الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
هاتف من الأندلس
هاتف من الأندلس
تأليف
علي الجارم
الفصل الأول
في يوم من أيام الربيع رقت فيه أنفاس النسيم، وجملت أفقه أضواء الأصيل، ظهرت قرطبة عروس المدائن وأم قرى الأندلس، وحولها البساتين والخمائل، تحيط بها أشعة الشمس الذهبية فتبدو كأنها صورة في إطار من ذهب، وقد انحدر تحت قدميها الوادي الكبير نقيا صافيا كأنه خالص اللجين، وجرت به السفن ترف قلاعها البيض كما ترف الحمائم رأت ماء وخضرة فحنت إلى الورود. وانطلق الملاحون ينغمون أهازيج لهم، فيها حب، وفيها أمل، وفيها مجد وبطولة، فسرت ألحانهم مع هبات النسيم ناعمة مطربة، وتوثبت كل موجة علها تقتنص منها لحنا. وامتد فوق النهر الجسر العظيم الذي أمر ببنائه عمر بن عبد العزيز ضخما تياها يباهي بأقواسه السبع عشرة ما بناه الأولون، ويتحدى أن يكون له مثل في الآخرين.
هذه قرطبة في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، وفي حكم أبي الحزم ابن جهور، انطلقت قبابها في السماء شامخة معجبة على الرغم مما لاقت من الويلات والفتن والحروب وضروب التخريب والتدمير.
هذه قرطبة التي كانت أيام الناصر لدين الله بهجة الدنيا وقبلة الأمم، وملتقى الشرق والغرب، وشعلة النور التي تعشو إلى ضيائها الأبصار، وتفد إليها طلاب العلم من أقاصي الأرض، لعلهم يأتون منها بقبس أو يجدون على النار هدى، والتي لا تزال إلى اليوم تحتفظ بآثار مجدها القديم، وشرفها الصميم.
هذه قرطبة في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، تراها فترى صفحة عجزت الخطوب عن محو سطورها، ودوحة لم تعبث الأعاصير إلا ببعض غصونها، وأملا ضاحكا لم تبكه غوابس الليالي، وصوتا مجلجلا لم تخفته رعود الأحداث الجسام. إنها لا تزال تروعك بجمال باهر وقوة كامنة لم تزعزعها الدهارير! إنها الحسناء الفاتنة وخطها الشيب فأضاف إلى حسنها وقارا، والحلية النادرة زادها قدم العهد ثمانة وغلاء. تزدان بالقصور السامقة، والمساجد الفسيحة، ومعاهد العلم الزاخرة بالطلاب، والأسواق العامرة والتجارات الرابحة، وحولها من الأرباض ما يجاوز العشرين عدا، بكل ربض ما يقوم بأهله حتى لكأنه مدينة قائمة بذاتها. أما الحدائق والمروج التي تحيط بها فلن تجد لها فيما سجله التاريخ في ألواحه مثيلا. وكان القرطبيون يسمون هذه الحدائق بالمنى: فهناك منية الرصافة، ومنية الزبير، والمنية المصحفية، ومنية عجب. وكانت هذه المنى ملاعب لهو الأندلسيين ومسرح صباباتهم، فلقد كانت قرطبة مدينة العلم والزهد والتصوف، كما كانت مدينة اللهو والعبث والمجون. وكان لشبابها جولات أساموا فيها سرح اللهو. واستناموا إلى النعيم، وأطلقوا العنان للذات، حتى ليقول شاعرهم:
لا تنم واغتنم ملذة يوم
إن تحت التراب نوما طويلا
ولقد لدغوا مرات من جراء هذا العبث والتغالي في حب الحياة، فما أغنتهم النذر، وما حاكت فيهم العبر والمثلات، إلى أن جرهم حب الحياة أو الموت الذي لا صحوة بعده!
كانت الشمس على وشك الغروب، وكانت المدينة تتطلع لاستقبال الليل وما يحمله إليها من لهو ومرح وبهجة، حينما كان فتى يجلس في إحدى حجرات داره، وفي يده قلم يخط به كلمات يثبتها حينا، ويشطب فوقها حينا، ثم يقف مفكرا حينا، وعيناه ذاهلتان في السقف وفي أرجاء الحجرة، كأنه يتلقف الخيال الطائر، أو يستهوي الوحي الحائر، أو يخشى أن ينزلق قلمه بكلمة تأباها الحيطة، ولا يرضاها الحذر. ذلك الفتى هو أحمد أبو الوليد بن زيدون أديب الأندلس وشاعرها، وهو شاب مؤتلق الشباب، ناضر العود، معتدل القامة، وسيم الوجه، عربي الملامح والشمائل. حاجبان إذا اقتربا عرفت فيهما التصميم والعناد وقوة الشكيمة، وعينان فيهما ذهول الشاعرية وبعد مدى الخيال، وأنف أشم يدل على الكبرياء والثقة بالنفس، وفم مفوه خلق ليكون خطيبا!
وابن زيدون من بيت علم وأدب وثراء ونعمة، كان أبوه من كبار قضاة قرطبة ، رفيع المنزلة عزيز الجانب، فنشأ الفتى كما ينشأ أبناء المترفين ناعم العيش مدللا، يتقلب في جنبات النعيم، ولكن ميوله الفطرية، ومواهبه الموروثة، كانت تختطف من فراغه ساعات لدراسة الأدب وفنون اللغة، فاطلع على مكنونها، وظفر بذخائرها، وخرج منها وافر النصيب ضليعا متمكنا. والعبقرية تكفيها النظرة، وتجزئها الإلمامة لتحصل في قليل على ما تنفق فيه الأعمار، وتشيب دون نيله النواصي.
كان ابن زيدون ينظم أبياتا يجيب بها عائشة بنت غالب التي دعته إلى ندوتها مع ثلة من الشعراء والأدباء، وكان كثير التحزر، يثبت ويمحو، ويختار كل لفظ قبل أن يجري به قلمه، فكتب بعد تردد:
أجل عينيك في أسطار كتبي
تجد دمعي مزاجا للمداد
وبينما كان يهم بكتابة البيت الثاني، إذ دخل خادمه علي الباجي يؤذنه بقدوم أبي مروان بن حيان مع شاب في زي المشارقة. وكان ابن حيان مؤرخ الأندلس شيخا باقعة
1
عنيف النقد سليط اللسان، لا يكاد يترك أديما صحيحا، فلم يسلم أحد ترجم له في تاريخه من غمزة تقضي على محاسنه، وتذهب بمآثره، لا يستثني من ذلك ملكا جبارا، ولا ثريا عريض الجاه، ولا عالما بعيد الشهرة، فهابه العظماء، وخافه الأمراء، وتقرب إليه بالود الشعراء والأدباء. وكان يحمل في كمه كراسة لا تفارقه في ليله ونهاره، وكلما شاهد حادثة، أو نما إليه خبر، أو وقعت واقعة أسرع فدون فيها ما رأى أو سمع مصحوبا برأيه وما توحي به إليه نفسه.
كان صديقا لابن زيدون حميما، ولكنه كان شديد النقد له، قاسيا في نصحه، حريصا على أن يجنبه مزالق الشباب.
دخل ابن حيان على ابن زيدون فلما رأى حوله الأوراق والدواة صاح في دعابة قاسية: وهكذا يا أبا الوليد لا تفتأ بين أوراق وأقلام! وأشهد أنك لا تخط فيها إلا ما يمليه الفراغ والشباب. ويلي من أدباء قرطبة ويلي! كأن الشيطان اشترى أقلامهم فما تكتب إلا عبثا ومجونا! فاتجه ابن زيدون إلى الشاب المشرقي وقال في مزح يشبه الجد: ألا تعجب لهذا الشيخ الذي يقتحم داري، ويتجافى عن تحيتي ، ثم يبدأني بالسخرية والتقريع؟
والتفت إلى ابن حيان فقال: اجلس يا أخي واهدأ فقد كاد يذهب بأنفاسك طول الطريق، ثم عرفني بهذا السيد حتى أقوم له بحق الكرامة. فقهقه ابن حيان وقال: على أن نعرف ما كنت تكتب! - قبلت شريطتك. - هذا يا أخي أبو الفضل محمد الدارمي، قدم إلينا من بغداد تحفزه رغبة بعيدة المنال، ويحدوه أمل في جمع كلمة العرب بعد أن فرقتهم النوازل والأضغان. فتهلل وجه ابن زيدون وصاح: هذه أمنيتي يا سيدي! فإني أعتقد أن العرب لن تعود إليهم قوتهم إلا إذا اتحدت رايتهم، واتفقت كلمتهم، وكانوا بنيانا مرصوصا لا مطمع فيه لعدو. فزفر ابن حيان ثم قال: وأين الثريا من يد المتناول؟
فأسرع ابن زيدون يقول: لا تيأس يا شيخ من روح الله!
وهنا قال الدارمي: لقد تنقلت في إفريقية، وحادثت أمراءها، ثم بلغت الأندلس منذ عام، وقابلت ابن عباد صاحب إشبيلية، وابن ذو النون أمير طليطلة، وابن صمادح زعيم بطليوس ورأيت منهم ميلا إلى لم الشمل وجمع الكلمة.
فهز ابن حيان رأسه في تهكم وسخرية وقال: بشرط أن يكون كل أمير منهم هو الرئيس الأكبر!
فعجل ابن زيدون وقال: اتق الله يا حطيئة التاريخ! - لو وجدت خيرا ما كتمته. - إن لك عينا لا ترى إلا الشر. - لا والله! ولكني لا أكتم الحق ولو طاح فيه رأسي. - ما رأيك في ابن جهور عميد الجماعة؟ قل وكن شجاعا.
فتردد أبو مروان قليلا ثم قال: إني أقولها في وجهه يا فتى، ولو كنت أهاب السيف ما حملت كفي قلما. إن ابن جهور خير من ساس هذه الدولة بعد أن تمزقت أوصالها، ورثت حبالها، وهو من أشد الناس تواضعا وعفة، وأشبههم ظاهرا بباطن، وأولا بآخر، لولا أنه يحوط ماله بالبخل الشديد، ويغلق باب خزائنه في وجوه السائلين.
فقهقه ابن زيدون وقال: لم يسلم الرجل من لدغة الثعبان!
وعجل أبو مروان يقول: أي ثعبان يا فتى؟ لقد أطريت الرجل، وكفى المرء نبلا أن تعد معايبه.
فزفر الدارمي في أسف قائلا : لقد زرته فرأيته على سجاحة
2
خلقه وحرصه على سلامة رعيته، شديد العداء لمن جاوره من الأمراء، كثير الزراية بهم. وهذا هو الداء العقام الذي أصاب هذه الأمة فهد أركانها، وزعزع بنيانها، ولن يعود للعرب مجدهم إلا إذا عادت لهم أخلاقهم الأولى، وكانوا - كما جاء في الأثر الشريف - في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. فهز ابن حيان رأسه وقال: - ما رأيت دستورا للمسلمين أجمع ولا أوجز من قول النبي الكريم: المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
إن التحاسد والتنافس والاعتصام بالأجنبي والتكالب على الحكم والغلب، كل أولئك كان شره مستطيرا.
فقال الدارمي: عندنا في المشرق استعان المعتصم بالأتراك، ومكنهم من رقاب العرب، فكانوا حربا عليه وعلى خلفائه من بعده، وأصبحت الخلافة في أيديهم لعبة لاعب، يولون من يشاءون، ويعزلون من يشاءون، فقاطعه ابن حيان قائلا: أما في الأندلس فالمصيبة أشد وأنكى، فإن الدولة منذ سنة أربعمائة - وهي سنة الفتنة الكبرى - تتقاسمها ذئاب ضارية: من مضرية ويمنية وصقالبة وبربر وإفرنجة، فما كادت تنتهي الدولة العامرية حتى نعبت غربان الشر من كل جانب، وعاثت شياطين الدمار، واندلعت نيران الفتنة فلم تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. ويبدأ عهد الخذلان - والعياذ بالله - من ولاية سليمان بن الحكم الذي لقبوه بالمستعين بالله، وكانت أيامه شدادا نكدات، صعابا مشئومات، كريهات المبدأ والفاتحة، قبيحة المنتهى والخاتمة. دولة كفاها ذما أن أنشأها «شانجة» ومزقتها الإفرنجة!
وكان من نحس رأيه، واختبال عقله، أن اختار علي بن حمود ليكون أكبر قواده، وأقوى مناصريه. اختار بازيا فاصطاده، وسيفا فحز أوداجه. وإذا أراد الله شيئا أمضاه!
ثم اتجه إلى ابن زيدون وقال في تهكم: لقد كان شاعرا مثلك يا أبا الوليد، فاحذر فإن الشعر كثيرا ما يكون شؤما على قائليه، وإني أستطيع أن أعد لك مئات ممن قتلتهم أشعارهم.
فقال الدارمي: لست أحفظ له إلا قوله:
عجبا يهاب الليث حد سناني
وأهاب لحظ فواتر الأجفان!
وتملكت نفسي ثلاث كالدمى
زهر الوجوه نواعم الأبدان
هذي الهلال، وتلك بنت المشترى
حسنا، وهذي أخت غصن البان
فقال ابن حيان: يزعمون أنه يعارض بهذه الأبيات أبياتا للرشيد يقول فيها:
ملك الثلاث الآنسات عناني
وحللن من قلبي بكل مكان
مالي تطاوعني البرية كلها
وأطيعهن وهن في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى
وبه قوين، أعز من سلطاني
فقال ابن زيدون: هذا من وضع الرواة فإن الرشيد لم يكن شاعرا.
فوافق أبو مروان بإشارة برأسه، واتجه إليه الدارمي سائلا: وماذا جرى على قرطبة بعد قتل المستعين؟ - تولى الحكم أبناء حمود سبع سنين فكانت كسني يوسف. ثم تولى المستظهر بالله عبد الرحمن بن هشام، ولم يبق في الملك إلا سبعة وأربعين يوما لم تنتشر له فيها طاعة، ولا التأمت جماعة.
وهنا أسرع ابن زيدون وقال: هذا كان شاعرا بحق يا أبا مروان. - ما لنا وللشعر يا فتى، إننا أحوج إلى العقل والسياسة منا إلى خيال رائع أو تشبيه نادر، لقد كان ابن المعتز في المشرق أبدع شاعر منذ أن تنفس الشعر بقافية. فهل أغنى عنه شعره شيئا؟
فانبرى الدارمي يقول: ولقد وصلت إلينا ببغداد قصيدة للمستظهر بالله من أرق الشعر وأروعه، قالها بعد أن خطب ابنة عمه فلوته أمها وحجبتها عنه، يقول فيها:
وجالبة عذرا لتصرف رغبتي
وتأبى المعالي أن تجيز لها عذرا
يكلفها الأهلون ردى جهاله
وهل حسن بالشمس أن تمنع البدرا؟
وماذا على أم الحبيبة إذا رأت
جلالة قدري، أن أكون لها صهرا؟
جعلت لها شرطا علي تعبدي
وسقت إليها في الهوى مهجتي مهرا
تعلقتها من عبد شمس غريرة
محدرة من صيد آبائها عرا
حمامة عش العبشميين رفرفت
فطرت إليها من سراتهم صقرا
وأني لأولى الناس من قومها بها
وأنبهم ذكرا وأرفعهم قدرا
جمال وآداب وخلق موطأ
ولفظ إذا ما شئت أسمعك السحرا
فقال ابن زيدون: هذا هو الشعر! وددت الله لو كان لي بعضه بنصف شعري!
فقال أبو مروان: النصف الرديء أم النصف الجيد؟ - ليس في شعري رديء يا علقمة بن مرة، وخير لك أن تأخذ في تاريخك الأسود الذي لا تتقن سواه.
فقهقه ابن حيان وقال: هؤلاء هم غلمان بني أمية الأغرار الذين كنت تخطب الناس في ميدان الجامع الكبير داعيا إليهم، معددا مناقبهم، وكثيرا ما ضحكت منك في كمي، وأنت تبكي أو تتباكى على مجدهم التليد، وشرفهم العريق. وإني أشهد، والله يشهد أنك لا تبتغي من وراء ذلك إلا منصبا وجاها.
فقال ابن زيدون غاضبا: كنت أدعو لابن المرتضى الأموي. - أعرف، وأعرف أنه فر من قرطبة قبل أن تتم له دعوة، وأنك لم تنل شيئا إلا أن ملأت الصدور عليك حقدا.
ثم طفق يقول: لا تغضب يا أخي، فإني أكن لك من الحب وصادق الود ما أنت به عليم، ولكن ماذا أصنع وقد خلقني الله جافا شائكا لا أضع فوق الحق ستارا من الباطل.
فقال الدارمي: وهذا خير ما فيك يا أبا مروان. وكيف استقر الأمر بقرطبة بعد قتل المستظهر؟ - لم يستقر لها أمر، جاء المستكفي بالله ولم يكن من الحكم في ورد ولا صدر، وإنما أرسله الله على قرطبة محنة وبلية، وفي أيامه هدم البربر بقية قصور جده الناصر، فطوي بخرابها بساط الدنيا، وذهبت بهجة الأيام، والله يسلط جنوده على من يشاء، له العزة والجبروت! ولما اشتد الكرب بالقرطبيين فر المستكفي، وانتهت الرياسة بعد حين إلى أبي الحزم ابن جهور عميد الجماعة.
فقال الدارمي: المستكفي هذا أبو ولادة الأديبة الشاعرة؟ - نعم. وهي والحمد لله لم ترزأ بصفة من صفات أبيها. ثم التفت إلى ابن زيدون سائلا: أتحضر ندوتها يا أبا الوليد؟
فمد ابن زيدون شفته السفلى في أسف وقال: أنى لمثلي أن ينال هذا الشرف؟ إن ندوتها يا سيدي لا تفتح أبوابها لمثلي. أتعرف يا أبا مروان أنني لا أزال كاتبا في الديوان صغير المنزلة أنظر في شئون أهل الذمة؟! - كيف يا ابن أخي؟ لقد كنت عند ابن جهور منذ أيام، وجاء ذكرك في المجلس، فأثنى عليك وأشاد بذكائك وعبقريتك. - ولكنه أمامي يا سيدي باب مبهم ، ولغز مغلق، أنظر في وجهه فأرى صفحة خلت من لمحات العواطف، فأنت لا تعرف أراض هو أم ساخط؟ أمستحسن هو أم مستقبح؟ قدمت إليه بالأمس رسالة أراد أن يبعث بها إلى أمير بطليوس، وبذلت في كتابتها جهدا، وبلغت قمة لم يصل إليها كاتب، فلما عرضتها عليه وقرأها، لم يزد على أن قال: لقد أطنبت يا فتى! ثم انصرف عني يخاطب الوزير محمد بن عباس، كأن إنسانا من بني آدم لم يكن له وجود بحجرته! - إن الرجل يخافك يا أبا الوليد. - يخافني؟! - نعم فلقد لمحت ذلك من حديثي معه حين شبهك بأبي الطيب المتنبي، والرجل داهية بعيد الغور، فإنه لم يشبهك بهذا الشاعر بعينه إلا لما وصل إلى علمه من طموحك وبعد غايتك، فاحذر يا أبا الوليد وتجنب مواطن الشبهات، واحبس لسانك ما استطعت.
فصاح ابن زيدون فيما يشبه الغضب: يجب أن يكون لمثلي آمال ومطامح، وإلا فلمن خلقت خطيرات الأمور؟ - مرحى مرحى؛ إني لأجد ريح الشر والفتنة. - لا شر ولا فتنة يا أبا مروان، ولكن لا بد للمصدور أن ينفث،
3
وللأسير أن يتمرد على القيد. - لا تعجل أبا الوليد فالأمور مرهونة بأوقاتها، ولا بد بعد الليلة الليلاء من فجر باسم. كيف حالك مع الوزير ابن عبدوس! - إنه صديق مداج وعدو محاذر. - حقا لقد جمعته في كلمة. وهنا تهيأ الدارمي للقيام فصاح به ابن حيان: يجب أن نعرف قبل أن نقوم من مقامنا ماذا كان يكتب هذا الفتى العربيد.
فقال ابن زيدون: كنت أكتب أبياتا لعائشة بنت غالب وقد جئتما قبل أن أتمها، وربما مزقتها وعدلت عن إرسالها.
فأمال ابن حيان رأسه إلى الخلف، ورفع حاجبيه في سهوم وقال: عائشة بنت غالب؟! إنها فتاة مهذبة، يحضر ندوتها كبراء المدينة وأدباؤها، ولكنها شؤم على الرجال، فاحذر من براثنها يا أخي، فإنها إذا نشبت قتلت. ثم إن بعض قالة السوء يهمسون بأنها جاسوسة لابن الأذفونش، ولكني لا أثق بكل ما يقال، لأن الكلام صدى لما في النفوس من حب وبغض. ثم مد يده إلى ابن زيدون وهو يقول: عم مساء يا صريع الغواني، وابتعد ما استطعت عن شباكهن، وكن كما تقول:
وإني لتنهاني نهاي عن التي
أشاد بها الواشي، ويعقلني عقلي
الفصل الثاني
يمتد «طريق الخلفاء» على شاطئ الوادي الكبير بالجهة الجنوبية من قرطبة، وهو طريق طويل عظيم الاتساع، قامت على جانبيه الأشجار، واتسقت به دور الأمراء والوزراء والعظماء وكبار رجال الدولة، فبدت ضخمة سامقة، وغرست أمامها الحدائق مبتسمة ناضرة فياحة تزهى بما حوت من أزهار غريبة النوع رائعة الألوان.
وكان بين هذه الدور دار يدل مظهرها على مجد قديم كادت تعبث به يد البلى، وعز سالف داعبته عوادي الأيام. دار ينطق كل حجر فيها بأنه شهد عظمة وسلطانا، وشهد جندا وأعوانا، وشهد وفود الأرض جاثية على عتبتها بين يأس ورجاء، وفي استخذاء وذلة. ولكن هذا الحجر يكمن اليوم في جداره باسر
1
الوجه مستكينا، وقد عبثت به الأنواء، ونالت منه عواصف الرياح. والهرم يدرك كل شيء حتى البناء. والدور كالبلاد والعباد يصانعها السعد ويسطو عليها الشقاء. بنى هذه الدار الناصر لدين الله أعظم خلفاء الأندلس، فتوارثها أبناؤه إلى أن انتهت إلى محمد بن عبد الرحمن الملقب بالمستكفي بالله، فلو كانت كتابا لضمت دفتاه ما دار على الأندلس في هذه الفترة من خير وشر، ونعيم وبلاء.
كانت الشمس لا تزال تتثاءب في خدرها بعد ضجعة ليل طويل، وكانت أشعتها تتكسر على صفحة النهر الكبير كأنها كانت تقبله قبلة الصباح، وكان الطريق هادئا خاليا من السابلة إلا قليلا، فلم تكن تسمع به إلا أصوات الملاحين من بعيد، وهم منحدرون إلى إشبيلية، أو صوت خادم طروب هزتها الأريحية وهي تنظف بعض الحجر، فانطلقت في نغم خافت تعيد الأغنية التي سمعتها بالأمس من بعض القيان اللاتي كن يغنين لسيدها في مجلس أنسه وشرابه. ومجالس الأنس والشراب بقرطبة لا تكاد تخلو منها ليلة في بيت عظيم أو أمير. إن الأندلسيين خلقوا للطرب، وعاشوا على الطرب، ولو فجأهم الموت ما لقيهم إلا بين زق وعود.
تيقظت ولادة بنت المستكفي في هذا الصباح كما يتفتح الزهر الوسنان بلله الندى، وداعب أوراقه النسيم، فأسرعت إليها وصيفتها مهجة القرطبية تحييها وتدللها في محبة وشغف، كما تدلل الأم طفلتها اللعوب.
وكانت ولادة في الثامنة عشرة، رائعة الطلعة، فاتنة مباهر الحسن. وجه لم تشرق الشمس على أنضر منه ولا أصبح، وقسمات تأنق في صنعها الجمال، وقوام لو أدرك عهده الإغريق لجعلوا منه تمثالا لكل ما يتخيلونه من رشاقة ولدانة
2
واتساق خلق. وكان أجمل ما فيها تلك النظرات الساحرة التي تنفذ إلى كل قلب، وذلك الشمم العبشمي الذي تراه فتحبه وتهابه، والذي يوحي إليك أن الجمال معنى من المعاني التي يعجز البيان عن وصفها ببيان.
وولادة - إلى كل هذا - أديبة شاعرة، يغشى ندوتها كبار الأدباء والشعراء فيرون أجمل ما يرى، ويسمعون أحسن ما يسمع.
قامت ولادة من سريرها فنالت ما تحب من طعام، وبعد لأي همت بارتداء ثيابها، فأعدت لها مهجة ثوبا من الحرير البنفسجي الموشى بالذهب، أتقن نسجه، وأحكم تفصيله، فوقفت أمام مرآتها، وقد لاح في وجهها شيء من الدهش، كأنها كانت تبحث لها عن مثيلة بقرطبة فوجدتها في المرآة! وهنا قالت مهجة وهي تنظر إلى صاحبتها في إعجاب وزهو: لو علم ابن جهور بأن مناسج الحرير بالمرية ستخرج مثل هذا الثوب في فتنته وإغرائه، لمنع ورود كل ثوب مثله إلى قرطبة.
فتهانفت ولادة وقالت: إن هذا الرجل عبقري في الرياء يا مهجة، وهو لا يظهر التحرج والزهد إلا تملقا للفقهاء الذين لو أرادوا لأطاحوه عن عرشه في لمحة عين. - إنه يا سيدتي أمر بمنع شرب الخمر، وكان الاحتفاء بكسر دنانها عظيما في ميدان الجامع الكبير، وقد مدحه شاعر قرطبة أحمد ابن زيدون بقصيدة رائعة جاء فيها:
أباح حمى الخمر الخبيثة حائطا
حمى الدين من أن يستباح له حد
فطوق باستئصالها المصرمنة
يكاد يؤدي شكرها الحجر الصلد
هي الرجس إن يذهبه عنه فمحسن
شهير الأيادي ما لآلائه جحد
مظنة آثام، وأم كبائر
يقصر عن أدنى معايبها العد
فرفعت ولادة رأسها كالمفكرة وقالت: ابن زيدون ؟! هذا فتى يزاحم حول سلم المجد، ولكنه يلاقي أقداما أثبت من قدمه، وسواعد أشد من ساعده. وهو يبيع نفسه رخيصة في سوق الحسان. والمجد وعبث الشباب لا يجتمعان! - إنه يا سيدتي فتنة أهل قرطبة، وبطل أحلام كل فتاة، وقد أصبح شعره أنشودة في كل فم، وقرطا في كل أذن. غنى به المغنون، وأنشده المنشدون، ولا يكاد يخلو مجلس في قرطبة من إنشاد أبيات له تهتز لها الأعطاف، وتطرب النفوس.
ذهبت يوم الثلاثاء الفائت على عادتي إلى دار مريم العروضية، لأحضر بعض دروسها، لأنها تعقد في دارها مجالس لتهذيب بنات العظماء والأشراف في اللغة والأدب. - أعرفها وأعرف أن كثيرا من أدباء قرطبة يأخذون عنها، وأنها تحفظ «الكامل» للمبرد و «النوادر» لأبي علي القالي. - نعم يا سيدتي. جلسنا في بهو فسيح في دارها، وكان هناك بعض الفتيات الجميلات اللاتي تظهر عليهن آثار النعمة، ودلائل الثراء، وأخذت مريم تتحدث عن الشعر في إشبيلية، وما يبدو من الفروق بينه وبين شعر قرطبة، ثم أنشأت تشيد بشاعر إشبيلي سمته أبا بكر، زعمت أن له غزلا رقيقا، وأسلوبا ناعما، وخيالا لطيفا، وأنشدت له:
يا أبدع الخلق بلا مرية
وجهك فيه فتنة الناظرين
لاسيما إذ نلتقي خطرة
فيغلب الورد على الياسمين
وما كادت تنشد البيتين يا سيدتي حتى انبرت لها فتاة طلقة اللسان، حاضرة الخاطر قوية العارضة تقول: إنني لا أريد أن أباهي بمدينتي يا سيدتي، فكل ما يشرف بقعة من الأندلس يشرفني، والشعر والأدب ليس لهما وطن، ونحن نعتز بأشعار المشارقة كما نعتز بأشعارنا، ولكن الشاعر الإشبيلي الذي أطنبت في الثناء عليه لا يصل إلى مواطئ أقدام شاعرنا ابن زيدون. أما بيته الأول فهراء مكرر لم يرد به إلا الدخول على البيت الثاني، وكلمة «بلا مرية» حشو سخيف. على أني لا أرى في البيت الثاني إلا معنى مبذولا ملقى على الطرق، فتشبيه الخد بالورد والياسمين تشبيه قديم، سئم منه الشعر، ومجه الشعراء. فأسرعت مريم تقول: نعم يا فتاتي، إن تشبيه الخد بالورد والياسمين قديم، ولكن الشاعر كون من هذا التشبيه صورة جديدة، هي صورة ما يدرك الحبيب من الخجل عند ملاقاة حبيبه فجأة، فتطغى حمرة خديه على بياضهما.
فهزت الفتاة رأسها في عناد وقالت: وتعجبك «لا سيما» هذه التي جاءت في أول البيت فكانت أشبه بعبارات الفقاء؟ أين ذلك يا سيدتي من قول ابن زيدون؟
ألداعيك مجيب؟
أم لشاكيك طبيب؟
يا قريبا حين ينأى
حاضرا حين يغيب!
كيف يسلوك محب
زانه منك حبيب؟
إنما أنت نسيم
تتلقاه القلوب
هذا شعر لو نسب إلى ابن المعتز لأنساه نكبته، ولأسلاه عن زوال ملكه.
وهنا صاحت فتاة عصبية المزاج تقول: نعم إنه الشعر الذي يغنى وحده بغير موسيقى. والمؤلم أن يشبه دعاة الأدب شاعرنا بالبحتري، وهل يستطيع البحتري أن يقول؟
أنى تضيع عهدك؟
أم كيف تخلف وعدك؟
وقد رأتك الأماني
رضا فلم تتعدك
يا ليت شعري وعندي
ما ليس في الحب عندك
هل طال ليلك بعدي
كطول ليلي بعدك؟
سلني حياتي أهبها
فلست أملك ردك
الدهر عبدي لما
أصبحت في الحب عبدك
فقالت مريم: هذا كرم لا مراء في حسنه، وفضل شاعرنا ابن زيدون لا يجحده جاحد، حتى لقد قال بعض أدبائنا: من لبس البياض، وتختم بالعقيق، وقرأ لأبي عمرو، وتفقه للشافعي، وروى شعر ابن زيدون فقد استكمل الظرف كله.
وهنا تحركت ولادة في مجلسها متأففة وقد بدا على وجهها السأم وقالت: أنت متعصبة لهذا الرجل يا مهجة. - لست متعصبة، ولكني أحس لشعره حلاوة لا أجدها في سواه، ولا أعيب على الرجل إلا شيئا واحدا: هو صداقته لعائشة بنت غالب! أتعرفينها يا سيدتي؟ - أعرفها، وأعرف أنها فتاة غيور، تظهر للناس غير ما تبطن، وأن لها نفس نمرة في جسم امرأة وأن صاحبك ابن زيدون صب بها مفتون. - من أخبرك بهذا يا سيدتي؟ - أخبرتني امرأة تعرف كل شيء في هذه المدينة، فلو غاب دلو في الوادي الكبير لعرفت مستقره ومستودعه. ولكنها غربال أسرار. تقول لك الخبر في صوت خافت. وتستحلفك بأغلظ الأيمان ألا تبوحي به لإنسان. فإذا تجاوزتك إلى الباب أخبرت خادمتك نفس الخبر. وكررت عليها نفس الأيمان. وهي من الخيرات الكريمات. تفنى في محبة أصدقائها، ولا تأخذها رحمة في البطش بأعدائها. - من هذه بالله عليك يا سيدتي؟ - كنت أظنك أذكى من ذلك وأفطن. - إن اسمها يجري على لساني. ولكني أبغض الرجم بالظنون. أليست هي نائلة الدمشقية؟ - هي هي يا حبيبتي بعينها تحفة قرطبة. وعجوزها المدللة. وهل يخفى القمر؟ - إنها امرأة بارعة أديبة. لها أسلوب عجيب في اجتذاب الرجال. والتسلط عليهم وإخضاعهم لأمرها، لا يوصد في وجهها باب، ولا تخلو منها ندوة، ولا تحجب دونها أسرار القصور. ودارها ملتقى شباب قرطبة، حتى لكأنها حينما يئست من بشاشات الشباب، أرادت أن تراها في سواها. والغريزة إذا عجزت قنعت بالنظر، واكتفت بالخيال.
وبينما هي منهمرة في الحديث، إذ دخلت عتبة جارية ولادة تقول: إن سيدتي نائلة الدمشقية حضرت الساعة، وهي تنتظر في بهو الورد. فنظرت ولادة إلى مهجة في ابتسام وعجب وقالت: لو ذكرنا الشيطان ما جاءنا هكذا وثبا! ما سبب هذه الزيارة في تلك الساعة يا ترى؟ فهزت مهجة كتفيها، ومطت فمها تقول: أغلب الظن أنها جاءت للحديث وإطلاق عنان اللسان، وذكر أخبار المدينة وما يجري فيها من خير وشر. - ولكنها مسلية حقا، ولها أسلوب في الحديث يقهرك على الاستماع له، ويجتذبك إلى الاشتراك فيه، وهي مزية لا يظفر بها ثرثار إلا في الندرى.
3
هلم إليها يا مهجة.
كانت نائلة الدمشقية وقد خنقت الستين لا تزال تحتفظ بأطياف هزيلة من الجمال الغابر، فكانت تشبه حديقة أهملها صاحبها سنوات فصوح
4
فيها ما صوح، وذبل ما ذبل، وتهدلت أغصان لم تمتد إليها يد بتشذيب، وتهدمت أسوار بقيت أنقاضها حولها صرعى حزينة كأنها ملت طول القيام. أو لعلها كانت تشبه بيت شعر أصابه التحريف، وتوالت عليه أغاليط الرواة، حتى كاد يفقد وزنه ومعناه. أو مزهرا ذهب طلاؤه، وتراخت أوتاره فأصبحت رناته طنينا مائتا، وأصواتا موصولة الأنين. أو رسالة غرام خط على ما فيها من غزل ونسيب، وأبقى على ما بها من شكوى السهاد وتبريح السقام.
كانت نائلة طويلة بادنة مترهلة اللحم، سطت على وجهها التجاعيد، وعلى جلدها آثار السنين، فعجزت التطرية، ولم تجد الأدهان والأصباغ في إصلاح ما أفسد الدهر إلا قليلا، واستبدت الطبيعة فأبت إلا أن تظهر آثارها، على الرغم مما يبذل في سبيل إخفائها من صنعة وفنون. كانت شاهدا صادقا على جريمة السنين، ومثلا قائما لمن يترك خلفه أجيالا ليدخل في جيل جديد. ومن العجيب أن الدهر مع عبثه بجمالها، لم يستطع أن ينال من سحر عينيها وحسن صوتها، فقد كان للمحاتها بريق ولألاء لا تعتز بهما فتاة في العشرين وكان لصوتها رنين ونغم لم تظفر بمثلهما أفنان الخمائل.
دخلت ولادة البهو فتلقفتها نائلة بين ذراعيها في وله وشغف، وأخذت تمطر خديها قبلات كان لها صوت متلاحق كزقزقة العصافير في الصباح، وبعد أن حيتها ابنة المستكفي في سرور وترحيب انطلقت نائلة تقول: لا لا يا حبيبتي! لقد أطلت هجري، وأصررت على قطيعتي على شدة حبي لك، وطول حنيني إلى رؤيتك! هذه هي المرة الثالثة التي أزورك فيها دون أن تسعد داري بإلمامة منك تشرق بها رحابها، وتشمخ على السماء قبابها. لقد كان أبوك - عليه ألف رحمة - مولعا بي، مشغوفا بمجالستي والاستماع إلى حديثي، وكنت أعرض عنه أحيانا، فعاقبني الله بإعراض ابنته عني. كان رجلا يقطر ظرفا وأدبا. ثم ضحكت وقالت: وكان أعرف بسياسة الحياة منه بسياسة الملك. زرته بعد أن خلع بيوم واحد، وقد انصرف عنه الناس، وجفاه أقربهم إليه، فأخذت أنضح
5
عنه الهم، وأسري عن نفسه بعض ما تجد بالفكاهات والأضاحيك، حتى زال عنه الحزن والأسى، وعندما ودعته شد على يدي وهو يقول باسما: لو أن الناس كانوا في وفائك يا نائلة لنسيت مرارة العزل؛ والملك امرأة فروك،
6
لا تكاد تنعم النفس بوصلها حتى تعاني صدها وقطيعتها. فأجبته مسرعة: أنتم يا بني أمية ولدتم ملوكا، وستموتون ملوكا، وإن لكم من أخلاقكم وقوة نفوسكم تاجا وصولجانا، إذا فقدتم التاج والصولجان. هذا كان حديثي مع أبيك، وهذا كان آخر العهد به. والآن أصبحت أقاسي الهجر والملال من فتاته المدللة اللعوب ولادة!
