وهو يقول في صوت خافت: أخشى يا ابن أخي ألا تكون محيطا بالخفي من الأمور، فإن بعض الناس يظن أن ابن المرتضى عاد إلى قرطبة منذ شهر، وأنه في مكان لا يعرفه إلا خاصة أتباعه. فانقبض وجه ابن زيدون، وقال في صوت مختلج. - من أخبرك بهذا؟ - لم يخبرني أحد، ولعله ظن يا أخي، وإن بعض الظن إثم. - هذه أباطيل يصطنعها مختلقو الأكاذيب، ويرجف بها المرجفون ثم تحفز القوم للقيام فودعوا ولادة وانصرفوا.
ولما بلغ ابن زيدون داره التفت خلفه فرأى رجلا كان يتبع خطواته، يسرع ثم يختفي وراء جدار، فسهم وجهه وقال متأففا: سحقا لجواسيس قرطبة؟
الفصل السابع
كان من عادة ابن جهور أن يجلس كل صباح مع ابنه وخليفته أبي الوليد ليقرأ له ما يرد عليه من أخبار المدينة، وما تطالعه به جواسيسه من شئون وحوادث، وكان في هذا اليوم عبوسا مهموما، يحمل في يده ورقة صغيرة، أطال النظر فيها، ثم ألقى بها إلى أبي الوليد وهو يقول: لقد كان ما خفت أن يكون، صدقت فراستي في الرجل وكنت أرجو الله ألا تصدق. - من هو يا سيدي؟ - الرجل العبقري الباقعة الداهية الكاتب الشاعر والسياسي البارع! كانت تبهرني فيه تلك المزايا، وكنت أتحرق شوقا إلى أن أراها تتجه دائما إلى رفع شأن المملكة وإحياء رميم مجدها، وكنت أرى أن مثله خليق بأن يقتعد أشرف المناصب، ويسمو إلى أرفع الرتب، ولكن كان يصرفني عنه كلما هممت بالانتفاع بمواهبه ما فيه من نزق وعجب، وما تلتهب به نفسه من طموح طائش خفت أن يورده ويورد الدولة معه موارد الهلكة، فكنت أهمل أمره آسفا، وأقنع بأن يقصر عمله على النظر في شئون أهل الذمة كارها، ولكني آخر الآمر عصيت نفسي، وكذبت صادق فراستي، ووليته الوزارة، وأطلقت يده في الدولة سيدا مطاعا، فكان منه ما جعلني أسمع كل يوم عنه خبرا، وأتوجس شرا. - يريد سيدي أبا الوليد بن زيدون؟ - نعم هو يا ولدي. - إن ابن زيدون يا مولاي من أخلص الناس لك، وأصدقهم في النصح لدولتك. وأطولهم باعا في الذياد عنها، وهو يطلعنا في كل حين بقصيدة من روائعه كلها ثناء عليك، وإعلاء لك، وإشادة بمجدك. وهو في مديحه غير متكلف ولا مخادع، فإن للصدق في شعره رنينا يدركه كل أديب، وفيه للإخلاص والوفاء روحا يطل من كل بيت. إن ابن زيدون قد يكون شديد الزهو بنفسه، وله العذر، فمثله حقيق بأن يزهى. وقد يكون طموحا وثابا، ولكنه طموح المعتز بدولته، الناهض بأمته. - ما أظن يا أبا الوليد. إنه يمدحني بشعره كثيرا كما تقول، ولكني أخشى أن يكون هذا المديح دريئة يخفي وراءها سيء مساعيه، وحجابا يسد به عيني من أن تريا ما يعمل في الظلام. ثم زفر في ألم وحسرة وقال: أتظن أنه يمدحني مخلصا، وهو يمدح صاحب بطليوس ويحصر فيه كل صفات العظمة، ويعرض بغيره من الأمراء، ويقول له:
أشف الورى في النهى رتبة
وأشهرهم في المعالي مثل
وأحرى الأنام بأمر ونهي
وأدرى الملوك بعقد وحل
Bilinmeyen sayfa