الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Bilinmeyen sayfa
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
Bilinmeyen sayfa
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
هاتف من الأندلس
هاتف من الأندلس
Bilinmeyen sayfa
تأليف
علي الجارم
الفصل الأول
في يوم من أيام الربيع رقت فيه أنفاس النسيم، وجملت أفقه أضواء الأصيل، ظهرت قرطبة عروس المدائن وأم قرى الأندلس، وحولها البساتين والخمائل، تحيط بها أشعة الشمس الذهبية فتبدو كأنها صورة في إطار من ذهب، وقد انحدر تحت قدميها الوادي الكبير نقيا صافيا كأنه خالص اللجين، وجرت به السفن ترف قلاعها البيض كما ترف الحمائم رأت ماء وخضرة فحنت إلى الورود. وانطلق الملاحون ينغمون أهازيج لهم، فيها حب، وفيها أمل، وفيها مجد وبطولة، فسرت ألحانهم مع هبات النسيم ناعمة مطربة، وتوثبت كل موجة علها تقتنص منها لحنا. وامتد فوق النهر الجسر العظيم الذي أمر ببنائه عمر بن عبد العزيز ضخما تياها يباهي بأقواسه السبع عشرة ما بناه الأولون، ويتحدى أن يكون له مثل في الآخرين.
هذه قرطبة في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، وفي حكم أبي الحزم ابن جهور، انطلقت قبابها في السماء شامخة معجبة على الرغم مما لاقت من الويلات والفتن والحروب وضروب التخريب والتدمير.
هذه قرطبة التي كانت أيام الناصر لدين الله بهجة الدنيا وقبلة الأمم، وملتقى الشرق والغرب، وشعلة النور التي تعشو إلى ضيائها الأبصار، وتفد إليها طلاب العلم من أقاصي الأرض، لعلهم يأتون منها بقبس أو يجدون على النار هدى، والتي لا تزال إلى اليوم تحتفظ بآثار مجدها القديم، وشرفها الصميم.
هذه قرطبة في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، تراها فترى صفحة عجزت الخطوب عن محو سطورها، ودوحة لم تعبث الأعاصير إلا ببعض غصونها، وأملا ضاحكا لم تبكه غوابس الليالي، وصوتا مجلجلا لم تخفته رعود الأحداث الجسام. إنها لا تزال تروعك بجمال باهر وقوة كامنة لم تزعزعها الدهارير! إنها الحسناء الفاتنة وخطها الشيب فأضاف إلى حسنها وقارا، والحلية النادرة زادها قدم العهد ثمانة وغلاء. تزدان بالقصور السامقة، والمساجد الفسيحة، ومعاهد العلم الزاخرة بالطلاب، والأسواق العامرة والتجارات الرابحة، وحولها من الأرباض ما يجاوز العشرين عدا، بكل ربض ما يقوم بأهله حتى لكأنه مدينة قائمة بذاتها. أما الحدائق والمروج التي تحيط بها فلن تجد لها فيما سجله التاريخ في ألواحه مثيلا. وكان القرطبيون يسمون هذه الحدائق بالمنى: فهناك منية الرصافة، ومنية الزبير، والمنية المصحفية، ومنية عجب. وكانت هذه المنى ملاعب لهو الأندلسيين ومسرح صباباتهم، فلقد كانت قرطبة مدينة العلم والزهد والتصوف، كما كانت مدينة اللهو والعبث والمجون. وكان لشبابها جولات أساموا فيها سرح اللهو. واستناموا إلى النعيم، وأطلقوا العنان للذات، حتى ليقول شاعرهم:
لا تنم واغتنم ملذة يوم
إن تحت التراب نوما طويلا
ولقد لدغوا مرات من جراء هذا العبث والتغالي في حب الحياة، فما أغنتهم النذر، وما حاكت فيهم العبر والمثلات، إلى أن جرهم حب الحياة أو الموت الذي لا صحوة بعده!
Bilinmeyen sayfa
كانت الشمس على وشك الغروب، وكانت المدينة تتطلع لاستقبال الليل وما يحمله إليها من لهو ومرح وبهجة، حينما كان فتى يجلس في إحدى حجرات داره، وفي يده قلم يخط به كلمات يثبتها حينا، ويشطب فوقها حينا، ثم يقف مفكرا حينا، وعيناه ذاهلتان في السقف وفي أرجاء الحجرة، كأنه يتلقف الخيال الطائر، أو يستهوي الوحي الحائر، أو يخشى أن ينزلق قلمه بكلمة تأباها الحيطة، ولا يرضاها الحذر. ذلك الفتى هو أحمد أبو الوليد بن زيدون أديب الأندلس وشاعرها، وهو شاب مؤتلق الشباب، ناضر العود، معتدل القامة، وسيم الوجه، عربي الملامح والشمائل. حاجبان إذا اقتربا عرفت فيهما التصميم والعناد وقوة الشكيمة، وعينان فيهما ذهول الشاعرية وبعد مدى الخيال، وأنف أشم يدل على الكبرياء والثقة بالنفس، وفم مفوه خلق ليكون خطيبا!
وابن زيدون من بيت علم وأدب وثراء ونعمة، كان أبوه من كبار قضاة قرطبة ، رفيع المنزلة عزيز الجانب، فنشأ الفتى كما ينشأ أبناء المترفين ناعم العيش مدللا، يتقلب في جنبات النعيم، ولكن ميوله الفطرية، ومواهبه الموروثة، كانت تختطف من فراغه ساعات لدراسة الأدب وفنون اللغة، فاطلع على مكنونها، وظفر بذخائرها، وخرج منها وافر النصيب ضليعا متمكنا. والعبقرية تكفيها النظرة، وتجزئها الإلمامة لتحصل في قليل على ما تنفق فيه الأعمار، وتشيب دون نيله النواصي.