فابتسمت ولادة ابتسامة مشرقة وقالت: إن هذه الفتاة يا سيدتي تكن لك أخلص الحب وأصدق الوفاء، ولولا وعكة أصابتني ما حجبني عن زيارتك حاجب. - إنه البرد يا سيدتي! حاذريه ولا تستهيني به، فإنه كالحب يبدأ خفيف الوقع ضعيف الأثر، ثم يعظم ويستشري حتى يصبح داء عضالا. ثم اعتدلت في جلستها وقالت: أتخرجين في المساء يا بنيتي؟ نزهة مثلا في قارب في ليالي البدر، أو قضاء ليلة في منية الرصافة، أو تسلية مع بعض الصديقات في حانة «راميرز» فإن بهذه الحانة فتيات أسبانيات لهن رقص عجيب. - أحيانا قليلة يا سيدتي. - أحسنت أحسنت يا بنيتي! فإن هذه الدنيا أقصر من أن تضع بين هم وأحزان. ثم رمت ذراعيها إلى جانبيها في ألم وحسرة وقالت: آه لو عرف الشباب ما وراء المشيب! زارني بالأمس الشيخ مجاهد الأنصاري خطيب مسجد أم سلمة، وهو رجل متزمت متحرج، يخاف أن يتكلم فيأثم، أو يرسل نظرة فتهوى به في قعر جهنم. وهو فقيه مقلص، ولا يلبس «القالص» فوق رأسه بقرطبة إلا من حفظ الموطأ للإمام مالك. لم يزرني الشيخ إلا لأن له ابنا يريد أن يجعله مسجلا لأموال الزكاة، بعد أن عرف صلتي بالوزير أبي حفص بن برد. قابلني وهو مطرق مغمض العينين، يجمع ثيابه في تحرز كأنه يخشى أن يمسها طرف ثوبي. فقلت في نفسي ساخرة: أفق أيها الأبله وافتح عينيك، فإنك إن فعلت فلن تصاب بسوء، وأقسم لو زرتني من ثلاثين عاما لحملقت في كما يحملق النمر الفاتك؛ أخبرني بما شاء من شأن ابنه، ورجاني في أن ألح على الوزير في قبوله، ثم انطلق كأنه السيل الهدار
7
يصف جهنم وما فيها من ألوان العذاب المقيم. فلما ذكرته بأن الله واسع الرحمة، وأنه غافر الذنب، وقابل التوب. ذعر كما يذعر الصائد حين تجد طريدته منفذا للفرار، وقال على الفور في حدة بهذا يا سيدتي يخدع العصاة أنفسهم، وإن الاعتماد على رحمة الله مطية العابثين. وحينئذ أردت أن أعابث الرجل فقلت: ولم خلق الله لنا النعم يا مولانا في هذه الدنيا؟ فأخذ يغمغم في حيرة ويقول: النعم؟ النعم؟ فقلت نعم النعم. لم خلق لنا الجاه والمال؟ لم أبدع الأزهار الناضرة، والثمار اليانعة، والأطيار المغردة، والأنهار الدافقة؟ لم خلق الصبح السافر، والأصيل الناعم، والبدر الساهر، والليل الساجي؟ كل هذه نعم عظيمة يا مولانا، وفيها يقول جل شأنه:
وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار . وكأنه خشي أن أطيل فلبس خفيه على عجل، وانطلق خائفا مذعورا.
فتنهدت ولادة وقالت: عجيب أمر هؤلاء القوم يضيقون من فضل الله ما اتسع وعظم.
فأسرعت نائلة تقول: ولكن منهم من يستمتع بالنعيم المباح، وتهزه طرائف الشعر والأدب من غير أن يضيع لله حقا. أخبرني أبو عمرو المالقي: أنه كان يزور الجبانة في يوم شديد القيظ، فسعت به قدماه إلى مسجد هناك، فلما بلغه التقى بخطيبه وكان رجلا حسن السمت،
8
ظاهر الزهادة، فلما ذهبا في شئون من الحديث، طلب إليه الخطيب أن ينشده شعرا لبعض الأندلسيين فأنشده:
غصبوا الصباح فقسموه خدودا
واستوعبوا قضب الأراك قدودا
وروا حصى الياقوت دون نحورهم
فتقلدوا شهب النجوم عقودا
فصاح الشيخ من الطرب، وصفق بيديه في مرح خرج به عن وقاره، فلما عاد إلى نفسه قال: اعذرني يا بني فشيئان يقهرانني ولا أملك نفسي عندهما: الصوت الحسن، والشعر المطبوع الرقيق.
وسمعت أن محمد بن عبد الله قاضي الجماعة في عهد الناصر خرج يوما لحضور جنازة، وكان لرجل من إخوانه منزل بالقرب من مقبرة قريش فعزم عليه في الميل إليه فنزل، وأحضر له طعاما، ودعا جارية له فغنت:
طابت بطيب لثاتك الأقداح
وزها بحمرة وجهك التفاح
وإذا الربيع تنسمت أرواحه
نمت بعرف نسيمك الأرواح
وإذا الحنادس ألبست ظلماءها
فضياء وجهك في الدجى مصباح
فطرب القاضي، وكتب الأبيات على يده، ثم خرج للصلاة على الميت فرأى الناس الأبيات على ظهر يده، وهو يكبر على الجنازة. وقد كان هذا القاضي من أزهد الناس وأعدلهم حكما. والحقيقة يا فتاتي أن الإنسان إذا خشي ربه في السر والعلانية، واجتنب كبائر الإثم والعدوان، فله أن ينعم بكل ما خلق الله من متاع حلال. ثم حدقت في وجه ولادة كأنها تريد أن تستكشف ما وراءه من أسرار وقالت في دعابة: ومن الفائز الأول الآن في خطبة سيدة الحسن والجمال؟ - أي فوز وأي حسن وجمال يا نائلة؟ فتكلفت نائلة العبوس وقالت: أنت لا تكتمين عني شيئا يا بنيتي، وما فائدة الكتمان وقد أصبح الأمر حديث الناس، ومدار سمرهم؟ حتى كاد كل غصن من حدائق قرطبة ينادي صاحبه هامسا: ولادة وابن عبدوس، ولادة وابن عبدوس! - إن ابن عبدوس يزور ندوتي كل ليلة، وهو فتى أديب شاعر عذب الحديث حلو النادرة. - آه من عذوبة الحديث وحلاوة النادرة؛ إنهما يا فتاتي أول ما ينصبه الرجل لنا من حبائل. سليني يا ولادة عن شئون الحياة قبل أن تفقديني. إنني سجلها الجامع الذي يجد فيه كل جائر ما يهديه ويسدد خطاه. ابن عبدوس رجل عظيم متألق، ابن عبدوس شاعر مجيد وكاتب فذ. ابن عبدوس وزير له جاه ومكانة، غير أنه ذئب لا يؤمن جانبه، ولا ترجى عواقبه، وكفاه وصمة اسمه الأسباني الذي يدل على سوء أصله، والذي يجب أن يقصيه عن أن يأمل في الاتصال ببنات الخلفاء، هذا أسقطه من حسابي، وأحسب أنك تسقطينه من حسابك أيضا، وبين شباب قرطبة من ذوي الحسب والمجد من يهبون حياتهم ليشرفوا بالتزوج بك، ولكن الذي آخذه عليك يا بنيتي أنك طير لا يستقر على غصن، ولا يطمئن إلى ركن. أنت شديدة الطموح يا فتاتي، وكلما ظفرت بشيء هان عندك، لأنك ظفرت به، فطلبت غيره مما يصعب مناله، أنت تائهة في بحر الحياة المائج، والسفن تمر بك، فإذا تشبثت بسفينة ظهرت لك في الأفق أخرى، فغادرت الأولى وألقيت بنفسك إلى الثانية. إن مجلسك يحوي أكرم فتيان قرطبة أرومة، وأشرفهم منبتا، وأنت تلهين هذا بابتسامة، وهذا بهزة رأس، وهذا بكلمة طيبة، وذاك بوعد كاذب، لا لأنك لا تحبينهم جميعا، بل لأنك ترغبين في مهلة حتى يهتدي قلبك الحائر، أو عقلك المملوء بالمطامح إلى من يحسن اختياره، ومن تتحقق به الغاية التي ترمين إليها. أنت يا سيدتي كالبخيل الذي حبس ماله فلا يبيع ولا يشتري مخافة أن يغبن في درهم أو درهمين. أسرعي الاختيار يا فتاتي، فإن للشباب أوانا، وإن الورد إذا ذبل لم يبق منه غير أشواكه! أسرعي الاختيار يا ولادة، وابتعدي عن كل ما يمت إلى أصل قوطي أو بربري، فإني لا أحب البربر. إنهم يدلون علينا بطارق بن زياد، وأنا لا أحب طارقهم هذا. وأين هو من موسى بن نصير أو من ابنه عبد العزيز الذي قتله البربر؟ - دعينا بالله يا نائلة من ذكر البربر ومن ذكر الزواج، وخذي في الحديث عن المدينة وما فيها من أخبار وأسرار. - المدينة هادئة، ولكني أظنه هدوءا لا يدوم، إنه يا سيدتي هدوء الطفل الغضبان، الذي طلب لعبة فلم يظفر بها، فطفق يبربر ويهمهم، حتى مل البربرة والهمهمة فسكت على دخل، وتربص لفرصة الوثوب. إن القرطبيين يا ولادة لا يرضون بغير الخلفاء بديلا. إنهم يحبون الخلافة، ويعشقون مظاهرها، ويحنون إلى مراسمها. هاتي لهم خليفة من فخار ثم انظري كيف يجلونه ويبجلونه؛ إنهم رضوا حينا بحكم المنصور عن ابن أبي عامر الحاجب، لأنه بهرهم بتوالي فتوحه وانتصاره، ولولا ذلك ما صبروا عليه يوما أو بعض يوم. وهذا الحكم الذي ابتدعه لنا ابن جهور - ثقي يا فتاتي أني أحب الرجل وأكبر فيه الإخلاص والنزاهة - هذا الحكم الذي يشترك فيه جماعة لسياسة الدولة وحياطتها لا أستطيع استساغته. - إنهم يقولون إن ابن جهور نقله عن قدماء الإغريق والرومان. - لا إغريق ولا رومان يا ولادة. وإنما الرجل رأى رءوس من استبدوا بالحكم قبله تتدحرج من عروشهم، فاحتاط لحياته، واختبأ وراء جماعة ليحكم من غير أن يكون له اسم حاكم أو تبعته. - إنك تعرفين كل شيء يا نائلة! - إنني أعرف سر كل رجل وسر كل امرأة في هذه المدينة، ولولا ذلك ما لقيت منهم كل هذا التبجيل. إن الإنسان يخضعه الخوف، ولا يخضعه بذل المعروف.
زارني ابن زيدون منذ أيام فنصحت له أن يبتعد عن تلك المرأة التي يدعونها عائشة بنت غالب، إنها أسبانية الأصل، لئيمة المنبت، جاسوسة للأسبان وإن بالغت في كتم أسرارها. وهي امرأة مخيفة، تقتنص الرجال، وتلزمهم التزوج بها، حتى إذا سئمتهم قذفت بهم من حالق
9
كما تقذفين بقشرة البرتقال. نصحت للفتى كثيرا، وحدثته بجملة من أخبارها، وأخبرته بأنها ألقت شباكها مرة على أبي القاسم ابن قاضي الجماعة، فسدت عليه المسالك، واجتذبته بأفانينها، فانقاد إليها مسحورا مأخوذا. ثم تزوجها وعاش في جنة حبها كما يعيش الطائر في قفص من ذهب، فلما هدأت نار السحر، وانقشعت عن عينيه الغيابة، أراد أن يخرج من هذه الجنة وأن يلوذ بغيرها من جنات الأندلس العالية، ولكنها ما كادت تلمح في عينيه ما كان يدور في نفسه من طلاقها، حتى ضاعفت من إغرائها ونصبت حوله حبائلها، غير أن شيئا من ذلك لم يفلح، وتشبث الفتى بالطلاق، فلما يئست منه، وعلمت أنه مطلقها لا محالة، أرسلت في طلبه فحضر إليها، وكانت قد أعدت قرصا وشطرته شطرين، ووضعت في نصفه سما، فلما هم بوداعها بكت أشد بكاء وهمت لعناقه وهي تقول والعبرة تخنقها، إن أمها أخبرتها أن الحبيبين إذا تناصفا قرصا عند الوداع فلا بد أن يعود كل منهما إلى صاحبه، لأن أحد نصفي القرص لا يفتأ الدهر يطلب قسيمه، فصدقها المسكين، وقسمت القرص، وأعطته النصف المشغول فأكله، وانصرف إلى داره، ولم تمر به ساعات حتى كان من سكان القبور.
وما كاد ابن زيدون يسمع مني هذا الخبر حتى ذعر واصفر لونه، وهاله الأمر، وأكثر ظني أنه سينفلت منها قبل أن تحكم انطباق الشبكة. إن ابن زيدون يا ولادة أبرع كاتب، وأصدح شاعر في جزيرة الأندلس جميعها، وسيكون له شأن أي شأن، وأولى بك أن تجتذبيه إلى ندوتك التي تزخر بأدباء قرطبة وعظمائها.
فتململت ولادة في مجلسها قلقة مضطربة، وطاف برأسها أنها لم تسمع منذ الصباح إلا حديثا عن ابن زيدون، ومواهب ابن زيدون، وفتنة الناس جميعا بابن زيدون. وهي ترى في الرجل وفي أدبه ما تحن إليه نفسها الطموح، ولكنها كانت تخاف إن هي وصلت به حبالها، واتخذته لها زوجا، أن يبقى كما هو أديبا شاعرا، دون أن يكون له من صفات الرياسة وعلو المكانة ما يحقق آمالها.
أذهلتها هذه الأفكار عن جليستها وقتا قصيرا، ثم سمعت نفسها تقول: - إن ندوتي يا نائلة لا تتسع لصغار الكتاب. وما كادت تتم عبارتها حتى ملأت نائلة فضاء البهو قهقهة، وصاحت في عجب ودهشة: - ابن زيدون من صغار الكتاب؟! أتعيشين يا ابنة الخليفة في قرطبة، أم فوق السحاب، أم وراء سد يأجوج ومأجوج؟ أسرعي يا سيدتي فقد فاتك الركب، ثم هاتي أذنك أحدثك بسر أقسمت على أن أكتمه وألا أبوح به لأحد. ثم قالت في صوت خافت: إن ابن جهور يضع عليه عينه ليوليه منصب الوزارة بعد وقت قصير.
فظهرت الدهشة على وجه ولادة، وأحست نائلة أنها تشك في صلتها بابن جهور، وفي أنه يتخذ منها موضعا لسره، فقالت في هدوء: إن ابن جهور رجل داهية قناص للفرص، يعرف أين يجد ما يطلبه، ويعرف كيف يستعين لما يطلبه، وقد عرف صلتي بالوزارء وكبار الدول ورؤساء الجماعة، وعرف أن أخبار قرطبة تتزاحم على بابي كما يتزاحم الموج على ساحل البحر الأخضر، فليس بعجيب يا سيدتي أن يزورني بين الحين والحين، وليس بعجيب أن يتحدث إلي في شئون الدولة. وقد جرى ذكر ابن زيدون على لساني عندما زارني آخر مرة ورأيت وجهه ينقبض وينبسط هكذا كما تنقبض وتنبسط يدي هذه. فقلت له: ألا يعجبك الرجل؟ فابتسم وقال: يعجبني، ولكن الذي أخشاه أن يجني عليه ذكاؤه، وتتعثر به مطامحه. هذه كانت عبارة الرجل كما قالها. فقلت له: إنه خير ألف مرة من وزرائك المهازيل عبيد الحسان، الذين هم دائما زينة المحافل، وهزيمة الجحافل، والذين لا يحبون أن يروا كأسا فارغة أو مملوءة: فإن كانت فارغة ملئوها، وإن كانت مملوءة أفرغوها في بطونهم، فابتسم ابن جهور متألما وقال: وابن زيدون صاحبك أسبقهم في هذا الميدان، وأخبرهم بقلوب الحسان، وقد سمعت أخيرا بصلته بعائشة بنت غالب، وأنت تعلمين من أمرها أكثر مما أعلم. فاجترأت على الكذب وصحت في وجهه: إنه تركها وقطع صلته بها. فأجاب: هذا حسن، هذا حسن. ثم هز كتفي بيده مازحا وقال: إن ابن زيدون رجل ستطلبه المناصب قبل أن يطلبها، وثقي أنه سيكون وزيرا بعد أيام. فقلت له: إن الدولة في أشد الحاجة إلى رأيه وإلى قلمه وإلى دهائه، وإن حب القرطبيين له سيجمع حول دولتك الكلمة، ويحول دون الثوارت التي هزت عروش من سبقوك، فهل أسمع غدا أنك اخترته وزيرا؟
ثم اتجهت إلى ولادة وقالت: أتعجبك هذه الصراحة يا فتاتي؟ فتكلفت ولادة الابتسام وقالت: - وبم أجابك؟ - لم يقل شيئا، غير أنه حينما هم بالقيام همس في أذني قائلا: لقد تبسطنا الليلة في الحديث فوق ما كنت أريد يا نائلة، فاكتمي هذا السر واجعليه بيني وبينك، ولا تشركي فيه ثالثا.
ثم قهقهت وغمزت بعينها وقالت: أرأيت كيف أني حفظت السر ولم أشرك فيه ثالثا؟ - وعلى هذا سيصل ابن زيدون إلى منصب الوزارة غدا أو بعد غد؟ - بعد ثلاثة أيام، ودعيني الآن أذكر لك ما قدمت لأجله، إني سأدعو ابن زيدون وأصحابه من كبار الكتاب والشعراء والوزراء، وسأدعو أجمل فتيات قرطبة وأشرف أسرها، وستكون ليلة مشرقة ضاحكة قل أن يجود بمثلها الزمان. وقد جئت لأدعوك، فإن ندوة لا تكون بها ولادة بنت المستكفي تفقد روح المرح والجمال والبهجة والسرور. أرجو يا سيدتي أن تشرفيني بقبول هذه الدعوة.
ففكرت ولادة قليلا، ومر بخيالها أن القدر يريد أن يجمعها بابن زيدون، وأنها كيفما حاولت لا تستطيع الفكاك من أيدي القدر، فأجابت: إني أقبل هذه الدعوة مسرورة مغتبطة، وأشكرك أجزل الشكر على هذه العناية.
وتحركت نائلة للقيام، وتكررت القبلات للوداع، وغادرت البهو بعد أن ملأته حديثا مختلف الفنون، كثير الشجون.
وما كادت تستوي على محفتها
10
حتى أمرت حامليها أن يذهبوا بها إلى دار ابن زيدون لتدعوه إلى صنيعها. فلما دخلت عليه رأته حزينا مهموما، فسألته عما به في ذعر وقلق فقال: لقد نصحني كل صديق باجتناب عائشة، وكثيرا ما حذرتني من التزوج بها، ولكني أخاف عاقبة مغاضبتها، ولا أجد في نفسي من الجرأة ما يمكنني من قطع حبالها.
فضحكت نائلة وقالت: أهذا ما يقلق بالك، ويكدر صفاء وجهك الوسيم؟ اكتب إليها الآن رسالة موجزة فاصلة تقطع كل ما بينكما من صداقة، ولا تبال ولا تأبه لما تجر من عواقب. - لا أستطيع يا نائلة وأخاف ...
فقاطعته في حزم: اكتب يا أبا الوليد، واترك الأمر لي، فإن الخوف من الثعبان لا يقتل الثعبان. إن جاريتها «غالية» جاسوسة لي عليها منذ زمن بعيد، وسأعمل كل ما أستطيع لأجنبك شرها. قم يا بني فإن الوزارة ترف بجناحيها فوق بابك، وقد خدعت ابن جهور وأخبرته كذبا أنك هجرتها وسللت ثيابك عن ثيابها. فقام ابن زيدون إلى أوراقه يتعثر، وكتب بعد تردد:
هذه آخر رسالة إليك، فلا تطمعي بعدها في لقاء، وحصني نفسك باليأس، فإن نفسي إذا انصرفت عن الشيء فلن تعود إليه.
ونادى خادمه عليا وأمره أن يسرع بالرسالة إلى دار عائشة. ثم اتجه إلى نائلة يقول: أسمعت بقصة طارق بن زياد حين أحرق سفنه على شاطئ بحر الزقاق؟ أنا اليوم أحرقت سفني، ولله الأمر من قبل ومن بعد!
الفصل الثالث
عرضنا على القارئ صورة لنائلة الدمشقية بقدر ما يستطيع القلم أن يصور، وتركناه يستشف صفاتها وطبائعها وأسلوب حياتها من حديثها الفياض الطويل الذيول، الحائر المذاهب، الذي يطرق كل باب، ويسلك كل سبيل. ولا نريد أن نتبرع للقارئ بذكر ما نعلم من حقيقة مزاجها وفلسفتها في الحياة، حتى لا نفسد عليه نهج تفكيره. على أنه قد يصل بنفسه وبالقليل مما مر ويمر عليه من أحوالها إلى أكثر مما نعلمه، أو إلى أدق مما نزعم أننا نعلمه. وأعظم ما يفسد على المرء تفكيره أو يشوه خياله، أن تخبره بكل شيء فلا تدع لتفكيره أو خياله مجالا يجول فيه، ويخلق من الصور ما تطمئن إليه نفسه.
كانت أسرة نائلة من الأسر الطارئة على الأندلس، استدعى عبد الرحمن الناصر لدين الله جدها من الشام سنة ثلاثين وثلاثمائة، وكان ذا معرفة بزراعة الأرض وطرق استنبات الفاكهة، فوكل إليه شئون ضياعه الواسعة، فقام عليها أحسن قيام، وأشرف أدق إشراف، وبذل فيها من جهده وفنه خير ما يبذل العامل القوي الأمين، حتى أصبحت بعد سنوات جنات وافرة الثمار، كثيرة الغلة، فمنحه الخليفة جزاء إخلاصه أرضا تقرب من قرطبة تمتد على شاطئ الوادي الكبير إلى مسافة بعيدة، فعمل فيها الدمشقي جادا، ونقل إليها من الشام كثيرا من أشجار الفاكهة مما جعلها مضرب المثل في النماء والازدهار، وأخرجت من أنواع الثمار ما يندر أن يكون له مثيل في المشرق، فزاد دخله، وعظمت ثروته وأصبح من كبار أثرياء المدينة، ولما أدركته المنية، ترك ثروته لابنه الذي لم يرزق سواه. وكان ابنه قد تزوج فتاة جميلة لها مجد ومكانة وثروة، فولدت له نائلة. ثم مرت سنون مات في غضونها أبو نائلة وترك لها مالا وجاها. وتزوجت بعد وفاته أحد أبناء عمومتها فسعدت بزواجها، غير أن سعادتها لم تدم طويلا فمات لها ولد في ريعانه، ثم قتل زوجها في أعوام الفتنة، قتله البربر فيمن قتلوا في ذلك اليوم العصيب حين دخلوا قرطبة عنوة لإعادة المستعين بالله إلى عرش ملكه. وقد حزنت نائلة لفقد زوجها، غير أن الحزن ككل شيء في هذا الوجود قلق ملول، لا يلازم أصحابه طويلا. فما كاد يمر عام أو بعض عام حتى عادت إلى مرحها وما فطرت عليه من لهو وإسراف. كان لها مال وجمال وفراغ، وكانت لها ثروة من أدب وتثقيف ولطف حديث ودعابة حلوة، وكان أظهر ما تمتاز به بين أترابها إجادتها اللغة الأسبانية، شغفت بها منذ نشأتها، وتلقتها عن أساتذة من اليهود والقساوسة الأسبان. كانت امرأة ضحوكا تحب الحياة وتعشق كل ما فيها من بهجة ونعيم، فأصبحت ندوتها حافلة بوزراء قرطبة وعظمائها وأدبائها.
جلست نائلة في سريرها وقد ارتفع الضحا، فأقبل عليها جواريها ليقمن بواجب الخدمة على عادتهن في كل صباح، فهذه تملأ أخاديد الوجه بالمساحيق، وهذه تكحل العينين وتزجج
1
الحاجبين، وهذه تطارد كل شعرة بيضاء في رأسها نصل عنها الخضاب، فتعيدها سوداء كحالك الليل، وهذه تدلك الساقين الباردتين لترد إليهما حرارة الحياة. وجملة القول إنهن كن ينشئنها إنشاء في كل صباح، ويصانعن جيش الطبيعة التتاري المدمر بألوان من الخداع لا تجوز عليه ولا على الناس.
جلست نائلة في سريرها تتثاءب في تكاسل. ثم دعت إليها سعدى قهرمانة القصر فاتجهت إليها وقالت: أريد أن تبذلي كل فنونك في أن تكون حفلة الليلة من أروع ما صنع بقرطبة من حفلات، لا تدخري مالا، ولا تتحرجي من لوم المتزمتين، وقد أعلمتك أمس بضيوفي، ولكل منهم ميل، ولكل منهم نزعة، فأعدي لكل واحد ما ترتاح إليه نفسه، ثم أعدي لهم جميعا ما يبعث المرح ويطلق النفوس المكبوتة، أريد أن تتحدث قرطبة كلها بما يكون في هذه الليلة من مبتدعات السرور أريد أن أعيد بها عظمة الأندلس، ومرح الأندلس، وعبث الأندلس، فماذا تقولين؟ - فأطرقت سعدى كالمفكرة، وأخذت تمر بسبابتها فوق جبهتها ثم قالت: أما أنواع الطعام وألوانها فقد دونتها في صحيفة بالأمس، وهي تجمع كل ما يخطر وما لا يخطر ببال من لذائذ الطعام، وبقبو القصر كل صنوف الشراب، وكل رحيق مختوم مزاجه من تسنيم. أما ضروب اللهو الأخرى فإني أنتظر أمرك فيها. - أرسلي إلى «غاية المنى» المغنية، وإلى «جمانة» الراقصة، ثم إلى الراقصات الأسبانيات «بحانة راميرز»، وادعي «الزرافة» المضحك الممخرق، ولا تنسي يا سعدى شيئا مما يبهج النفس ويثير الطرب. وهذا مفتاح خزانتي فخذي منها من المال ما شئت.
وما كادت سعدى تغادر الغرفة حتى دخلت إحدى جواريها لتنبئها بأن امرأة محجبة الوجه تلح في لقائها، وتأبى أن تبوح باسمها، أو تذكر حاجتها. فأطرقت نائلة طويلا، ثم رفعت رأسها وقد طافت بوجهها ابتسامة طائرة، وقالت: دعيها تدخل يا نشوة. فدخلت بعد قليل امرأة ملففة بخمارها، كأنها قطعة من الليل، فلما جاوزت باب الغرفة، رفعت قناعها فإذا هي «غالية» جارية عائشة بنت غالب. وبعد أن حيت نائلة قالت : إن الحرب يا سيدتي في دارنا قد صفت جنودها، وأرهفت سيوفها، ولن تمضي أيام حتى يندلع لهيبها في أرجاء قرطبة. - أعرف يا غالية أن عائشة ممن يحرق مدينة بأسرها ليقتل فيها عدوا واحدا، وأعرف أنها لن تترك لعدوها فرصا ليعد عدته أو يأخذ حذره، ولذلك سبقت للاستعانة بك لتكوني ناقوس الخطر بيننا وبينها حتى نستطيع إحباط كل شر تدبره، وإخماد كل نار تشعلها. ماذا فعلت حينما وصلت إليها رسالة ابن زيدون؟ - أرأيت جبال النار يا سيدتي؟ كانت جبل نار. أرأيت البحر الثائر حينما يشتد النوء، وتعصف الزعازع. كانت البحر الثائر. أرأيت .... - كفى يا غالية! أعرف كل هذا وأكثر من هذا، ولكني أريد أن أعرف ما اعتزمته، أريد أن أعرف السلاح الأول الذي اختارته، ثم ناحية الهجوم التي تصوب إليها سهامها. - إن سلاحها الأول مسموم قاتل يا سيدتي، وهو أحط سلاح وأحقره، وقد تبينت من حديثها أن سيدي ابن زيدون أيام تدلهه في هواها، لم يحترس ولم يحترز، فكان يبعث إليها برسائل فيها سخرية وتندر واستخفاف بعميد الجماعة ابن جهور ورجال دولته. وقد حفظت الملعونة هذه الرسائل في خزانتها لتشهرها في وجهه إذا حدثته نفسه بالانفلات من يديها. وأعلنت بالأمس في صراحة أنها ستضع هذه الرسائل في يد ابن جهور. - ويل للفاجرة! إن لها شيطانا عبقريا. أهكذا ونحن على أبواب الوزارة تنقض علينا هذه الحية الرقطاء لتفسد كل شيء؟ ثم صمتت طويلا وقالت: سأزورها غدا يا غالية ثم يكون ما يكون. أين تضع هذه الرسائل؟ - في خزانة بجانب مرآتها بالغرفة الغربية. - وأين تحفظ مفتاح الخزانة؟ - إنها لا تتركه يا سيدتي في يقظة أو في منام، فهو دائما معلق بخيط من حرير في عنقها. - حسن يا غالية، حسن جدا. وهنا عادت إلى وجه نائلة ابتسامته، ومدت يدها تحت وسادتها، فأخرجت قبضة من دنانير ألقتها في يد غالية وهي تقول: شكرا يا فتاة. إن خبرك هذا يساوي أضعاف هذه الدنانير. ثم سألت كأن خاطرا جديدا عرض لها: - ألا يزال ذلك الأسباني الطالب بجامعة قرطبة يزورها؟ - يزورها الآن قليلا يا سيدتي. - هل بينها وبينه صلة غرام؟
فابتسمت غالية وقالت: لا يا سيدتي، إنه شاب دميم سقيم الجسم، لا يتحدث إلا عن دروسه بالجامعة، وأساتذته بالجامعة. - لعل وراء الأكمة ما وراءها يا غالية! - يجوز يا سيدتي، ولكن لا يظهر لي إلى الآن من زيارته شيء إلا أن عائشة تعطف عليه لأنه أسباني، ولأنه طالب علم فقير. - ما اسمه؟ - أسبيوتو. وهو يدرس الطب على ابن زهر. - أسبيوتو! يدرس الطب على ابن زهر! ثم تنهدت وقالت: ندع هذا الرجل الآن. ولكن افتحي عينيك يا غالية والله معك ومعنا. فشكرتها الفتاة وخرجت محجبة كما دخلت.
وجاء المساء، وتوافد على القصر وزراء قرطبة وعظماؤها وشعراؤها، وأديبات قرطبة وكرائم أسرها. وكان بين الجمع من كبار المدعوين أبو الوليد محمد بن عميد الجماعة، وأبو حفص بن برد، وأبو مروان بن حيان المؤرخ، وابن زيدون، وابن عبدوس، وابن الحناط الكفيف الشاعر الطبيب. وكان بين المدعوات أم العلاء الحجازية الأديبة الشاعرة، ومريم العروضية مولاة ابن غلبون، وقد ازدان الجمع بكثير من الفتيات اللاتي نشأن في النعيم، ودرجن في باحة العز والثراء، وصورهن الله فتنة لخلق الله في هذه الأرض. والجمال العربي الأسباني مزيج عجيب من سحر الشرق وقسامة الغرب، وصورة رائعة لما تستطيع أن تبدعه الصحراء الجافية إذا نعمت بالظل والماء، ونفحها برد الشمال. وإذا أضيف إلى هذا الجمال لطف الحديث وأدب الطبع ونزاهة الخلق، كان فتنة العيون، وشرك الألباب.
وبعد قليل وصلت محفة ولادة ومهجة القرطبية إلى القصر، فهرعت نائلة للقائهما، وأقبل الضيوف إليهما يحيونهما في حفاوة وتكريم. وحينما تقدم ابن زيدون لتحية ولادة، قالت نائلة: هذا يا ابنة الخليفة شاعر قرطبة أحمد بن زيدون الذي جعل شعره مرايا للحسان، فمدت ولادة يدها إليه في ابتسامة زهراء وقالت: أرجو أن تكون مراياك صادقة يا سيدي، فبهر ابن زيدون وتلعثم لسانه، ثم قال: إنني يا سيدتي سأحطم مرايا شعري كلها، لأنها أصبحت لا تعجبني، وسأصطنع مرآة جديدة لأجمل فتاة في أرجاء الأندلس.
فأرسلت ولادة ضحكة هادئة، ثم قالت في صوت ساحر، ودهشة مصنوعة: أجمل فتاة في أرجاء الأندلس؟ من هي؟ ليتني كنت أعرفها! - لو نظرت في مرآتك لعرفتها لأول نظرة. فاحمر وجهها من الخفر،
2
وأسبلت جفنيها على عينين تأتلقان بوميض الشباب ثم قالت: إنك لطيف مجامل يا أبا الوليد، وإن لكم أيها الشعراء نمطا في التعبير نعرفه ونعرف أنه محض خيال لا يسكن الحق في بيت من أبياته، ومع هذا نلقي إليه بأنفسنا في غير خوف أو حذر، ونستمع إلى أنغامه في شغف، وندنو منه رويدا مأخوذات، كأنه رقية ساحر. - قرأت في بعض أساطير قدامى الأسبان يا سيدتي: أن الله حينما خلق الجمال وسواه على أبدع صورة وأحسن تقويم، انطلق مع الناس في الأرض يضطرب فيما هم فيه يضطربون ويعيش كما يعيشون لا يمتاز عنهم بميزة، ولا يختص بكرامة.
وبينما كان يشرب من غدير ساكن، إذ رأى خيال وجهه في الماء، فبهر لما راعه من قسامة وجهه، ووسامة طلعته، وإبداع الخالق العظيم في تكوينه، وسخط على الناس لأن لهم عيونا لا ترى، وقلوبا لا تنبض بعاطفة. ثم أخذ طريقه إلى مأواه حزينا كاسف البال، فلما طال حزنه، هبط عليه ملك من السماء فبثه الجمال آلامه، وشكا إليه إهمال الناس إياه، وأن الله وهب له نعمة ولم يخلق من يقدرها ويعرف لها قيمتها. فرق الملك لشكواه، واستجاب الله بعد قليل لدعائه، وخلق في الناس الحب، فتهافتوا على الجمال، وتراموا نحوه، وأخذوا يصيحون حوله بكلام مختلط مضطرب، حتى كادوا يصمون أذنيه. ففر الجمال منهم إلى الغابة فزعا مكدودا، برما بما سمع من صيحات جافية، وأصوات نابية، قد تدل على حب، ولكنه حب عنيف قاس، خلا من الحنان، وأجدب من رقة العاطفة. عاد الجمال يبكي، فهبط عليه الملك غاضبا في هذه المرة وقال: مم تبكي أيها الجمال؟ فأجابه: إنني أبكي لأن الله أنعم علي بنعمة عادت نقمة وشرا مستطيرا، حتى أصبحت أوثر عليها الموت، ليتني كنت دميما، فإني أرى كل دميم يعيش في أمن وعافية. أما أنا فمن الصباح إلى المساء يحيط بي قوم غلاظ عابسو الوجوه، يدقون صدروهم، ويعوون في وجهي عواء الذئاب الجائعة، إن كان هذا هو الحب، وإن كان هذا الصياح اليابس في لغة البشر تقديرا للجمال، فإني في غنى عن هذا الحب، وفي غنى عن هذا التقدير، وأتمنى لو عدت كأول عهدي بين قوم لا قلوب لهم، فقد كنت - على تعس ما كنت فيه - قرير النفس هادئا مطمئنا.
