يرى المال أسنى حظه الطبع الوغد
ولكن لحال إن لبست جمالها
كسوتك ثوب النصح أعلامه الحمد
فلما أتم الأبيات تحرك ابن جهور في مجلسه وقال: لقد اجتمع الوزراء في هذا الصباح وأسندوا إليك منصب الوزارة، ورأيت إلى ذلك أن تلقب بذي الوزارتين، لأنك ستكون وزيري وسفيري إلى أمراء الأندلس. ولن أنسى لك يا أبا الوليد عظيم جهادك وكريم بلائك في كبح جماح البربر.
أرأيت الغريق ولم يبق منه إلا الذ ماء يرى يدا تمتد إليه بين الأمواج فتقذف به إلى الشاطئ الأمين؟! أرأيت ميتا مسجى جلس حوله أهله يبكونه، فإذا الغطاء ينكشف، وإذا الميت يثب كأحسن ما يكون صحة وعنفوانا؟ تلك كانت حال ابن زيدون. فإنه ما كاد يسمع كلمات ابن جهور حتى طافت بعينيه غشية، وأخذ لسانه يتلعثم بكلمات كان فيها الخفاء إفصاحا، والإبهام بيانا. ثم عاد فملك زمام نفسه فشكر ابن جهور على عظيم ثقته وجميل رأيه، وخرج من لدنه مزهوا كأن ملك الأرض جمع له في منديل، وكأن الشمس توجته بالأكاليل.
وفي نفس هذا الصباح قبل أن يستيقظ ابن زيدون من نومه، ارتدت نائلة خير ثيابها، وأخذت مقصا صغيرا أخفته في جيبها، ثم قابلت عبيدها الذين أعدوا محفتها فسألتهم: هل أحضرتم قوارير النفط وأعواد الثقاب؟
فأجاب كبيرهم: نعم يا سيدتي. أعددنا خمس قوارير أخفيناها تحت ثيابنا. - حسن. سنذهب الآن إلى دار عائشة بنت غالب، فإذا صعدت إليها فاجلسوا أنتم إلى عبيدها، وخذوا معهم في الأحاديث، ثم اطلبوا منهم أن يعدوا لكم شرابا ساخنا، فإذا أوقدوا النار فغافلوهم، وليسكب كل منكم ما في قارورته على النار، وأحدثوا نوعا من الهرج تتمكنون فيه من إلقاء بعض المتاع على النار لتزيد اشتعالا، وإياكم أن يراكم من العبيد أحد، أو يدرك حيلتكم أحد، ثم ارفعوا أصواتكم في هلع وذعر صائحين: النار! النار! هذا ما أريد منكم أن تعملوه في هذا الصباح، ولا بد من إتقانه على أحسن وجه، كما يجب ألا تحوم حولكم شبهة.
وركبت نائلة المحفة، وانطلق العبيد حتى بلغوا الدار، فصعدت الدرج وقابلتها عائشة في فتور وكبرياء ولكن نائلة الداهية لم تحفل بما رأت في سبيل غايتها، ففتحت ذراعيها لعائشة في شغف ووله، وأخذت تمطر خديها قبلا، وتناجيها بأصدق ما يناجي الحب، وألطف ما يكن الوداد، ثم صاحت: ما هذا يا عائشة؟ في كل يوم تزيدين نضارة وإشراقا؟ لقد حببت إلي الشباب يا ساحرة، ولكن أين الشباب؟ أتعلمين أنني بعد أن حرمته أشعر بلذة عجيبة حينما أراه في فتاة مثلك لم تشرق على مثلها شمس قرطبة؟
فأجابت عائشة: هذا إطراء يا سيدتي يزيدني زهوا وغرورا. أرأيت ابن زيدون منذ قريب؟ - كيف أراه يا حبيبتي، وهو لا يفارق دارك؟ ولكني في الحق أعذره وأعذر كل فتى يفتن بهذا الجمال الرائع. ثم لا أخفي عليك أن من أسباب زيارتي لك في هذا الصباح أن أراك وأن أراه، فإن هذا الملعون هجر داري منذ عهد بعيد، حتى كدت أنسى ملامح وجهه. ثم ألقت بنظرة خفية فرأت الغرفة الغربية، ورأت بابها مفتوحا، ثم أرسلت نظرة أخرى فرأت مفتاح خزانة الرسائل وقد شد بخيط إلى عنق عائشة. وهنا تنهدت عائشة وقالت: إنه هجر داري أيضا. - هجر دارك؟! هذا مستحيل. - هجرني فعلا، ولكنه سيندم حين لا يجديه الندم. - لا تقولي هذا يا بنية، واتركي الأمر لي، فلن يأتي المساء إلا وخطيبك في دارك.
وطال الحديث، وامتد حبل الكلام، وإذا صراخ وضجيج وأصوات منكرة تصيح: النار النار: ففزعت عائشة، وأدركها الوهل، وأسرعت تثب فوق الدرج لتعلم حقيقة الأمر. وبينما هي في ذهولها إذ مدت نائلة يدها بالمقص فقطعت خيط المفتاح، وأخفته في كمها. وما كاد البهو يخلو من عائشة حتى نهضت إلى الغرفة الغربية، فرأت المرآة وبجانبها الخزانة كما أخبرتها غالية، ففتحتها مسرعة ، وندلت
Bilinmeyen sayfa