كان ابن زيدون ينظم أبياتا يجيب بها عائشة بنت غالب التي دعته إلى ندوتها مع ثلة من الشعراء والأدباء، وكان كثير التحزر، يثبت ويمحو، ويختار كل لفظ قبل أن يجري به قلمه، فكتب بعد تردد:
أجل عينيك في أسطار كتبي
تجد دمعي مزاجا للمداد
وبينما كان يهم بكتابة البيت الثاني، إذ دخل خادمه علي الباجي يؤذنه بقدوم أبي مروان بن حيان مع شاب في زي المشارقة. وكان ابن حيان مؤرخ الأندلس شيخا باقعة
1
عنيف النقد سليط اللسان، لا يكاد يترك أديما صحيحا، فلم يسلم أحد ترجم له في تاريخه من غمزة تقضي على محاسنه، وتذهب بمآثره، لا يستثني من ذلك ملكا جبارا، ولا ثريا عريض الجاه، ولا عالما بعيد الشهرة، فهابه العظماء، وخافه الأمراء، وتقرب إليه بالود الشعراء والأدباء. وكان يحمل في كمه كراسة لا تفارقه في ليله ونهاره، وكلما شاهد حادثة، أو نما إليه خبر، أو وقعت واقعة أسرع فدون فيها ما رأى أو سمع مصحوبا برأيه وما توحي به إليه نفسه.
كان صديقا لابن زيدون حميما، ولكنه كان شديد النقد له، قاسيا في نصحه، حريصا على أن يجنبه مزالق الشباب.
دخل ابن حيان على ابن زيدون فلما رأى حوله الأوراق والدواة صاح في دعابة قاسية: وهكذا يا أبا الوليد لا تفتأ بين أوراق وأقلام! وأشهد أنك لا تخط فيها إلا ما يمليه الفراغ والشباب. ويلي من أدباء قرطبة ويلي! كأن الشيطان اشترى أقلامهم فما تكتب إلا عبثا ومجونا! فاتجه ابن زيدون إلى الشاب المشرقي وقال في مزح يشبه الجد: ألا تعجب لهذا الشيخ الذي يقتحم داري، ويتجافى عن تحيتي ، ثم يبدأني بالسخرية والتقريع؟
Bilinmeyen sayfa
والتفت إلى ابن حيان فقال: اجلس يا أخي واهدأ فقد كاد يذهب بأنفاسك طول الطريق، ثم عرفني بهذا السيد حتى أقوم له بحق الكرامة. فقهقه ابن حيان وقال: على أن نعرف ما كنت تكتب! - قبلت شريطتك. - هذا يا أخي أبو الفضل محمد الدارمي، قدم إلينا من بغداد تحفزه رغبة بعيدة المنال، ويحدوه أمل في جمع كلمة العرب بعد أن فرقتهم النوازل والأضغان. فتهلل وجه ابن زيدون وصاح: هذه أمنيتي يا سيدي! فإني أعتقد أن العرب لن تعود إليهم قوتهم إلا إذا اتحدت رايتهم، واتفقت كلمتهم، وكانوا بنيانا مرصوصا لا مطمع فيه لعدو. فزفر ابن حيان ثم قال: وأين الثريا من يد المتناول؟
فأسرع ابن زيدون يقول: لا تيأس يا شيخ من روح الله!
وهنا قال الدارمي: لقد تنقلت في إفريقية، وحادثت أمراءها، ثم بلغت الأندلس منذ عام، وقابلت ابن عباد صاحب إشبيلية، وابن ذو النون أمير طليطلة، وابن صمادح زعيم بطليوس ورأيت منهم ميلا إلى لم الشمل وجمع الكلمة.
فهز ابن حيان رأسه في تهكم وسخرية وقال: بشرط أن يكون كل أمير منهم هو الرئيس الأكبر!
فعجل ابن زيدون وقال: اتق الله يا حطيئة التاريخ! - لو وجدت خيرا ما كتمته. - إن لك عينا لا ترى إلا الشر. - لا والله! ولكني لا أكتم الحق ولو طاح فيه رأسي. - ما رأيك في ابن جهور عميد الجماعة؟ قل وكن شجاعا.
فتردد أبو مروان قليلا ثم قال: إني أقولها في وجهه يا فتى، ولو كنت أهاب السيف ما حملت كفي قلما. إن ابن جهور خير من ساس هذه الدولة بعد أن تمزقت أوصالها، ورثت حبالها، وهو من أشد الناس تواضعا وعفة، وأشبههم ظاهرا بباطن، وأولا بآخر، لولا أنه يحوط ماله بالبخل الشديد، ويغلق باب خزائنه في وجوه السائلين.
فقهقه ابن زيدون وقال: لم يسلم الرجل من لدغة الثعبان!
وعجل أبو مروان يقول: أي ثعبان يا فتى؟ لقد أطريت الرجل، وكفى المرء نبلا أن تعد معايبه.
فزفر الدارمي في أسف قائلا : لقد زرته فرأيته على سجاحة
2
Bilinmeyen sayfa
خلقه وحرصه على سلامة رعيته، شديد العداء لمن جاوره من الأمراء، كثير الزراية بهم. وهذا هو الداء العقام الذي أصاب هذه الأمة فهد أركانها، وزعزع بنيانها، ولن يعود للعرب مجدهم إلا إذا عادت لهم أخلاقهم الأولى، وكانوا - كما جاء في الأثر الشريف - في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. فهز ابن حيان رأسه وقال: - ما رأيت دستورا للمسلمين أجمع ولا أوجز من قول النبي الكريم: المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
إن التحاسد والتنافس والاعتصام بالأجنبي والتكالب على الحكم والغلب، كل أولئك كان شره مستطيرا.
فقال الدارمي: عندنا في المشرق استعان المعتصم بالأتراك، ومكنهم من رقاب العرب، فكانوا حربا عليه وعلى خلفائه من بعده، وأصبحت الخلافة في أيديهم لعبة لاعب، يولون من يشاءون، ويعزلون من يشاءون، فقاطعه ابن حيان قائلا: أما في الأندلس فالمصيبة أشد وأنكى، فإن الدولة منذ سنة أربعمائة - وهي سنة الفتنة الكبرى - تتقاسمها ذئاب ضارية: من مضرية ويمنية وصقالبة وبربر وإفرنجة، فما كادت تنتهي الدولة العامرية حتى نعبت غربان الشر من كل جانب، وعاثت شياطين الدمار، واندلعت نيران الفتنة فلم تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. ويبدأ عهد الخذلان - والعياذ بالله - من ولاية سليمان بن الحكم الذي لقبوه بالمستعين بالله، وكانت أيامه شدادا نكدات، صعابا مشئومات، كريهات المبدأ والفاتحة، قبيحة المنتهى والخاتمة. دولة كفاها ذما أن أنشأها «شانجة» ومزقتها الإفرنجة!