فأشفق عليه الملك، وسأل الله أن يمنح الناس الشعر، فأجاب الله سؤاله، وخلق فيهم الشعر، وخلق معه الغناء والموسيقى، فاتجهت هذه الفنون إلى الجمال في أدب المتوسل، وذلة المستعطف، وأرسلت أصواتها رخيمة صداحة، تصور خوالج النفس ولواعجها في نغم تقف له الطيور في سمائها، وتهتز الغصون في أدواحها. وما كاد الجمال يلقي نحوها سمعه، حتى أسكرته رناتها، وأطربته ألحانها. ومر به الملك وهو مضطجع في ظل زيتونة مهدلة الأفنان، يجري من تحتها غدير هادئ الخطا، يتعثر فوقه النسيم، والشعراء ينشدون، وآلات الطرب تعزف، فقرب من الجمال وقال: لم لا تناديني اليوم؟ فظهرت الحيرة على وجه الجمال وقال: لقد ناديتك يا أخي مرتين، فلم أرد أن أزعجك بعدهما، فاذهب إلى السماء موفقا، فالأرض بخير ما لقيت حبا شريفا، وجمالا عفيفا. - هذا عجيب. وقد رأيت في إقليم طالقة، وهو من أقاليم إشبيلية، تمثالا من المرمر لجارية لم تقع العين على أجمل منها، وعلمت أن الأقدمين كانوا يدعونها إلهة الجمال. أما أسطورتك هذه فلم أسمع بها، ثم حدقت فيه النظر وقالت: وأخشى يا أبا الوليد أن تكون من أساطير خيالك، فأسرع ابن زيدون قائلا: لا يا سيدتي، إن بيننا من اليهود من يتقنون الأسبانية، وقد عثروا على آثار كثيرة للقوط في بيت الحكمة بطليطلة بعد هزيمة «لذريق» ومن هذه الآثار كتب في العلوم والشعر والأدب ترجمها اليهود وأذاعوا أسرارها. وبينما هم في الحديث إذ أقبل عليهما الوزير ابن عبدوس، وأخذ بيد ولادة قائلا: ألا تحب سيدتي أن تخرج إلى الحديقة قليلا لتتمتع بأنفاس النسيم في هذه الليلة المقمرة قبل موعد العشاء؟ أنا واثق أنك لا تملين حديث شاعرها أبي الوليد، ولكننا نترك في الكأس بقية إلى ما بعد العشاء.
وقامت معه ولادة وهي تنظر إلى ابن زيدون نظرة مبهمة، فيها اعتذار، وفيها ألم وإشفاق.
سارت ولادة وابن عبدوس فانطلقا مع الضيوف هنا وهناك في أفناء الحديقة يتجاذبون أطراف الحديث، ويتناقلون الأفاكيه والنوادر في مرح وابتهاج. وجلس ابن زيدون وحده مطرقا وقد لعبت به هواجس نفسه، وعصفت به لواعج حبه: أين أنا؟ وأين كنت؟ ومن هذه التي كانت بجانبي حتى أخذها هذا المنحوس الطلعة، الأغم القفا، الوغد المأفون؟ أهذه ولادة؟ ولادة بنت المستكفي التي صورها الله للجمال مثالا، وجعلها للظرف عنوانا. ولادة التي تأنقت القدرة الإلهية في خلقها لتكون نموذجا لما أعد الله للمؤمنين من ثواب في جنات النعيم، ومعنى مجسما لما حاول الشعراء أن يبوحوا ببعضه فوقف بهم الخيال، وضاق النظم، وعجزت القافية؟ وأين أنا منها؟ أين منها ذلك الشاعر التائه المضطرب، الذي أضاع ردحا
3
من شبابه في غزل كاذب، ونعيم موهوم، وأبواب الجنة منه على قيد خطوات، وحوراء الفردوس في دار تكاد تصاقب داره؟ إني رأيت في عينيها حبا ملائكيا طاهرا، كاد يحترق له قلبي، وسمعت في صوتها رنة عذبة سحرت لبي. فهل أنا محب محسوب؟ هل أنا بهذا الجمال قمين؟ وقل تقبل الجنة علي هكذا مرة واحدة من غير أن أخوض إليها المكاره؟ وهل يسعى إلي هذا الحسن الفاتن طائعا مرخي العنان من غير أن أقضي فيه ليلة سهاد، أو أسفح دمعة عين؟ إنني لا أكاد أصدق. إن قوانين الدنيا ومناهج الأيام لا تأتي على هذا النحو. إن الدنيا لا تجود بنعيم إلا إذا أخذت من الجهد والكد والتبريح ما يساوي ثمنه أو يزيد، وهي إذا أعطت لا تعطي مرة واحدة هكذا بالهيل والهيلمان،
4
ولكنها تبض بقطرة قطرة، حتى تفسد معنى العطاء والإحسان. لا. إنني مخطئ. إنني مخدوع. إنها لا تحبني. وأنا رجل مغفل سريع إلى الحكم، وثاب إلى التشبث بالوهم. إنها فتاة مهذبة كريمة النجار، مرهفة الذوق، رأت رجلا شاعرا مغرورا، فأرادت أن تجامله وتلاطفه وترفق به، فابتسمت له، وأطالت معه حبل الحديث. هذا كل ما في الأمر، لا أكثر منه ولا أقل، وهذا هو شأن النفوس النبيلة، تعطف على الغر الجاهل المتبجح من أمثالي. أما أن أقول إنها تميل إلي، فأمر مضحك.
ثم أخذ في الضحك، ولكنه وقف عنه فجأة وقال عابسا: لا. لا. إن نظرتها الأخيرة إلي حينما دعاها هذا الغراب المشئوم للخروج إلى الحديقة، كانت كفلق الصبح، ليس فيها شك ولا مرية،
5
إن القوة البشرية أعجز من أن يصل بها التصنع إلى هذا الإتقان. إنها كانت نظرة حزينة وامقة.
6
لقد قرأت في عينيها كل شيء، وفهمت كل شيء، ولست من الغرارة والغفلة بحيث لا أفهم مثل هذه النظرات. لأترك الآن هذا، فقد فرغت منه، وبلغت الغاية، ولأنظر في الدنيا التي بسطت رحابها أمامي فياحة ناضرة، ترف على جوانبها الورود والرياحين. سأكون زوج ولادة أجمل فتيات الأندلس وأشرفهن، وسأصعد إلى أسمى المراتب في الدولة. ثم رفع رأسه هنيهة وقال مسائلا نفسه: أسمى المراتب في الدولة؟ من أين لي هذا؟ ابن جهور رجل مغلق ضنين، والوزراء حوله لئام عيابون، لا يريدون أن يصل إلى مراتبهم ناشئ طموح مثلي، والشيخان ابنا عمه محمد بن عباس، وعبد العزيز بن حسن، يستثقلان ظلي، وينفران من أدبي وشعري. ولكن نائلة ألقت في أذني بالأمس كلمات كان لها في نفسي مواقع الماء من ذي الغلة الصادي. قالت: إن الوزارة ترف بجناحيها فوق بابي. ونائلة وثيقة الصلة برجال الحكم، وهي تعرف من شئون الدولة ما قد يجهله ابن جهور نفسه. ثم إنها لا تكذب، ولماذا تكذب؟ وهل لها غاية من وراء الكذب؟ إنها امرأة خبيرة طبة
7
لبيقة، وإلا فلماذا أسرعت وقدمتني إلى ولادة، وفتحت أمامي بابا للرفعة وعظم الشأن لا يدخله إلا الوزراء وكبار الدولة؟ إن ولادة لا تجالس كاتبا في الديوان، ولا تبتسم لصغير من عمال قرطبة، فأغلب ظني أن نائلة لم تدفع بي إلى هذه المنزلة إلا وهي جد واثقة أنني منها قاب قوسين أو أدنى نفرغ من هذا أيضا ونحن منه على يقين.
ثم بدا على وجهه العبوس، وطافت بوجهه غمامة هم ذهبت بنضارته، وأخذ يعض سبابته يقول: عائشة بنت غالب، هذه المصيبة التي قذفت علي من الجحيم، ورماني بها إبليس اللعين ليفسد حياتي، ويبدد شبابي، ويقضي على آمالي. عائشة بنت غالب! إنها شر بنات حواء إنها امرأة فاتكة هباشة، إذا ظفرت مخالبها بفتى فعليه الرحمة، وأحسن الله فيه العزاء! إنها العنكبوت ذو الأيدي الطوال، والمخالب الحداد. إنها الذئبة الجائعة التي لا تترك فريستها وفيها دماء. ويل لي منها وويل لمقتبل أيامي، وما كنت أرتجيه من هناء وسعادة! ليت شعري ما الذي ستصبه علي من صواعق بعد أن وصلت إليها رسالتي؟ إنها لن تتركني بعد هذه الرسالة لأهنأ بزواج ولادة، إنها ستعمل كل شيء لتفسد ما بيني وبينها، إنها ستهجم عليها في دارها، وتملأ الدنيا ضجيجا بثلب عرضها وعرضي، وستنشر في المحافل والمجامع من التهم ما يتعفف عن سماعه غلمان الحانات، إنها ستذهب إلى أبي الحزم بن جهور في دموع البائسة المخدوعة، فتملأ صدره علي غلا وغيظا، ثم؟ ثم إن عندها رسائل مني كنت أبعث بها إليها أيام جهلي وجنوني، وأتندر فيها بعظماء الدولة، وأتبسط فيها بالطعن في ابن جهور ووصفه بالرياء والنفاق وسخف الرأي والتدبير. وامصيبتاه! إنها ستجمع كل هذه الرسائل في أمانة وصيانة، وستطلع كل وزير على ما يخصه منها، وهكذا أراني سقطت حينما ارتفعت، وطفوت كما يطفو الغريق ليغطس في الماء إلى غير رجعة! ما الذي دفعني إلى هذه الحية الرقطاء؟ وما الذي أوقعني في حبالها؟ الجهل والشباب العربيد والتظرف الممقوت! خسئ أبو الوليد! ولعن الله لحظات مرت به تحت سقف هذه الهرة الشكسة النهوس!
وبينما هو يتعثر في هذه الخواطر السود وتتعثر به، إذ سمع نائلة تصيح بالعبيد والغلمان قائلة: ادعوا الضيوف إلى العشاء فقد أعد الطعام. فأفاق من سبحاته كما يفيق المحموم من نوم مضطرب كريه، وهز رأسه في عنف، كأنه يريد أن يميط عنه مخيفات الهواجس، وقال لنفسه أو قالت له نفسه، إن من الخير ألا أسبق الأيام، ومن الخير ألا أفترض الكوارث، وعلي أن أتمتع بالساعة التي أنا فيها، وأن أترك ما لغد لغد، ولله أمر هو فاعله، وحكم هو قاضيه، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه.
ثم تقدم إلى نائلة باسما وهو يقول: لقد أحسنت بي يا سيدتي إذ مهدت لي سبيل الوصول إلى ذلك الملك السماوي الذي كانت تعجز عن بلوغه الأسباب، وتتعثر الأوهام. فأجابته نائلة وهي تهز كتفه في حنو. - اصبر يا فتى، فإنك لا تدري ما تدبره لك نائلة من رفيع الشأن وبعيد المنزلة. ثم تنهدت وقالت: والله ما أدري سر ذلك الحافز العنيف الذي يدفعني إلى الاهتمام بأمرك، والكدح في الوصول بك إلى أسمى الغايات، وبذل الجهد في حياطتك من كل يد تمتد إليك بأذى. لعلي أحببتك يا أبا الوليد لأني بعد أن فقدت ابني منذ حين بعيد بقي حنان الأمومة في كمينا حائرا متطلعا، فلم يجد بين شباب قرطبة إلا إياك، لقد مر بحياتي كثير وكثير ممن تزدان بهم المحافل، ولكن قلبي لم يهتف إلا بك، ولم يرف جناحاه إلا لك، و«لهوى النفس سريرة لا تعلم» كما يقول متنبي المشرق. على أنك مع هذا سيد الفتيان وسامة وقسامة وجرأة وبطولة وأدبا - لست أراك إلا ابنا لي يا أبا الوليد، وسأكون ملكك الحافظ، ومجنك الوافي في جو قرطبة المضطرب بالفتن والدسائس والأحقاد. هلم إلى العشاء يا بني.
ومدت المائدة، ووضعت عليها غرائب الألوان، ونفائس الأطعمة وأحاط الخدم والعبيد بالضيوف في أدب واحتفاء، يفهمون الإشارة ويكتفون بالإيماء، وجلست ولادة وإلى يمينها ابن زيدون، وإلى يسارها أبو الوليد محمد بن عميد الجماعة، وأخذ الضيوف يتنقلون بين الطعام والشراب بطرائف الأحاديث، ومد ابن زيدون يده بطبق من الطعام نحو ابن الحناط الكفيف وهو يقول: بدع قصيدتك التي تقول في أولها:
راحت تذكر بالنسيم الراحا
وطفاء تكسر للجنوح جناحا
أخفى مسالكها الظلام فأوقدت
من برقها كي تهتدي مصباحا
وكأن صوت الرعد خلف سحابها
حاد، إذا ونت السحائب صاحا
فقال أبو حفص بن برد، وكان يحقد على ابن الحناط: شعر حسن، ولكنه يحتاج إلى صقلة الفن.
فرفع الكفيف رأسه في غضب، وكان شيخا في الثمانين. وقال في سخرية: ما الذي يحتاج فيه إلى صقلة الفن يا مولاي الوزير؟! - يحتاج إلى كثير يا سيدي: إنك تقول «راحت تذكر بالنسيم الرحا» ثم تصف ليلة مظلمة مبرقة مرعدة، فأين مكان النسيم هنا؟ إن هذه الليلة يجب أن تكون فيما يقتضي التصور ذات ريح عاصفة. أما كلمة «كي تهتدي» فحشو ثقيل أفسد عليك البيت كله، وكان يجب أن تفتح آخرها، لأن المضارع اليائي يظهر عليه النصب، والعجيب أنك تصف سحابة وطفاء من أول بيت في القصيدة ثم تقول: «وكأن صوت الرعد خلف سحابها» والضمير في «سحابها» يعود إلى السحابة، فيكون محصل الكلام: وكأن صوت الرعد خلف سحاب السحابة، وهذا تهافت لا يستطاع الفرار منه، وبعد أن شبهت الرعد بالحادي قلت: «إذا ونت السحائب صاحا» والشعر يتطلب أن تقول: «إذا ونت الركائب صاحا» حتى يجيء للحادي ما يلائمه. فاكفهر وجه الكفيف، وانتفخت أوداجه من الغضب، وصاح: هذا هراء! ولكن الحق الذي لا مرية فيه أنك أردت أن تسرق مني هذه المقطوعة، فأسأت الصناعة، ولم تتقن السرقة حين تقول:
ويوم تفنن في طيبه
وجاءت مواقيته بالعجب
تجلى الصباح به عن حيا
قد اسقى، وعن زهر قد شرب
وما زلت أحسب فيه السحا
ب ونار بوارقها تلتهب
بخاتى توضع في سيرها
وقد قرعت بسياط الذهب
فقولك: «وجاءت مواقيته بالعجب» كلام لم يأت إلا لتكملة البيت، ثم ما هذه البدعة في «قد اسقى» فإن العرب حققوا الهمزة في «أسقى» وأنت تأبى إلا أن تسهلها، قد تقول إن هذه ضرورة، فأجيبك بأن الضرورة لا يلتجئ إليها شاعر يتحدى كبار الشعراء. والبيت الثالث ألفاظ كثيرة متزاحمة ليس فيها إلا أن البرق كالنار. ثم تقول: «وقد قرعت بسياط الذهب» والقرع يكون بالعصا لا بالسوط يا سيدي! أما سياط الذهب هذه، فهي أدهى وأشنع من «ماء الملام» التي عابوها على أبي تمام.
وأراد ابن زيدون أن يحول دون الجدل والخلاف، فقهقه وقال: إن الشعر لا يبحث فيه على هذا النحو، ولو تعمدنا النقد، وتكلفنا التدقيق، لم يسلم بيت لشاعر من المتقدمين أو المتأخرين. فصاح ابن الحناط قائلا: لا يا سيدي، إن آفة الشعر أن ينقده من لا يفهمه.
فأسرع شاب في العشرين قدم من «المرية» منذ أيام وقال: إذا أذن لناشئ مثلي في الكلام، فإني أقول: إن الأندلس جميعها تدين في الشعر لثلاثة، هم ابن برد وابن الحناط وابن زيدون.
فضحك القوم، ومال ابن الحناط على من بجانبه سائلا: من هذا الفتى؟ - هذا عبد الله بن الحداد شاعر موسيقي مبدع، وله فن في الغزل عجيب.
وقالت نائلة: إنه يتغزل في الأسبانيات يا مولانا الشيخ، يتغزل في «نورا» الأسبانية التي فتنته. فهمست ولادة في أذن ابن زيدون ترجوه في أن يطلب إليه أن ينشدهن شيئا من هذا الغزل. فصاح ابن زيدون: أنشدنا يا عبد الله بعض نورياتك. فتردد قليلا ثم أنشد:
متى أحظى بمرآك
ويهدأ قلبي الشاكي؟
رأيت الحسن قد ولا
ك إحيائي وإهلاكي
ولا أستطيع سلوانا
فقد أوثقت أشراكي
فكم أبكي عليك دما
ولا ترثين للباكي
فهل تدرين ما تقضي
على عيني عيناك؟
وما يذكيه من نار
بقلبي نورك الذاكي؟
نويرة إن قليت فإن
ني أهواك أهواك
ثم أنشد:
وبين الحسان الغيد لي سامرية
بعيد على الصب الحنيفي أن تدنو
مثلثة قد وحد الله حسنها
فثنى في قلبها الوجد والحزن
فطربت ولادة وقالت: يعجبني الشعر الواقعي. فقال أبو الوليد محمد في شيء من الدعابة: إن شعر صديقنا ابن زيدون كله واقعي، وأبياته الجديدة تغنى الآن في كل مكان. ثم انطلق ينشد:
متى أبثك ما بي؟
يا راحتي وعذابي
متى ينوب لساني
في شرحه عن كتابي؟
يا منية المتعزي
وحجة المتصابي
الشمس أنت توارت
عن ناظري بالحجاب
ما البدر شف سناه
على رقيق السحاب
إلا كوجهك لما
أضاء تحت النقاب
وهنا صاحت نائلة قائلة: هذا هو الشعر الذي يذهل الفتاة عن نقابها، ويبكي العجوز على شبابها. فظهر الكمد
8
في وجه ابن عبدوس، وعمد إلى توجيه الحديث إلى ناحية أخرى، فالتفت نحو ابن حيان وقال: - عثرت من أيام على نسخة من تاريخك يا مولانا، فأعجبت به، غير أنه عيبة عيواب، فقد ملأته بمثالب الناس، ولم تعف لأحد فيه عن زلة.
فاتجه إليه ابن حيان وقال: وماذا أعمل يا فتى الأسبان، والدنيا خلقت هكذا؟ وتاريخي صورة للدنيا التي أعيش فيها، فأحسنوا أعمالكم أحسن كتابتي. - ألم تقل عن أبي عامر بن شهيد مفخرة الأندلس جميعها في أدبه وظرفه وحلو فكاهته: «كان بقرطبة في رقته وبراعته وظرفه، خليعها المنهمك في بطالته، وأعجب الناس تفاوتا بين قوله وفعله، وأحطهم في هوى نفسه، وأهتكهم لعرضه، وأجرأهم على خالقه؟» فأسرع ابن زيدون وقال: وهكذا والله كان أبو عامر ما ظلمه الرجل فتيلا.
وهنا نظرت ولادة إلى ابن حيان وقالت: لو بدا لك أن تترجم لي في تاريخك، فبحقي عليك ماذا كنت تقول؟
فابتسم ابن حيان وقال: كنت أقول: «إنها في زمانها واحدة أقرانها: حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر» ثم سكت فصاح ابن برد: أتمم يا أبا مروان، فإن الحية لا بد أن تمج لعابها: فقال ابن حيان: لا. إني لا أقول في ابنة المستكفي إلا هذا أو مثله، وإذا أردت أن أمسها مسا خفيفا قلت: «على أنها - سمح الله لها، وتغمد زللها - اطرحت التحصيل، وأوجدت إلى القول فيها السبيل». فضحك القوم وتصايحوا. قال ابن زيدون؛ وماذا كنت تقول في؟ فزفر ابن حيان وقال: - كنت أقول: «فتى الآداب، وعمدة الظرف، والشاعر البديع الوصف، ذو الأبوة النبيهة بقرطبة، والوسامة والدراية وقوة العارضة، غير أنه سليط اللسان، جرئ الجنان، يذهب به طموحه كل مذهب، ويهون عليه كل مطلب».
وأسرع ابن عبدوس وقدم له طبقا من القطائف في أدب وملق، وقال في صوت المستعطف: ماذا كنت تقول في يا سيدي؟
فاتجه إليه أبو مروان وقال: أعفني بالله فإني لا أحب أن أجبهك بما لا تحب! فألح ابن عبدوس وألح القوم فقال: أديب بلغ به أدبه أبعد ما يبلغه سواه، وقذفت به حيلته إلى ما فوق مرتقاه، يزاحم العرب بدهائه، ويستر نسبه بجوده وذكائه، دن شراب، وزير كواعب أتراب، يعادي كل سباق سبوح، ويحسد كل مجد طموح».
فوقف ابن عبدوس غاضبا وقال: وهذا سب صريح، وقذف أملاه حقد كمين، وإني أرفع مكانة من أن آبه لمثل هذا الهراء.
فأسرع ابن برد وقال: إن الشيخ لم يكن يريد أن يقول عنك شيئا، ولكنك ألححت وألححت. بعد أن ألمع لك برأيه فيك.
وهنا صاحت نائلة: إننا لا نغضب لما يكتبه أبو مروان، والمؤرخ يجب أن يكون حرا فيما يكتب، وإلا فسد التاريخ، وضاعت ثقة الناس بالمؤرخين، ومما يهون الأمر أنه لا يحابي صديقا لصداقته، ولا يشهر بعدو لعداوته. أنا أعرف ما كتبه عني وأستحلفه بالله ورسله وأنبيائه ألا يذكر منه الآن حرفا. هلم إلى قاعة الشراب.
فانطلق القوم يتزاحمون، ودار عليهم السقاة، وفاحت روائح الند والعود، وجلست «غاية المنى» المغنية بين جوقتها، وأخذت بعد أن أصلحت عودها تغني بصوت كأنه همسات الأمل في نفس اليائس الحزين، وكانت تردد من شعر ابن زيدون:
وضح الحق المبين
ونفى الشك اليقين
ورأى الأعداء ما غر
تهم منه الظنون
قل لمن دان بهجري
وهواه لي دين
يا هلالا تتراءا
ه نفوس لا عيون
عجبا للقلب يقسو
فيك، والقد يلين!
ما الذي ضرك لو سر
بمرآك الحزين؟
وتلطف لصب
حينه فيك يحين؟
فوجوه اللفظ شتى
والمعاذير فنون
وطار الطرب بالقوم بعد أن طار الشراب برءوسهم. ووقف «الزرافة» الممخوق
9
على كرسي فمد رقبته الطويلة، وصاح كما يؤذن الديك ثم قال: يا أدباء قرطبة؛ ويا شعراء قرطبة؛ إذا كنتم سمعتم قول أبي نواس:
فاسقني حتى تراني
أحسب الديك حمارا
فاملئوا عيونكم مني جميعا وتبينوا في وجهي: أكان أبو نواس صادقا؟ ثم نهق حتى لم يشك من يسمعه من بعيد أنه يسمع حمارا، ووثب وهو يصيح: لقد كان اللئيم صادقا فاشربوا واطربوا!!
وجاء دور الراقصات الأسبانيات فبهرن العقول بفنهن ورنين صنوجهن، وانقضى الليل في مرح وبهجة، حتى كاد يبدو عمود الصباح، فأخذ القوم في الانصراف آسفين على ساعات حلوة اختطفوها من يد الزمان.
وعندما هم ابن زيدون بشكر نائلة وتوديعها همس في أذنها قائلا: إني أخشى عاقبة الرسالة التي بعثت بها إلى عائشة يا خالتي، فخلصيني بالله منها، فإنها المعول الذي سيهدم كل ما بنيت. فأجابته باسمة: طب نفسا أبا الوليد فسوف أزورها، وسوف أستل ذنابي العقرب فلا تعود لها صولة.
وأقبلت ولادة عليهما متألقة باسمة، فودعته وشكرت نائلة على كريم ضيافتها، وجميل ما أعدت من أسباب السرور.
الفصل الرابع
من عائشة بنت غالب؟ ومن أي أرومة نبتت؟ فقد ترامت حولها تهم وخلعت عليها صفات تغري المتطلع إلى تطلب المزيد. فمن عائشة؟ ومن أبوها؟ ومن أمها؟ ومن أي عش درجت، وفي أي الأجواء نشأت؟
كانت «فلورندا» أم عائشة تقيم بمدينة «شنت ياقب» أو القديس يعقوب، في أسرة رقيقة الحال. وكان أبوها «جارسيا» يخدم في الكنيسة نهارا، ويرتزق من اللصوصية وقطع الطريق ليلا، وكانت كنيسة شنت ياقب أعظم كنيسة بأسبانيا، وأكبر مشهد فيها، يحج إليها الناس من بلاد القبط والنوبة، ومن أقصى بلاد رومة وما وراءها، فكان جارسيا ينال بالنهار من بعض صدقات الحجاج، ويسطو بالليل على بعض أمتعتهم.
وفي صبيحة يوم من أيام شعبان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، شمل الذعر مدينة شنت ياقب، واستولى الهلع على أهلها، ودقت أجراس الكنيسة الكبرى، وتصايح الناس في أصوات مرتعدة واجفة قائلين: لقد قرب جيش المنصور بن أبي عامر من المدينة!!
إنهم كانوا في أمن آمن، وكانوا يظنون أن بعد مدينتهم ووعورة المسالك بينها وبين قرطبة تجعلهم في حرز من غزوات العرب، ولكن أصحاب الأخبار حملوا إليهم أن المنصور بلغ بجيوشه مدينة «قورية»، ثم قطع المفاوز حتى بلغ مدينة «البرتقال» على نهر «دويرة» وهناك أنشأ على النهر جسرا من السفن فعبره جنوده، وانطلقوا كأنهم شياطين الجن إلى السهول والقيعان، وما زالوا يقطعون أنهارا، ويخترقون جبالا، حتى بلغوا جبلا شامخ الذرا وعر الشعاب، فأمر المنصور الفعلة بتمهيد طريق فيه يتسع للجيش، فأخذوا يشقونه بالحديد حتى بلغوا أقصاه، وانهمر سيلهم منه إلى أن وصلوا إلى نهر «أبله» ولم يصبح بينهم وبين شنت ياقب إلا أيام قصار.
ذعر الرجال، وولولت النساء، وبكت الأطفال، ولم يجد أهل المدينة نجاة من هذه الكارثة إلا الهرب، فجمعوا ما خف من شملهم، وانسابوا من المدينة كأنهم أسراب نحل ملأ المشتارون بالدخان خلاياها. شيوخ وشبان وأطفال، ونساء يحملن صغارهن، ودموع وحسرات وأنات. أين يذهبون؟ إنهم يفرون من الموت إلى الموت، ولكنهم يظنون أن موتا مشكوكا فيه خير من موت محقق. والناس في ساعات الوهل
1
يطير صوابهم، فيركبون من الخطر ما هو أشد مما يتوقعون من خطر. إن غريزة المحافظة على الحياة قد تنقلب جنونا يودي بالحياة، أليست الفراشة تلقى بنفسها في النار لأنها تراها مصدر الحياة؟ ألا تلسع النحلة للدفاع عن بقائها، وفي لسعتها موتها؟ ألا يقتل المنتحر نفسه، لأنه يحب الحياة؟ إن السفينة إذا أدركها الغرق جن ركابها وماج بعضهم في بعض، فماتوا قبل أن يلتقمهم اليم. والدار قد تشب فيها النيران فيقتل الذعر أهلها قبل أن تلتهمهم النيران. والفار من الثعبان الأرقم لو ثبت قليلا ما عدا عليه الثعبان. والحق أن في الخوف من الموت موتا، وأن الذي يبذل الحياة توهب له الحياة.
خرج جارسيا وزوجه «مارايا» وابنته فلورندا مع الفارين الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وكان الرجل فارع القامة، قوي البناء، موثق العضل، فحمل على ظهره ما لا يسعهم تركه من خفيف المتاع وكانت زوجه ناحلة سقيمة الجسم، تنظر في سهوم واضطراب إلى ما يمتد إليه طرفها من المفاوز والجبال، ثم تهز رأسها في حسرة ويأس، وتدعو جميع القديسين والقديسات لإنقاذها مما هي مقبلة عليه من موت محتوم. وكانت فلورندا في نحو الخامسة عشرة من سنيها، وقد خلع عليها الشباب والجمال أغلى ما يخلعه الشباب والجمال على فتاة من حلي وحلل.
سارت الأسرة في صمت حزين، وكمد دفين، وهي لا تدري: أي مكان تريد؟ ولا أي طريق تقصد؟ ولكنها كانت تريد أن تفارق المدينة، تريد أن تفر من ذلك السيل العربي الجارف الذي يوشك أن يبتلعها، تريد أن تحيد عن طريق ذلك الضرغام الذي سمعت زئيره عن بعد يصم آذان السهول والآكام.
وكان الصباح شديد البرد، وكانت الريح زعزعا. فكانوا كثلاث ريشات ظفرت بها الريح في يوم عاصف، فقذفتها هنا وهناك فلم تستطع ثباتا ولا دفعا. سارت الأسرة أياما حتى نال منها الأين، وهرأ
2
أطرافها البرد، فلجأت إلى سفح جبل يصد عنها صولة العواصف، وجلست مارايا القرفصاء وقد دفنت وجهها بين ركبتيها من البرد، وأخذت ترسل أنفاسا متلاحقة مضطربة، ورمت فوقها فلورندا طرفا من دثارها، وأخذت تبث في أذنها كلمات الحنان، وتحثها في رفق على الصبر والتجلد. أما جارسيا فكان فظا صخري الفؤاد، لم ينل منه هذا المشهد المفجع إلا السخرية والتهكم، فزجر زوجته في غلظة وعنف على ضعفها وانحلال قواها.
ولكن ابنته، وقد ضاق به ذرعها، التفتت إليه وقالت؛ إنها لا تستطيع المشي يا أبي. إن يديها قطعتان من جليد، وقد لمست رأسها فإذا هو يتقد من الحمى. ثم أرسلت دمعتين يائستين وصاحت: إن أمي مريضة يا أبي. انظر إلى عينيها، إنك لا تجد بهما بريقا. ثم احتضنتها إلى صدرها لتعيرها قليلا من دفء شبابها، ولكن مارايا كانت في غير حاجة إلى دفء، لأنها خرجت من دنيا العواصف والأنواء، وتركت شعاب أسبانيا الوعرة القاسية، إلى شعاب محجبة عن العيون!
صرخت فلورندا حينما رأت أمها جثة فارقتها الحياة، ونظر جارسيا في ذهول ووهل إلى امرأته وقد أحاطت بها رهبة الموت، ودارت حولها هالة من ذلك الجلال الذي لا يعرفه الأحياء إلا في لحظات الوداع. ومن العجب أن هذه اللحظات قلبت طبائع الرجل، أو أظهرت الجانب الخفي المكبوت من طبائعه على الأصح، فما كاد يستيقن موت زوجه حتى انكب عليها يقبلها وهو يبكي بكاء الأطفال، ويندب ندب الثكالى، ويناجيها في لوعة وحسرة بأرق ما يناجي به حبيب حبيبا. وكأنه كان يلمح ماضي قسوته وجفائه، وسابق تفريطه في حبها، فيزيده كل ذلك بكاء وألما وإفراطا في الحزن والأسى. وحينما عاد إليه بعض صوابه شق لها قبرا تحت شجرة تين، وعمد على غصنين فصنع منهما صليبا أقامه عند رأسها، ثم حمل متاعه، وأخذ بيد ابنته، فسارا مطرقين كأنهما لا يزالان يحسان رفيف أجنحة الموت. وقالت البنت في صوت خافت: إلى أين يا أبي؟ - لا أدري وحق العذراء يا فلورندا. - أرى أن نعود إلى مدينتنا، فإن العرب لن يكونوا أقسى مما نحن فيه من هول وعذاب. - نعود إلى مدينتنا؟ هذا لن يكون يا فتاة. ثم مد شفتيه في سخرية وألم وقال: ماذا فعلنا أو فعل بنا القدر؟ أخرجنا لنفقد أعز امرأة في هذا الوجود، ثم نعود أدراجنا كأننا أدينا واجبا مقدسا؟ لا يا فتاة. لن نعود إلى شنت ياقب بغير أمك. إن كل شيء فيها سيذكرني بها، وسيهمس في أذني بأني لم أكن لها زوجا صالحا، ولكنني كنت كلبا عقورا. خير لي أن أموت وأن تموت معي هذه الذكريات. - وأين نذهب يا أبي؟ - إلى قرطبة. - إلى قرطبة قصبة الإسلام، وعرين الضواري، ووكر النسور الكواسر، الذين فررنا من بطشهم، وخاطرنا بالحياة للنجاة من شرهم؟ لم لا نذهب إلى الشمال، ونلجأ إلى «ليون» أو «نافار» أو «قشتالة» حيث نجد في ممالك النصارى الأمن والسلامة، وحيث نعيش مع قوم ديننا دينهم، وبلادنا بلادهم؟ - نعيش بينهم شهرا أو شهرين، ثم تقع الواقعة، فنعود إلى الفرار واقتحام الأخطار، والتعرض لموت محقق! - كيف يا أبي؟ - إن هذا الخليفة العربي الذي يسمونه المنصور لن يستقر له قرار حتى يخضع جميع بلاد أسبانيا، وحتى يزحف سيله إلى الأرض الكبيرة، على أنه استولى على ليون، وأذل نافار، وإذا لم يملك قشتالة اليوم فسيملكها غدا. أتعرفين أن غزوته لشنت ياقب إنما هي الغزوة السادسة والأربعون. وأنها ستتلوها غزوات وغزوات. إن من الخير لنا أن نلجأ إلى قرطبة عاصمة الإسلام لنأمن شر الغزو إلى الأبد، ونعيش بين المسلمين أنفسهم ، لأنهم لا يؤذون ذميا ولا مستأمنا، وكل ما يطلبونه من مثلي جزية لا تزيد على اثني عشر درهما في العام. هلم إلى قرطبة يا بنيتي، فإن المثل الأسباني يقول: إن صديق الأسد لا يخاف وثبته.
انطلق جارسيا وابنته نحو قرطبة، وقد فرغ زادهما، فكانا إذا نزلا قرية استطعما أهلها، وكانت فلورندا تحسن الرقص والغناء، فكانت تنتقل مع أبيها من باب إلى باب ترقص وتغني، حتى ينالا من صدقات المحسنين ما يكفيهما، وما زالت هذه حالهما حتى بلغا قرطبة، فنزلا منها بالربض الجنوبي، حيث يقيم أكثر النصارى والأسبان المتسلمين، ولم يجد الرجل من وسيلة للرزق إلا أن يبيع الفاكهة متنقلا بها طيلة النهار وطرفا من الليل بين قرطبة وأزقتها، وأبت فلورندا إلا أن تعين أباها، فكانت تجمع كل يوم بعض دريهمات من الرقص والغناء، وكانت هذه الدريهمات تزيد في كل يوم كلما زاد الإعجاب بها والإقبال عليها.
وبينما كانت في أحد الأيام تبرز فنونها في سوق البزازين،
3
وقد التف حولها حشد حاشد من السابلة الذين أخذوا برنات صنوجها، إذ مر «بترو» الذي ما كاد يسمع الرنين والإيقاع، حتى هزه الطرب، فدنا منها فإذا حسن فتان، وجسم ريان، وفن في الرقص والغناء لو ثقف لفتن الناس وهز الأندلس.
كان بترو الأسباني صاحب أكبر حانة بالمدينة، وكانت له عين بصيرة بالجمال، وأذن موسيقية تدرك أدق الفروق، وتحس بأخفى درجات النشوز. وكان يجلب إلى حانته أبرع الفاتنات الأسبانيات وأجملهن، وامتدت تجارته إلى ما وراء الأندلس، فكان سماسرته في الغرب والشرق يبعثون إليه أجمل بضائعهم من فرنسا ومراكش ومصر والشام وبغداد، وكانت حانته مثابة لفتيان قرطبة المترفين الذين أطغاهم الفراغ والشباب وأفسدتهم الجدة.
رأى بترو فلورندا فملكه الدهش، وعز عليه أن يرى تلك اللؤلؤة اللامعة، وتلك الثروة الفنية الغالية، تتقاذف بها طرقات قرطبة، هذا يرمي لها بدرهم، وهذا يلوي وجهه عنها كلما مدت إليه يدها بدفها.
