طير تناول ياقوتا بمنقار
فصاح القوم: لله أبوك يا أبا العلاء! لقد جبهت فتانا وألقمته حجرا!
وبعد أن قضى القوم وقتا في الحديث تقدم غالب في أدب وإكبار نحو القاضي ثابت بن قاسم، وطلب منه أن يعقد له على فلورندا، فعقد له عليها ثم انصرف القوم جذلين يكررون التهنئات للعروسين.
وعاش غالب مع زوجه في سعادة ورفاهة عيش وحب تزيده الأيام تجددا، ورزق منها بنتا سماها عائشة، نشأت في عز ونعيم. ولما انقضت الدولة العامرية، وولي الخلافة المستعين بالله، كان لغالب عنده مكانة مرموقة، واتفق أن وثب على قرطبة علي بن حمود الحسني وأخوه قاسم، يعاونهما جيش من البربر، فخرج المستعين لقتالهم، وكان غالب في أول صفوف المجاهدين، فدارت الدائرة على الخليفة فقتل وقتل معه غالب ابن أبي حفص، وترك زوجه فلورندا وابنته عائشة تقاسيان لوعة الثكل، وتنعمان بثروة مؤثلة
7
وعز مقيم.
ونشأت عائشة في كنف أمها مدللة لعوبا، تعمل ما تشاء، وتجري مع شيطان غيها كما تريد، واندمجت في المجتمع القرطبي، يذلل المال لها كل طريق، ويفتح الجمال أمامها كل باب.
كانت عائشة في بدء قصتنا هذه في الخامسة والعشرين من عمرها، وكانت ذات جمال وملاحة ووجه نضير مشرق، إذا تأملته جزءا جزءا كان أنيقا جميلا، وإذا نظرت إليه جملة كان آنق وأجمل. وجه تنافست فيه العروبة السمحة والأسبانية الفاتنة، فجاء كل جنس منهما بأبدع ما فيه وأروع. هكذا كانت عائشة بنت غالب فيما ترى العين، وفيما يبدو منها من جمال باهر. أما روحها وأما أخلاقها وأما فلسفتها في الحياة، فكانت على النقيض المخالف من ذلك المظهر الخلاب ولو أن هذه الروح صورت، أو لو أن العلم استطاع أن يرسم الصفات والمعاني، لرسم لها مخلوقا بشعا لم يصور الله أدم منه فيما صور. وكما خلق الله للأفاعي أوعية تخفي سمومها، خلق لهذه المرأة خلقا واحدا يستر كل هذه المثالب وتحجبها عن أعين الناظرين. ذلك هو خلق الرياء، فقد بلغت فيه الذروة، ووصلت إلى القمة كان في مكنتها أن تظهر طيبة القلب، رقيقة العاطفة، تمزج دموعها بدموع البائسين وكان في مكنتها أن تبدو خجولا خفرة تطرق حياء من تطفل الناظرين. وكانت تستطيع أن تستر في مهارة وحذق كل رذيلة فيها بنقيضها، حتى يعود الجهل علما، والحقد عطفا، والبغض حبا، والشره زهدا. ولقد رمتها الوراثة بنفس حقود وشغف بالانتقام وكراهة متأصلة للعرب، ولكنها كانت تخفي كل ذلك وراء ستار كثيف من الدهاء والملق والظهور بالغيرة على العرب، وكل ما يتصل بالعرب.
فتنت بابن زيدون وفتن بها إلى أن أيقظه صائح الرشد فقطع حبالها، وكتب إليها الرسالة التي أملتها عليه نائلة. كتبها خائفا مترددا، لأنه كان يعلم أن وراءها حربا حامية الوطيس، ولأنه كان يعلم أن عائشة ليست من النوع الذي يصرف بالرسائل، ولا من الصنف الأبي الذي يقابل هجرانا بهجران، ولكنها من الطراز الذي لا ينهزم، من الطراز الذي يحب كثيرا، فإذا أبغض أبغض كثيرا. وهي إذا مست عاطفتها، أو طعنت كبرياؤها، انقلبت وحشا لا ترويه الدماء، وأفعوانا لا تنفع في سمه رقية ولا يجدي دواء.
بلغت رسالة ابن زيدون عائشة فأصابها وجوم عجيب، وذهول مريب، وأخذت تهتز هزة المذبوح، وتقهقه قهقهة مجنونة خير منها العويل والنواح، فأسرعت إليها جاريتها غالية في شماتة مكتومة، ودهشت أمها فأقبلت نحوها في ذعر وهي تقول: ما الخبر يا عائشة؟
Bilinmeyen sayfa