وكان من نحس رأيه، واختبال عقله، أن اختار علي بن حمود ليكون أكبر قواده، وأقوى مناصريه. اختار بازيا فاصطاده، وسيفا فحز أوداجه. وإذا أراد الله شيئا أمضاه!
ثم اتجه إلى ابن زيدون وقال في تهكم: لقد كان شاعرا مثلك يا أبا الوليد، فاحذر فإن الشعر كثيرا ما يكون شؤما على قائليه، وإني أستطيع أن أعد لك مئات ممن قتلتهم أشعارهم.
فقال الدارمي: لست أحفظ له إلا قوله:
عجبا يهاب الليث حد سناني
وأهاب لحظ فواتر الأجفان!
وتملكت نفسي ثلاث كالدمى
زهر الوجوه نواعم الأبدان
Bilinmeyen sayfa
هذي الهلال، وتلك بنت المشترى
حسنا، وهذي أخت غصن البان
فقال ابن حيان: يزعمون أنه يعارض بهذه الأبيات أبياتا للرشيد يقول فيها:
ملك الثلاث الآنسات عناني
وحللن من قلبي بكل مكان
مالي تطاوعني البرية كلها
وأطيعهن وهن في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى
وبه قوين، أعز من سلطاني
فقال ابن زيدون: هذا من وضع الرواة فإن الرشيد لم يكن شاعرا.
Bilinmeyen sayfa
فوافق أبو مروان بإشارة برأسه، واتجه إليه الدارمي سائلا: وماذا جرى على قرطبة بعد قتل المستعين؟ - تولى الحكم أبناء حمود سبع سنين فكانت كسني يوسف. ثم تولى المستظهر بالله عبد الرحمن بن هشام، ولم يبق في الملك إلا سبعة وأربعين يوما لم تنتشر له فيها طاعة، ولا التأمت جماعة.
وهنا أسرع ابن زيدون وقال: هذا كان شاعرا بحق يا أبا مروان. - ما لنا وللشعر يا فتى، إننا أحوج إلى العقل والسياسة منا إلى خيال رائع أو تشبيه نادر، لقد كان ابن المعتز في المشرق أبدع شاعر منذ أن تنفس الشعر بقافية. فهل أغنى عنه شعره شيئا؟
فانبرى الدارمي يقول: ولقد وصلت إلينا ببغداد قصيدة للمستظهر بالله من أرق الشعر وأروعه، قالها بعد أن خطب ابنة عمه فلوته أمها وحجبتها عنه، يقول فيها:
وجالبة عذرا لتصرف رغبتي
وتأبى المعالي أن تجيز لها عذرا
يكلفها الأهلون ردى جهاله
وهل حسن بالشمس أن تمنع البدرا؟
وماذا على أم الحبيبة إذا رأت
جلالة قدري، أن أكون لها صهرا؟
جعلت لها شرطا علي تعبدي
Bilinmeyen sayfa
وسقت إليها في الهوى مهجتي مهرا
تعلقتها من عبد شمس غريرة
محدرة من صيد آبائها عرا
حمامة عش العبشميين رفرفت
فطرت إليها من سراتهم صقرا
وأني لأولى الناس من قومها بها
وأنبهم ذكرا وأرفعهم قدرا
جمال وآداب وخلق موطأ
ولفظ إذا ما شئت أسمعك السحرا
فقال ابن زيدون: هذا هو الشعر! وددت الله لو كان لي بعضه بنصف شعري!
Bilinmeyen sayfa
فقال أبو مروان: النصف الرديء أم النصف الجيد؟ - ليس في شعري رديء يا علقمة بن مرة، وخير لك أن تأخذ في تاريخك الأسود الذي لا تتقن سواه.
فقهقه ابن حيان وقال: هؤلاء هم غلمان بني أمية الأغرار الذين كنت تخطب الناس في ميدان الجامع الكبير داعيا إليهم، معددا مناقبهم، وكثيرا ما ضحكت منك في كمي، وأنت تبكي أو تتباكى على مجدهم التليد، وشرفهم العريق. وإني أشهد، والله يشهد أنك لا تبتغي من وراء ذلك إلا منصبا وجاها.
فقال ابن زيدون غاضبا: كنت أدعو لابن المرتضى الأموي. - أعرف، وأعرف أنه فر من قرطبة قبل أن تتم له دعوة، وأنك لم تنل شيئا إلا أن ملأت الصدور عليك حقدا.
ثم طفق يقول: لا تغضب يا أخي، فإني أكن لك من الحب وصادق الود ما أنت به عليم، ولكن ماذا أصنع وقد خلقني الله جافا شائكا لا أضع فوق الحق ستارا من الباطل.
فقال الدارمي: وهذا خير ما فيك يا أبا مروان. وكيف استقر الأمر بقرطبة بعد قتل المستظهر؟ - لم يستقر لها أمر، جاء المستكفي بالله ولم يكن من الحكم في ورد ولا صدر، وإنما أرسله الله على قرطبة محنة وبلية، وفي أيامه هدم البربر بقية قصور جده الناصر، فطوي بخرابها بساط الدنيا، وذهبت بهجة الأيام، والله يسلط جنوده على من يشاء، له العزة والجبروت! ولما اشتد الكرب بالقرطبيين فر المستكفي، وانتهت الرياسة بعد حين إلى أبي الحزم ابن جهور عميد الجماعة.