دهش بترو وعجب، فمد يده إلى جيبه وأخرج دينارا، فلما مرت الفتاة تستجدي بدفها، رمى فيه الدينار. فنظرت إليه مبهورة وقالت: هذا دينار يا سيدي!
فأظهر بترو الحيرة والتردد وقال: أصحيح هو دينار؟ لقد أخطأت يا فتاة، فقد أردت درهما وأراد جمالك وفنك دينارا خذيه باركت العذراء لك فيه؛ فأخذته فلورندا وهي لا تكاد تصدق أن أصابعها تنطبق على دينار. وطافت برأسها أماني وأحلام، وأخذت تفكر في خير الطرق التي تفجأ بها أباها لتطلعه على ذلك الكنز الثمين. ثم سارت لتعقد حلقة أخرى بسوق الصيارف، ولكنها رأت بترو يتبع خطواتها، فلما دنا منها قال: ما اسمك يا فتاة؟ - فلورندا.
ما أجمل الاسم، لولا أنه يثير في نفس الأسباني ذكريات لا تطفئ نيرانها الدموع! - ذكريات؟ أنا لا أفهم ما تقول. - عجيب. ألا تعرفين شيئا من تاريخ أسبانيا يا فتاتي؟ ألم تحدثك العجائز بتلك الداهية الدهياء التي حلت بأسبانيا بنزول العرب فيها؟
فظهرت سذاجة الجهل واضحة على وجه فلورندا الجميل وقالت وهي تهز رأسها: لا. لم يحدثني أحد. - إن فلورندا بنت يوليان هي التي أضاعت ملك أسبانيا، ووضعته لقمة سائغة في فم العرب. - امرأة فعلت هذا؟! - امرأة ورجل، وقديما أخرجت الجنة من ظلالها رجلا وامرأة. فثارت رغبة فلورندا لمعرفة ما يقصد، لأنها في الحق لم تفهم إلا قليلا فقالت: حدثني بحق «جوليوس» كيف أضاعت فلورندا جنة الأندلس؟ - فلورندا يا فتاتي كانت في بلاط لذريق ملك أسبانيا، فوصل إلى علم أبيها عن الملك ما يمس شرفه، فغضب، ودفعه حب الانتقام إلى أن يذهب إلى موسى بن نصير قائد العرب بإفريقية، ويمده بالسفن، ويرشده إلى مواطن الضعف في الدولة، ويذلل له السبيل لفتحها. - لعن الله لذريق، ولعن الله فلورندا هذه؛ لن أتسمى بهذا الاسم بعد اليوم. آه يا سيدي ... فأسرع بترو يلقنها اسمه: بترو. - آه يا سيدي بترو لو رأيت ما فعله العرب بولايتنا لرأيت ما تشيب له النواصي، إنهم شياطين مردة، ينسفون الجبال، ويثبون فوق الأنهار، كأنهم أسود لها أجنحة النسور. وهنا طفرت الدموع من عينيها فلم تستطع لها دفعا وقالت: بهؤلاء العرب فقدت أمي يا سيدي بترو، لقد وثبوا على شنت ياقب كأنهم العاصفة الهوجاء التي لا تبقي ولا تذر، فخرجنا من المدينة ليقتلنا البرد والجوع والكلال. - أنت من شنت ياقب إذا؟ - نعم. - مع من تعيشين يا فتاتي؟ - مع أبي جارسيا. - وأين تسكنين؟ - في قاعة بزقاق الصيادين. - سأزور أباك الليلة، ثم مد إليها يده فحياها وانصرف وهو يحدث نفسه ويغمغم: إنها كنز ثمين. إنها بوق الساحر الذي إذا نفخت فيه ألقى إلي فتيان قرطبة ما في جيوبهم ذاهلين مأخوذين. عجيب أمر هذه المصادفات، تلقي بين يديك في سهولة ويسر ما لو ضربت في الأرض إليه أعواما لم تجده! وكثيرا ما تضع هذه المصادفات التبر في الأرض الجرداء، وكثيرا ما تقذف باللآلئ بين القمامات، والناس يمرون بها، وقد نهكهم الفقر، ونالت منهم البأساء، وهي على قيد نظرة منهم. فلورندا؛ لو بعثت إلى أقصى بلاد الروم، وأبعد مطارح التركستان لم أجد لها مثيلا!
والتقت فلورندا بأبيها في حجرتهما المظلمة بعد أن أجهدهما كد النهار، فرأته عابسا منهوكا، فإنه لم يترك بقرطبة وأرباضها سوقا أو طريقا إلا سلكه صائحا مرغبا في اقتناء فاكهته، واصفا جمالها ولذة مذاقها، ولكن الناس كانوا في هذا اليوم في صمم عنه وعن فاكهته، كأنهم أقسموا يمينا مؤكدة ألا يذوقوا للفاكهة طعما، أو كأنهم رأوا في الفاكهة سما زعافا فخافوا أن تمسها أيديهم.
قالت فلورندا بعد أن قبلت أباها: كيف الحال يا أبت اليوم؟ فابتسم جارسيا ابتسامة اليائس وقال: أحسن حال يا حبيبتي؛ حملت الفاكهة في الصباح، وجئت بها كاملة في المساء، بعد أن تمتع التفاح بمشاهدة كل ما في المدينة من أسواق وميادين ثم عاد سالما إلى مقره، ولكن الخبيث كان يلح علي قبل أن تدخلي في أن أريه المدينة غدا وبعد غد، فقبلت غير أني اشترطت عليه ألا أحمل الميزان، فقد أصبحت في غير حاجة إليه! - ما الخبر؟ - لم أبع بدانق. فإذا كان لديك درهم أو درهمان فاذهبي وأتينا بما نتبلع به الليلة. فتصنعت فلورندا الجزع، وأمرت سحابة من اليأس أن تغيم على وجهها ثم قالت: إنني لم أكسب دانقا
4
اليوم، فماذا نعمل؟ - عظيم! نبيت على الطوى يا حبيبتي، وندعو للمنصور بن أبي عامر بدوام النصر والتأييد؟ أتعرفين لم حرمنا الرزق هذا اليوم يا فلورندا؟ حرمنا لأنه يوم أحد، وهو يوم الراحة منذ خلق الله السموات والأرض. - نعم إنه يوم الأحد. ثم هزت ثوبها فسقط منه شيء لامع التقى بأشعة المصباح الواهنة، فأرسل شعاعا وهاجا أسر عيني جارسيا فصاح: ما هذا؟ ثم مد إليه كفه فالتقطه، وقد انتابه ما يشبه الجنون، وأخذ يتمتم: دينار! دينار! هذا دينار يا فلورندا! أنى لك هذا؟ وكيف ظفرت به؟
فابتسمت في وجهه وقالت في خبث: ببركة يوم الأحد. - قولي بحق المسيح كيف حصلت عليه؟ فهزت كتفه في حنان وقالت: اجلس يا أبي فإنها قصة عجيبة حقا، ثم أخذت تنبئه بمقابلة بترو وبما دار بينهما من حديث، وما كادت تتم قصتها حتى سمعا قرعا على الباب، فوضعت إصبعها على فمها إشارة لأبيها بالسكوت، ثم أسرعت فقامت تصلح ما في الحجرة من اضطراب، وتستر منها مواطن الفاقة، وبعد قليل أقبلت نحو الباب ففتحته فإذا صوت خشن أصحل يقول: سعد مساؤك يا فلورندا. فمدت يدها وهي تبتسم وتقول: أهلا بسيدي بترو. مساء جميل وضيف كريم لولا أن حجرتنا الحقيرة لا تليق بمثله. - إن أنضر الأزهار ينبثق من الدمن،
5
وليس في الفقر من عار يا فلورندا لو جعله المرء سلما إلى الغنى. - الغنى؟ أنت تحلم يا سيدي! هلم إلى أبي، ثم صاحت: يا أبي هذا السيد بترو الذي كنا نتحدث بشأنه.
فوقف جارسيا ومد يده إلى الضيف مرحبا وهو يقول: خادمك جارسيا فرانسكوس يا سيدي. ثم نشر حصيرا إلى جانب الحائط، وأومأ إليه بالجلوس، وأخذ ثلاثتهم يتداولون الأحاديث حول قرطبة وما فيها من ثروة واستبحار في العمران، ثم ما فيها إزاء ذلك من فقر مدقع ومتربة، فقال بترو: - إن العاقل من يعرف كيف يقتنص الفرص. وأسرع جارسيا قائلا: أي فرص يا سيدي؟ إن لي خمسة أشهر أدور في شوارع هذه المدينة الملعونة وطرقها، وأتطلع إلى كل حجر في أبنيتها فلم أجد يوما لهذه الفرص ظلا! - لأنك تبحث عنها وهي في يديك. - في يدي؟! - نعم في يديك، وما مثلك، إلا كمثل من ينام فوق فراش وهو يتضور جوعا، ولو مد عينيه إلى ما تحت الفراش لرأى من الذهب ما يغني دول الأرض. أنت يا سيدي جارسيا وجهت كل عقلك إلى العنب والتفاح، وإلى أنك قد تكسب من هذا درهما وقد تكسب من هذا نصف درهم، ثم نظر إلى فلورندا واستمر يقول: ولو أنك نظرت في غرفتك الحقيرة الآن لرأيت كنزا ثمينا. - كنزا ثمينا؟ - نعم. إن أمامك كنزا ينقلك من سكنى القبور، إلى سكنى القصور، ويجعل الذهب يسيل من بين أصابعك كما يسيل الماء من أفواه الأسود في حدائق الزهراء. - ما هذا يا رجل؟ أنت تعابثني، وقد جرأك على هذا فقري وسوء حالي، ثم قام في غضب: ولكني أعلمك يا سيد بترو أنني على فاقتي لا أقبل مزاحا مهينا ولو جاء من أمير الأندلس. لا يا سيدي، نحن سكان الجبال نرضى بالشظف، ولا نرضى بالمهانة. - أي مهانة يا سيدي جارسيا؟ إن كنزك الثمين هو فلورندا. - كنزي فلورندا؟ - نعم. إن لها من الجمال ما لم تظفر بمثله قصور الملوك، ومن سحر الصوت ما تحسدها عليه العنادل، ومن الرشاقة ما تتقطع دونه رشاقة الغصون. إن هذا الحسن الرائع، وذلك الفن الموهوب، لم يخلقا ليطرحا في هذه الحجرة المظلمة التي تفر منها الخفافيش.
فأسرعت فلورندا تقول: وماذا ترى أن أصنع؟ - تأتين عندي. فظهر السخط على وجه فلورندا، ووثبت إلى أبيها تعانقه وتدلله وهي تقول: لا يا سيد بترو. إنني لن أترك أبي ولو وازنت لي الأرض ذهبا. هل أتركك يا أبي؟ إنني إذا لعقوق. لا تصدق يا أبي أن ابنتك فلورندا تفارقك لحظة عين. إنها تجد لذة للجوع والفاقة في جوارك. لقد فررنا من بلدنا معا، وقاسينا شظف العيش معا، وفقدت أمي بين العواصف والزعازع، ولست أريد أن أمنى بفقد جديد. ففك أبوها عنه ذراعيها، ثم أسكتها بقبلة، والتفت إلى بترو وقال: - ماذا تقصد يا سيدي من أخذ فلورندا عندك؟ فتمكن بترو في مجلسه، وأخذ يذود عن وجهه بعوضة أكثرت حوله الكر والفر وقال: أنا يا سيدي أملك أعظم حانة بالمدينة، وهي على الشاطئ الأيمن من الوادي الكبير، تحيط بها الحدائق الفيح، والمروج الخضر، وبها أجمل ما خلق الله من قيان، وأمهر من دقت بدف، أو عزفت على مزهر، أو صفرت بناي، أو ضربت على جنك. - عرفتها، وطالما ذهبت إليها ليلا لأبيع التفاح عند بابها. أنت تملك هذه الحانة؟ إنك لرجل عظيم، فلوى بترو عنه وجهه لية كان معناها لو ترجمت: ومن أنت أيها الأحمق حتى تشهد لي بالعظم أو لا تشهد؟ ثم عاد إليه يقول: إن فلورندا بعد أن تثقف وتهذب ستكون كوكب هذه الحانة الذي يتهافت الشبان على شعاعه تهافت الفراش، فإذا وكلت إلي أمرها فإنه لا يمضي شهر أو شهران حتى يكون راتبها في كل شهر خمسمائة دينار.
ففغر جارسيا فمه وصاح: وي وي! ماذا تقول؟ خمسمائة دينار! - وأكثر. - وما شروطك يا سيدي؟ - إني لا أشترط شيئا، كل ما في الأمر أن تقبل أن آخذ فلورندا إلى بيتي لأعدها للمجد العظيم الذي هي مقبلة عليه، ولن يمر زمن طويل حتى تكون ماسة لماعة أزيلت عنها قشرتها، وحينئذ تظهر في الحانة، للغناء والرقص بأجر لا يقل عن خمسمائة دينار كل شهر.
فقهقه جارسيا قهقهة طويلة ظهرت فيها أسنانه القارحة كأنها المسامير الصدئة، ثم أتبع ذلك ببكاء وشهيق عصبي وقف عنده على قدميه وهو يصيح: لا يا سيدي. بالله عليك لا تغريني بالمال، فإنني لا أفارق ابنتي ولو سففت التراب. - ومن قال إنك ستفارق ابنتك؟ - سأكون عندك إلى جانبها؟ - نعم. ولن تبيع تفاحا بعد اليوم، فمد إليه جارسيا يده وهو يقول في لعثمة الفرح: أسرع بيدك يا سيدي، فإنا كنا نتحدث الآن في الفرص وكيف تقتنص. فمد إليه بترو يده قائلا: اتفقنا. ثم نظر إلى فلورندا كالمتسائل فأطرقت ثم قالت: مادام أبي معي فأني راضية مسرورة. فقال بترو: هلم إلى داري من الآن. فقبل جارسيا، وهمت فلورندا لتجمع بعض متاعها، وكان قليلا تافها، ولكن بترو جذب ذراعها في لطف قائلا: لا حاجة لك ولا لأبيك بشيء من هذه الغرفة، اتركي كل شيء. ثم خرج ثلاثتهم، ومالت فلورندا لتغلق الباب فصاح بها أبوها: ماذا تفعلين يا ابنتي؟ دعي الباب كما هو، فإن كل ما في الحجرة من متاع ليس إلا درسا يعلم الناس الأمانة ...
وانطلقوا إلى دار بترو، فذهل جارسيا وذهلت فلورندا لعظمتها وفخامتها وما فيها من فراش ورياش، وما يجول في أنحائها من عبيد وخدم. وفي الصباح أحضرت الملابس لفلورندا، وأحاط بها جمع من الخياطات والماشطات والجواري، فبرز جمالها، وتميزت مواطن الحسن فيها، وأصبحت فتنة المجتلي، وتردد عليها كبار الموسيقيين والراقصين ليلقنوها دقائق الفن، فبرعت حتى بذت معلميها، ورأى بترو أن الوقت قد حان لظهورها في الحانة.
وفي إحدى ليالي الربيع بقرطبة، ظهرت فلورندا في الحانة، فبعثت فيها حياة لم يكن للناس بها عهد، وأرسلت صوتها حلوا ناعما، كأنه خرير أمواه الجنة، وأطلقت العنان لفنونها فأظهرت من الرشاقة ودقة الأداء والإيقاع ما يسحر الألباب. جمال وفن وابتسامات وروح أخف من ريش النعام، فإذا لم تلعب كل هذه بالعقول فلا لعب بها لاعب! جن النظارة ونبذوا وقارهم، وخيل إليهم أن أرواحهم تسبح في بحر كله طرب وألحان، فصاحوا مأخوذين، وكلما كلت حناجرهم صاحوا ثانية وثالثة، وكان بين الجمع الحاشد شاعر ناشئ ملكته أريحية الطرب فصاح:
وراقصة أما نضارة خدها ...
ثم توقف قليلا، ففتح عليه شاعر من مكان بعيد يقول:
فورد وأما خصرها فقضيب
فقال الأول:
عشقت بني الأسبان طرا لأجلها ...
فأسرع الثاني يقول:
وكل حبيب للحبيب حبيب
فقال الأول:
لها بين أحناء الضلوع كنيسة ...
فأجاب الثاني:
وعزمي على حمل الغرام صليب
فضج الناس وصفقوا من الطرب.
وسار ذكر فلورندا في شرق قرطبة وغربها. وأصبح جمالها وفنها حديث كل دار، وسمر كل مجلس، وانهمر الذهب على بترو انهمارا. أما السيد جارسيا فقد صار من أثرياء قرطبة وظرفائها، يسكن قصرا فخما، ويلبس الأقبية والبرانس الحريرية من خير ما تخرجه مناسج المرية، ويعيش عيشة الترف والنعيم، ويتسابق الناس إلى معرفته والتقرب إليه، وأصبح حديثه ظريفا رائعا، ونكتته بارعة الخيال، ولكنته في العربية جميلة رشيقة زادت العربية جمالا!
وكان يغشى حانة بترو زمرة من أبناء الوزراء والقضاة وكبار تجار المدينة، منهم غالب بن محمد بن أبي حفص، كان أبوه من وزراء المنصور المقربين عنده، الذين جمع لهم جاههم ومنصبهم ثروة تتحلب لمثلها أشداق اليهود.
كان غالب في الثلاثين، وكان ظريفا أديبا، وفتى مدللا، ففتن بفلورندا أول ليلة رآها، ودلهه حبها، وأصبح صبا بها متبولا،
6
فكان يذهب مع خاصة أصدقائه في كل ليلة إلى الحانة، وينثر الذهب على فلورندا، ليحظى منها بنظرة رضا أو ابتسامة حنان.
وطال الأمد على هذا الحب، وغالب مثابر، ينعشه بصيص من أمل، وفلورندا جادة في التيه المتقطع الذي تذهب به بسمة مشرقة، وتعود به تعبيسة غائمة. فلما ناء صدره بما يحمل، وضاق ذرعه بما يلاقي، ذهب صبيحة يوم إلى جارسيا، وأطلعه على أمره، وأنه لا يطيق الحياة بغير فلورندا، وأنه يطلبها له زوجا، وأنه يبذل فيها كل ما أرادت وأراد أبوها من مال. فأطرق الأب وعبث بلحيته طويلا، وأحب العرض، لأنه لم يكن يحلم يوما أن تصبح ابنته في يوم من الأيام زوجا لابن وزير المنصور، وإذا كان ينعم الآن بالمال الذي يغرقه فيه بترو، فإنه سوف ينعم بالمال الذي يفيض عليه من غالب، والمال الأول يأتي من ابنته وهي راقصة متبذلة، والمال الثاني يأتي من ابنته وهي زوج مصونة تعيش في كنف وزير. ما أبعد البون، وما أعظم الفرق بين الحالين! وهنا رفع رأسه وقال: ولكن ماذا نفعل ببترو؟ إنه لن يفرط في فلورندا. - هل اشتراها بالمال؟ أهي إحدى جواريه فهو يحوزها بملك اليمين؟ - لا. ولكنه هو الذي نشأها، وهو الذي صنعها، فلو أخذت منه الآن لأصبحت حانته أخلى من شنت ياقب حينما دخلها المنصور. - إنه كسب من ورائها مالا كثيرا. - نعم يا سيدي، ولكنني أصر على مقابلته وإرضائه.
ورأى غالب أنه لو عرض على بترو الأمر في رجاء واستعطاف لفسد كل شيء، لأنه رجل جشع نهم، لا يرضى بانتزاع فلورندا منه في سهولة ولين، لذلك اتجه إلى جارسيا وقال: أواثق أن فلورندا سترضاني زوجا؟ - أنا رضيتك زوجا لابنتي يا سيدي، وهي لا تعصى لي أمرا. - عظيم! نجتمع هنا الليلة مع بعض أصدقائي لنعقد الزواج. - كيف يا سيدي؟ وماذا نعمل لبترو؟ - هذا ما ستعلم نبأه بعد حين، غير أني أرجوك ألا تخبر أحدا بما دار بيننا إلا فلورندا.
وانطلق غالب فجمع بعض جند أبيه وأعوانه، وأمرهم أن يذهبوا جميعا إلى دار بترو، وأن يحضروه إليه في عنف وقسوة، كأنه اقترف أشنع الجرائم. وجاء بترو خائفا مرتعدا، فلما مثل بين يدي غالب صاح في وجهه: أنت بترو بن برفكيوس؟
فعجب بترو أن يسأله غالب عن اسمه، وهو من رواد حانته في كل ليلة، وأعرف الناس به من أمه وأبيه، ولكنه أطرق خائفا مستحذيا وقال: نعم يا سيدي.
فنظر غالب في أوراق أمامه وأخذ يقلبها ثم رفع رأسه وقال: جاءت هذه الأوراق إلى أبي في الصباح، وكان على وشك أن يبعث بها إلى عبد الرحمن بن الفطيس صاحب الشرطة. - وماذا فيها يا سيدي؟ - فيها المصائب، وفيها ضياع مالك ودمك، فيها يا سيد بترو أنك أفسدت المدينة، وعبثت بأخلاق شبانها، وأبحت الخمر تجري أنهارا في حانتك بعد أن حرمها الخليفة المنصور. إن هذه الشكاة لو وصلت إلى صاحب الشرطة لأغلق حانتك وصادر أموالك ونفاك إلى الشمال.
فاصفر وجه بترو وقال واجفا: أشكر لك يا سيدي هذه الصنيعة، ولا بد أن تكون هذه الشكاة من أحد أعدائي. - نعم هي من أحد أعدائك، وأعتقد أن سبب العداوة إنما جاء من ظهور تلك الفتاة المسماة بفلورندا بحانتك: ورأيي أنهم لا يسكتون عنك إلا إذا صرفتها بأية سبيل. - إنها حياة الحانة وجمالها ورونقها. - وكنزها الذي لا يفنى أيضا. ولكن ما رأيك يا سيد بترو في أن هذا الكنز الثمين سيجر عليك الفقر والوبال والنفي؟ أليس من الخير أن تعيش هادئ النفس كما كنت تعيش، وألا تتشبث بمطمع في هلاكك وذهاب مالك؟ - إنني لا أستطيع أن أستغني عن فلورندا. - حسن جدا، ولكنك سترى حانتك الليلة مغلقة الأبواب إلى الأبد. ثم التفت إلى الأعوان وقال في صرامة: خذوه عني.
فتوقف بترو قليلا مستعطفا وطفق يقول: وكيف أطرد فتاة يا سيدي بلغت قمة الفن والجمال؟ إنني إن طردتها أسرع إليها غيري من أصحاب الحانات بقرطبة. - لا. لن ينالها أحد بعدك، ولن تغني بعد اليوم في حانة. - كيف يا سيدي؟ - لأنها ستعتزل الرقص والغناء بتاتا. - هذا يخفف المصيبة قليلا، هل تنوي أن تعيش مع أبيها؟ - لا. فظهرت ابتسامة خبيثة على وجه بترو وقال: إن أباها مدين لي بألف دينار. - ستنالها منجزة. ثم التفت إلى أحد الحراس وقال: اذهب معه يا أبا عوف إلى دار جارسيا وأبلغني ما سيقوله له، لا تخرم منه حرفا. إنه سيقول له: إنه نزل عن حقه في فلورندا، وأصبح لا يد له عليها. ثم نظر إلى بترو نظرة غاضبة وقال: اذهبا.
وفي المساء ذهب غالب بن أبي حفص مع ثلة من أصحابه إلى دار جارسيا، فتلقاهم بترحيب وبشاشة، وأقبلت فلورندا في جمالها الفردوسي فحيت غالبا تحية فيها أدب، وفيها حب، وفيها أمل خبئ. وكان جارسيا قد صنع صنيعا احتفل له، وبذل فيه عن سخاء، فأعدت الموائد للطعام والشراب، وعليها أنواع الورود والرياحين وكل ما أخرجت أرض الأندلس الخصيبة من فاكهة ونقل، وكان بين ضيوف غالب أبو العلاء صاعد اللغوي، وهو أديب أخباري لغوي شاعر، قدم على المنصور من ديار الموصل فأكرمه وأحسن وفادته، وثابت بن قاسم وهو من أكبر محدثي الأندلس، وفاتن الصقلبي مملوك المنصور.
وملأ أحد السقاة كأسا فلما ملأها بقيت نقطة في فم الإبريق، فلحظها فاتن، وكان يميل إلى معابثة صاعد، ويزعم أنه ينقل الشعر من كتب مجهولة ثم يدعيه، وأنه يبتدع في اللغة كلمات ليست منها، ليظهر لسائله أنه عالم بكل ما غاب عن الناس. فالتفت إليه وقال: هل لك يا أبا العلاء أن تصف لنا تلك النقطة الحائرة في فم الإبريق؟
فنظر إليه صاعد في تحد واستخفاف وقال: وما الذي أعجبك فيها؟ - الذي اعجبني فيها أن تكون خلت من وصفها كتب المشرق!
فقال صاعد في خبث متعمد: لعلها وصفت في كتب الصقالبة! خذ وصفها يا فتى ثم قال:
وقهوة في فم الإبريق صافية
كالدمع مفجوعة بالإلف مغيار
كان إبريقنا والراح في فمه
طير تناول ياقوتا بمنقار
فصاح القوم: لله أبوك يا أبا العلاء! لقد جبهت فتانا وألقمته حجرا!
وبعد أن قضى القوم وقتا في الحديث تقدم غالب في أدب وإكبار نحو القاضي ثابت بن قاسم، وطلب منه أن يعقد له على فلورندا، فعقد له عليها ثم انصرف القوم جذلين يكررون التهنئات للعروسين.
وعاش غالب مع زوجه في سعادة ورفاهة عيش وحب تزيده الأيام تجددا، ورزق منها بنتا سماها عائشة، نشأت في عز ونعيم. ولما انقضت الدولة العامرية، وولي الخلافة المستعين بالله، كان لغالب عنده مكانة مرموقة، واتفق أن وثب على قرطبة علي بن حمود الحسني وأخوه قاسم، يعاونهما جيش من البربر، فخرج المستعين لقتالهم، وكان غالب في أول صفوف المجاهدين، فدارت الدائرة على الخليفة فقتل وقتل معه غالب ابن أبي حفص، وترك زوجه فلورندا وابنته عائشة تقاسيان لوعة الثكل، وتنعمان بثروة مؤثلة
7
وعز مقيم.
ونشأت عائشة في كنف أمها مدللة لعوبا، تعمل ما تشاء، وتجري مع شيطان غيها كما تريد، واندمجت في المجتمع القرطبي، يذلل المال لها كل طريق، ويفتح الجمال أمامها كل باب.
كانت عائشة في بدء قصتنا هذه في الخامسة والعشرين من عمرها، وكانت ذات جمال وملاحة ووجه نضير مشرق، إذا تأملته جزءا جزءا كان أنيقا جميلا، وإذا نظرت إليه جملة كان آنق وأجمل. وجه تنافست فيه العروبة السمحة والأسبانية الفاتنة، فجاء كل جنس منهما بأبدع ما فيه وأروع. هكذا كانت عائشة بنت غالب فيما ترى العين، وفيما يبدو منها من جمال باهر. أما روحها وأما أخلاقها وأما فلسفتها في الحياة، فكانت على النقيض المخالف من ذلك المظهر الخلاب ولو أن هذه الروح صورت، أو لو أن العلم استطاع أن يرسم الصفات والمعاني، لرسم لها مخلوقا بشعا لم يصور الله أدم منه فيما صور. وكما خلق الله للأفاعي أوعية تخفي سمومها، خلق لهذه المرأة خلقا واحدا يستر كل هذه المثالب وتحجبها عن أعين الناظرين. ذلك هو خلق الرياء، فقد بلغت فيه الذروة، ووصلت إلى القمة كان في مكنتها أن تظهر طيبة القلب، رقيقة العاطفة، تمزج دموعها بدموع البائسين وكان في مكنتها أن تبدو خجولا خفرة تطرق حياء من تطفل الناظرين. وكانت تستطيع أن تستر في مهارة وحذق كل رذيلة فيها بنقيضها، حتى يعود الجهل علما، والحقد عطفا، والبغض حبا، والشره زهدا. ولقد رمتها الوراثة بنفس حقود وشغف بالانتقام وكراهة متأصلة للعرب، ولكنها كانت تخفي كل ذلك وراء ستار كثيف من الدهاء والملق والظهور بالغيرة على العرب، وكل ما يتصل بالعرب.
فتنت بابن زيدون وفتن بها إلى أن أيقظه صائح الرشد فقطع حبالها، وكتب إليها الرسالة التي أملتها عليه نائلة. كتبها خائفا مترددا، لأنه كان يعلم أن وراءها حربا حامية الوطيس، ولأنه كان يعلم أن عائشة ليست من النوع الذي يصرف بالرسائل، ولا من الصنف الأبي الذي يقابل هجرانا بهجران، ولكنها من الطراز الذي لا ينهزم، من الطراز الذي يحب كثيرا، فإذا أبغض أبغض كثيرا. وهي إذا مست عاطفتها، أو طعنت كبرياؤها، انقلبت وحشا لا ترويه الدماء، وأفعوانا لا تنفع في سمه رقية ولا يجدي دواء.
بلغت رسالة ابن زيدون عائشة فأصابها وجوم عجيب، وذهول مريب، وأخذت تهتز هزة المذبوح، وتقهقه قهقهة مجنونة خير منها العويل والنواح، فأسرعت إليها جاريتها غالية في شماتة مكتومة، ودهشت أمها فأقبلت نحوها في ذعر وهي تقول: ما الخبر يا عائشة؟
ولكنها دفنت وجهها بين كفيها، وأخذتها نوبة بكاء ونشيج، يقطع نياط القلوب، فانكبت فلورندا على رأسها تقبله في حنان وتحاول أن تنزع إحدى كفيها عن وجهها في دعابة مصنوعة، واستهانة بالأمر متكلفة، وشرعت تقول: إن ابنتي أشجع من أن يدفعها إلى البكاء خطب وإن جل، إنها مصاص الدم الأسباني الذي لا يعرف الخوف، ولا يأبه للكوارث، إنني أزهى بك يا عائشة على جميع بنات قرطبة الضعيفات النفوس المنحلات العزائم، فيك عزم جدك جارسيا، وفيك مضاؤه وفتكه بالأعداء. لقد رأيته في أشد نوازله فما رأيت دمعة تطفر من عينيه. وكان يقول حينما يراك وأنت تضربين الصبيان، وتأخذين بشعر نواصيهم: «هذه ابنتي يا فلورندا حقا، وقد كنت أخاف أن يطغى عليها الدم العربي» ثم يطرق مبتسما ويقول في صوت خافت: «إنها ستنتقم لنا من العرب». فماذا جرى يا عائشة؟ أضاعت فيك فراسة جدك أم عاودك عرق من لين أبيك ورخاوة طبعه؟ وماذا في هذه الورقة؟ ثم جذبتها بعيدا في إحدى زوايا الغرفة وهمست في أذنها قائلة: - أبالورقة نذير بخطر؟ هل قبض على أسبيوتو؟ لقد كان هنا بالأمس، وكان مرحا ضحوكا، فما الذي جرى؟ احذري يا فتاتي! وإياك أن تدفعك الغريزة إلى ما لا يدفع من الشر! واعلمي أن من الناس من يتصنع النوم وهو ليس بنائم، ويتغابى وهو ليس بغبي، والصيد قد يفجأ من حيث لا يرتقب، والسفينة قد تدهم بالعاصفة وهي في ريح سجسج
8
رخاء. ماذا في هذه الورقة يا فتاتي؟ إن كانت من أسبيوتو فمزقيها. فرفعت عائشة كفيها عن وجهها، والكلمات تتعثر في فيها وقالت: إنها من ابن زيدون. - هل قال فيها إنه مات بعد كتابتها؟ - لو مات لكان الخطب أهون وأيسر. - ماذا قال في رسالته؟ - لطمني لطمة سأترنح لها إلى الأبد، وداس على حبي بقدميه، ومرغ كبريائي في التراب، وركل برجله عاطفة كنت أعتز بها، وصورني سائلة مستجدية ممزقة الثياب تمد يدها إليه للإحسان فيبصق على اليد الممتدة إليه ويوسعها زجرا ونهرا. - كانت عقيدتي فيه دائما أنه شاب ماجن دوار، كالطائر الذي يغرد في كل روض، ويأكل من كل ثمر. دعيه يا عائشة فإن ألف شاب في قرطبة يرى من أكبر نعم الحياة أن يكون لك زوجا.
فعادت نوبة القهقهة إلى عائشة وصاحت في غضب: أدع ذلك العربي الغادر؟ إنه آذنني بحرب، وسأريه كيف تكون الحروب! سأريه أن في دمي عزيمة الأسبان؛ إنه يتبجح بشعره، ويزهي بأدبه، ويطمح إلى أسمى المناصب، ولكني سأفضح هذا الخبيث وأكشف لرجال الدولة مكنون أسراره، حتى يسد في وجهه كل باب، ويطفأ في صدره كل أمل، ويصبح شبحا هزيلا منبوذا، تهارشه
9
الصبيان، ويرميه كل رجل بحجر. سأريه أن المرأة - حينما تريد - تستطيع أن تعصف بأكبر رجل إذا نفذت إلى أسراره. إن لكل إنسان في هذه الدنيا خزانة مخبوءة تجمع أخبار ماضيه وما فيه من مخاز وفضائح، وهو حريص على هذه الخزانة حفي بألا يرى ما فيها شعاع للشمس، يحكم إقفالها كل يوم، ثم يدفنها تحت أطباق الثرى، لا تعرف عنها زوجه شيئا، ولا يسري منها إلى أولاده أو أخصائه خبر. وهو رجل في أعين الناس عظيم المكانة، مرموق المنزلة، لا ترقى الشبهة إلى خلائقه، ولا يمس الدنس لد ذيلا. ولكن اختفاء بعض هذه الخزائن لا يدوم، فقد ينسى الغر مفتاحها في جيب ثوب يخلعه، أو يذهل عنه بحادث مزعج فيتركه في ثقبه، أو يفقده في الطريق فيعثر عليه لص ماهر يسعى للبحث عما في هذه الخزائن، أو تزول الكلفة بينه وبين صديق فيفتح له بابها، ويقذف أمامه بما فيها من أوساخ وأقذار. وهكذا فعل معي هذا الأحمق ابن زيدون يا أماه، فإن مفتاح خزانته في يدي، وسر واحد من أسرارها كاف لأن يهدم حياته، ويقضي على ما بها من آمال. - سحقا للخائن! إنه سيلقى عقابه جزاء وفاقا. والمثل الأسباني يقول: إذا قذفت الزجاج بحجر قذفك بشظاياه.
أما غالية فقد جعلت بين قلبها ووجهها حجابا لا ينفذ منه شعاع، والنساء أقدر خلق الله على إسدال هذا الحجاب. ثم أمرت عينيها أن تصبا شيئا من الدمع لإكمال صورة الحزن والأسف وقالت: إن هذا المأفون لم يكن شيئا ولم تسمع به قرطبة إلا بعد أن اتصل بسيدتي، فرفعت قدره، وأعلت مكانته، وأرغمت الناس على التحدث بأدبه والتغني بشعره. وإني أعرف من مباذل هذا المائق ما لا تستطيع غسله أمواج البحار.
فنظرت إليها عائشة نظرة شكر وارتياح وقالت: لا يا غالية. دعيه لي. فإنه لعبة صغيرة سأروح بها عن نفسي، فإذا فرغت منها فرجت همومي بتحطيمها، وسيعلم الوغد أن حفيدة جارسيا إذا عزمت صممت، وإذا رمت أصمت.
الفصل الخامس
استيقظ ابن زيدون من نومه بعد أن قضى أول ليلة في وليمة نائلة في لهو وطرب، وبعد أن قضى آخره في هم ونصب وأرق. فإن الماضي الدميم لا يزور أصحابه إلا إذا أووا إلى مضاجعهم، وانفردوا بأنفسهم، وبعدوا عن ضجيج الحياة وصخبها. فما كاد رأس ابن زيدون يمس الوسادة، حتى أطلت عليه الذكريات برءوسها بشعة منكرة، كأنها رءوس الشياطين. وهذه الذكريات تظهر أول الأمر في هيئة أشعة ملونة مبهمة، ثم تتجمع وتتناسق لتبرز صورة واضحة لشخص أو لحادثة، لا يجد المرء عنها محيدا، ولا دونها منصرفا. وكلما زاحمها بالتفكير في شيء يسره ويشرح صدره، ويجذب إليه النوم الهادئ الهنيء، طردته في عنف وجبرية، وأخذت مكانه شامتة ساخرة. وكلما حاول أن يجعل بينه وبين التفكير المطلق سدا، وأن يحملق في الظلام كما يحملق المعتوه، أبى الدماغ أن يبقى فارغا، وأسرعت إليه الصورة كأول ما كانت قوة وظهورا.. وقد يرى أن يفر من الوحدة بالقراءة، فيوقد المصباح ويختار أجلب كتاب في خزانته للتسلية والتفريج، ويطل على السطور، فإذا هي تتراقص أمامه مخرجة له لسانها في تحد وعبث، وإذا الصورة السمجة تزاحم الكلمات وتحجب عنه السطور.