فقال الدارمي: المستكفي هذا أبو ولادة الأديبة الشاعرة؟ - نعم. وهي والحمد لله لم ترزأ بصفة من صفات أبيها. ثم التفت إلى ابن زيدون سائلا: أتحضر ندوتها يا أبا الوليد؟
فمد ابن زيدون شفته السفلى في أسف وقال: أنى لمثلي أن ينال هذا الشرف؟ إن ندوتها يا سيدي لا تفتح أبوابها لمثلي. أتعرف يا أبا مروان أنني لا أزال كاتبا في الديوان صغير المنزلة أنظر في شئون أهل الذمة؟! - كيف يا ابن أخي؟ لقد كنت عند ابن جهور منذ أيام، وجاء ذكرك في المجلس، فأثنى عليك وأشاد بذكائك وعبقريتك. - ولكنه أمامي يا سيدي باب مبهم ، ولغز مغلق، أنظر في وجهه فأرى صفحة خلت من لمحات العواطف، فأنت لا تعرف أراض هو أم ساخط؟ أمستحسن هو أم مستقبح؟ قدمت إليه بالأمس رسالة أراد أن يبعث بها إلى أمير بطليوس، وبذلت في كتابتها جهدا، وبلغت قمة لم يصل إليها كاتب، فلما عرضتها عليه وقرأها، لم يزد على أن قال: لقد أطنبت يا فتى! ثم انصرف عني يخاطب الوزير محمد بن عباس، كأن إنسانا من بني آدم لم يكن له وجود بحجرته! - إن الرجل يخافك يا أبا الوليد. - يخافني؟! - نعم فلقد لمحت ذلك من حديثي معه حين شبهك بأبي الطيب المتنبي، والرجل داهية بعيد الغور، فإنه لم يشبهك بهذا الشاعر بعينه إلا لما وصل إلى علمه من طموحك وبعد غايتك، فاحذر يا أبا الوليد وتجنب مواطن الشبهات، واحبس لسانك ما استطعت.
فصاح ابن زيدون فيما يشبه الغضب: يجب أن يكون لمثلي آمال ومطامح، وإلا فلمن خلقت خطيرات الأمور؟ - مرحى مرحى؛ إني لأجد ريح الشر والفتنة. - لا شر ولا فتنة يا أبا مروان، ولكن لا بد للمصدور أن ينفث،
3
وللأسير أن يتمرد على القيد. - لا تعجل أبا الوليد فالأمور مرهونة بأوقاتها، ولا بد بعد الليلة الليلاء من فجر باسم. كيف حالك مع الوزير ابن عبدوس! - إنه صديق مداج وعدو محاذر. - حقا لقد جمعته في كلمة. وهنا تهيأ الدارمي للقيام فصاح به ابن حيان: يجب أن نعرف قبل أن نقوم من مقامنا ماذا كان يكتب هذا الفتى العربيد.
Bilinmeyen sayfa
فقال ابن زيدون: كنت أكتب أبياتا لعائشة بنت غالب وقد جئتما قبل أن أتمها، وربما مزقتها وعدلت عن إرسالها.
فأمال ابن حيان رأسه إلى الخلف، ورفع حاجبيه في سهوم وقال: عائشة بنت غالب؟! إنها فتاة مهذبة، يحضر ندوتها كبراء المدينة وأدباؤها، ولكنها شؤم على الرجال، فاحذر من براثنها يا أخي، فإنها إذا نشبت قتلت. ثم إن بعض قالة السوء يهمسون بأنها جاسوسة لابن الأذفونش، ولكني لا أثق بكل ما يقال، لأن الكلام صدى لما في النفوس من حب وبغض. ثم مد يده إلى ابن زيدون وهو يقول: عم مساء يا صريع الغواني، وابتعد ما استطعت عن شباكهن، وكن كما تقول:
وإني لتنهاني نهاي عن التي
أشاد بها الواشي، ويعقلني عقلي
الفصل الثاني
يمتد «طريق الخلفاء» على شاطئ الوادي الكبير بالجهة الجنوبية من قرطبة، وهو طريق طويل عظيم الاتساع، قامت على جانبيه الأشجار، واتسقت به دور الأمراء والوزراء والعظماء وكبار رجال الدولة، فبدت ضخمة سامقة، وغرست أمامها الحدائق مبتسمة ناضرة فياحة تزهى بما حوت من أزهار غريبة النوع رائعة الألوان.
وكان بين هذه الدور دار يدل مظهرها على مجد قديم كادت تعبث به يد البلى، وعز سالف داعبته عوادي الأيام. دار ينطق كل حجر فيها بأنه شهد عظمة وسلطانا، وشهد جندا وأعوانا، وشهد وفود الأرض جاثية على عتبتها بين يأس ورجاء، وفي استخذاء وذلة. ولكن هذا الحجر يكمن اليوم في جداره باسر
1
الوجه مستكينا، وقد عبثت به الأنواء، ونالت منه عواصف الرياح. والهرم يدرك كل شيء حتى البناء. والدور كالبلاد والعباد يصانعها السعد ويسطو عليها الشقاء. بنى هذه الدار الناصر لدين الله أعظم خلفاء الأندلس، فتوارثها أبناؤه إلى أن انتهت إلى محمد بن عبد الرحمن الملقب بالمستكفي بالله، فلو كانت كتابا لضمت دفتاه ما دار على الأندلس في هذه الفترة من خير وشر، ونعيم وبلاء.
كانت الشمس لا تزال تتثاءب في خدرها بعد ضجعة ليل طويل، وكانت أشعتها تتكسر على صفحة النهر الكبير كأنها كانت تقبله قبلة الصباح، وكان الطريق هادئا خاليا من السابلة إلا قليلا، فلم تكن تسمع به إلا أصوات الملاحين من بعيد، وهم منحدرون إلى إشبيلية، أو صوت خادم طروب هزتها الأريحية وهي تنظف بعض الحجر، فانطلقت في نغم خافت تعيد الأغنية التي سمعتها بالأمس من بعض القيان اللاتي كن يغنين لسيدها في مجلس أنسه وشرابه. ومجالس الأنس والشراب بقرطبة لا تكاد تخلو منها ليلة في بيت عظيم أو أمير. إن الأندلسيين خلقوا للطرب، وعاشوا على الطرب، ولو فجأهم الموت ما لقيهم إلا بين زق وعود.
Bilinmeyen sayfa
تيقظت ولادة بنت المستكفي في هذا الصباح كما يتفتح الزهر الوسنان بلله الندى، وداعب أوراقه النسيم، فأسرعت إليها وصيفتها مهجة القرطبية تحييها وتدللها في محبة وشغف، كما تدلل الأم طفلتها اللعوب.
وكانت ولادة في الثامنة عشرة، رائعة الطلعة، فاتنة مباهر الحسن. وجه لم تشرق الشمس على أنضر منه ولا أصبح، وقسمات تأنق في صنعها الجمال، وقوام لو أدرك عهده الإغريق لجعلوا منه تمثالا لكل ما يتخيلونه من رشاقة ولدانة
2
واتساق خلق. وكان أجمل ما فيها تلك النظرات الساحرة التي تنفذ إلى كل قلب، وذلك الشمم العبشمي الذي تراه فتحبه وتهابه، والذي يوحي إليك أن الجمال معنى من المعاني التي يعجز البيان عن وصفها ببيان.
وولادة - إلى كل هذا - أديبة شاعرة، يغشى ندوتها كبار الأدباء والشعراء فيرون أجمل ما يرى، ويسمعون أحسن ما يسمع.
قامت ولادة من سريرها فنالت ما تحب من طعام، وبعد لأي همت بارتداء ثيابها، فأعدت لها مهجة ثوبا من الحرير البنفسجي الموشى بالذهب، أتقن نسجه، وأحكم تفصيله، فوقفت أمام مرآتها، وقد لاح في وجهها شيء من الدهش، كأنها كانت تبحث لها عن مثيلة بقرطبة فوجدتها في المرآة! وهنا قالت مهجة وهي تنظر إلى صاحبتها في إعجاب وزهو: لو علم ابن جهور بأن مناسج الحرير بالمرية ستخرج مثل هذا الثوب في فتنته وإغرائه، لمنع ورود كل ثوب مثله إلى قرطبة.
فتهانفت ولادة وقالت: إن هذا الرجل عبقري في الرياء يا مهجة، وهو لا يظهر التحرج والزهد إلا تملقا للفقهاء الذين لو أرادوا لأطاحوه عن عرشه في لمحة عين. - إنه يا سيدتي أمر بمنع شرب الخمر، وكان الاحتفاء بكسر دنانها عظيما في ميدان الجامع الكبير، وقد مدحه شاعر قرطبة أحمد ابن زيدون بقصيدة رائعة جاء فيها:
أباح حمى الخمر الخبيثة حائطا
حمى الدين من أن يستباح له حد
فطوق باستئصالها المصرمنة
Bilinmeyen sayfa
يكاد يؤدي شكرها الحجر الصلد
هي الرجس إن يذهبه عنه فمحسن
شهير الأيادي ما لآلائه جحد
مظنة آثام، وأم كبائر
يقصر عن أدنى معايبها العد
فرفعت ولادة رأسها كالمفكرة وقالت: ابن زيدون ؟! هذا فتى يزاحم حول سلم المجد، ولكنه يلاقي أقداما أثبت من قدمه، وسواعد أشد من ساعده. وهو يبيع نفسه رخيصة في سوق الحسان. والمجد وعبث الشباب لا يجتمعان! - إنه يا سيدتي فتنة أهل قرطبة، وبطل أحلام كل فتاة، وقد أصبح شعره أنشودة في كل فم، وقرطا في كل أذن. غنى به المغنون، وأنشده المنشدون، ولا يكاد يخلو مجلس في قرطبة من إنشاد أبيات له تهتز لها الأعطاف، وتطرب النفوس.
ذهبت يوم الثلاثاء الفائت على عادتي إلى دار مريم العروضية، لأحضر بعض دروسها، لأنها تعقد في دارها مجالس لتهذيب بنات العظماء والأشراف في اللغة والأدب. - أعرفها وأعرف أن كثيرا من أدباء قرطبة يأخذون عنها، وأنها تحفظ «الكامل» للمبرد و «النوادر» لأبي علي القالي. - نعم يا سيدتي. جلسنا في بهو فسيح في دارها، وكان هناك بعض الفتيات الجميلات اللاتي تظهر عليهن آثار النعمة، ودلائل الثراء، وأخذت مريم تتحدث عن الشعر في إشبيلية، وما يبدو من الفروق بينه وبين شعر قرطبة، ثم أنشأت تشيد بشاعر إشبيلي سمته أبا بكر، زعمت أن له غزلا رقيقا، وأسلوبا ناعما، وخيالا لطيفا، وأنشدت له:
يا أبدع الخلق بلا مرية
وجهك فيه فتنة الناظرين
لاسيما إذ نلتقي خطرة
Bilinmeyen sayfa
فيغلب الورد على الياسمين
وما كادت تنشد البيتين يا سيدتي حتى انبرت لها فتاة طلقة اللسان، حاضرة الخاطر قوية العارضة تقول: إنني لا أريد أن أباهي بمدينتي يا سيدتي، فكل ما يشرف بقعة من الأندلس يشرفني، والشعر والأدب ليس لهما وطن، ونحن نعتز بأشعار المشارقة كما نعتز بأشعارنا، ولكن الشاعر الإشبيلي الذي أطنبت في الثناء عليه لا يصل إلى مواطئ أقدام شاعرنا ابن زيدون. أما بيته الأول فهراء مكرر لم يرد به إلا الدخول على البيت الثاني، وكلمة «بلا مرية» حشو سخيف. على أني لا أرى في البيت الثاني إلا معنى مبذولا ملقى على الطرق، فتشبيه الخد بالورد والياسمين تشبيه قديم، سئم منه الشعر، ومجه الشعراء. فأسرعت مريم تقول: نعم يا فتاتي، إن تشبيه الخد بالورد والياسمين قديم، ولكن الشاعر كون من هذا التشبيه صورة جديدة، هي صورة ما يدرك الحبيب من الخجل عند ملاقاة حبيبه فجأة، فتطغى حمرة خديه على بياضهما.
فهزت الفتاة رأسها في عناد وقالت: وتعجبك «لا سيما» هذه التي جاءت في أول البيت فكانت أشبه بعبارات الفقاء؟ أين ذلك يا سيدتي من قول ابن زيدون؟
ألداعيك مجيب؟
أم لشاكيك طبيب؟
يا قريبا حين ينأى
حاضرا حين يغيب!
كيف يسلوك محب
زانه منك حبيب؟
إنما أنت نسيم
Bilinmeyen sayfa
تتلقاه القلوب
هذا شعر لو نسب إلى ابن المعتز لأنساه نكبته، ولأسلاه عن زوال ملكه.