ألقى ابن زيدون رأسه على وسادته فظهرت له أشباح وصور: هذه صورة عائشة يراها ولأول مرة في ليلة ساهرة بدار ابن عبدوس. كانت مع أمها، وكانت تجلس حيية خفرة، يبعث حولها جمالها هالة من نور، كأنها من سكان السماء، وقد عرفه ابن عبدوس بها، فما زادت على أن ابتسمت ابتسامة خفيفة، كأنها شعاعة الشمس فوق الزهرة المطلولة، ولقد كان المدعوون في نشوة ومرح وزياط،
1
ولكنها كانت هادئة وادعة دون أن ينم وجهها عن تبرم أو استنكار. ثم غابت الصورة، وتجمعت أشعة جديدة، فأظهرت له صورة أخرى: كان في سفينة بالوادي الكبير في جمع من إخوانه، وكان الوقت ربيعا، وكانوا يقذفون بالورود والرياحين ركاب كل سفينة تمر بهم، وكان ابن زيدون أكثرهم مرحا، ومرت بهم سفينة بها عائشة، وكان بها عدد من القيان يعزفن بالمزاهر، وراقصة مراكشية لصنوجها رنين ساحر. وقذف ابن زيدون وردة دون أن يقصد إلى هدف فسقطت على وجه عائشة، فإذا الابتسامة الخفيفة المشرقة تعود وتصحبها إيماءة رضا ومجاملة، وإذا ابن زيدون يعتذر في استخذاء، ولكن السفينة تسير دون أن ينعم بقبول اعتذاره.
وذهبت الصورة بذهاب السفينة في أمواج النهر، وتجمعت أشعة جديدة: فإذا صباح مشرق، وإذا خادمه علي يدخل عليه برسالة ينتظر حاملها الجواب عنها، إنه الآن ينظر إلى نفسه وهو يفتح غلاف الرسالة، وها هو ذا الآن يقرأ ما فيها:
يا سيدي الشاعر المبدع، سمعتك تقول:
سأقنع منك بلحظ البصر
وأرضى بتسليمك المختصر
ولا أتخطى التماس المنى
ولا أتعدى اختلاس النظر
أصونك من لحظات الظنون
وأعليك من خطرات الفكر
وأحذر من لحظات الرقيب
وقد يستدام الهوى بالحذر
فأحببت غزلك العفيف، وأكبرت أدبك وفنك، فاصدح في أفق الأندلس بلبلا غريدا، وعش للمعجبة بك عائشة بنت غالب.
يذهل ابن زيدون عند قراءة الرسالة، ويخالط نفسه سرور مبهم، ثم يتخيل عائشة التي رآها في دار ابن عبدوس وفي السفينة، فيراها صورة من النبل وكرم الخلال، ويرى أنها كما يبدو من رسالتها أديبة تقدر شعره، وتتابع منه ما يذيع بين الناس، والشاعر أفتن الناس بشعره، والإشادة بما يقول أضعف مدخل يلج منه الخبثاء إلى نفسه. سر ابن زيدون بالرسالة فأسرع يشكرها عليها، ويثني على أدبها وحسن تقديرها.
وتذهب هذه الصورة، وتتجمع أشعة جديدة: ويرى ابن زيدون نفسه في ذات أصيل أمام مريم العروضية، وقد جاءت تزوره وتذكر له أن عائشة بنت غالب زارتها في الصباح، وطلبت منها في إلحاح آخر قصيدة له، ثم تتجه إليه باسمة وهي تقول: إنها معجبة بك، مولعة بشعرك، فإنني حينما أخبرتها أنني لا أحتفظ بنسخة من القصيدة، ظهر الأسف على وجهها وقالت ذاهلة: وكيف أحصل عليها؟ فقلت لها إن الأمر أهون من أن يسهم له وجهك الجميل، نذهب إليه يا فتاتي لنستملي القصيدة، وسيكون أسر خلق الله برؤيتك، وأكثرهم زهوا بإعجابك بشعره، ولكنها أطرقت في استحياء وقالت: إنه ليخجلني أن أذهب إلى رجل في داره، فهل من رأي آخر يا خالتي؟ قلت: يذهب هو إلى دارك، فهو رجل سمح الخلق كريم النجار.
2
فقالت متلهفة وجلة: وتكونين معه يا خالتي. قلت أكون معه يا فتاتي، ثم تنظر إلى ابن زيدون وتقول: فماذا ترى يا أبا الوليد؟ فيسمع نفسه وهو يقول: أزورها معك وسرورا وكرامة.
وتتجمع أشعة جديدة: فيرى دارا رفيعة البناء، يدل مظهرها على العظمة والغنى والجاه العريض، وتقبل عائشة في تؤدة وبطء، تتألق البشاشة في وجهها كما يتألق نور اليقين بين ظلام الشكوك، وتمد يدها إليه مرحبة مؤهلة فيحييها في لطف وأدب. ويجلس الثلاثة في بهو رحب، ويدور حديث رقيق الحواشي في الأدب والسياسة، وتزول الهيبة عن عائشة رويدا رويدا، ويتفتح طبعها كما تتفتح الوردة لأضواء الصباح، وتذهب الكلفة، ويحل المرح محل الحياء، وتنثر الفكاهات والملح، ثم تأمر عائشة جاريتها غالية أن تحضر أقلاما وأوراقا، وتجلس جلسة التلميذة المطيعة في تصنع محبب وتقول: أمل علي يا سيدي رائعتك الأخيرة في ابن جهور. فيرى نفسه وهو يملي عليها:
أما علمت أن الشفيع شباب
فيقصر عن لوم المحب عتاب؟
علام الصبا غض يرف رواؤه
إذا عن من وصل الحسان ذهاب؟
وفيم الهوى محض يشف صفاؤه
إذا لم يكن منهن عنه ثواب؟
تظن النوى تعدو الهوى عن مزارها
وداعي الهوى نحو البعيد مجاب
ثم يتخيل نفسه وهو يقرب منها ليرى أين انتهت في الكتابة، فيفعمه من شعرها طيب فردوسي الشذا سماوي النفحات. وتنتهي القصيدة ويحييها وينصرف وهو أشغف الناس بها.
ثم تتجمع الأشعة وتتكون الصور في سرعة وتعاقب: فيرى أنه أصبح لعائشة عبدا، وأن إرادته سلبت منه سلبا، وأنه صار شبحا يروح ويجيء كما تريد هي أن يروح ويجيء، وقد انطفأ في نفسه كل أمل، ومات كل طموح، وخمدت كل عزيمة. ثم تطير كل هذه الصور، وتتجمع أشعة جديدة تبرز صورة صارخة الألوان، هي صورة الرسائل التي كان يبعث بها إليها أيام جنونه بغرامها، فيئن أنين المجروح، ويطبق عينيه في ألم ممض قاتل.
استيقظ ابن زيدون من نومه في رائعة الضحا فدخلت إحدى جواريه وهي تقول: هذه رسالة يا سيدي جاء بها بلال عبد سيدتي عائشة ولم ينتظر. فيأخذ ابن زيدون الرسالة بيد ترتعد، ثم يفض غلافها ويقرأ:
يا ساريا بين الأسنة والقنا
إني أشم عليك رائحة الدم!
فيقذف بها غاضبا، وينهض من سريره كأنه يريد أن يفر مما حوله من نذر الشر والدمار، ولا يمضي قليل حتى تعود الجارية فتقول: إن أعوان ابن جهور حضروا الساعة يطلبون من سيدي أن يذهب على الفور معهم لمقابلة عميد الجماعة.
كاد ابن زيدون يسقط على الأرض حينما فجأته الجارية بهذا الخبر، وحاول أن يشد من ساقيه فلم يستطع، فألقى نفسه على كرسي كان بجانبه وقال وهو يلهث: أعوان ابن جهور؟ - نعم يا سيدي. - ما عددهم؟ - أربعة يا سيدي. - هل يبدو على وجوههم العبوس؟ - هم دائما عابسون يا سيدي! - حينما تحدثوا إليك هل كان في كلامهم غلظة وخشونة؟ - كانوا أشد غلظة من زبانية الجحيم.
فأطرق ابن زيدون طويلا، وأخذ يحدث نفسه قائلا: أربعة من أعوان ابن جهور، يرسلون إلي في الصباح! لن يكون هذا لخير، ولن يكون إلا لشر ماحق، وبلاء محيق. لقد أسرعت عائشة بالهجوم، كنت أظن أنها ستقضي بعض الزمن في استرضائي أو تهديدي، ولكنها رأت أن تفجأ عدوها بالوثوب قبل أن تسنح له فرصة الفرار أو يتفتق له الرأي عن حيلة، إنها محارب مدرب، يرى أن الضربة الأولى نصف الانتصار. ومما لا يحوم حوله شك أنها ذهبت بالرسائل أمس إلى ابن جهور، وكل سطر بها فيه الموت القزام،
3
والكوارث الجسام. إن ابن جهور رجل عنيف جبار، لا يغضى عن شبهة، ولا يتجاوز عن اللمم. لعن الله الحب، ولعن الله الأدب! ولعن الله التظرف الذي يجر إلى التفكه بأعراض الناس لا لشيء إلا أن يقولوا: إن فلانا أديب بارع لاذع النكتة صادق الرماية! لقد جر إلي حبي الجنوني، وأدبي المعربد، وطبعي المرح الضحوك أعظم الويلات وأوخم العواقب. الآن أدخل على ابن جهور فأرى ذلك الوجه العبوس الجهم،
4
وأسمع ذلك الصوت الجهوري الحانق، وأشهد من بوادر غضبه ما يهون أمامه كل خطب جلل.
يقوم ابن زيدون فيرتدي ثيابه، ويأمر خادمه أن يعد له بغلته، ثم يخرج وهو يتكلف الابتسام، فيرى أعوان ابن جهور فيحييهم بإيماءة العظيم المحس بجلال منصبه، ولكنه يلمح من طرف خفي أنهم لم يطأطئوا له رءوسهم، ولم يظهروا الخضوع الذي يصطنعونه لكبار الساسة فيغوص قلبه بين جنبيه، ويؤكد له الخوف أنهم لو جاءوا لخير أو لغير شر لتكلفوا الأدب والملق.
ويمتطي ابن زيدون بغلته ويحيط به الأعوان فيسألهم: من عند مولاي أبي الحزم؟ فيجيب أحدهم؟ - إنه منذ باكورة الصباح في مجلس حافل بوزراء الدولة وعظمائها. - هل سمعته يضحك؟ فيدهش العون ويخالجه شك في عقل من يخاطبه ويقول: يضحك؟ ماذا يريد سيدي بهذا؟ - يضحك يعني يضحك. الضحك يا شيخ ألا تعرفه؟ - أعرفه، ولكن مولانا أبا الحزم قليل الابتسام بله الضحك، وهو في هذا اليوم أشد خلق الله جهومة. - هل زارته امرأة بالأمس في دار الرياسة؟ فتزيد دهشة العون ويقول: ماذا يقصد سيدي؟ - امرأة ... امرأة ... هل جاءت بالأمس امرأة وطلبت مقابلة ابن جهور في شكاية أو رفع مظلمة؟ - نعم، وهذا يحصل كثيرا يا سيدي.
وبلغ ابن زيدون دار الرياسة، وكان أول من قابله ابن عبدوس فحياه ضاحكا وهو يقول: إن لهذا اليوم ما بعده يا أبا الوليد! ثم رأى محمد بن عباس يمر به مقطبا لا يخاطبه بكلمة. وقد كان في هذه اللحظات القليلة هدفا للهواجس، فكان يؤول الابتسامة بالسخرية والشماتة، والعبوس بالاشمئزاز والإهانة، ويفسر كل كلمة تلقى إليه بما يملأ نفسه من خوف وإحساس بالخطر، وأخيرا جاءه الإذن بالمثول أمام ابن جهور.
كان ابن جهور في نحو الثالثة والستين، ضخم الجسم، وسيم الوجه، يركد فوق وجهه عبوس قاتم لا يكاد يفارقه. وكان عظيم اللحية يصبغها بالحناء، شديد بريق العينين، له نظرات نافذة كأنها تحاول أن تصل إلى ما في القلوب. وكان جليل المهابة مخوفا، ليس فيه جانب للهو، ولا مكان للإغضاء عن عيب، وهو رجل قديم الرياسة، شريف البيت، كان آباؤه وزراء في دولة الحكم بن الناصر لدين الله، ثم استوزرهم المنصور بن أبي عامر. وهو باقعة
5
بعيد الغور، حصيف العقل، نأى به دهاؤه عن أن يدخل في الفتن التي اشتعلت نيرانها بالأندلس بعد انقضاء الدولة العامرية، فلما خلا له الجو، وأقفر النادي من الرؤساء، وثب إلى الحكم فتولى أمره، وقام على رعايته. ذلك أنه في منتصف ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، بعد خلع هشام ومقتل وزيره، اجتمع الملأ من أهل قرطبة على تقديمه، وعددوا من خصاله ما لم يختلف فيه أحد، فأبى عليهم ذلك، فألحوا وألحفوا، فقبل بعد أن اشترط أن يحكم البلد جماعة فيهم الشيخان محمد بن عباس وعبد العزيز بن حسن، وأن يكتفي هو بالإشراف على هذه الجماعة وتوجيهها إلى الخير والسداد.
دخل ابن زيدون فحيا عميد الجماعة وجلا مهولا، فمد إليه ابن جهور يده قائلا: كانت ليلتك بالأمس في دار نائلة الدمشقية ليلة ماجنة!
فانحلت أوصال ابن زيدون، وعلم أن الزوبعة تتجمع لتثور، وأن الصاعقة توشك أن تنقض فقال: إنها جمعت يا سيدي أدباء قرطبة وشعراءها، وكان السمر فيها عفا لا يخمش وجه الأدب. - وكانت الألحان! وكان الرقص! وكانت الخمر! فقال ابن زيدون في نفسه: هذه بداية الشر. إنه سيخرج من هذا إلى مسألة الرسائل.
فجمع قوة جأشه المبددة وقال: ولكني كنت أقول يا مولانا كما قال الرسول الكريم: «اللهم حوالينا ولا علينا».
فنظر إليه ابن جهور نظرة حائرة وقال: أخشى أنك تخدعني يا فتى. - كيف أخدعك يا سيدي وقد زانني قديم خدمتك، وزهاني وسم نعمتك، وأبليت البلاء الجميل في سماطك،
6
وقمت المقام المحمود على بساطك؟ ثم يقوى فيه واهن الأمل بعدما رأى من هدوء ابن جهور فيقول:
فديتك إني قائل فمعرض
بأوطار نفس منك لم تقضها بعد
أمثلي غفل خامل الذكر ضائع
ضياع الحسام العضب أصدأه الغمد
أنا السيف لا ينبو مع الهز غربه
إذا ما نبا السيف الذي تطبع الهند
بدأت بنعمى غضة إن توالها
فحسن الألى في أن يواليها سرد
لعمرك ما للمال أسعى، فإنما
يرى المال أسنى حظه الطبع الوغد
ولكن لحال إن لبست جمالها
كسوتك ثوب النصح أعلامه الحمد
فلما أتم الأبيات تحرك ابن جهور في مجلسه وقال: لقد اجتمع الوزراء في هذا الصباح وأسندوا إليك منصب الوزارة، ورأيت إلى ذلك أن تلقب بذي الوزارتين، لأنك ستكون وزيري وسفيري إلى أمراء الأندلس. ولن أنسى لك يا أبا الوليد عظيم جهادك وكريم بلائك في كبح جماح البربر.
أرأيت الغريق ولم يبق منه إلا الذ ماء يرى يدا تمتد إليه بين الأمواج فتقذف به إلى الشاطئ الأمين؟! أرأيت ميتا مسجى جلس حوله أهله يبكونه، فإذا الغطاء ينكشف، وإذا الميت يثب كأحسن ما يكون صحة وعنفوانا؟ تلك كانت حال ابن زيدون. فإنه ما كاد يسمع كلمات ابن جهور حتى طافت بعينيه غشية، وأخذ لسانه يتلعثم بكلمات كان فيها الخفاء إفصاحا، والإبهام بيانا. ثم عاد فملك زمام نفسه فشكر ابن جهور على عظيم ثقته وجميل رأيه، وخرج من لدنه مزهوا كأن ملك الأرض جمع له في منديل، وكأن الشمس توجته بالأكاليل.
وفي نفس هذا الصباح قبل أن يستيقظ ابن زيدون من نومه، ارتدت نائلة خير ثيابها، وأخذت مقصا صغيرا أخفته في جيبها، ثم قابلت عبيدها الذين أعدوا محفتها فسألتهم: هل أحضرتم قوارير النفط وأعواد الثقاب؟
فأجاب كبيرهم: نعم يا سيدتي. أعددنا خمس قوارير أخفيناها تحت ثيابنا. - حسن. سنذهب الآن إلى دار عائشة بنت غالب، فإذا صعدت إليها فاجلسوا أنتم إلى عبيدها، وخذوا معهم في الأحاديث، ثم اطلبوا منهم أن يعدوا لكم شرابا ساخنا، فإذا أوقدوا النار فغافلوهم، وليسكب كل منكم ما في قارورته على النار، وأحدثوا نوعا من الهرج تتمكنون فيه من إلقاء بعض المتاع على النار لتزيد اشتعالا، وإياكم أن يراكم من العبيد أحد، أو يدرك حيلتكم أحد، ثم ارفعوا أصواتكم في هلع وذعر صائحين: النار! النار! هذا ما أريد منكم أن تعملوه في هذا الصباح، ولا بد من إتقانه على أحسن وجه، كما يجب ألا تحوم حولكم شبهة.
وركبت نائلة المحفة، وانطلق العبيد حتى بلغوا الدار، فصعدت الدرج وقابلتها عائشة في فتور وكبرياء ولكن نائلة الداهية لم تحفل بما رأت في سبيل غايتها، ففتحت ذراعيها لعائشة في شغف ووله، وأخذت تمطر خديها قبلا، وتناجيها بأصدق ما يناجي الحب، وألطف ما يكن الوداد، ثم صاحت: ما هذا يا عائشة؟ في كل يوم تزيدين نضارة وإشراقا؟ لقد حببت إلي الشباب يا ساحرة، ولكن أين الشباب؟ أتعلمين أنني بعد أن حرمته أشعر بلذة عجيبة حينما أراه في فتاة مثلك لم تشرق على مثلها شمس قرطبة؟
فأجابت عائشة: هذا إطراء يا سيدتي يزيدني زهوا وغرورا. أرأيت ابن زيدون منذ قريب؟ - كيف أراه يا حبيبتي، وهو لا يفارق دارك؟ ولكني في الحق أعذره وأعذر كل فتى يفتن بهذا الجمال الرائع. ثم لا أخفي عليك أن من أسباب زيارتي لك في هذا الصباح أن أراك وأن أراه، فإن هذا الملعون هجر داري منذ عهد بعيد، حتى كدت أنسى ملامح وجهه. ثم ألقت بنظرة خفية فرأت الغرفة الغربية، ورأت بابها مفتوحا، ثم أرسلت نظرة أخرى فرأت مفتاح خزانة الرسائل وقد شد بخيط إلى عنق عائشة. وهنا تنهدت عائشة وقالت: إنه هجر داري أيضا. - هجر دارك؟! هذا مستحيل. - هجرني فعلا، ولكنه سيندم حين لا يجديه الندم. - لا تقولي هذا يا بنية، واتركي الأمر لي، فلن يأتي المساء إلا وخطيبك في دارك.
وطال الحديث، وامتد حبل الكلام، وإذا صراخ وضجيج وأصوات منكرة تصيح: النار النار: ففزعت عائشة، وأدركها الوهل، وأسرعت تثب فوق الدرج لتعلم حقيقة الأمر. وبينما هي في ذهولها إذ مدت نائلة يدها بالمقص فقطعت خيط المفتاح، وأخفته في كمها. وما كاد البهو يخلو من عائشة حتى نهضت إلى الغرفة الغربية، فرأت المرآة وبجانبها الخزانة كما أخبرتها غالية، ففتحتها مسرعة ، وندلت
7
منها الرسائل بعد أن حققت النظر فيها، ثم أسرعت في النزول وكانت النار قد أخمدت، فحمدت الله على زوال الخطر وقبلت عائشة في حنو، ومحبة وهي تودعها، وحينما بلغت الباب التفتت إليها وقالت وهي تغمز بإحدى عينيها: أظن هذا المفتاح سقط منك يا زهرتي الصغيرة، وأنت تسرعين إلى إطفاء النار. فصعقت عائشة، وفتحت فاها دهشة مذهولة، وهمت بأن تثب على نائلة، ولكنها كانت فوق المحفة يعدو بها عبيدها كما تعدو كرائم الخيل.
وأمرتهم نائلة أن يذهبوا إلى دار ابن زيدون، وما كادوا يصلون إليها حتى أشرف عليهم فوق بغلته، وحين رأى نائلة نزل ليحييها وهو يصيح في فرح وصوت متقطع: تقلدت الوزارة! جئت الآن من دار الرياسة. قابلت ابن جهور. إنه رجل عظيم. من أين جئت يا خالتي؟ - من دار عائشة. - عائشة! عائشة! قاتل الله عائشة! ماذا كنت تصنعين في دارها؟
فضحكت وقالت: كنت أطفئ نارا بنار. ثم ألقت في يده الرسائل وهي تقول: خذ رسائلك أيها الوزير العظيم، واحذر أن تكتب غيرها. فصاح ابن زيدون في فرح يشبه الجنون. - الرسائل! الرسائل! ورمى بنفسه يقبلها ويعانقها، ويحجل بإحدى قدميه كما يحجل الصبيان، ثم أخذ يهب نحو الباب قائلا: كيف حصلت عليها يا خالة؟ فقصت عليه الخبر، فقام إليها يكرر عناقها وتقبيلها وهو يغمغم: أنت ملكي الحارس! أنت نبراس حياتي ومنقذ آمالي؛ ثم ودعته وانصرفت بعد أن كررت تهنئته بالوزارة.
جلس ابن زيدون وفتح الرسائل، فكان في إحداها:
أما ابن جهور فزق
8
نفخته الكبرياء، وصورة من نفاق ورياء، يخدع الناس بلحيته الحمراء، ومسبحته السوداء. من رجل يثب عند الطمع، ويختفي عند الفزع! لو كان في الجاهلية لكان هبل،
9
أو كان كوكبا لكان زحل.
فارتعش وقال: هذه الرسالة وحدها تكفي لإهدار دمي ومحو اسمي من سجل الوجود. ثم نظر في رسالة أخرى وقرأ:
رأيت محمد بن عباس بالأمس، فرأيت الجهل في ثياب، والوقاحة في جلباب، نظر إلي نظرة البطرة الأشر، كأنه يظن الشمس تشرق بأمره، وأن الألسنة تسبح بحمده، غني المال ، فقير العرض، دنس الذيل هزيل المروءة.
فجمجم وقال: وهذه أشد وأنكى، ثم قرأ في رسالة ثالثة:
وهذا عبد العزيز بن حسن ابن عم عميد الجماعة، سألني اليوم عن بيت من الشعر، فوالله ما أقام له وزنا، ولا عرف له معنى، يا له من عتل زنيم،
10
وثعلب لئيم، يقضي ليله بين الكاسات، ونهاره في ظلم المسلمين والمسلمات.
فاضطرب وقال: وهذه ثالثة الأثافي. ثم صاح: يا علي هات موقد النار. فلما حمله إليه قذف فيه بالرسائل، ولم تهدأ له نفسه حتى رآها رمادا.
الفصل السادس
ومرت الأيام تتلو الأيام وابن زيدون في أطيب عيش وأهدأ بال. أقبلت عليه الدنيا بعد تدلل وشماس،
1
والدنيا إذا أقبلت أقبل معها كل شيء. وكأن الأمور فيها تجذب أمثالها، فالنحس يجتذب النحوس، والسعد يدعو إليه السعود. وقديما قالوا: المصائب لا تأتي فرادى، ولا ندري لم لم يقولوا أيضا: إن النعم لا تأتي فرادى!
عاش ابن زيدون في هناءة وبلهنية، وصبح فتى قرطبة المدلل، وبطلها المرجى، وشاعرها الذي لا يجارى، وكاتبها الذي لا يمارى
2
نال السعادة في الحب حينما رضيته ولادة خطيبا، فغنى بهذا الحب، وأرسل فيه أشعارا أرق من النسيم، وأنضر من صفحة الروض الوسيم. ولقد كان حبهما عذريا فردوسيا أطهر من ماء الغمام، وأصفى من بسمات الصباح، ثم نال السعادة في منصبه، فأعلى ابن جهور مكانه، واصطنعه لنفسه، ونوه بفضله، وأشاد بذكره، وقدمه على نظرائه، وكثيرا ما أنفذه إلى ملوك الطوائف ليسفر بينه وبينهم، وكثيرا ما استكتبه الرسائل التي تضرب ببلاغتها الأمثال.
ولما عظم إقبال الدنيا عليه كثر حاسدوه والناقمون منه، فهو يقول لابن جهور في قصيدة:
فديتك كم ألقى الفواغر من عدا
قراهم لنيران الفساد ثقاب
عفا عنهم قدري الرفيع فأهجروا
وباينهم خلقي الجميل فعابوا
إذا راق حسن الروض أو فاح طيبه
فما ضره أن طن فيه ذباب
وكان أبو عامر بن عبدوس أشد الناس له حسدا، ذلك لأن ابن زيدون كان يزاحمه بجانبين: جانب حبه لولادة، وجانب قربه من ابن جهور حتى أصبح لا يكاد يبرم أمرا دون مشورته.
كان ابن زيدون يقضي طليعة الليل في ندوة ولادة بين طرب وإيناس ولهو ومرح، ولطالما هزه الوجد وأثار الحب في نفسه كامن الشعر فقال:
إليك من الأنام غدا ارتياحي
وأنت على الزمان مدى اقتراحي
وما اعترضت هموم النفس إلا
ومن ذكراك ريحاني وراحي
فديتك إن صبري عنك صبري
لدى عطشي، على الماء القراح
ولي أمل لو الواشون كفوا
لأطلع غرسه ثمر النجاح
نعم كانت الحياة في أعينهما جنة وارفة الظلال، وفي سمعيهما أنشودة رائعة الألحان. كانا عصفورين غردين يتنقلان في خفة ومرح من فنن إلى فنن، ومن دوحة إلى دوحة، تبتسم لهما كل روضة، ويصفق كل غدير، وقد أمنا عواصف الرياح ومكايد الفخاخ. هكذا كان يعيش ابن زيدون في كنف ولادة، وهكذا كانت تعيش ولادة تحت جناح ابن زيدون، فهما في ليلة في قارب في النهر يتهادى بين الضفتين، يعبث بشراعه النسيم، وتنبعث منه ألحان القيان، وضحكات الندامى في الليل الساجي، فتملؤه حياة ومرحا. وهما في ليلة في دار القاضي ابن ذكوان صديق ابن زيدون وحبيبه؛ بين ضحك ومزاح. وهما في ليلة في مرج الخز، أو القصر الفارسي أو عين شهدة يناغيان البدر ويسامران النجوم.
عاش ابن زيدون بعد خطبته لولادة سعيدا، فنسي أيام شدته، وغفر للزمان زلته ولم يفكر في عائشة بنت غالب وكاد يغفر لها كل ذنوبها. غير أنه كان يحس بأن شيئا يلاحقه، ويعترض طريقه، ويكدر عليه صفوه، ذلك هو حسد الحاسدين، وكيد الكائدين. ولكنه كان كلما مر به هذا الخاطر هز له كتفيه، ومط شفتيه، وأراد أن يعيش في الساعة التي هو فيها.
وقد حدث أن بعثه ابن جهور في شأن من شئون الدولة إلى المظفر صاحب بطليوس، فأكرم استقباله، وألح عليه في أن يقيم عنده، وأغراه بالجاه والمال إن قبل منصب الوزارة في دولته. وكان ابن عبدوس قد أرسل وراءه أحد جواسيسه ليسجل عليه كل كلمة، ويدون كل لفتة. وكانت مواهب أبي الوليد من أكبر مصائبه، ومناقبه من أسباب كوارثه ، ولقد يكون في الذكاء وسلامة الطبع ومرح النفس وذرابة
3
اللسان هلاك محقق، وبلاء ماحق. وفي الأذكياء العباقرة فضلة من نشاط تضطرب دائما في نفوسهم، وكثيرا ما تسوقهم إلى المكروه. إن الغبي يفكر في كل كلمة، ويقدر لرجله موضعها قبل كل خطوة، لأنه قليل الثقة بنفسه، حذر من أن يكون رمية جهله، أما الذكي المتوقد، فمتوثب جوال، يجري وراء البديهة، ويقتنص فرص الارتجال، ويرمي بالكلمة لا يبالي أين رماها، ويصدع بالري في جرأة واعتزاز. وابن زيدون شاعر أديب عالم بالأخبار، سريع حركة الفكر، ذرب اللسان، عظيم الزهو بنفسه، لا يرى له في الأندلس نديدا، ثم هو إلى ذلك مرح ضحوك مستهتر، سريع النكتة، جم الفكاهة. فكان يجلس في حضرة المظفر ويطلق لنفسه العنان، ويخوض في كل حديث من غير أن يستصحب الحذر، وإذا جاء ذكر مملكة قرطبة، أو جاء ذكر ابن جهور، كان يدفعه الطيش إلى أن ينبز ويهمز، وإلى أن يمزح ويسخر، وقد تجاوز الحد وأبعد في الاستهانة بالخطر، حينما مدح صاحب بطليوس فبالغ، وغفل عن أن ابن جهور قد يغضبه أن يمدح وزيره أميرا سواه، دع عنك ما خلع على الرجل من الصفات التي تحصر فيه العظمة، وتعرض بغيره من الأمراء، وكان من قصيدته:
مليك إذا سابقته الملوك
حوى الخصل أو ساهمته سهم
فأطولهم بالأيادي يدا
وأثبتهم في المعالي قدم
وأورع، لا معتفي رفده
يخيب، ولا جاره يهتضم
ذلول الدماثة صعب الإباء
ثقيف العزيم إذا ما اعتزم
ظفر جاسوس ابن عبدوس بكل هذا، ودون كلماته التي كان ينثرها جزافا في مجالس المظفر، ولونها بما شاء له فنه واقتضته صناعته، وذهب به إلى صاحبه فزاد فيه ابن عبدوس ما أراد - وما آفة الأخبار إلا رواتها - وملأ به صدر ابن جهور، وكان رجلا أذنا يلقي السمع لكل واش، وينصت إلى كل نمام. وعاد ابن زيدون بعد شهرين فلحظ في ابن جهور انصرافا عنه، وفتورا عند لقائه، ورأى أن الابتسام أصبح جهومة، والثقة أضحت شكا، والميل صار مللا. فبعث إليه بقصيدة فيها استعطاف، وفيها تهديد، وفيها شمم وإباء. منها:
مالي وللدنيا؟ غررت من المنى
فيها ببارقة السراب الخادع
ما إن أزال أروم شهدة عاسل
حميت مجاجتها بإبرة لاسع
من مبلغ عني البلاد إذا نبت
أن لست للنفس الألوف بباخع
أما الهوان فصنت عنه صفحة
أغشى بها حد الزمان الشارع
فليرغم الحظ المولى أنه
ولى فلم أتبعه خطوة تابع
إن الغني لهو القناعة لا الذي
يشتف قطرة ماء وجه القانع
ولكن ابن جهور استمر في تيهه وانحرافه عنه، غير أن ابن زيدون كان قوي الصلة بابنه أبي الوليد محمد بن جهور، وكان يظن ألا يناله من الوالد مكروه، مادام يحظى بمحبة الولد.
ذهب بعد عودته من بطليوس إلى دار ولادة، فقابلته بوجه بش، وأشواق كادت تملأ جوانب الدار، ثم قالت في غضب مصطنع: لا يا أحمد! لقد أطلت علي الغيبة، وأنساك جاهك وعظيم مكانك بين أمراء الأندلس فتاتك المزهوة بك. ثم رفعت رأسها في اعتداد وقالت: لست أنت وحدك الشاعر الذي هز أعطاف قرطبة، فإن نفسي تحدثني أن أنظم في تيهك وجفوتك قصيدة يتناقلها الرواة، وتخلد على الزمان. - لا لا يا سيدتي. شعر وجمال لا يجتمعان! فأجابت في دعابة: يجتمعان يا مولانا الوزير، فليس الشعر إلا جمالا، وليس الجمال إلا شعرا.
ثم جذبته من ذراعه إلى البهو، حتى إذا جلس أخذت تقول: ألا من سبيل إلى إنقاذي من ابن عبدوس؟! إنه يا أبا الوليد يلاحقني كما يطارد الصائد فريسته، إنه يفرض علي حبه فرضا كما يفرض ابن جهور الجزية على كل ذمي، إنه من الصنف الذي لا يرده الإعراض، ولا يكفكف من غربة الملال. إنه وقح مغرور يظن أن قلوب الحسان ملك يمينه، وأن له وحده أن يختار منها ما يشاء. والأدهى والأمر أنه يرى أنه أجمل شاب بقرطبة، وأن الأندلس لم تحو جنباتها من يساويه في جاهه وأدبه وثروته. كان ينكبني بزيارته كل يوم وأنت غائب، ويصارحني بحبه في سماجة وإلحاح، فلما سددت الطريق في وجهه، وأخبرته أنني أصبحت لك خطيبة، بعث إلي بالأمس امرأة من صويحباته، تشيد بمحاسنه، وتجتذب مودتي له، فرددتها أقبح رد، ورجعتها إليه حنينا بلا خفين؛ وهناك رجل آخر أشد منه بلاهة وأكثر جهلا، ذلك هو أبو عبد الله بن القلاس البطليوسي. ظن هذا المغرور أن المال الذي جمعه أيام الفتن والكوارث ينيله كل شيء، فراح يتابعني بنظراته، ويضايقني بزياراته. لقد ضقت بهما ذرعا يا أبا الوليد، والذي أرجوه أن تكتب إلى ابن عبدوس رسالة عني ترده إلى صوابه، وتذوده عن بابي.
فتأوه ابن زيدون واضطرب في مجلسه وقال: إن ابن عبدوس كان فيما يزعم لي صديقا، ولكني أقرأ في عينيه الآن الحقد والبغضاء، وأكبر ظني أنه يدس لي عند ابن جهور. - كيف يا أبا الوليد؟ - لا أدري. ولكني منذ عودتي من بطليوس لم أجد ابن جهور كعهدي به. - هذه دسائس الأندلس! فانظر هل عصف بمجدنا، وقطع مملكتنا أجزاء، وأغرى بنا ملوك الإفرنجية إلا التحاسد والتباغض والأثرة؟ لا تبال يا سيدي، إنهم ذباب لا يملك إلا الطنين. ثم أسرعت إلى ورقة كانت فوق خوان وقالت في إصرار: بحقي عليك يا أبا الوليد إلا ما كتبت إلى ابن عبدوس حتى تستريح داري من شؤم طلعته.
فأخذ ابن زيدون القلم، واختلى بنفسه ساعة، ثم عاد يقول: استمعي للرسالة يا سيدتي:
أما بعد. أيها المصاب بعقله، المورط بجهله، البين سقطه، الفاحش غلطه، العاثر في ذيل اغتراره، الأعمى في شمس نهاره، الساقط سقوط الذباب على الشراب.
فصاحت ولادة قائلة: لو طلبت من الحطيئة أن يكتب إلى ابن عبدوس ما كتب أقذع من هذا! ثم جذبت منه الورقة وأخذت تقرأ حتى بلغت قوله:
فوجودك عدم، والاغتباط بك ندم، والخيبة منك ظفر، والجنة معك سقر. كيف رأيت لؤمك لكرمي كفاء؟ وضعتك لشرفي وفاء؟ وأنى جهلت أن الأشياء إنما تنجذب إلى أشكالها؟ والطير إنما تقع على ألافها؟ وهلا علمت أن الشرق والغرب لا يجتمعان، وشعرت أن المؤمن والكافر لا يتقاربان.