وهنا صاحت فتاة عصبية المزاج تقول: نعم إنه الشعر الذي يغنى وحده بغير موسيقى. والمؤلم أن يشبه دعاة الأدب شاعرنا بالبحتري، وهل يستطيع البحتري أن يقول؟
أنى تضيع عهدك؟
أم كيف تخلف وعدك؟
وقد رأتك الأماني
رضا فلم تتعدك
يا ليت شعري وعندي
ما ليس في الحب عندك
هل طال ليلك بعدي
Bilinmeyen sayfa
كطول ليلي بعدك؟
سلني حياتي أهبها
فلست أملك ردك
الدهر عبدي لما
أصبحت في الحب عبدك
فقالت مريم: هذا كرم لا مراء في حسنه، وفضل شاعرنا ابن زيدون لا يجحده جاحد، حتى لقد قال بعض أدبائنا: من لبس البياض، وتختم بالعقيق، وقرأ لأبي عمرو، وتفقه للشافعي، وروى شعر ابن زيدون فقد استكمل الظرف كله.
وهنا تحركت ولادة في مجلسها متأففة وقد بدا على وجهها السأم وقالت: أنت متعصبة لهذا الرجل يا مهجة. - لست متعصبة، ولكني أحس لشعره حلاوة لا أجدها في سواه، ولا أعيب على الرجل إلا شيئا واحدا: هو صداقته لعائشة بنت غالب! أتعرفينها يا سيدتي؟ - أعرفها، وأعرف أنها فتاة غيور، تظهر للناس غير ما تبطن، وأن لها نفس نمرة في جسم امرأة وأن صاحبك ابن زيدون صب بها مفتون. - من أخبرك بهذا يا سيدتي؟ - أخبرتني امرأة تعرف كل شيء في هذه المدينة، فلو غاب دلو في الوادي الكبير لعرفت مستقره ومستودعه. ولكنها غربال أسرار. تقول لك الخبر في صوت خافت. وتستحلفك بأغلظ الأيمان ألا تبوحي به لإنسان. فإذا تجاوزتك إلى الباب أخبرت خادمتك نفس الخبر. وكررت عليها نفس الأيمان. وهي من الخيرات الكريمات. تفنى في محبة أصدقائها، ولا تأخذها رحمة في البطش بأعدائها. - من هذه بالله عليك يا سيدتي؟ - كنت أظنك أذكى من ذلك وأفطن. - إن اسمها يجري على لساني. ولكني أبغض الرجم بالظنون. أليست هي نائلة الدمشقية؟ - هي هي يا حبيبتي بعينها تحفة قرطبة. وعجوزها المدللة. وهل يخفى القمر؟ - إنها امرأة بارعة أديبة. لها أسلوب عجيب في اجتذاب الرجال. والتسلط عليهم وإخضاعهم لأمرها، لا يوصد في وجهها باب، ولا تخلو منها ندوة، ولا تحجب دونها أسرار القصور. ودارها ملتقى شباب قرطبة، حتى لكأنها حينما يئست من بشاشات الشباب، أرادت أن تراها في سواها. والغريزة إذا عجزت قنعت بالنظر، واكتفت بالخيال.
وبينما هي منهمرة في الحديث، إذ دخلت عتبة جارية ولادة تقول: إن سيدتي نائلة الدمشقية حضرت الساعة، وهي تنتظر في بهو الورد. فنظرت ولادة إلى مهجة في ابتسام وعجب وقالت: لو ذكرنا الشيطان ما جاءنا هكذا وثبا! ما سبب هذه الزيارة في تلك الساعة يا ترى؟ فهزت مهجة كتفيها، ومطت فمها تقول: أغلب الظن أنها جاءت للحديث وإطلاق عنان اللسان، وذكر أخبار المدينة وما يجري فيها من خير وشر. - ولكنها مسلية حقا، ولها أسلوب في الحديث يقهرك على الاستماع له، ويجتذبك إلى الاشتراك فيه، وهي مزية لا يظفر بها ثرثار إلا في الندرى.
3
هلم إليها يا مهجة.
Bilinmeyen sayfa
كانت نائلة الدمشقية وقد خنقت الستين لا تزال تحتفظ بأطياف هزيلة من الجمال الغابر، فكانت تشبه حديقة أهملها صاحبها سنوات فصوح
4
فيها ما صوح، وذبل ما ذبل، وتهدلت أغصان لم تمتد إليها يد بتشذيب، وتهدمت أسوار بقيت أنقاضها حولها صرعى حزينة كأنها ملت طول القيام. أو لعلها كانت تشبه بيت شعر أصابه التحريف، وتوالت عليه أغاليط الرواة، حتى كاد يفقد وزنه ومعناه. أو مزهرا ذهب طلاؤه، وتراخت أوتاره فأصبحت رناته طنينا مائتا، وأصواتا موصولة الأنين. أو رسالة غرام خط على ما فيها من غزل ونسيب، وأبقى على ما بها من شكوى السهاد وتبريح السقام.
كانت نائلة طويلة بادنة مترهلة اللحم، سطت على وجهها التجاعيد، وعلى جلدها آثار السنين، فعجزت التطرية، ولم تجد الأدهان والأصباغ في إصلاح ما أفسد الدهر إلا قليلا، واستبدت الطبيعة فأبت إلا أن تظهر آثارها، على الرغم مما يبذل في سبيل إخفائها من صنعة وفنون. كانت شاهدا صادقا على جريمة السنين، ومثلا قائما لمن يترك خلفه أجيالا ليدخل في جيل جديد. ومن العجيب أن الدهر مع عبثه بجمالها، لم يستطع أن ينال من سحر عينيها وحسن صوتها، فقد كان للمحاتها بريق ولألاء لا تعتز بهما فتاة في العشرين وكان لصوتها رنين ونغم لم تظفر بمثلهما أفنان الخمائل.
دخلت ولادة البهو فتلقفتها نائلة بين ذراعيها في وله وشغف، وأخذت تمطر خديها قبلات كان لها صوت متلاحق كزقزقة العصافير في الصباح، وبعد أن حيتها ابنة المستكفي في سرور وترحيب انطلقت نائلة تقول: لا لا يا حبيبتي! لقد أطلت هجري، وأصررت على قطيعتي على شدة حبي لك، وطول حنيني إلى رؤيتك! هذه هي المرة الثالثة التي أزورك فيها دون أن تسعد داري بإلمامة منك تشرق بها رحابها، وتشمخ على السماء قبابها. لقد كان أبوك - عليه ألف رحمة - مولعا بي، مشغوفا بمجالستي والاستماع إلى حديثي، وكنت أعرض عنه أحيانا، فعاقبني الله بإعراض ابنته عني. كان رجلا يقطر ظرفا وأدبا. ثم ضحكت وقالت: وكان أعرف بسياسة الحياة منه بسياسة الملك. زرته بعد أن خلع بيوم واحد، وقد انصرف عنه الناس، وجفاه أقربهم إليه، فأخذت أنضح
5
عنه الهم، وأسري عن نفسه بعض ما تجد بالفكاهات والأضاحيك، حتى زال عنه الحزن والأسى، وعندما ودعته شد على يدي وهو يقول باسما: لو أن الناس كانوا في وفائك يا نائلة لنسيت مرارة العزل؛ والملك امرأة فروك،
6
لا تكاد تنعم النفس بوصلها حتى تعاني صدها وقطيعتها. فأجبته مسرعة: أنتم يا بني أمية ولدتم ملوكا، وستموتون ملوكا، وإن لكم من أخلاقكم وقوة نفوسكم تاجا وصولجانا، إذا فقدتم التاج والصولجان. هذا كان حديثي مع أبيك، وهذا كان آخر العهد به. والآن أصبحت أقاسي الهجر والملال من فتاته المدللة اللعوب ولادة!
فابتسمت ولادة ابتسامة مشرقة وقالت: إن هذه الفتاة يا سيدتي تكن لك أخلص الحب وأصدق الوفاء، ولولا وعكة أصابتني ما حجبني عن زيارتك حاجب. - إنه البرد يا سيدتي! حاذريه ولا تستهيني به، فإنه كالحب يبدأ خفيف الوقع ضعيف الأثر، ثم يعظم ويستشري حتى يصبح داء عضالا. ثم اعتدلت في جلستها وقالت: أتخرجين في المساء يا بنيتي؟ نزهة مثلا في قارب في ليالي البدر، أو قضاء ليلة في منية الرصافة، أو تسلية مع بعض الصديقات في حانة «راميرز» فإن بهذه الحانة فتيات أسبانيات لهن رقص عجيب. - أحيانا قليلة يا سيدتي. - أحسنت أحسنت يا بنيتي! فإن هذه الدنيا أقصر من أن تضع بين هم وأحزان. ثم رمت ذراعيها إلى جانبيها في ألم وحسرة وقالت: آه لو عرف الشباب ما وراء المشيب! زارني بالأمس الشيخ مجاهد الأنصاري خطيب مسجد أم سلمة، وهو رجل متزمت متحرج، يخاف أن يتكلم فيأثم، أو يرسل نظرة فتهوى به في قعر جهنم. وهو فقيه مقلص، ولا يلبس «القالص» فوق رأسه بقرطبة إلا من حفظ الموطأ للإمام مالك. لم يزرني الشيخ إلا لأن له ابنا يريد أن يجعله مسجلا لأموال الزكاة، بعد أن عرف صلتي بالوزير أبي حفص بن برد. قابلني وهو مطرق مغمض العينين، يجمع ثيابه في تحرز كأنه يخشى أن يمسها طرف ثوبي. فقلت في نفسي ساخرة: أفق أيها الأبله وافتح عينيك، فإنك إن فعلت فلن تصاب بسوء، وأقسم لو زرتني من ثلاثين عاما لحملقت في كما يحملق النمر الفاتك؛ أخبرني بما شاء من شأن ابنه، ورجاني في أن ألح على الوزير في قبوله، ثم انطلق كأنه السيل الهدار
Bilinmeyen sayfa
7
يصف جهنم وما فيها من ألوان العذاب المقيم. فلما ذكرته بأن الله واسع الرحمة، وأنه غافر الذنب، وقابل التوب. ذعر كما يذعر الصائد حين تجد طريدته منفذا للفرار، وقال على الفور في حدة بهذا يا سيدتي يخدع العصاة أنفسهم، وإن الاعتماد على رحمة الله مطية العابثين. وحينئذ أردت أن أعابث الرجل فقلت: ولم خلق الله لنا النعم يا مولانا في هذه الدنيا؟ فأخذ يغمغم في حيرة ويقول: النعم؟ النعم؟ فقلت نعم النعم. لم خلق لنا الجاه والمال؟ لم أبدع الأزهار الناضرة، والثمار اليانعة، والأطيار المغردة، والأنهار الدافقة؟ لم خلق الصبح السافر، والأصيل الناعم، والبدر الساهر، والليل الساجي؟ كل هذه نعم عظيمة يا مولانا، وفيها يقول جل شأنه:
وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار . وكأنه خشي أن أطيل فلبس خفيه على عجل، وانطلق خائفا مذعورا.
فتنهدت ولادة وقالت: عجيب أمر هؤلاء القوم يضيقون من فضل الله ما اتسع وعظم.
فأسرعت نائلة تقول: ولكن منهم من يستمتع بالنعيم المباح، وتهزه طرائف الشعر والأدب من غير أن يضيع لله حقا. أخبرني أبو عمرو المالقي: أنه كان يزور الجبانة في يوم شديد القيظ، فسعت به قدماه إلى مسجد هناك، فلما بلغه التقى بخطيبه وكان رجلا حسن السمت،
8
ظاهر الزهادة، فلما ذهبا في شئون من الحديث، طلب إليه الخطيب أن ينشده شعرا لبعض الأندلسيين فأنشده:
غصبوا الصباح فقسموه خدودا
واستوعبوا قضب الأراك قدودا
وروا حصى الياقوت دون نحورهم
Bilinmeyen sayfa
فتقلدوا شهب النجوم عقودا
فصاح الشيخ من الطرب، وصفق بيديه في مرح خرج به عن وقاره، فلما عاد إلى نفسه قال: اعذرني يا بني فشيئان يقهرانني ولا أملك نفسي عندهما: الصوت الحسن، والشعر المطبوع الرقيق.