وهنا قالت ولادة: لقد قتلت الرجل. وإن من السهام كلاما، ومن البيان موتا زؤاما. ثم مالت عليه وقالت: بالله عليك إلا قلت فيه شعرا، حتى لا ينبض بعد له عرق، ولا يطرد نفس! فجذب ابن زيدون ورقة وأخذ يفكر ساعة، ثم كتب:
أثرت هزبر الشرى إذ ربض
ونبهته إذا هدا فاغتمض
حذار حذار فإن الكريم
إذا سيم خسفا أبى فامتعض
فإن سكون الشجاع النهو
س ليس بمانعه أن يعض
وإن الكواكب لا تستزل
وإن المقادير لا تعترض
أبا عامر، أين ذاك الوفاء
إذ الدهر وسنان والعيش غض؟
أبن لي، ألم أضطلع ناهضا
بأعباء برك فيمن نهض؟
لعمري لفوقت سهم النضال
وأرسلته لو أصبت الغرض
وغرك من عهد ولادة
سراب تراءى وبرق ومض
هي الماء يأبى على قابض
ويمنع زبدته من مخض
وما كاد يتم قراءة الأبيات حتى صفقت بيديها طربا وإعجابا كما يصفق الأطفال، ثم صاحت في لهجة الآمر: لا تضع القلم قبل أن تكتب أبياتا للفدم
4
الجاهل ابن القلاس. فأطرق ابن زيدون قليلا ثم كتب وهي تطل عليه وهو يكتب:
أصخ لمقالتي واسمع
وخذ فيما ترى أو دع
وأقصر بعدها أو زد
وطر في إثرها أو قع
ألم تعلم بأن الده
ر يعطي بعد ما يمنع؟
وأن السعي قد يكدى
وأن الظن قد يخدع؟
وكأن رامت الأيا
م ترويعي فلم أرتع
أعد نظرا فإن البغ
ي مما لم يزل يصرع
ولا تك منك تلك الدا
ر بالمرأى ولا المسمع
فإن قصارك الدهلي
ز حين سواك في المضجع
فقهقهت ولادة وقالت: حتى والله ولا الدهليز! قل بالله عليك يا أحمد:
فإن قصارك الإصطب
ل حين سواك في المضجع
وجمعت الرسائل، ودعت عبدها رابحا وأمرته أن يسرع بكل رسالة إلى صاحبها.
وبعد قليل أقبل أبو بكر بن ذكوان، وعمار الباجي، وعبد الله بن المكري، فاتسع نطاق الحديث وتعددت طوائفه، فقال ابن ذكوان: لقد تناثر اليوم في قرطبة خبر يهمس به الناس في سخط واستنكار، هو يدور حول المأمون بن ذي النون أمير طليطلة وما تسول له نفسه من الهجوم على قرطبة والاستيلاء عليها.
فقال الباجي: إن القرطبيين لا يبغضون شيئا في الدنيا كما يبغضون البربر، بعد أن شهدوا حكمهم، وولعهم بالتخريب والتدمير. وهذا المأمون ليس إلا عصارة السلالة البربرية، وهو لا يدل علينا بشيء إلا أنه حبيب الأذفونش.
فتململ ابن زيدون وقال: إنه لو خدعته نفسه، وزين له الغرور غزو قرطبة، لرأى حولها أسوارا من سيوف وقلوب، فخير له أن يقبع في داره، وأن يتخلى عن الهوى ويعمل على جمع الكلمة ونبذ الفرقة. إن عرب الأندلس لن يعود إليهم مجدهم حتى تعود إليهم وحدتهم، وتتألف قلوبهم.. ثم زفر زفرة طويلة وقال: لقد ضاعت الأندلس، وتبدد بها ملك كان بهجة الدنيا، وزينة الدهور، وانفصمت تلك العروة العربية التي جمعت الآراء على رأي، وجعلت من الزنود المفتولة زندا، ومن السيوف الصارمة سيفا، فأصبح العرب بعد انحلالهم في هذه الجزيرة النائية بددا كالشياه فتك الذئاب برعاتها، فهامت في بيداء الخوف والجوع لا تسكن إلى ظل ولا تأوي إلى سياج.
نزلنا هذه الجزيرة في قلة من العدد والسلاح، ولكنا كنا من عزائمنا وإقدامنا وإيماننا بالحق في جيش لجب،
5
وقوة تزلزل الجبال. لن أذكر طارقا، فإن إقدامه ودهاءه أصبحا مضرب الأمثال، ولا تزال الإفرنجة حولنا تروي حديث وثوبه على الأندلس وقلوبهم ترتجف فزعا. أعرابي في اثني عشر ألفا من البربر والعرب، أقوى سلاح لهم سيف مثلم، أو رمح محطم، يهجمون على جيش لذريق، وهو كأمواج البحر، ثم لا تنثني لهم عزيمة، ولا تجيش لهم نفس، حتى يكتب لهم الظفر، وتعود سيوفهم ضاحكة إلى أغمادها! فأين هذه القوة؟ وأين هذه العزائم؟ وأين ذلك الروح الإسلامي العاصف الذي لم تقف أمامه أسوار، ولم تصعب عليه أبراج، ولو كانت تتلفع بأردية السحاب؟
أين أيام عبد الرحمن الداخل؟ ذلك الفتى الشمري الأحوذي الذي قدم الأندلس وحيدا، فلم تمر به سنة حتى كانت جميعها في قبضته. وأين منا عهد الناصر لدين الله، والناس ناس، والزمان زمان، حين كان ملوك الإفرنجة يستجدون رضاه ويتسابقون إلى طاعته؟ بعث إليه صاحب القسطنطينية العظمى سفراءه ومعهم أشرف الهدايا وأنبلها، فتلقتهم قرطبة في يوم مشهود، وأقبلوا في خضوع نحو قصر الزهراء يقدمون للناصر إخلاص سيدهم وصادق مودته. ثم أين منا أيام ابنه الحكم المستنصر بالله حين اعتزم غزو بلاد الملك أردون؟ ذعر الملك فسار إلى الحكم في عشرين رجلا من أصحابه راجيا منه أمانا واعتصاما بذمته، فلما دخل قرطبة سأل أول ما سأل عن قبر الناصر لدين الله، فلما أرشد إليه وقف أمامه في صمت وخشوع خالعا قلنسوته حانيا ظهره، وأمر الحكم بإنزاله بدار الناعورة فأقام بها يومين، ثم استدعاه إليه وكان قد أعد لليوم عدته من الزينة ومظاهر القوة، وجاء محمد بن القاسم بأردون وأصحابه فدخلوا بين صفوف الجند، والملك ذاهل يقلب الطرف ويجيل الفكر في كثرتهم وكمال عدتهم، حتى وصل هو وصحبه إلى أول باب للزهراء فترجل وترجلوا، فلما بلغوا البهو جاء الإذن للملك بالدخول فتقدم وأصحابه وراءه، حتى قابل مجلس المستنصر بالله، فوقف وكشف رأسه وخلع برنسه وبقي حاسرا إعظاما، فلما قابل سرير الملك خر ساجدا سويعة ثم استوى قائما وأهوى على يد الخليفة يقبلها ويبتهل داعيا شاكرا، وقد علاه البهر من هول ما باشره، وجلالة ما عاينه من فخامة وعظمة وملك وسلطان. وكان يوما حافلا، وكان للخطباء والشعراء فيه مقامات حسان.
هكذا كانت صولتنا، وهكذا كان سلطاننا، فأين منا ذلك المجد الضائع، وذلك السلطان الذي احتسبته أسفار التاريخ حتى لا يظهر للعيان؟
فأسرع ابن المكري يقول: الله الله! إن من البيان لسحرا!
وقال ابن ذكوان: حقا إنك لخطيب يا أبا الوليد؟
فابتسم ابن زيدون ابتسامة حزينة وقال: وماذا تفيد الخطب يا أبا بكر إذا لم تجد آذانا وعقولا؟ يجب أن نستيقظ، ويجب ألا نسد أعيننا دون الخطر الداهم. إن ملك الإفرنجة بعد أن وحد ولايات أستورياس وليون وقشتالة، اتجه إلى تفريق كلمة العرب، وبث التحاسد بين امرائهم، وأخذ يغري بعضهم ببعض، وينصر فريقا ويخذل فريقا، لا يبغي من وراء ذلك إلا إضعافهم جميعا. فإذا لم نصدمه الصدمة القاصمة، شالت نعامتنا،
6
وذهبت ريحنا. لقد حادثت ابن جهور كثيرا في هذا الأمر، ولكنه كان يطرق طويلا، ثم لا يزيد بعد أن يرفع رأسه على أن يقول: أنت طموح يا فتى!
فصاح ابن المكري: ابن جهور أقدر الناس على حمل هذا العبء العظيم بذكائه ودهائه وبعد رأيه، ولا يقف في طريقه إلا أنه ليس من سلالة الملوك. والقرطبيون خلقوا وفي دمائهم حب الملوك، فهم لا يبذلون أرواحهم رخيصة، ولا يجبهون الموت، إلا إذا قادهم ملك أو خليفة.
فهز ابن زيدون رأسه في حزن وقال: هذا صحيح يا أبا يزيد. فأسرع الخبيث يقول: لم يبق بقرطبة اليوم أحد يصلح لمقاومة الإفرنجة. وكان الناس منذ حين يلتفون حول فتى من أبناء الناصر لدين الله يسمى ابن المرتضى، ولكنه لا يعلم له الآن مكان، وأظنه قضى نحبه.
فتحرك الباجي في مجلسه وهو يقول في صوت خافت: أخشى يا ابن أخي ألا تكون محيطا بالخفي من الأمور، فإن بعض الناس يظن أن ابن المرتضى عاد إلى قرطبة منذ شهر، وأنه في مكان لا يعرفه إلا خاصة أتباعه. فانقبض وجه ابن زيدون، وقال في صوت مختلج. - من أخبرك بهذا؟ - لم يخبرني أحد، ولعله ظن يا أخي، وإن بعض الظن إثم. - هذه أباطيل يصطنعها مختلقو الأكاذيب، ويرجف بها المرجفون ثم تحفز القوم للقيام فودعوا ولادة وانصرفوا.
ولما بلغ ابن زيدون داره التفت خلفه فرأى رجلا كان يتبع خطواته، يسرع ثم يختفي وراء جدار، فسهم وجهه وقال متأففا: سحقا لجواسيس قرطبة؟
الفصل السابع
كان من عادة ابن جهور أن يجلس كل صباح مع ابنه وخليفته أبي الوليد ليقرأ له ما يرد عليه من أخبار المدينة، وما تطالعه به جواسيسه من شئون وحوادث، وكان في هذا اليوم عبوسا مهموما، يحمل في يده ورقة صغيرة، أطال النظر فيها، ثم ألقى بها إلى أبي الوليد وهو يقول: لقد كان ما خفت أن يكون، صدقت فراستي في الرجل وكنت أرجو الله ألا تصدق. - من هو يا سيدي؟ - الرجل العبقري الباقعة الداهية الكاتب الشاعر والسياسي البارع! كانت تبهرني فيه تلك المزايا، وكنت أتحرق شوقا إلى أن أراها تتجه دائما إلى رفع شأن المملكة وإحياء رميم مجدها، وكنت أرى أن مثله خليق بأن يقتعد أشرف المناصب، ويسمو إلى أرفع الرتب، ولكن كان يصرفني عنه كلما هممت بالانتفاع بمواهبه ما فيه من نزق وعجب، وما تلتهب به نفسه من طموح طائش خفت أن يورده ويورد الدولة معه موارد الهلكة، فكنت أهمل أمره آسفا، وأقنع بأن يقصر عمله على النظر في شئون أهل الذمة كارها، ولكني آخر الآمر عصيت نفسي، وكذبت صادق فراستي، ووليته الوزارة، وأطلقت يده في الدولة سيدا مطاعا، فكان منه ما جعلني أسمع كل يوم عنه خبرا، وأتوجس شرا. - يريد سيدي أبا الوليد بن زيدون؟ - نعم هو يا ولدي. - إن ابن زيدون يا مولاي من أخلص الناس لك، وأصدقهم في النصح لدولتك. وأطولهم باعا في الذياد عنها، وهو يطلعنا في كل حين بقصيدة من روائعه كلها ثناء عليك، وإعلاء لك، وإشادة بمجدك. وهو في مديحه غير متكلف ولا مخادع، فإن للصدق في شعره رنينا يدركه كل أديب، وفيه للإخلاص والوفاء روحا يطل من كل بيت. إن ابن زيدون قد يكون شديد الزهو بنفسه، وله العذر، فمثله حقيق بأن يزهى. وقد يكون طموحا وثابا، ولكنه طموح المعتز بدولته، الناهض بأمته. - ما أظن يا أبا الوليد. إنه يمدحني بشعره كثيرا كما تقول، ولكني أخشى أن يكون هذا المديح دريئة يخفي وراءها سيء مساعيه، وحجابا يسد به عيني من أن تريا ما يعمل في الظلام. ثم زفر في ألم وحسرة وقال: أتظن أنه يمدحني مخلصا، وهو يمدح صاحب بطليوس ويحصر فيه كل صفات العظمة، ويعرض بغيره من الأمراء، ويقول له:
أشف الورى في النهى رتبة
وأشهرهم في المعالي مثل
وأحرى الأنام بأمر ونهي
وأدرى الملوك بعقد وحل
غمام يظل، وشمس تنير
وبحر يفيض، وسيف يسل
قسيم المحيا ضحوك السماح
لطيف الحوار أديب الجدل
سواك إذا قلد الأمر جار
وغيرك إن ملك الفيء غل
فإذا كان المظفر أشف الناس رأيا، وأحراهم بالأمر والنهي، فماذا بقي لي ؟ ثم من سواه الذي إذا قلد الأمر جار؟ ومن سواه الذي إذا ملك الفيء
1
غل؟ إن كان يقصدني فلأمه الهبل! - يا أبي إن الشاعر إذا مدح بالغ وأبعد، والناس جميعا يعرفون هذا ويتجاوزون عنه، والمبالغة ميزة الشاعر وخاصته منذ أن هلهل ابن ربيعة الشعر، ولو أخذ الشاعر على ما يقول لم يستطع أن يقول شيئا، والشعر ليس فلسفة ولا منطقا، ولكنه أوهام تصورها أنغام. - صدقت أيها الفتى، إن الشعر أوهام تصورها أنغام. وهكذا كان شعر الرجل في مديحي، ثم ألقى إليه بالورقة التي كانت في يده وهو يقول: اقرأ يا أبا الوليد هذه الورقة، واكشف لي وجه الرأي فيها فقد غم
2
علي أمري. فقرأ:
من ابن عبدوس إلى الرئيس الأكبر عميد الجماعة:
أما بعد فقد أخبرني الرجل الذي طلبت إليه أن يرافق ابن زيدون ويرقبه عن كثب: أنه منذ حضر من بطليوس، والحيرة لا تفارقه، فهو يتنقل من دار إلى دار، ويزور أقواما لم يكن يزورهم من قبل، وقد تردد في الأسبوع الفائت على دار راجح الصنهاجي، وكان يودعه عند الباب في كل مرة، وسمعته يقول له في إحدى المرات: سيكون الأمر هينا والجو ملائما. وزاره منذ يومين ثابت الغافقي، وخرج من عنده عابس الوجه يبدو عليه التفكير والقلق. وكان بالأمس مع ابن ذكوان عند ولادة، وخرجا قبيل الفجر، وأخذا يتهامسان في الطريق في جد واهتمام.
ما كاد أبو الوليد يتم قراءة الرسالة حتى صاح ابن جهور: أرأيت أن الرجل لا يخالط إلا المترددين المزعزعين الذين لا يحجبهم عن الفتنة إلا العجز أو الخوف من أن يكونوا حطبا لنارها؟ - إنني أخاف يا أبي أن يكون أعداء ابن زيدون قد أحكموا دهاءهم، ولاحت لهم فرصة من حسن استماعك لهم فراحوا يصورون لك أوهاما، لو ألقيت عليها نظرة واحدة من نظراتك الثاقبة لطارت في الهواء. ما هذا يا مولاي؟ كل الذي سمعته وقرأته في هذا المجلس أن ابن زيدون عبقري طموح، وليس في ذلك عيب ولا عار، وأنه مدح بعض الأمراء فأغرق ، وهو إذا مدحهم فبلسانك نطق، وإلى إعلاء دولتك قصد، لأنه سفيرك ووزيرك، وقد يرى من حسن الرأي، وخدع السياسة أن يمدح من يكون لك عدوا، ويحسن إلى من يكون لك مسيئا. على أن عبيد الله بن قيس الرقيات وهو زبيري المذهب خارج على بني أمية، كان يمدح مصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان في آن. وكان الكميت بن علي من مداحي الأمويين، ومن أشد الشعراء بغضا لهم. أما كل ما في هذه الورقة فهراء لا يقام له وزن، ولا يحسب له حساب، فليس فيها إلا أن ابن زيدون قابل فلانا وفلانا وفلانا، وماذا في هذا يا أبي؟ إنك أنت تقابلهم وتخالطهم وتزورهم في دورهم. ثم إن هذا كان عابسا، وهذا كان مفكرا، وهذا كان هامسا، هذا كلام لا ينهض بجناحين، ولا يسير على قدمين، فلو أن العبوس أو التفكير أو الهمس كان يدل على العمل لإسقاط الدول ما بقيت دولة في بقاع الأرض يوما واحدا. مزق يا مولاي هذه الورقة، وامح ما كان فيها من لوح فكرك، واترك عنك هذا الهاجس الذي ليس من ورائه إلا أن قوما يتخذون منك سيفا للقضاء على عدوهم، وازجر هؤلاء الوشاة الدساسين، فإنك لن تجد مثل أبي الوليد في كرم نصابه، وبعد همته، وجلالة قدره. - أرجو أن تكون موفق الرأي صادق الفراسة يا ولدي! فإن أود ما أوده أن يبقى ابن زيدون لهذه الدولة عضدا وزندا. - لا تأبه لحديث ابن عبدوس يا مولاي فإنه غريم ابن زيدون في الحب والسياسة. - في الحب؟ - نعم في حب ولادة. فابتسم ابن جهور وقال: هكذا رأينا الحب ينبت البغضاء! ثم نظر إلى ابنه نظرة طويلة وقال: اكتم هذا المجلس أبا الوليد ولا تحدث به نفسك في خلوتك، وأرجو الله أن يبعد عنا المكروه، ويوفقنا لما نحب ويحب.
وفي ضحا هذا اليوم ذهبت ولادة لزيارة نائلة فوجدتها لا تزال في سريرها تصلح لها جواريها ما أفسد الليل من زينة المساء، فقابلتها نائلة في شوق وشغف، وأمرت أن يقرب لها كرسي إلى جانبها، وقالت: كيف حال أبي الوليد؟ إن هذا الولد العاق لم يزرني منذ حين. - إن ابن زيدون في هذه الأيام ليس كعهد الناس به، فهو كثير الوجوم، بادي الهموم. وقد فارقه ذلك المرح الذي كان ينشر الأنس في كل مكان، ويغتصب الضحك من فم الحزين. - تزيد هموم الناس يا بنية إذا ارتفعت منازلهم وعظمت مناصبهم، وقد كنت تبغين أن يكون خطيبك وزيرا، فلما أصبح وزيرا برمت برزانته، وضقت ذرعا لصرامته وجده. - لا يا خالة. ليست المسألة مسألة رزانة أو صرامة، ولكني أشك في أن أمرا عظيما يشغل باله ويملك عليه نواحي نفسه.
فقهقهت نائلة وقالت: ليس الأمر كما تتوهمين يا ولادة. وإذا كان هناك ما يشغل باله فهو أنه أسير حبك، ينتظر اليوم الذي يصبح فيه بعلا لأجمل فتاة.
فابتسمت ولادة ابتسامة زهو وإعجاب وقالت: أخشى يا نائلة أن أعداءه يكيدون له، وأخشى أن يجدوا من ابن جهور أذنا صاغية. - ما أظن يا حبيبتي أن يجرؤ أعداؤه على منابذته، فإن أيديهم أقصر من أن تنال له ذيلا. على أن ابن جهور على تزمته وجفوته، من أطوع الناس لي عنانا، وهو في يدي كالعجينة في يد الخباز، وكلمة مني واحدة كفيلة بأن تطرد ما ألقى النمامون في أذنه من كلمات.
زارتني عائشة بنت غالب من أيام، وأظهرت لي تمام الود وصادق المحبة، واتخذت من سرقتي لرسائل ابن زيدون من خزانتها مجالا للفكاهة والضحك والتندر، وأقسمت أغلظ الأيمان أنها كانت تريد أن ترد إليه هذه الرسائل، وأن كل وعيدها وتهديدها كان كاذبا مصطنعا لم تقصد به إلا أن يعود إلى ظلال حبها، وأن يعيشا كما كانا سعيدين هانئين. ثم تفرست في وجهي طويلا، وتابعت حديثها تقول: ولكنه حين أبى، وحين يئست من عودته، طويت نفسي على آلامها، وتمنيت له خير ما يتمنى محب لحبيب. ولقد سرني والله قبل كل امرأة بقرطبة أن ينال تلك الحظوة التي نالها عند ابن جهور، وأن يرقى إلى منصب الوزارة، نبئيه يا خالتي أني أحفظ الناس لوده، وأبقاهم على عهده، وأزهاهم برفعته وعلو شأنه. لقد رأيته مرة «برحبة مغيث» فوق بغلته الشهباء، والأعوان من حوله، ورجال الديوان من ورائه، فسألت الله أن يصونه ويعمي عنه أعين الحاسدين، وتمثلت بقوله في صاحب بطليوس:
ألا هل سبيل إلى العيب فيه
فكم عين من قبله من كمل؟
فأسرعت ولادة تقول: وهل صدقت شيئا من هذا يا نائلة؟ فغمزت العجوز بإحدى عينيها وقالت: صدقت أو لم أصدق. إنها هدنة على أية حال. - ولا هدنة! - وأي ضرر في أن نتغابى ونأخذ الحذر؟ - من أخبر هذه الرقطاء أن أبا الوليد قال قصيدة في مدح صاحب بطليوس؟ ومن الذي نقل إليها هذه القصيدة؟ - الجواسيس! الجواسيس! إنهم أكثر من ذباب قرطبة. ثم اتجهت إلى ولادة كأنها تذكرت شيئا وقالت فيما يشبه العتاب: ماذا فعلتم بابن عبدوس يا ابنة المستكفي؟
فظهر الضجر على وجه ولادة وقالت: اسمعي يا نائلة ما رواه القصاصون، فقد قالوا: إن الجبال يوم خلقت اشتكت من ثقلها وصلادة صخورها، ولكنها هدأت حينما علمت أن الله خلق من هو أثقل منها. وقالوا: إن الأفاعي باهت يوما بسمومها فقيل لها: أطرقي؛ فإن الله خلق من هو أوحى منك سما. أتعرفين يا خالتي من ذلك الذي هو أثقل من الجبال وأفتك سما من الأفاعي؟ هو ابن عبدوس. لقد كدت أفارق قرطبة لأجله، جاء بثقله ودمامته وخبثه يرمي نفسه علي رميا، ويلزمني حبه إلزاما، فلم أجد محيصا إلا أن أرسل إليه رسالة باسمي بل صفعات متتابعة يدمى لها قذاله
3
العريض وأرسل إليه أبو الوليد أبياتا ستقض مضجعه، وتؤرق وساده. - جاءني بالأمس يشتكي من الرسالة والأبيات، ويرجوني أن أصلح ما فسد بينه وبين ابن زيدون، لأنه يغالي بصداقته، ويحرص على مودته، ثم ألح في أن أكون وسيلته إليك على أن يقنع منك بالحديث والمجاملة، وأن يرضى منك بقبوله في ندوتك صديقا مخلصا. - خير لي وله أن يبتعد عن ندوتي يا نائلة. - ألا ترين في الأمر شيئا يدعو إلى التوجس والقلق؟ فإنه ليس من محض المصادفة في رأيي أن تأتي عائشة ثم يليها ابن عبدوس فيعلنا في أسلوب يكاد يكون واحدا حبهما لابن زيدون، ووفاءهما له، إني أكاد أرى وراء الأكمة شيئا. وعلى أبي الوليد أن يحذر وعلى كل أصحابه أن يحذروا ويتربصوا. فظهر الذعر على وجه ولادة وقالت: ماذا نصنع يا خالتي؟ - نحذر ونتربص!
وكأن الخوف أعجل قيامها فقالت وهي تتحفز له: إنني أحذره دائما، ولكنه لا يأبه ولا يبالي، وهو لك أطوع، ولكلمتك أسمع، فهولي له الأمر يا حبيبتي، لعله يرعوي.
4
ثم أسرعت إلى الباب مرتجفة الأوصال.
وفي مساء هذا اليوم كان يجتمع في دار عائشة مربع له أربعة رءوس، لو أراد إبليس وكان أبرع خلق الله في علم الهندسة أن يؤلف مثله مربعا للؤم والدهاء والمكيدة والخسة ما استطاع - اجتمع أبو عامر ابن عبدوس، وابن القلاس، وابن المكري وعائشة وأغلقوا الباب دونهم، واتجهت عائشة نحو ابن المكري تقول: عجيب أن نراك بيننا اليوم يا أبا يزيد، وأنت تعرف. والناس يعرفون أنك أقرب الناس إلى ابن زيدون! وأحرصهم على صداقته، فإذا حدثتك نفسك يا سيدي بأن تلعب على حبلين، وأن تشهد طعام معاوية وتصلي خلف علي، فإنا لسنا من الغفلة بحيث تخفي علينا هذه الأخاديع، أو تلتبس علينا وجوه الحق من وراءها.
فأسرع ابن عبدوس يقول: على رسلك يا عائشة! فإن ابن المكري من أشد أعداء ابن زيدون وأحقدهم عليه، وأبعدهم له كيدا، ولكنه بارع في الرياء، عبقري في ألا يظهر فوق وجهه شعاع من قلبه، يعانق عدوه ويقبله في الصباح، ليطعن أحشاءه آمنا مطمئنا في المساء، أنت لا تعرفينه يا عائشة. إنه داهية الدواهي، وباقعة البواقع.
فابتسمت عائشة فيما يشبه السخرية وقالت: ومن يدريني - بعد أن وصفت الرجل بما وصفت - أنه اليوم صادق أمين؟ ألا يجوز أنه الآن يلبس غير ثوبه، ويقتعد غير سرجه، ويدلس علينا كما يدلس على كل مخلوق؟
فانبرى ابن المكري يقول: اسمعي يا عائشة، إن العداوة والبغضاء يجريان وراء المنفعة، فأعدى أعدائك من يزاحمك في رزق أو جاه أو منصب. تلك غريزة يا سيدتي، ترينها في الإنسان كما ترينها في الحيوان. أسقطي حفنة من الحب بين أفراخ الدجاج، ثم انظري ماذا تعمل، يثب هذا على ذاك، وينقر هذا ذاك، ويضرب هذا بجناحه ذاك. وابن زيدون يزاحمني الآن في كل شيء: يزاحمني في الأدب والجاه والرزق، حتى أصبحت في الديوان حشرة ملقاة على كرسي لا رأي لها ولا عمل. أصبحت مغمورا في الظلام لا يراني الناس، بعد أن بهر أبصارهم ضياؤه المتوهج، وأصبح شعري هذاء محموم، وأدبي لا جسم له ولا روح، ومنصبي لا يحتفظ إلا باسم أجوف يتندر به المتندرون، ويسخر منه الساخرون، فكنت يا عائشة بين أمرين: إما أن أناصبه العداء، وأجاهره بالبغضاء، كما فعل صاحبي ابن عبدوس، وإما أن أطوي نفسي على الغل والكمد، وأعمل في الظلام لدك ذلك الجبل الشامخ، واصطياد ذلك الأسد الزائر! فرأيت أن الأولى ستدفعه إلى الحذر، واتخاذ الحيطة، ثم إلى محاربتي بسيف أصلب من سيفي، وقوة تنهار أمامها قوتي. ورأيت أن الثانية أقرب من السلامة، وأدنى إلى الحزم، وأكفل ببلوغ الغاية، فزدت له من بسط وجهي، ولطف حديثي، وما أجيد اصطناعه من الملق والدهان والخديعة، حتى سكن إلي واطمأنت نفسه لمودتي، فأصبحت له الخل الوفي، والصديق الأمين. ولو فعلت معه كما فعل ابن عبدوس لم أزد على أني نفرت الصيد من الصائد، وأبعدته عن الشرك، ونطحت برأسي صخرة لأوهنها كما يفعل الوعل الأحمق.
فقال ابن عبدوس: مرحى يا أبا بدير! إن للناس وجها واحدا ولك ألف وجه ليس فيها وجه صحيح!
فضحك ابن القلاس وقال: أخشى كما تخشى عائشة أن يكون اليوم قد لبس أحد هذه الوجوه.
فقالت عائشة: لا يا عبد الله. إنني فهمت الرجل وأدركت فلسفته. ثم اتجهت نحو ابن عبدوس وقالت: أخبرني بلال - وهو من أخص عبيدي بعد أن أطلقته خلف ابن زيدون يقتص آثاره، ويتلقف أخباره - أنه لا يكثر من زيارة ولادة في هذه الأيام، وأنه يقضي أكثر الليالي بداره منفردا.
فقال ابن عبدوس: ألا يجوز أن يكون الرجل يخفي بداره شخصا؟ وأنه يكتم خبره عن أخص أصدقائه.
فصاح ابن المكري: يجوز جدا. ولقد علمت علما ليس بالظن أن ابن المرتضى نزل قرطبة خفية، وأن ابن زيدون يتصل به، فإذا استطعنا أن نقنع ابن جهور بهذه الصلة فقد قضي الأمر، وقضي على الرجل.
فقال ابن عبدوس: إن الجو جد ملائم، فإن ابن جهور تساوره الوساوس من قبل ابن زيدون، ولكنها كالبعوض يطن في أذنه ثم يطير فلا يستطيع له قبضا.
فصاحت عائشة: كيف نقنع ابن جهور بهذا الأمر الخطير، وهو رجل صارم في الحق، لا يأخذ بالشبهة، ولا يحكم إلا عن بينة؟
فقال ابن القلاس: هذا هو الذي جئنا لنتشاور فيه.
فالتفتت عائشة إلى ابن المكري وقالت: أواثق أنت تمام الوثوق من أن ابن المرتضى يقيم الآن بقرطبة، وأن ابن زيدون يتصل به؟ - نعم. - من نبأك هذا؟ - نبأنيه صديق ما كذبني قط، وقد كان ينادم ابن زيدون على شراب فتعثر لسانه وهو في نشوته بكلمات فهم منها صاحبي أنه يلتقي بابن المرتضى في كل ليلة.
فأطرقت عائشة ثم قالت وهي تمد ذراعيها كأنها ترحب بمقدم مكيدة جديدة: لقد وجدت الرأي! لقد وقفت على مفتاح اللغز! الآن أستطيع أن أرى، وأستطيع أن أدبر. ثم اتجهت إلى ابن المكري سائلة: أتستطيع أن تدعو ابن زيدون إلى دارك غدا؟ - هذا سهل يسير، وهو الآن يكثر من زيارتي لتوثق الصداقة بيننا. - حسن. ادعه غدا للعشاء، وادع معه من يحب من خلانه. - ثم؟ - ثم تذهب الآن إلى ابن جهور، وتطلب إليه أن يزورك غدا في دارك مستخفيا، ليتحقق من خروج ابن زيدون عليه ونكثه لعهده.
ثم؟ فابتسمت عائشة وقالت: ثم تتحادثون بعد العشاء، فتسمعون جلبة وضجيجا بين عبيدك وغلمانك، فتسألون عن جلية الخبر، فيخبركم أحدهم بأن ابن جهور قبض على ولادة لأنها كانت تخفي في قصرها ابن المرتضى الأموي. - ثم؟ - ثم إني أعرف الناس بأخلاق ابن زيدون، فإن الحزن والغضب سيدفعانه إلى أن يكشف عن ذات نفسه، وإلى أن يقذف بألفاظ يحبسها في صدره الخوف والحذر، فإذا سمعها ابن جهور لم يتردد في التنكيل به وإراحتنا منه ومن كبره وغروره.
فقال ابن عبدوس: أخشى ألا يكون حسابك مستقيما. - إني إذا فكرت بإمعان وهدوء استطعت أن أقرأ المستقبل كأنه صفحة من الماضي. ليس عندي شك في أن ابن زيدون سيقع في الفخ.
فقال ابن المكري: حسن. سأذهب الآن إلى ابن جهور. فصاح ابن عبدوس: إذهب إليه بالوجه الذي لا يرى فيه أثرا للشك ولا لمحة من الريبة، وإذا وفقت فسوف تراه غدا في دارك.
وأسرع ابن المكري نحو دار الجماعة، وقابل ابن جهور، ولبث في حضرته طويلا، فلما انتهى الحديث، واتجه نحو الباب صاح ابن جهور: إني لست ألعوبة يا فتى! فإذا كنت في شك من أمرك فارجع عما قلته قبل أن تجاوز الباب. - أنا واثق يا سيدي. - عظيم. إن سيفي غدا سيطيح أحد رأسين، فاحذر أن يكون رأسك هذا الأحد. إذهب.
وجاء الغد، وانطوى نهاره فغشي قرطبة وأهلها ليل حالك الإهاب كأنه حظ الأديب، أو صحيفة الزنديق، ليل رآه قوم موطن الصبابة واللهو والطرب والمجون، ورآه آخرون باعث الأحزان ومثير الأشجان والهموم. شمل الليل قرطبة، وأخذ الناس يضطربون فيما يضطربون فيه كل ليلة، واجتمع ابن زيدون وبعض صحبه بدار ابن المكري، وقصد إليها ابن جهور ووزراؤه وصاحب شرطته وأعوانه مستخفين متنكرين، فجلسوا في حجرة إلى جانب حجرة الضيوف. ومدت الموائد فنال منها القوم ما اشتهوا، ثم أخذوا في الحديث، وكان ابن زيدون في هذه الليلة كثير التفكير كثير الذهول والقلق، يغتصب منه أصحابه الكلمة اغتصابا، ويغرونه بالنوادر والأفاكيه فلا يظفرون منه إلا بابتسامة فاترة واهنة، وبينما القوم يسمرون إذا ضجيج بين الخدم ولغط وجلبة، فنادى ابن المكري كبير العبيد وسأله في استنكار وتأنيب: ما هذا يا رباح؟
فظهر التردد على وجه العبد وقال: لقد أخبرنا الآن أحد أعوان صاحب الشرطة بأن مولانا عميد الجماعة قبض على سيدتي ولادة، ووكل بها طائفة من الجند يعذبونها أشد أنواع العذاب.
فارتعد ابن المكري وقال بصوت كاد يخنقه الغضب: يعذبونها؟ لم يعذبونها؟ - لأنهم وجدوا مولاي ابن المرتضى بقصرها. فوقف ابن زيدون مذعورا والغضب ينفخ أوداجه وصاح: هذا كذب صراح؛ إن ابن المرتضى لا يختفي بقصر ولادة؛ أنا أعرف مكان اختفائه. إن ولادة بريئة من كل ما يتصل بابن المرتضى إنها وشاية نمامين. إن ابن المرتضى في داري، وسأذهب فأخبر ابن جهور بهذا حتى يكف زبانية عذابه عن أشرف امرأة، وأطهر امرأة بقرطبة.
وهنا فتح باب الحجرة، ووقف ابن جهور في وسطها كأنما نبع من أرضها، وصاح بصوت يشبه هزيم الرعد: ولم تخف ابن المرتضى في دارك يا منبع الدسائس؟ لم تخفه إلا لتشعل به فتنة تبدد الجماعة وتفرق الكلمة. لقد كنت أرى آخرتك منذ عرفتك، وكنت أتجاوز وأغضى حتى أصل إلى وجه الحق. الآن صرح
5
الزبد عن اللبن وترك الخداع من كشف القناع، وتبلج الصبح لذي عينين!
ثم أشار في غضب إلى عبيد الله بن يزيد صاحب شرطته وهو يقول: ابعث أعوانك إلى دار هذا المارق ليبحثوا عن الرجل الذي يخفيه.
وغاب الجند ساعة ثم عادوا يقولون: إنهم لم يجدوا لابن المرتضى ظلا، فتنفس ابن زيدون الصعداء وطفق يردد: الحمد لله! الحمد لله!