وسمعت أن محمد بن عبد الله قاضي الجماعة في عهد الناصر خرج يوما لحضور جنازة، وكان لرجل من إخوانه منزل بالقرب من مقبرة قريش فعزم عليه في الميل إليه فنزل، وأحضر له طعاما، ودعا جارية له فغنت:
طابت بطيب لثاتك الأقداح
وزها بحمرة وجهك التفاح
وإذا الربيع تنسمت أرواحه
نمت بعرف نسيمك الأرواح
وإذا الحنادس ألبست ظلماءها
فضياء وجهك في الدجى مصباح
فطرب القاضي، وكتب الأبيات على يده، ثم خرج للصلاة على الميت فرأى الناس الأبيات على ظهر يده، وهو يكبر على الجنازة. وقد كان هذا القاضي من أزهد الناس وأعدلهم حكما. والحقيقة يا فتاتي أن الإنسان إذا خشي ربه في السر والعلانية، واجتنب كبائر الإثم والعدوان، فله أن ينعم بكل ما خلق الله من متاع حلال. ثم حدقت في وجه ولادة كأنها تريد أن تستكشف ما وراءه من أسرار وقالت في دعابة: ومن الفائز الأول الآن في خطبة سيدة الحسن والجمال؟ - أي فوز وأي حسن وجمال يا نائلة؟ فتكلفت نائلة العبوس وقالت: أنت لا تكتمين عني شيئا يا بنيتي، وما فائدة الكتمان وقد أصبح الأمر حديث الناس، ومدار سمرهم؟ حتى كاد كل غصن من حدائق قرطبة ينادي صاحبه هامسا: ولادة وابن عبدوس، ولادة وابن عبدوس! - إن ابن عبدوس يزور ندوتي كل ليلة، وهو فتى أديب شاعر عذب الحديث حلو النادرة. - آه من عذوبة الحديث وحلاوة النادرة؛ إنهما يا فتاتي أول ما ينصبه الرجل لنا من حبائل. سليني يا ولادة عن شئون الحياة قبل أن تفقديني. إنني سجلها الجامع الذي يجد فيه كل جائر ما يهديه ويسدد خطاه. ابن عبدوس رجل عظيم متألق، ابن عبدوس شاعر مجيد وكاتب فذ. ابن عبدوس وزير له جاه ومكانة، غير أنه ذئب لا يؤمن جانبه، ولا ترجى عواقبه، وكفاه وصمة اسمه الأسباني الذي يدل على سوء أصله، والذي يجب أن يقصيه عن أن يأمل في الاتصال ببنات الخلفاء، هذا أسقطه من حسابي، وأحسب أنك تسقطينه من حسابك أيضا، وبين شباب قرطبة من ذوي الحسب والمجد من يهبون حياتهم ليشرفوا بالتزوج بك، ولكن الذي آخذه عليك يا بنيتي أنك طير لا يستقر على غصن، ولا يطمئن إلى ركن. أنت شديدة الطموح يا فتاتي، وكلما ظفرت بشيء هان عندك، لأنك ظفرت به، فطلبت غيره مما يصعب مناله، أنت تائهة في بحر الحياة المائج، والسفن تمر بك، فإذا تشبثت بسفينة ظهرت لك في الأفق أخرى، فغادرت الأولى وألقيت بنفسك إلى الثانية. إن مجلسك يحوي أكرم فتيان قرطبة أرومة، وأشرفهم منبتا، وأنت تلهين هذا بابتسامة، وهذا بهزة رأس، وهذا بكلمة طيبة، وذاك بوعد كاذب، لا لأنك لا تحبينهم جميعا، بل لأنك ترغبين في مهلة حتى يهتدي قلبك الحائر، أو عقلك المملوء بالمطامح إلى من يحسن اختياره، ومن تتحقق به الغاية التي ترمين إليها. أنت يا سيدتي كالبخيل الذي حبس ماله فلا يبيع ولا يشتري مخافة أن يغبن في درهم أو درهمين. أسرعي الاختيار يا فتاتي، فإن للشباب أوانا، وإن الورد إذا ذبل لم يبق منه غير أشواكه! أسرعي الاختيار يا ولادة، وابتعدي عن كل ما يمت إلى أصل قوطي أو بربري، فإني لا أحب البربر. إنهم يدلون علينا بطارق بن زياد، وأنا لا أحب طارقهم هذا. وأين هو من موسى بن نصير أو من ابنه عبد العزيز الذي قتله البربر؟ - دعينا بالله يا نائلة من ذكر البربر ومن ذكر الزواج، وخذي في الحديث عن المدينة وما فيها من أخبار وأسرار. - المدينة هادئة، ولكني أظنه هدوءا لا يدوم، إنه يا سيدتي هدوء الطفل الغضبان، الذي طلب لعبة فلم يظفر بها، فطفق يبربر ويهمهم، حتى مل البربرة والهمهمة فسكت على دخل، وتربص لفرصة الوثوب. إن القرطبيين يا ولادة لا يرضون بغير الخلفاء بديلا. إنهم يحبون الخلافة، ويعشقون مظاهرها، ويحنون إلى مراسمها. هاتي لهم خليفة من فخار ثم انظري كيف يجلونه ويبجلونه؛ إنهم رضوا حينا بحكم المنصور عن ابن أبي عامر الحاجب، لأنه بهرهم بتوالي فتوحه وانتصاره، ولولا ذلك ما صبروا عليه يوما أو بعض يوم. وهذا الحكم الذي ابتدعه لنا ابن جهور - ثقي يا فتاتي أني أحب الرجل وأكبر فيه الإخلاص والنزاهة - هذا الحكم الذي يشترك فيه جماعة لسياسة الدولة وحياطتها لا أستطيع استساغته. - إنهم يقولون إن ابن جهور نقله عن قدماء الإغريق والرومان. - لا إغريق ولا رومان يا ولادة. وإنما الرجل رأى رءوس من استبدوا بالحكم قبله تتدحرج من عروشهم، فاحتاط لحياته، واختبأ وراء جماعة ليحكم من غير أن يكون له اسم حاكم أو تبعته. - إنك تعرفين كل شيء يا نائلة! - إنني أعرف سر كل رجل وسر كل امرأة في هذه المدينة، ولولا ذلك ما لقيت منهم كل هذا التبجيل. إن الإنسان يخضعه الخوف، ولا يخضعه بذل المعروف.
Bilinmeyen sayfa