وزاد غضب ابن جهور: فر الطائر من القفص، واختفى ثانية ليعيد الفتنة مرة أخرى. ثم وجه الكلام إلى صاحب الشرطة وقال: خذ هذا الوغد إلى السجن حتى ننظر في أمره ونرى حكم الله فيه. صدق الله العظيم:
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض .
الفصل الثامن
انتشر في الصباح خبر القبض على ابن زيدون وزجه بالسجن، فابتهج قوم وابتأس آخرون، وطفق كل رجل يتحدث في هذا الحادث مدفوعا بعاطفته وما يمليه عليه وجدانه، كدأب الناس في الحديث عن الشئون العامة، واجتمع بخان أبي إسحاق اليهودي، وهو خان فخم بسوق اليمانية، جمع من شبان قرطبة الذين يجدون من فراغهم وجدتهم
1
ما يسوغ لهم الحديث في كل أمر من أمور الدولة، قال أحدهم وكان يدعى عمر البلنسي: بلغني في الصباح ممن أثق به ولا تخالجني في أخباره خطرة شك، أن ابن زيدون كان متفقا مع ابن جهور على القبض عليه، وأن في الأمر مكيدة مدبرة يراد بها الاستيلاء على إشبيلية، والقضاء على ملك ابن عباد.
فدهش القوم وقالوا في صوت واحد: هذا غير معقول. أين الصلة بين سجن ابن زيدون والاستيلاء على إشبيلية؟ وأسرع عمر يقول: أنتم لا تدركون خفايا السياسة، فإن لها سراديب ملتوية تمرون بها أعواما ثم تعودون إلى المكان الذي بدأتم منه.
فقال أحدهم في سخرية: وهذا يا ابن عبد الله أظلم السراديب وأشدها إبهاما! - الأمر في غاية الوضوح للسياسي الداهية، والخطة لعب أطفال للبصير الحاذق الفطن. - كيف يا سيدي؟ - يحبس ابن زيدون لخروجه على ابن جهور، ويلاقي صنوف العذاب. ثم يفر إلى إشبيلية موتورا ساخطا على ابن جهور، فيتلقاه ابن عباد بالسرور والغبطة، وينزله أكرم منزل، ويثق به فيطلعه على خفايا مملكته وأسرارها، ويعود ابن زيدون فيفر من إشبيلية وقد أحاط علما بمواطن الضعف فيها، وفي أسهل طريق وآمنة لغزوها، وتكر جيوش ابن جهور على المدينة، فلا تمضي ساعة من نهار إلا وهي تحت قدميه فقال أحدهم - مرحى مرحى وقال ثان يجوز، وقال ثالث الحيلة معقولة جدا. وابتسم البلنسي لمخالفيه في عطف وإشفاق وقال: غدا ستكشف لكم الأيام صدق ما أقول، وتحمس شاب منهم فقال: ليس في المسألة سياسة، وليس فيها خديعة، والذي أعلمه علم اليقين أن ابن جهور سقط على رسالة بعث بها ابن زيدون إلى ابنته رملة، فكبر عليه الأمر، وخاف إن هو انتقم منه على فعلته أن يشيع الخبر بين الناس، ويكثر فيه اللغط، فاختار أن يختلق له ذنبا بعيدا كل البعد عما يتصل بأهله، فدبر له هذه الأخلوقة وسجنه.
وتحرك شاب هادئ مستكين في مكانه وقال مترددا: ولم لا يكون اعتقال الرجل صحيحا، وأنه كان يكيد لعميد الجماعة حقا؟ فقال البلنسي: ما أظن.
وبينما هم في الحديث إذ دخل أحد أصدقائهم، وحين عرف ما يتمارون فيه صاح: على رسلكم أيها الإخوان. لقد أخطأتم جميعا، وكل ما شاع عن اعتقال ابن زيدون كذب وهراء، فقد قابلت في طريقي أبا القاسم ابن رفق، فسألته فأخبرني أن الخبر غير صحيح، وأنه من إشاعات قرطبة التي تولد في اليوم ألف مرة وتموت ألف مرة، وبعد أن فارقته لمحت من بعيد شخصا يشبه ابن زيدون على بغلته الشهباء وخلفه الخدم والعبيد.
فاضطرب القوم بين مصدق ومكذب، وكثر الحوار والجدال حتى ملئوا المكان ضجيجا.
وطار الخبر ليلا إلى دار عائشة بنت غالب فاستخفها السرور، ووقفت ترقص أمام مرآتها كأن بها مسا من جنون. ولذة الانتقام لدى النفوس المريضة أقوى من لذة الخير والإحسان في نفوس المحسنين.
وجلس ابن جهور وإلى جانبه ابنه أبو الوليد، فأخذ ينظر في وجوه وزرائه صامتا حزينا ينفخ من الهم، ويتململ من هول الحادثة. لقد كان يعرف ابن زيدون طموحا، ويعرفه قلقا متوثبا جريئا، ولكنه لم يكن يظن أن تطرحه المطامع هذا المطرح، وأن يصل به الأمر إلى إشعال فتنة طائشة لن يكون لها إلا حطبا. لقد كان يقدر نبوغ ابن زيدون ويعلي مواهبه، وكان يرد كل ما يرد إليه من وشايات به إلى حسد أنداده له وغيظهم من عجزهم عن الوصول إلى مرتبته، ولكنه علم الآن والأسف يملأ جوانحه أنهم كانوا فيما يرمونه به غير مبطلين. والتفت إلى ابن عباس وقال: ماذا ترى أن نفعل بهذا الرجل؟ - أرى أن نبقيه في السجن حينا حتى تتحطم شوكته، وتنطفئ حدته، ثم ننفيه إلى الشمال، وقال الوزير عبد العزيز بن حسن: الرأي يا سيدي أن نقتله ونستريح منه، وبذلك يحسم الداء، وتستأصل شأفة الفتنة. أما بقاؤه في السجن فمدعاة إلى الخوف الدائم، وإغراء لمن لف لفه وسلك مذهبه. وقد يتحين نصراؤه فرصة لفراره فيقتنصونها.
وأسرع ابن عبدوس فقال: هذا هو الرأي الحاسم الحازم، فإن السجن سيزيد ابن زيدون عنفا وسخطا وإصرارا وحبا للانتقام، وهو لن يعدم وسيلة للفرار، وإذا فر فذلك هو الشر المستطير ، فانتقل أبو الوليد عميد الجماعة إلى جانب ابن برد وهمس في أذنه كلمات. فوقف ابن برد عابسا وهو يقول: مهلا أبا عامر. إن ابن زيدون ليس من الهوان على الدولة بحيث تستطيع أن تمحو اسمه من سجل الحياة بكلمة هادئة راضية، والدولة التي تقتل أبناءها لزلة طائشة هي الهرة المضطربة الغريرة التي تأكل صغارها، وهي في جنونها الوحشي لا تدري ما تفعل. إن ابن زيدون قليل الأنداد والنظراء، وهو عمود هذه الدولة، وخير لنا إذا مال العمود أن نقومه حتى يثبت ما عليه من بناء، ولعله دفع إلى ما قاله بالأمس دفعا ولم يكن فيما قال صادقا.
ودخل الحاجب في هذه اللحظة يقول: إن امرأتين محجبتين بالباب تلحان في لقاء سيدي. فالتفت ابن جهور إلى وزرائه كالمتعجب وهو يقول: من هاتان المرأتان؟
فقال الحاجب: إنهما تقولان يا مولانا، إنهما جاءتا للنصح للدولة ودرء الخطر عنها. - أي خطر ويحك تدرؤه النساء؟ لتدخلا.
وفتح الباب فحسرت المرأتان عن وجهيهما القناع، فإذا نائلة الدمشقية، وولادة بنت المستكفي. فلما رآهما عميد الجماعة ظهر على وجهه الدهش وقال في عبوس: شر ما جاء بكما إلينا.
فقالت نائلة: شر وأي شر؛ إنك يا مولانا جمعت أشتات الفرقة بقرطبة، واستأصلت الفتنة، وكنت في كل ما تأتي وتذر حكيما حازما فدعيت بحق أبا الحزم. ثم إنك لم تقبض على زمام الحكم راغبا في جاه أو مال أو علو منزلة، فإن لك من كريم محتدك، وجلال أبوتك ما يغني عن الجاه والمناصب، ولكنك رأيت ملكا يترنح، وعزا يريد أن ينقض، فوثبت لإغاثته كريما مخلصا صبورا على اللأواء، واخترت من الرجال من تعتز بهم الدولة، وتفخر بهم الأمة، ولم تستخلصهم لنفسك إلا بعد طول التجربة ودقة الاختبار، ولكنك يا سيدي تركت هؤلاء الوزراء المخلصين لك، الدائبين على خدمتك عرضة للوشاة وغرضا للحساد، وزدت فساعدتهم عليهم بأذنيك، ومكنتهم منهم بتصديق ما يأفكون. إن ابن زيدون يا سيدي الذي قبضت عليه بالأمس وألقيته في غيابة السجن جمال دولتك، وسياج حوزتك، وسيفك الذي تدفع به الأعداء، ورأيك الذي تقارع به الآراء، ولو أنه كان وزيرا بالمشرق لضربت به الأمثال، ولشدت إليه الرحال، ولكن الأندلس تدفن كنوزها، وتحطم بأيديها سيوفها. ثم من هذا النذل الفسل الدنيء الذي دفعك إلى ما عملت؟ ألم تملأ قصائده فيك أرجاء الأندلس؟ ألم يرحل في سفارتك إلى الأمراء فيرفع من قدر ملكك، ويشيد بسداد رأيك، ويملأ قلوب الأمراء رعبا من قوتك، ألم يبذل لك النصح أمينا، والولاء مخلصا؟ عار وأي عار أن يشيع بين الولايات أن أبا الحزم ابن جهور آخذ أعظم وزرائه وخير رجاله بسعاية كذاب أثيم - عار وأي عار أن يكون حديث البيوت والمجالس والسوامر أن أبا الحزم بن جهور يؤذي أوفى الناس له، ويقطع اليد التي لم تخلق إلا للذياد عن ملكه!
ثم سكتت قليلا بعد أن نال منها الجهد وانبرت ولادة تقول: إن ابن زيدون يا سيدي خطيبي وشقيق نفسي، فإذا بدرت منه هفوة كما يزعم الزاعمون فخذني به لأننا روح في بدنين، وما يصدر عنه فعني صدر، وما يتحرك لسانه به جهرا، فإنما هو حديث نفسي سرا. إنني يا مولاي بعد تقلص ظل الخلافة عن أهلي وقومي، لم أحزن ولم أبتئس، لأني رأيت فيك خير من يقوم بأعبائها، ويرفع من ألويتها. وعلم الله لو رأيت فيك نقصا، أو علمت ضعفا، لحملت راية الأموية، ولدعوت الناس لمبايعة ابن المرتضى، ولأعدت الفتنة جذعة ماحقة تأكل الرطب واليابس، ولكنك يا مولاي جئت فقومت المعوج، وأقمت المائل، ووطدت أركان الدولة، ورفعت ذكر قرطبة في الخافقين، ونشرت العدل بين الرعية، فجزاك الله خير ما يجزي به عباده العاملين. ولن أكتمك يا مولاي أني لم أعجب بابن زيدون، ولم أمنحه حبي وصداقتي، إلا لأنه من المخلصين في محبتك، المشيدين بفضلك، المداحين لمناقبك. وأقسم أني لو علمت فيه شرا لكنت أول من يكشف لك أمره ويفضح لديك سره. إنها سعاية يا مولاي، سعاية خبيثة من بعض المنافسين له والحاقدين عليه.
فتململ ابن جهور وقال: أية سعاية يا فتاة؟ إنني سمعته بأذني !
ووقفت نائلة تقول: أين سمعته يا مولاي؟ - بدار ابن المكري. - ومن الذي حملك على الذهاب إليها؟ - هذا سر الدولة يا نائلة. فغمغمت تقول بما لا يسمع: إنها عائشة بنت غالب. ويل للخائنة! لقد سبقتني هذه المرة، وستكون الحرب بيني وبينها مشتعلة الأوار. ثم اتجهت إليه تقول: قد يكون مما دفعه إلى القول بأن ابن المرتضى في داره شدة حبه لولادة حينما أدخل عليه أعداؤه أنك قبضت عليها ووكلت إلى عبيدك تعذيبها.
فصرخت ولادة والدموع تتناثر من عينيها: أحضره يا سيدي واسأله عما قصد إليه من هذا الاعتراف الكاذب، فلعل له حجة يدلي بها، وقد يكون مخطئا ولو أرشد إلى الحق لعاد إليه أقوى تمسكا به، وأشد صلابة في النفخ دونه، إن الدولة يا سيدي أحوج إلى أمثال ابن زيدون من الجيش والسلاح، وليس من الهين على كل قرطبي أن يراه ملقى في السجن دون أن يسأل عما فعل. إنه ملك الأمة، فمن حق أبناء الأمة أن يسألوا عما يبيت لبطلهم من المكايد.
فصرخ ابن جهور قائلا: هذا تهديد يا فتاة! فقالت نائلة: إنه ليس بتهديد ولكنه الحق الصراح الذي لا مواربة فيه. وهب ابن زيدون مخطئا، أليس في ساحة عفوك، ما يتسع للصفح عنه؟ وقديما قال المتنبي:
ترفق أيها المولى عليهم
فإن الرفق بالجاني عتاب
ويقول:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم
ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا؟
ويقول الله عز شأنه لمن هو خير منك فيمن هم شر منه:
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين .
وماذا صنع ابن زيدون؟ ادعى على نفسه كذبا أن ابن المرتضى في داره، ليصرف عن ولادة فيما خيلوه له سوء عذابك وتنكيلك، ثم ثبت أن الرجل لم يكن بداره، وأنه لم يظهر له أثر بقرطبة كلها. أيكون جزاؤه بعد ذلك أن يسجن وأن يطوق بالأغلال كما يفعل بالأشرار والمجرمين؟ ادعه يا مولاي إليك، وخذه بالمعروف والموعظة الحسنة، فإنك واجد فيه بعد محنته ذهبا نضارا أخلصته النار، وسيفا بتارا صقله الكفاح. - لا يا نائلة إنه مسعر فتنة، ونذير شر، ولن تهدأ قرطبة وهو طليق ينفث سمومه. لقد كان يمر بخاطري أن أقتله، ولكني سأكتفي الآن بسجنه.
فتقدمت ولادة إليه متوسلة تقول: انفه يا سيدي إلى أية مملكة من ممالك الأندلس وانفني معه إن كنت لا تزال ملحا في إقصائه. - لا يا سيدتي، إني لا آمن غوائله إلا إذا كان في قبضة يدي، وتحت سمعي وبصري، ويحسن ألا نطيل الحديث في هذا الشأن فقد جلتما فيه بأكثر مما أحب. ثم قام من مجلسه فانصرفتا حزينتين باكيتين.
دخل ابن زيدون السجن بائسا كاسف البال بعد أن طارت آماله، وتقطعت حباله، وبعد أن زلت به القدم، وأخطأ سهمه الهدف. كان يبني له الخيال عزا كبيرا، ويصور له الطموح جاها عريضا، ألم يكن من قبيلة بني مخزوم ذات الشرف الباذخ، والمحتد الراسخ، التي دخلت الأندلس مع الفاتحين فملكت البلاد، ووطدت دعائم الإسلام؟ ألم تكن لأبيه غالب الرياسة والمنزلة الرفيعة في القضاء والعلم والأدب؟ ثم يزفر طويلا وهو يقول: والآن ماذا أصنع؟ أو ماذا سيصنع بي؟ إن ابن جهور إذا غضب كانت نار الجحيم بردا وسلاما، وإذا صمم نكب عن ذكر العواقب جانبا، وبعد حين يرى نفسه وقد قبض على قلم أمامه فكتب:
قل للوزير وقد قطعت بمدحه
زمنا فكان السجن منه ثوابي
لا تخش في حقي بما أمضيته
من ذاك في، ولا توق عتابي
لم تخط في أمري الصواب موفقا
هذا جزاء الشاعر الكذاب!
ولكنه بعد أن يقرأ الأبيات يمزق الورقة ويصيح: هذا لن يكون، يجب أن أحتال لاتقاء شره، ويجب أن أستعطفه وأستنجد بعفوه، ويجب أن أعتذر له بشعر ينسي الناس قصائد النابغة في الاعتذار للنعمان بن المنذر. لن أيأس مادام في العمر فسحة، ولن أقنط من روح الله، ولن أدع وسيلة للخروج من هذا المأزق إلا سلكتها. إن أمامي حياة وآمالا ومطامح، وإن البطل إذا عثر انتعش، وإذا سقط وثب، ورب ضارة نافعة، ورب نقمة من ورائها نعمة!
هكذا كانت نفس أبي الوليد، وهكذا كان تشبثه بالحياة وتعلقه بالآمال، فأخذ يبعث في كل يوم إلى ابن جهور بقصائد في الرجاء والاعتذار من عيون الشعر. بعث له مرة بقصيدة منها:
إيه أبا الحزم اهتبل منة
ألسنة الشكر عليها فصاح
لا طار بي حظ إلى غاية
إن لم أكن منك مريش الجناح
لم يثنني عن أمل ما جرى
قد يرقع الخرق وتؤسى الجراح!
وقاك ما تخشى من الدهر من
تعبت في تأمينه واستراح
وبعث مرة بأخرى منها:
من يسأل الناس عن حالي فشاهدها
محض العيان الذي يغني عن الخبر
لم تطو برد شبابي كبرة وأرى
برق المشيب اعتلى في عارض الشعر
قبل الثلاثين إذ عهد الصبا كثب
وللشبيبة غصن غير مهتصر
ها إنها لوعة في الصدر قادحة
نار الأسى ومشيبي طائر الشرر
لا يهنئ الشامت المرتاح خاطره
أنى معنى الأماني ضائع الخطر
هل الرياح بنجم الأرض عاصفة؟
أو الكسوف لغير الشمس والقمر؟
إن طال في السجن إيداعي فلا عجب
قد يودع الجفن حد الصارم الذكر
وإن يثبط أبا الحزم الرضا قدر
عن كشف ضري فلا عتب على القدر
ولكن ابن جهور لم يلق إلى شعر أبي الوليد سمعا، ولم يقبل له عذرا، ولم تعطفه عليه عاطفة، وبقي ابن زيدون يسخط على الحياة، ويبكي الأمل الضائع، والرجاء الخائب. ولم يكن يفرج عنه بعض همومه وأوجاله إلا زيارة نائلة وولادة، فإنهما لم تنقطعا عن زيارته يوما واحدا. والحب والوفاء خلتان لم يخلقهما الله يوم خلق الأحزان والكوارث إلا لتخففا من شدتها ويهدئا من عاصفتها. ومن الناس من يتحلى بقدرة عجيبة على استلال هم المهمومين، ولباقة نادرة في الحديث إلى المحزونين بحيث لا يدعهم يشعرون أنه يقصد إلى تسليتهم، أو الترويح عنهم، فإن مما يدعو إلى تمرد النفوس أن تشعر أن هناك حيلة تحاك لتغفلها وصرفها عما هي فيه. وأكثر ما يبدو ذلك في الأطفال، فإن من أنجع وسائل الإيحاء إليهم بنصح أو إرشاد ألا يدور بخلدهم أن ما يوجه إليهم إنما صنع قصدا للاحتيال لإرشادهم.
كانت نائلة تتحلى بهذه الصفة النادرة ، فلم يدر حديثها مع ابن زيدون على السجن والآمال الضائعة، ولكنه كان حديثا لطيفا عذبا تتخلله الضحكات، وتمتزج به الفكاهات، كما لو كانت تسامره في بهو دارها، والدنيا مقبلة، وثغر الزمان بسام، وكأن تلك الفواجع الجسام من قبض واعتقال وتعذيب، قد خط عليها في سجل الماضي، كما خط في القرطاس سطر على سطر. ولكن ولادة كانت من طابع آخر، كانت من الصنف الذي يعتقد أن الأحزان لا تنقشع إلا بالحديث فيها، وأن الحزين إنما يخف حزنه إذا أكثر ألم الناس له وامتزجت دموعهم بدموعه. لم ترقأ لها عين، ولم يهدأ لها وجيب قلب، وكانت كلما نظرت إلى حبيبها وهو في تلك الغرفة المظلمة المعفنة الهواء في سرداب الجامع الكبير، زادت شجونها، وفاضت شئونها.
2
فسألت ابن زيدون: من الذي دعا ابن جهور إلى الذهاب إلى دار ابن المكري؟ فأجاب في نبرة حزينة: لا أدري يا سيدتي، إلا أنه فجأنا بغتة فرأيناه في الدار من حيث لم نكن نحتسب.
وأسرعت نائلة تقول: ما لنا وللحديث في هذا الآن يا ابنة الخليفة! يجب ألا ننظر إلى الخلف، وأن نتجه دائما إلى الأمام، فكثيرا ما أضاع الناس حياتهم بالنظر إلى الماضي، والغفلة عن الحاضر والمستقبل، وكم طارت منهم فرص لو رأوها وهي مقبلة عليهم لاقتنصوها. أنا أعرف كيف دبرت الدسيسة، وكيف دعي ابن جهور إلى دار ابن المكري، وسأعرف كيف أنتقم من الدساسين. دعينا بالله يا فتاة من الخوض في هذا الحديث، وقولي لأبي الوليد خبر العجوز المراكشية.
فانفرجت شفتا ولادة عن ابتسامة حزينة، وقالت: إن أمر هذه المرأة كان عجبا من العجب، كنت أجلس بالأمس أنا ونائلة في شرفة القصر، فسمعنا صياحا وضجيجا، فنظرنا فإذا عدد عظيم من الصبيان يتبعون عجوزا تحمل فوق رأسها سفطا،
3
وتجر وراءها كلبا ومعزاة، وكانت ثياب العجوز ممزقة بالية، وكان وجهها يتكلم بما هي فيه من فقر وجهد. وتملك الصبيان شيطان الشر، فأخذوا يقذفونها بالحجارة وهي تتقي سهامهم بالانحراف عنها يمنة ويسرة، حتى إذا أحردوها لجأت إلى باب القصر فدخلته وأغلقت بابه، ثم سقطت وراءه من الإعياء لا تكاد تتنفس، فأسرعت إليها جاريتي عتبة، وأخذت تسري عنها بعض ما هي فيه وأحضرت لها طعاما وشرابا، فلما سكن ما بها، وأفرخ روعها، نزلنا لمعرفة أمرها فأخبرتنا: أنها من مراكش، وأنها جاءت من إشبيلية ماشية حافية. ثم سألناها عن الكلب والمعزاة فقالت: هذا أخي يجود علي بأمانته ووفائه، وهذه أختي تجود علي بلبنها وزبدها. ثم سألناها عن مورد رزقها فقالت: إنني عرافة، وإنني ألمح في سطور الكف ما حجبه الماضي في موجاته، وما يخبؤه المستقبل في طياته، وأقرأ ما في نفس سائلي كأنما أقرأ في كتاب مفتوح. ثم تناولت كفي في خشونة وجفوة، فلما نظرت فيها صاحت: هذه كف عجيبة! هذا خط الملك يا سيدتي، ولكنه واحسرتاه ينحرف نحو اليسار قليلا، فسبحان من لا يبيد ملكه! له الملك وله الأمر وهو على كل شيء قدير. تاج هوى، وصولجان تحطم، ثم جذبتها إلى عينيها كأنها تريد أن تصوب النظر إلى خطوطها وقالت: وهذا الخط خط الحب، ماذا به؟ إنه يتدارك ما فات من انحراف خط الملك، هو أعمق خط رأيته في حياتي. حب يملك القلوب، ويخضع جامحات النفوس، ولكنه كان حائرا مضطربا مختلج العزيمة، كلما جلس فوق عرش من القلوب قلق به الموضع، فطار يبتغي سواه، ولكنه استقر الآن، نعم إنه استقر في قاعة مظلمة تحت مسجد كبير. إني أسمع شكوى، وأسمع أنينا في هذه القاعة المظلمة، وأرى فتى كان يملأ الدنيا همة ونبوغا يحصره مكان ضيق ليس به إلا نافذة صغيرة في أعلاه. ثم بدا على وجهها الدهش وصاحت: انظري يا سيدتي، إن النافذة تتسع، انظري بالله عليك إلى قضبانها، إنها تتحطم وتطير في الهواء. ما هذا؟ لقد أصبحت النافذة بابا، والفتى الحزين يهم بالخروج من الباب. ثم قهقهت وصاحت: لقد خرج إلى الهواء والنور! إنه طليق ينفض أثوابه كما يصفق الطائر بجناحيه إذا هم بالطيران. إنه يضحك ويمزح، ويستقبل الحياة كأشهى ما تكون الحياة. سبحانك يا رب! ما أقصر الزمن في هذه الدنيا بين الحزن والسرور! وما أوهى الحد بين الأفراح والأتراح؛ ثم عادت إلى عبوسها وقالت: ولكن الحب شحيح ضنين، فهل يجمع في هذه المرة بين القلبين ويأسو مرهمه الجرحين؟ ثم التفتت إلي وقالت: اضحكي يا سيدتي واستبشري واغتنمي فرصة الشباب فإن الشباب لن يعود!
فتنهدت نائلة وقالت: أي والله إن الشباب لن يعود؛ ووددت لو كان بالسجن مرآة لترى في وجهها منه بقية. وابتسم ابن زيدون لولادة وقال: لن يطول سجني يا فتاتي وستزيد مرارة الماضي في حلاوة ما يقتبل من الأيام.
ويعود ابن زيدون بعد خروج حبيبتيه الوفيتين إلى أشجانه، ويتمرد على سجنه، وتثور نفسه، ويتذكر أصدقاءه، ويرجو حسن شفاعتهم فيه، فيكتب إلى صديقه أبي الوليد ابن عميد الجماعة متوسلا:
هل النداء الذي أعلنت مستمع
أم في المئات التي قدمت منتفع
قل للوزير الذي تأميله وزري
إن ضاق مضطرب، أو هال مطلع
أصخ لهمس عتاب تحته مقة
وكلف النفس منه فوق ما تسع
لا تستجز وضع قدري بعد رفعته
فالله لا يرفع القدر الذي تضع
ولكن أبا الوليد على حبه له ورغبته في فك أسره كان يهاب أن يخاطب أباه في شأنه، فذهبت صيحة ابن زيدون في الهواء.
وفي صبيحة يوم يدخل عليه حارس السجن وبيده رسالة من نائلة، فيسرع إلى فضها ويقرأ فيها:
إذا ما الدهر جر على أناس
كلاكله أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا: أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا
كادت لك عائشة بنت غالب فكدنا لها، وهي اليوم في طريقها إلى منفاها بقشتالة بعد أن صادر ابن جهور كل ما تملكه من صامت وناطق، إني أرى تباشير الفرج، فاصبر ولا تبتئس.
وما قرأ الرسالة حتى ابتسم للخبر، ثم أخذ يغمغم:
ليس الركون إلى الدنيا دليل حجا
فإنها دول أيامها متع
الفصل التاسع
مرت شهور على سجن ابن زيدون لم تهدأ نائلة فيها لحظة، ولم تسكن ثورتها للانتقام منذ جال في ظنها أول وهلة أن عائشة بنت غالب هي ناصبة الشرك، ومدبرة المكيدة، وازدادت يقينا حينما أخبرها أبو حفص ابن برد بكل ما يتصل بالحادثة جملة وتفصيلا. كانت تقضي ساعات ذاهلة مفكرة، ترسم الخطط، وتنصب الحبائل، وكلما رسمت خطة وظهر فيها جانب يضيع فيه الحزم، وينكشف السر ألقت بها ضجرة يائسة، وكلما نصبت حبالة وبدا لها فيها فتوق تتسع لفرار الفيل طرحتها آسفة على ذكائها، متهمة نبوغها. وهكذا كانت تقضي أيامها في غزل ونقض، وبناء وهدم، لا تستقر على شيء، كأن دهاءها القديم فارقها، أو كأن علوها في السن أضعف مواهبها. لقد كان شيطانها أيام الشباب حاضر البديهة، لا يعجزه شيء في باب الحيل والمكايد، فما باله الآن أصبح فدما سقيم الرأي بليدا؟ كانت تأكل وهي تفكر، فيما تنكب به عائشة، وتنام وهي تفكر، وتحادث الناس وهي تفكر، ولكنها بعد كل ذلك لم تصل إلى شيء يعجبها، أو يرضى عنه فنها. لقد أكدت العزم على أن تنكب عائشة، وأن تذيقها نكال أمرها، ولكن من أي ناحية تهجم عليها؟ ومن أي ثغرة تثب على هذا الحصن المنيع؟ إن بعض الناس يهمسون بأن لها ضلعا مع نصارى الشمال، ولكنها تكمن في درقة من الحذر كما تكمن السلحفاة فلا يبدو منها إلا حب العرب، والإخلاص للعرب. من أين تصل إلى هذه المرأة المبهمة الخفية؟ إن غريزتها وحاستها السادسة تؤكدان أن لها صلة بالأسبان ولكن أين السبيل إلى إثبات شيء من ذلك؟ أين السبيل إلى فضح المستور، ونبش هذا القبر المزدحم بالأسرار؟ فكرت طويلا، وقدرت كثيرا، ثم أفاقت من تفكيرها وتقديرها، وهي تصيح: أسبيوتو! أسبيوتو! إنه مفتاح السر، ورقية هذا الحرز المدفون، لقد نبأتني غالية في كل مرة تزورني فيها أنه يكثر من التردد على عائشة، فلا بد من معرفته، ولا بد من صداقته، ولا بد من اجتذابه بالحيل الخفية حتى يقع في الشرك فتقع معه عائشة. ولكن كيف أصل إليه من غير أن يحوم بذهنه ظل من شبهة؟ فإن هؤلاء الجواسيس أشد حذرا من الذئب الذي ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى المنايا، فهو يقظان نائم.
لقد علمت من غالية أنه يتلقى الطب على ابن زهر، فلم لا تشكو ولادة وعكة خفيفة فتدعوه إلى قصرها للعشاء وليصف لها دواء؟ وحينئذ أستطيع بما يفتح الله به علي أن أصل معه إلى غاية.
ونهضت إلى قصر ولادة، وطلبت إليها أن تدعو ابن زهر في الغد للعشاء، وأن تتمارض وتشكو له أية علة تمر بخاطرها. وعجبت ولادة، وحاولت أن تعرف السبب، ولكن نائلة غادرت القصر وهي تهمس في أذنها: ستعلمين نبأه بعد حين.
وجاء ابن زهر للعشاء، وشكت إليه ولادة صداعا شديدا يلم بها كل صباح، فوصف لها دواء، ثم سلك الحديث شعابا شتى، وجاء ذكر ابن زيدون وذكر حساده وما أوغروا به صدر ابن جهور عليه حتى سجنه. فقال ابن زهر: إن سجن ابن زيدون نكبة لقرطبة، وكل ذنب الرجل، إن كان له ذنب، أنه يريد أن يعيد مجد العرب وقوتهم، فقالت ولادة حزينة: هذا كلام قد يلقي بك في السجن غدا يا سيدي.
وأسرعت نائلة لتغير مجرى الحديث فقالت: هل يلقي مولانا دروسا في الطب بجامعة قرطبة؟ - نعم يا سيدتي. وهذه الجامعة مفخرة الأندلس، فيها آلاف من الطلاب يحجون إليها من أقصى بلاد الإفرنجة، ومن جميع أقطار المشرق، وتدرس بها جميع علوم الدين والعربية والأدب، إلى جانب فلسفة اليونان والطب والفلك والأرتماطيقي والجغرافية والكيمياء والطبيعيات. ويغرم أبناء الإفرنجة بالأدب العربي إغراما أفزع قساوستهم، حتى لقد أخبرني أحدهم، وهو يتحرق غيظا، بأن طلاب الجامعة الأسبان أصبحوا يبغضون لغتهم الأسبانية، لشغفهم بالعربية وآدابها، ولقد نسي كثير منهم لغته وأصبح لا يستسيغها، ولكنه إذا نظم شعرا عربيا أتى بالبديع الرائع.
فأسرعت نائلة إلى غرضها وسألت: هل بين تلاميذك أسبان وافدون من الشمال؟ - كثير يا سيدتي، وأكثرهم حريص على طلب العلم مشغوف بتفهم دقائقه. - إني أشعر - ولا أعرف علة لهذا الشعور - بعطف على هؤلاء الطلبة، قد يكون لأنهم غرباء مقصون عن أهلهم وذويهم، وقد يكون سببه الاعتزاز بأندلسيتي، وأن قرطبة أصبحت مشرق النور والعرفان للعالم أجمع، وأن هؤلاء الطلاب جاءوا إلينا ملتمسين مستنجدين قبسا من هذا النور، وقد يكون سببه معرفتي لغة الأسبان، فإن للغات صلات روحية تؤلف بين من ينطقون بها. - ربما كانت هذه الأسباب مجتمعة منشأ هذا العطف النبيل يا سيدتي. - سمعت من أبي إسحاق الطبيب أن بين طلابك شابا أسبانيا شديد الذكاء لا يحضرني الآن اسمه، ثم قالت: عجيب أمر هذه الأسماء، تطوف بالذهن حين لا نريدها، وتستعصي إذا طلبناها. أنا أعرف أن فيه سينا وباء، ولكن صورته تغيب عني، ثم أسرعت وقالت: لقد وجدته. أسبيوتو! أسبيوتو يا سيدي! - هو طالب ذكي حقا، ومجد حقا، ولكن يظهر أن شئونا في بلاده تلجئه إلى السفر مرتين أو ثلاثا في أثناء العام.
فبدت لنائلة بارقة أمل في صدق ظنها، وأن هذا السفر لم يكن إلا لنقل رسائل عائشة إلى ملك الأسبان، فهزت رأسها وقالت: لعله فقير يا سيدي، ولعل أهله لا يمدونه بالمال إلا إذا ذهب إليهم، وأخذه اقتسارا. - الظاهر من أمره أنه فقير حقيقة، ولكنه يخفي خصاصته بقناعته. - هل يتفضل سيدي بإرساله إلى داري في مساء غد لعلي أستطيع أن أسد خلته؟
1 - نعم وكرامة يا سيدتي.
والتفتت ولادة إلى نائلة كالمتسائلة عن سر كل هذا، ولكن نائلة لم تمهلها، فاستأذنت في الخروج وغادرت القصر.
لزمت نائلة دارها في اليوم التالي وهي تفكر وتدبر، فأخذت صحيفة وكتبت فيها بالأسبانية رسالة لملك الأسبان بها بعض أسرار مملكة قرطبة، ثم وضعت الصحيفة بين أوراق كتاب الأدوية ليونس الحراني، ووضعت الكتاب بين الكتب في خزانة كتبها. حتى إذا جاء المساء دخلت جاريتها نشوة تقول: إن شابا أسبانيا يطلب لقاء سيدتي. فأمرتها بإحضاره.
وكان أسبيوتو في نحو السابعة والعشرين، قصير القامة، نحيل الجسم تدل ملامح وجهه على الشر والقسوة، وإن سترها بغشاء من الذلة والتواضع. دخل مطرقا لا تفارق عيناه الأرض، فإذا تحدث رفعهما قليلا إلى محدثه ليطمئن إلى معارف وجهه.
حيته نائلة في حنان ورفق، ثم أمرته بالجلوس، وأخذت تحادثه بالأسبانية عن بلاده وأهله، حتى إذا اطمأنت نفسه، وذهبت وحشته قالت: إن الطبيب ابن زهر يثني عليك خير ثناء، حتى لقد أحببت أن أراك. والحق يا ولدي أن بين ما أحب شيئين أصبح القرطبيون يتندرون بهما هما: علم الطب واللغة الأسبانية. - أنت يا سيدتي تنطقين بالأسبانية كما ينطق بها أهلها.
فضحكت وقالت: لا تخدعني يا ولدي، فإن رطانتي بالأسبانية لا تقل عن رطانة الأسبان بالعربية، ولكن الذي يؤلمني في الأمر أن بعض قصار العقول من رجال الدولة، يرمونني بحب الأسبان لأنني أعرف لغتهم. وحب الأسبان أصبح جريمة لا تغتفر في هذا الزمن الأغبر المملوء بالدسائس والفتن. إنني عربية النبعة، هكذا كان يقول لي أبي، ولكني لا أستبعد أن يكون في دمي قطرات من وراثات أسبانية، أبوح بذلك للأصدقاء ليس غير يا أسبيوتو. إن الحال في قرطبة لا تعجبني، أنا أريد حكما سمحا لطيفا لا يحس المحكوم فيه بسيف الحاكم يلمع فوق رأسه.
فأصاب أسبيوتو شيء من الدهش لأنه سمع كلاما جريئا لم يألف سماعه في قرطبة، فقال: إن العرب يا سيدتي من أصلح خلق الله لحكم الأمم، وإن من يقرأ القرآن ويتفهم ما سن من قوانين لسياسة الحكم، وحسن معاملة الأمم المغلوبة، يملؤه العجب والإكبار معا. - صحيح. ولكن من يعمل الآن بكتاب الله وما فيه من هدى ونور؟ أترى هذا التنابذ والتحاسد بين أمراء الأندلس؟ إنه كارثة جائحة. ثم تبسمت وقالت متهكمة: وربما كنت لا أدري، ورب ضارة نافعة. ثم وقفت أمام خزانة كتبها وقالت: تجد في هذه الخزانة كتبا كثيرة في الشعر والأدب.
فوقف أسبيوتو ومد يده في حذر إلى رف كتب الطب، وقال: إن لديك كتبا كثيرة في الطب يا سيدتي. - أستطيع أن أعيرك بعضها. - فأخرج كتابا لابن حسداي الطبيب اليهودي في أيام الناصر لدين الله، وقلب صفحاته، ورأى إلى جانبه كتاب الأدوية ليونس الحراني فأسرع بيده وقال: هذا كتاب نادر يا سيدتي. - إنه بخط مؤلفه.
وبينما هو يقلب صفحاته إذ سقطت الصحيفة التي كتبتها نائلة على الأرض، فانحنى ليأخذها، فرأى في صدرها اسم ملك الأسبان فبهت وامتد بصره إلى السطور الأولى منها، ولمحته نائلة فلبسها الغضب، وانقلبت نمرة شرسة ضارية، ومدت يديها إلى عنق أسبيوتو وهي تصيح في ذعر يشبه الجنون: هل قرأت ما في الصحيفة؟ هل امتدت عينك إلى كلمة فيها؟ يا للنحس! ويا للشئوم! ويا للداهية الدهياء! إن كلمة واحدة تخرج من هذه الصحيفة كفيلة بضرب عنقي. قل: هل قرأت منها كلمة أو جملة؟ فذعر أسبيوتو وارتجف وقال وهو يتمتم. لم أقرأ منها إلا «إلى ملك الأسبان العظيم» ثم سطرا بعد ذلك.
فهمت نائلة وأغلقت الباب، وقالت وعيناها تتقدان: أنت الآن تعرف سري، فيجب أن يموت أحدنا، ولست أريد أن أموت. لن تخرج من هذا الدار حيا؛ وما كنت أود أن أقتل شابا أحب قومه، ولكن ما حيلتي وتطفل الشاب ودسه أنفه في كل شيء هو الذي قضى على حياته!
فزاد رعب أسبيوتو وقال متعلثما مضطربا: هوني عليك يا سيدتي، فإنه لم يطلع على سرك إلا جاسوس للأسبان. فتصنعت نائلة الدهشة والسرور وهمست: أنت جاسوس للأسبان؟! - نعم يا سيدتي. وقد سرني أن أرى مثلك معنا.
فتنفست نائلة الصعداء شأن من تفتح له أمل بعد يأس، وأحس بأمن بعد خوف، وقالت: مع من تعمل يا أسبيوتو؟ - مع واحد أو اثنين، ولكني أعتقد أن الدنيا بخير، وأرجو ألا يمر زمن طويل حتى يدخل ملك الأسبان قرطبة بجيوشه. حينئذ تكون الدولة دولتنا، وحينئذ ينال كل من بذل معونته وإخلاصه أقصى ما يشاء من جاه ومال. ولكن خبريني أنت يا سيدتي: أتعرفين أحدا يعمل إلى جانبنا؟
فرأت نائلة أن تخترع له أسماء لا وجود لأعيانها، عله ينزلق إلى ذكر عائشة بنت غالب. فترددت كالمتمنعة ثم قالت: أعرف عاتكة القوطية، ونزهة الغرناطية، وسلمى بنت حجاج.
فهز أسبيوتو رأسه ليدل على أنه لا يعرفهن وقال: أتعرفين عائشة بنت غالب؟ فقالت في هدوء: أعرفها. فقال أسبيوتو في شيء من الزهو: إني أعمل معها. - ما خطة عملكما؟ - تكتب الرسائل وبها كثير من أخبار الدولة وأسرار الجيش والحصون، لأنها على اتصال وثيق بالوزراء وكبار المملكة، فأمضي بها إلى الشمال وأضعها في يد ملك الأسبان. وسأسافر بعد يومين لحمل رسالة جديدة. - حسن جدا. وإذا تستطيع أن تأخذ رسالتي هذه معك بعد أن أهذبها وأزيد عليها أخبارا. - سأمر عليك يوم الثلاثاء في الصباح. - عظيم. ولكن اسمع. يجب ألا تبوح بكلمة مما جرى اليوم لعائشة، ولا تذكر لها اسمي، لأن أول قواعد الجاسوسية؛ التي نقضناها اليوم، أن يكتم الجاسوس سر نفسه حتى عن أمثاله الحاطبين
2
في حبله. - ثقي أني لا أفوه بكلمة لأحد، عمي يا سيدتي مساء. - عم مساء يا أسبيوتو، وسنلتقي صباح الثلاثاء.
وما كاد يفارق الدار حتى كانت نائلة في قصر ابن جهور تقص عليه الأمر من أوله إلى آخره، فدهش الرجل وهز إحدى كتفي نائلة بعنف وهو يقول غاضبا: ثقي يا نائلة أنني لست ممن تلعب بهم النساء، فإن كان ما تقولين كذبا، فقولي إنه كذب أعفك من كل عقاب. - إنه حق صريح يا مولاي، والذي أطلبه منك أن تبعث أعوانك إلى داري يوم الثلاثاء في غبش الفجر، وأنا أعرف كيف أجد لهم مخبأ.
وجاء يوم الثلاثاء، وجاء أسبيوتو معه إلى دار نائلة، فقبض عليه الأعوان وعقلوه إلى قصر ابن جهور، وفتشت ثيابه، فإذا هو يخفي الرسالة في جبة مبطنة، وأحضر العارفون بالأسبانية فقرءوها وترجموها، ورأوا فيها إفشاء لسر الدولة، وحضا على غزوها، فغضب ابن جهور أشد الغضب وصاح بالجنود أن يحضروا عائشة. فانطلقوا إلى دارها كأنهم زبانية الجحيم، فلما رأتهم هلعت وطار صوابها، وحين قذفت بالتهمة جن جنونها، لأنها كانت تبالغ في الكتمان، وكانت تخفي أسرارها عن كل إنسان، فمن هذا الشيطان المريد الذي استطاع أن ينفذ إلى حجب الغيب، وأن يستل أسرارها المدفونة تحت أطباق الثرى؟ من هذا اللص الخفي الماهر الذي يسترق حديث النفوس، ويسطو على خلجات القلوب؟ من يكون غير نائلة؟ إن ابن زيدون في سجنه منذ شهور، فهو ليس من أهل الدنيا ولا من أهل الآخرة. ليس لي عدو إلا نائلة. عليها لعنة الله ولعنة الشيطان!
أنكرت كل شيء أمام ابن جهور، ثم رجت، ثم استعطفت، ثم بكت بكاء يقطع نياط القلوب، ولكن ابن جهور كان صخرا صلدا شديدا قاسيا، فحكم بقتل أسبيوتو في ميدان الخلافة، وبأن تجلد عائشة وتوسم بالنار في كتفها اليسرى، وتصادر أموالها، ثم تنفى إلى قشتالة. فجرها الأعوان من مجلس الحكم، وهي تبكي وتصيح وتضرب الأرض بقدميها، حتى بح صوتها، وخذلتها قواها. ووكل ابن جهور بها خمسة جنود ليصحبوها في سفرها.
وكانت نائلة على كثب من دار الجماعة تشرف على تنفيذ التدبير الذي أحكمت رسمه، كما يشرف القائد على خطة هجومه، فلما علمت بالحكم على عائشة أسرعت فبعثت بالبشرى إلى ابن زيدون وولادة، ثم أمرت حملة محفتها أن يتبعوا الجنود الموكلين بعائشة إلى مشارف المدينة، وهناك مدت يدها لتوديعها، وقلبها يفيض شماتة، وعيناها تفيض بدموع الانتصار. فصاحت بها عائشة في غيظ وتهديد: سنلتقي مرة أخرى يا نائلة! فقهقهت وهي تقول: نعم في الأفراح والسرور!!
الفصل العاشر
بلغت عائشة مدينة «برغش» بقشتالة بعد جهد وعناء وأين، بلغتها يائسة محطمة، غليلة الجسم والنفس: ذهبت أموالها، وانتزعت من عزها وجاهها كما ينتزع الظفر من اللحم، وفتحت عينيها فرأت كل نعمة تنحل عنها كما تنحل ثلوج جبال نيفادا إذا لفحتها شمس الصيف، وشاهدت كل أمل ينفر من حولها كما تنفر الطير وقد ألقيت بينها بحجر.
كانت الطريق وعرة، والبرد شديدا، والسير حقحقة،
1
والجنود جفاة، فمن أين لعائشة أن تحتمل إحدى هذه الكوارث، وقد نشأت في مهد الترف، ودرجت في باحة النعيم، وعاشت في ظل ظليل من الغنى ورفاغة العيش؟ لقد كانت تستخشن الحرير، ويؤلمها الفراش الوثير، وتجرح خديها خطرات النسيم، فكيف هي الآن وفراشها الجندل،
2
وطعامها الحنظل، والعواصف الثلجية تتناوح فوق رأسها في الليل والنهار؟ كيف تستطيع هذه الفتاة المترفة الناعمة أن تثبت لهذه النوازل، أو تصبر على هذه المكارة؟ إنها كلما رأت السهول والسهوب والأكام والصخور، ورأت جسمها يهبط ويرتفع فوق سرج بغلتها كأنه شكية لبن يمخضه ماخض، تذكرت ما حدثتها به أمها حينما خرجت مع جدها وجدتها من شنت ياقب فرارا من وجه المنصور أبي عامر وما لاقى الركب البائس يوم ذاك من كوارث وويلات.
كانت تفكر في ماضيها وحاضرها، أما الماضي فكان يبكيها، وأما الحاضر فكان سوادا بهيما ليس فيه بصيص من ضياء. كانت تفكر في ابن زيدون وكيف انتقمت لنفسها منه، وكانت تفكر في نائلة وكيف تستطيع أن تنتقم لنفسها منها على بعد الشقة، وتنائي الديار. إنها صديقة ابن زيدون التي سرقت رسائله من دارها، فلما حبس لم تجد إلا أن تصب الشبهة عليها، وأن تثأر منها، فاتخذت من هذا الأسباني المفلوك الأبله شصا لاصطيادها. ثم ما هذا الصنم الأجوف الذي يسمونه بابن جهور؟ إنه لم يستجب لبكائي، ولم تهزه عاطفة لأنوثتي. ويل لي! وويل من بلاهتي! فلكم أوصتني أمي بأن أحذر، وأن أقدر لرجلي قبل كل خطوة موضعها، وهكذا فعلت، ولكني ألم أحسب حسابا لمن يقرءون ما في الصدور. لقد عرف الأشقياء أنني حليفة الأسبان عدوة العرب! وماذا أفعل في ضغن ورثته من أهلي وبغض امتصصته من ثدي أمي؟ إنني أسبانية الدم والأرومة، وإن للوراثة سلطانا يسخر من وسائل التهذيب، ويهرأ بالبيئة وما يزعمون لها من سيطرة في تنشئة الأخلاق. إن للوراثة ينبوعا لا بد أن ينبثق وإن غطته طبقات السنين وحجبه تعاقب الأجيال. لقد كان جدي يبغض العرب وإن أخفى بغضه تحت ستار من المكر والدهاء، وقد يكون من سلالة ذاقت ويلات الذل من حاكم عربي عنيف، ملأ صدورها حقدا، فتسربت من هذا الحقد رواسب إلى أعقابها. ولكني لن أطيق الحياة بين أهل الشمال، إن هؤلاء العرب يعرفون كيف يعيشون وكيف ينعمون بملاذ العيش ومتعه، أما أولئك فغلاظ جفاة أميون، لم تهذبهم حضارة ولم يصقلهم أدب ولا تأديب. كيف أعيش بين هؤلاء بعد زهو قرطبة، وتلألؤ ندواتها، ورنين ضحكاتها، وقهقهة كاساتها وتغريد عيدانها، وازدحامها برجال الشعر والأدب والفنون؟ لقد خلفت ورائي مدينة صبغ السرور ليلها صباحا، وجعل أيامها السعيدة أفراحا، مدينة لا تنام إذا نامت الكواكب، ولا يكدر صفو شرابها ذكر العواقب. مدينة كأنها قطعة من الفردوس، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. ثم تنهدت وانهمرت الدموع من عينيها، ولكنها أماطتها عن خديها في كبر وغضب وهي تقول: إن ابنة جارسيا لا تبكي للخطوب!
نزلت عائشة «برغش» وقد أرخى الليل سدوله، وشمل المدينة برد قارس عضوض، كادت تجمد له أنات البائسين. وكانت برغش فوق شرف عال بعثرت فوقه الأكواخ في أزقة ملتوية، تكدست بها الأقذار والأوحال، وأرسل كل كوخ من خصاصه
3
ضوءا خافتا مضطربا، كأنه فواق المحتضر. ولم يرتفع بين أبنية المدينة إلا بناءان: أحدهما في الوسط، وهو قصر ملك قشتالة، وحوله منازل الجند ورجال الدولة، والثاني دير سنت بدو للراهبات.
وقفت عائشة حزينة باكية في هذا الظلام الدامس، حيرى لا تدري أين تقضي ليلتها. إنها لا تستطيع أن تزور الملك في قصره بعد أن مضى الهزيع الأول من الليل، ولا تستطيع أن تنزل في خان، لأن بؤسها ورثاثة أثمالها يغلقان في وجهها كل باب. وبعد تفكير مضطرب رأت أن تقصد إلى الدير، وكان منها على كثب، فطرقت بابه وجلة مترددة، وفتحت لها راهبة عجوز عابسة الوجه ساخطة على الحياة، متمردة على التبتل، فلقد ظنت في ضحا شبابها أن في البعد عن الناس سلامة وطهرا، ولكنها رأت في أصيل العمر أن الحياة لا تكون إلا بين الناس، وأن الطهر وعلاج النفوس لا يكونان إلا حيث تكون الفتن ونزغات الشياطين تجهمت الراهبة «شيمانة» لعائشة وقالت في صوت خشن أجش: ضحية جديدة للشيطان؟
فأجابت عائشة بصوت متردد حزين: لا يا أختي، إنها فتاة بائسة لا تجد في هذه الليلة القاسية مأوى ولا طعاما. وهي لا تريد إلا كنا وحسوة من حساء، وستغادر الدير في أول شعاع للصباح، فهل تجد فيه ما يمسك به رمقها؟ - أما المأوى فهين ميسور، وأما الطعام فلن تجدي منه الليلة إلا لقيمات. ادخلي.
ودخلت عائشة، وقضت ليلتها نهبا للأحزان والبرد والجوع، حتى إذا صاحت الديكة التفت بإزارها وودعت صاحبة الدير وخرجت قاصدة قصر الملك. فلما اقتربت منه أسرع خدم القصر يذودونها عنه، لولا أن همست في أذن كبيرهم بأنها تحمل إلى الملك رسالة من قرطبة، وما كان إلا ذهاب وجيئة، وانتظار وترقب حتى كانت في حضرة ملك الإفرنجة، فرأت فيه رجلا كهلا أسمر اللون ضخم الجثة، أميل إلى الطول، جالسا على وسادة عالية، مكشوف الرأس أصلع، لم يغلب عليه الشيب بعد، وكان عليه ثياب من ثياب المسلمين. تقدمت منه عائشة فقبلت يده، ثم غلبها البكاء أو اصطنعته وصاحت: انتقم لي يا سيدي من ابن جهور ومن جماعة المسلمين، فابتسم الملك وكان داهية في الرجال، وقال وهو لا يحول عنها نظراته النافذة المخيفة: خففي عن نفسك يا فتاة، وانفضي إلي جلية الخبر. ثم من أنت أولا فإني لا أحب أن أخاطب مجهولا؟ - أنا يا سيدي عائشة بنت غالب، فشده الملك واتسعت حدقتاه وصاح: صديقتنا عائشة العاملة المخلصة لنصرة الأسبان؟! فكشفت عائشة عن كتفها اليسرى لتظهر أثر الوسم بالنار وقالت: وهذا يا سيدي عاقبة إخلاصي في خدمتك، وبلائي في نصرتك.
فوقف الملك بعد أن كان جالسا وقال في غضب مضطرم: من فعل هذا؟ - ابن جهور بعد أن صادرأموالي، وطردني من قرطبة بلد آبائي. فأطرق برأسه كالمفكر وقال: هل أصابك كل هذا لأجلي؟ - لأجلك يا مولاي، ولأجل الغاية التي نسعى إليها معا. - ومن الذي وشى بك؟ - امرأة تنازعني في رجل. - آه. كان عليك يا فتاتي أن تعرفي أن الجاسوس لا قلب له، وأنه إذا أحب فسد عليه كل أمره، ولكنا نتعلم من هفواتنا. والآن لا عتب عليك ولا تثريب، فالأيام كفيلة بأن ننتقم لك، والضعيف الذي يدرج إلى القوة أقوى من القوى الذي يتدلى إلى الضعف. لقد تغلب علينا العرب بقوة كانت فوق قوتنا، وإيمان كان أعظم من إيماننا، ومدنية لم يكن لنا منها قليل أو كثير، ولكن جذوة خامدة بقيت في صدورنا، فطفقنا ننفخ فيها حتى تقطعت أنفاسنا، غير أنها تأججت في النهاية وأصبحت نارا صاخبة اللهب فوارة السعير، يخافها العرب، ويصم آذانهم حسيسها. ولن ننام عن ثأرنا يا بنية، ولكن الأمور تعالج بالصبر والدهاء، حتى يسكت قرع النواقيس أصوات الأذان. أتدرين ما كان من أول أمرنا يا فتاة؟ كان بجليقة قس قوي الشكيمة شديد المراس، يسمى «بلاي» رأى قومه وهم يفرون أمام الفاتحين، فامتلأ قلبه غيظا، وصاح بينهم يذكي عزائمهم، ويثير هممهم لطلب الثأر، والاستماتة في الذود عن بلادهم، ولكن سيل العرب كان جارفا، فتحصن مع نفر من قومه في قنة صخرة، فمات أكثرهم جوعا، ولم يبق منهم إلا ثلاثون رجلا وعشر نسوة، ولم يكن لهم من طعام إلا ما يشتارونه من عسل النحل. وبقي هؤلاء الأبطال ممتنعين بالصخرة، وقد أعيا العرب أمرهم حتى يئسوا في النهاية من الوصول إليهم، وقالوا: ثلاثون رجلا ما عسى أن يجيء منهم؟ ولكن هؤلاء الثلاثين ما زالوا يتكاثرون ويقوون ويغيرون على أطراف ممالك العرب، حتى أصبحوا الآن كما ترين، وأصبحت دولتهم عزيزة الجانب، يهابها الملوك ويتقرب إليها الأمراء. صبرا يا بنيتي، فإن الخمر والنساء والتبذل في الشهوات وتفرق الكلمة، كفيلة بأن تذهب بشوكتهم. ربما لا ندرك هذا في أيامنا، ولكن من تحقق من وقوع الشيء فقد رآه.
وهنا قالت عائشة: والآن يا سيدي ألا تريد أن تثأر لي منهم؟ - لا يا عائشة. - يجمل بسيدي أن يدعوني «روزالي» فقد ألقيت باسم عائشة من ورائي منذ غادرت قرطبة. - روزالي؟ أصبح اسمك الآن روزالي؟ - نعم يا سيدي. - حسن، اطمئني يا روزالي، أقيمي بيننا الآن حتى تسكت العاطفة، وسآمر لك بدار تنزلين بها، وأجري عليك من المال ما يكفل لك حياة رغدة.
وأقامت عائشة أو روزالي ببرغش شهورا في سعة من العيش والجاه، وتوثقت صلتها بالملك، وظفرت منه بالرعاية والثقة. وفي صبيحة يوم دخلت عليه فصاح بها قبل أن تجاوز باب البهو: كنت سأبعث في طلبك يا روزالي. أقبلي بعد أن تغلقي الباب، فإن حديثنا يجب ألا يطرق أذن ثالث.
فسعت إليه بخطوات خافتة كأنها تخشى أن يكون في صوت أقدامها إذاعة لهذا السر الخطير وقالت في همس: أجد جديد يا سيدي؟ - لا يا روزالي ولكن رسولا طرق القصر عند منتصف الليل قادما من قرطبة. - أثار القرطبيون على ابن جهور؟ - لا، فإن ابن جهور أدهى من أن يدع الزمام يفلت من يديه، وهو يعرف متى يرخيه، ومتى يجذبه، ولكن الرجل تدب إليه الآن شيخوخة تسرع به إلى القبر، وما أظن أن الأمر يستقيم لأولاده من بعده. ثم زفر وقال: ولكننا نسبق الأيام، ولن يتم أمرنا بهذه العجلة، ومن يسبق إلى الطعام في قدرة تحترق يداه. جاء الرسول بالأمس من قبل راميرز بن بترو. - صاحب أكبر حانة بقرطبة. - نعم، وهو زعيم جواسيسنا هناك بعد أن مات أبوه. - إنه يعيش مع العرب كأنه واحد منهم، ويلتهب غيرة على الإسلام وتعصبا للمسلمين. - وهذا سر نجاحه يا بنية. - ما يحمل الرسول يا سيدي من أخبار؟
يقول إن ابن عباد بإشبيلية، يفكر في الإغارة على قرطبة واستخلاصها من يد ابن جهور، وأنه بعث إلى راميرز رسولا يرجو ويلح عليه في أن يحملني على محالفته ومعاونته بجنودي، لقاء إتاوة دائمة يبعث إلي بها في كل عام. - وماذا يرى سيدي؟ - أرى أن ابن عباد أسد رابض، وأن ابن جهور ثعلب ماكر، وأننا لو أعنا ابن عباد لم يكتف بقرطبة، وسمت نفسه الطموح إلى جمع الولايات العربية تحت رايته، وبذلك يضطرب الميزان، وينهار كل ما بنيناه. أما ابن جهور فرجل حذر شديد المراس حول قلب، يأخذ ولا يعطي، ويتقبل العون على ألا يدفع له ثمنا. - حقا إن الأمر لمعضل. - لا يا روزالي إن كل معضل يهون بالتفكير والصبر وحسن التأني. - وهل فكرت في الأمر يا مولاي؟ - فكرت فيه طويلا، ذلك أن ابن المرتضى الأموي الذي نفاه ابن جهور إلى شرقي الأندلس منذ شهور، عاد ثانية إلى قرطبة مختفيا، وأنصاره يبثون له الدعوة في الخفاء، والقرطبيون يتلهفون شوقا إلى عهود الخلافة الأموية. فوثبت عائشة قائلة: أتريد يا سيدي أن تجلسه على عرش قرطبة؟ - ولم لا؟ إنه رجل هادئ النفس لين القيادة، فإذا ناصرناه كان حليفا لنا، ويدا على أعدائنا. - وماذا تريد مني أن أفعل؟ - الحق أني لم أرد أن أزعجك، ولكني رأيت أن راميرز لا يستطيع أن يقوم بما أريد. - أتريدني على أن أعود إلى قرطبة؟ إنني لو عدت يا مولاي لقطعوني إربا إربا. - لا، أنت تحسنين التنكر، وستقيمين بدار راميرز ثم مد يده إلى خزانة بجانبه، وأخرج منها رسالة، وأخذ يتابع حديثه ويقول: الذي أريده أن تذهبي بهذه الرسالة إلى ابن المرتضى، وهو مختف في دار بأحد أرباض قرطبة يدعى «بربض البرج» وراميرز يعرف مكان الدار، وأترك لك يا روزالي اجتذابه، فإن لحديثك سحرا لا تنفع فيه الرقى.
فكتمت عائشة ابتسامة وقالت: وماذا كتبت له في الرسالة يا سيدي، إذا ساغ لي أن أسأل؟ - ذكرته بمجد آبائه، وأوغرت صدره على ابن جهور، وعرضت عليه معونتي، وأني لا أطلب من ورائها إلا نصرة الحق على الظلم الصراح، ولكني اشترطت قبل أن أبعث جيوشي لنصرته، أن يرسل إلي رسالة يطلب مني فيها المعونة. - إنها صك الاستعباد يكتبه بيده! - لقد فهمت يا روزالي، لو كان لبعض رجالي بعض ذكائك لنمت هادئ البال. ثم وقف مادا يده بالرسالة إليها وقال: اذهبي الآن فقد أمرت بأن يعد كل شيء لسفرك، ولن أوصيك بشدة الحذر، فقبلت يديه وانصرفت.
كانت عائشة قد ألفت حياة الترف والنعيم ببرغش، واستمرأت ما غمرها به ملك الإفرنجة من صنوف البر، وما أحاطها به من العطف، حتى أصبحت بالمكان المرموق والخطر المرموق، وحتى بلغت في الدولة من الجاه والكلمة المطاعة والدالة على الرؤساء ما تتوق إليه نفس كل متوثب طموح. نسيت عائشة في ظل هذا النعيم ما لاقت في ماضيها القريب من ذل ومهانة ونفي وتشريد. نسيت خروجها من قرطبة وحيدة منبوذة تعصف بها الرياح، وتتقاذف بها الطرق في قسوة وجفاء كأنها لعنة من السماء. نسيت ليلة الدير الذي بني للرحمة وأقيم للإحسان فلم تجد فيه رحمة ولا إحسانا. نسيت عائشة كل هذا، ولكنها لم تنس أمرين حفرا في دماغها وأثرين لا يعفي عليهما النسيان هما: ابن زيدون وابن جهور أو ابن جهور وابن زيدون، فإنها لا تستطيع أن تعقد بينهما ترتيبا، فهما عندها سواء فيما تثور به نفسها من كراهية وحقد ورغبة في الانتقام. ابن زيدون يجب أن يخضع لها خضوع العبد، وأن يتزوجها وأنفه راغم، وأن يهجر ولادة تلك المرأة اللعوب التي تخدع الناس برشاقة مصنوعة، وغرام بالأدب زائف، ونسب إلى الخلفاء حينما هزلت أنساب الخلفاء. وابن جهور الرجل المرائي الماكر، الذي وثب إلى الحكم، برغم أنه لا يحب الحكم، وأنه يتعفف عن الرياسة. ذلك الرجل الذي جلدها ووصمها بميسم العار ونفاها من الأرض، كأن دولته الزائلة لم يكن بها من أسباب الاختلال إلا أن تكاتب ملك الإفرنجة امرأة مثلها لا حول لها ولا قوة!
لم تنس عائشة هذين. وحينما رأت أن الفرصة مواتية للانتقام، حركت الحية رأسها، ولمعت عيناها بشر ولم يكن إلا أثرا لما يضطرم به فؤادها، وهمست تحدث نفسها: غدا يعلم ابن جهور أن النار التي أوقدت لوصمي بالعار ستجتاح دولته. وغدا يعلم ابن زيدون أن اليد التي امتدت إليه ضارعة مستعطفة ستنقلب عاصفة تهوي به إلى الجحيم، إلا إذا آثر السلامة وألقى الخطام
4
خاضعا ذليلا.
الفصل الحادي عشر
لم يكن الصبح قد تبسم حينما أخذت عائشة تستعد لسفرها الطويل. هل يبتسم الصبح حقا؟ إن كان كذلك فهو إنما يبتسم لغرور الإنسان وجهله وافتنانه في الكيد لأخيه الإنسان. إنه يبتسم سخرية من هؤلاء الذين إذا هبوا من نومهم، لم يفكروا في جمال النهار المشرق، والزهر الضاحك، والطير المغرد، والنسيم الذي يعبث بالغصون، ولم يصرفوا لحظة في الاستمتاع بما وهب الله لهم من نعم، وما أجزل من خيرات حسان. الموسيقى عندهم صخب ونقيق، والجمال طلاء كاذب لا يدوم، والفضيلة أسطورة كتبها فلاسفة لا يفهمون. يهبون من نومهم في الصباح على غل لازم وسادتهم، وحقد اختلطت به أحلامهم، وتدبير شيطاني تفتحت عنه قرائحهم بعد طول الكد وبعد التفكير. إن للحيوان الأعجم سلاحا يذود به عن نفسه، ويحافظ على بقائه، فله مرة ناب، ومرة حمة، ومرة فنون في الفرار، ومرة درقة تحميه الغوائل. وهو لا يلجأ إلى هذا السلاح إلا مدافعا أو جائعا. أما الكثير من بني الإنسان فقد اتخذوا من ذكائهم سلاحا هو أوحى سما من لعاب الأفعى، وأمضى فتكا من ناب الليث، وقد جردوا هذا السلاح، وافتنوا فيه، ووثبوا به على الناس والحيوان جميعا في حمق وجنون، لا يريدون إلا شفاء شهوة تغلي في الصدور. هؤلاء يقولون: إن الحلم للذلة إذعان، وإن الرحمة خور في العزيمة، وإن التسامح جبن وخذلان، ويزعمون أن الكذب دهاء وكياسة، وأن الخدع مهارة وسياسة وأن في نصب الحبائل ذكاء وعبقرية، وفي بث الفتن حذقا ولقانة، وقد يخدعون أنفسهم، أو تخدعهم أنفسهم بأنهم بذلك إنما يذودون عنهم الشر، والشر بالشر يدفع، أو ينالون حقهم، ولا ينال الحق إلا بشيء من الباطل، أو يزاحمون في سباق الحياة، فيصرعون من يقفون في وجوههم، فهم من أجل ذلك دائما بين صارع ومصروع، وسالب ومسلوب، وحاسد ومحسود، وباك وشامت. لهذا يسخر الصبح منهم، ولهذا تسخر الطبيعة الفاتنة منهم، ولهذا صاح المعري الفيلسوف الساخط يقول:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى
وصوت إنسان فكدت أطير
ولهذا قال المتنبي قبله:
ومن عرف الأيام معرفتي بها
وبالناس، روى رمحه غير راحم
أتمت عائشة عدتها للسفر، وكان ينتظرها لدى الباب ثلاثة فرسان أشداء، وستة من جياد الخيل فحيت الجند، وامتطت فرسا وردا
1
كأنه قطعة من الشفق، طغى به نشاطه فسخر من الرياح، وكاد يسبق الظلال وطار الركب إلى طيتهم في غبش الفجر كأنهم القضاء المحتوم، فذعرت منهم الآكام، وثار من خلفهم الغبار ركاما فوق ركام، وما زالوا يصعدون نجادا، وينزلون وهادا، إلى أن أدركهم الليل، فأقاموا لعائشة خيمة وربضوا حولها يتوسدون أسلحتهم في حذر واحتراس، كأنهم يقظى وهم نيام. وهكذا توالت الأيام، وتعاقب نور وظلام، حتى بلغوا مشارف قرطبة في أصيل يوم صائف، فنزلت عائشة عن جوادها، وأمرت أن تنصب لها الخيمة، فما لبثت بها طويلا حتى ظهرت في زي غريب دهش له الجند، حتى إن أحدهم دخل الخيمة ليبحث عن السيدة التي كانت معهم منذ حين.
ظهرت عائشة في زي امرأة ريفية تحمل فوق رأسها جرة قديمة طال عليها الزمان، فلما رأت ما بدا على وجوه الجند من حيرة ابتسمت وقالت: هكذا يجب أن يتنكر من يخاطر بحياته في مدينة الأعداء. أترونني أحسنت التخفي حقا؟
فصاح كبيرهم وكان داهية في الملق: لقد كدت يا مولاتي أجرد سيفي وأسألك عما صنعت بسيدتنا. فهزت عائشة رأسها في حزن وقالت: لا، إنني لن أموت بسيف أسباني. - كلنا فداؤك يا سيدتي! - باركتكم العذراء؛ عودوا الآن إلى قشتالة واتركوني، فإني سأخوض حربا لا تعرفونها، ولي من الحيل سلاح تكل دونه أسلحتكم. إننا جميعا جنود لنصرة راية الأسبان واستعادة ما كان لها من ملك وسلطان، ولكن أسلحتنا تختلف، وقد ينال بالدهاء ما لا ينال بالسيف البتار. إنني أيها الأبطال من جنود الطليعة الذين يمهدون لكم الطريق، ويثبطون العزائم، ويبثون الفتن، فإذا جئتم بعدنا فحسبكم جولة صادقة لتكون البلاد تحت أقدامكم. اذهبوا وسوف نلتقي جميعا في قرطبة لنصلي صلاة الظفر والانتصار.
ثم انطلقت نحو المدينة في مشية متعثرة مكدودة، شأن القرويات اللائي آلمهن طول المشي ووعورة الطريق.
دخلت عائشة قرطبة تحمل جرتها، وما كادت تبلغ «حي المضرية» حتى رأت هرجا وسمعت صياحا، وشاهدت الناس يتسابقون نحو ميدان الفتح، كأن حادثا جللا هالهم، أو مشهدا رائعا اجتذبهم، فاقتربت من شيخ أثقلته السنون، يتزيا بزي العلماء، ويرتسم على وجهه التزمت والعبوس، وسألته في لهجة ريفية ساذجة: ماذا حدث يا مولانا؟
فهز الشيخ رأسه في حزن الساخط على الحياة وقال: نحن يا ابنتي في اضطراب لا ينتهي، وفتن لا تخمد نارها، ففي كل يوم ثائر، وفي كل يوم جاسوس، وفي كل يوم لصوص يغيرون، أما المنكر والافتنان في العبث والمجون فقد جاوز الحد، وتحدى ملائكة السماء. ويل لقرطبة من بنيها! ثم ويل لها من أعدائها! إن هذا من غضب الله على الناس. وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد.
فتنهدت عائشة وقالت: الإسلام بخير يا مولانا. - الإسلام بخير يا فتاة، ولكن أهله ليسوا بخير. وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. - ولكن ما أسباب هذا الفزع وهذه الضجة يا مولانا؟ - هذا ابن المرتضى يا بنية، وهو بقية من ولد الناصر، عاد إلى قرطبة مستخفيا، والتفت حوله دعاة وأشياع يمهدون له سبيل الخلافة، فعقد ناصيته بالثريا، وأصبح من طماح همته في جهد، وقد اهتدى إلى مكانه جواسيس ابن جهور، فانقض عليه صاحب المدينة بجنده وأعوانه في داره بربض البرج، وهو الآن يقاد إلى عميد الجماعة بالسلاسل، أو يقاد إلى الموت بالسلاسل، فكلاهما عندي وعنده سواء.
ذهلت عائشة لهول الخبر حتى لكأن صاعقة انقضت عليها، أو كأن عاصفة اجترفتها وتركتها معلقة بين الأرض والسماء. وقفت ولم تدر أين وقفت. واضطربت ميزانها فسقطت الجرة وتناثر ما بها من ماء فأفاقت من غشيتها، ونظر إليها الشيخ في عجب وقال مترفقا: ماذا أصابك يا فتاة؟ - آلمني يا سيدي ما نحن فيه دائما من شغب وانقسام. - إن قرطبة لا ترضى عن حاكم ولا يرضى حاكم عنها، وهذا أصل الشر ومنبت البلاء، وإني لا أخشى على المسلمين من عدو مفاجئ بقدر خشيتي عليهم من أنفسهم. اذهبي إلى قريتك يا فتاة، وعيشي آمنة في سربك، فلن تري في هذه المدينة إلا صراعا وخصاما.
غادرته عائشة وهي حزينة مختبلة، تصور مشيتها ما في نفسها من قلق، وما في عقلها من وساوس وهموم، وكانت تهز رأسها واجمة وتقول: هذا أول بيت في القصيدة، كله رثاء وعويل وبكاء. هذه أول خطوة أمد بها رجلي في سبيل الانتقام من أعدائي، ليس فيها إلا تعثر وسقوط. ألهذا قضيت شهرا كاملا في الوصول إلى قرطبة أعاني عذاب السفر وأكابد قسوة الطريق؟ اليوم تلتقي كفا ابن جهور بعنق ابن المرتضى، وينتهي الأمر، ويفسد التدبير كله، ويبقى عدوي على عرشه عظيما مملكا رغم أنفي وأنف ملك قشتالة. يا للخذلان! ويا للخيبة! كأنما القدر انتظر بابن المرتضى، حتى إذا فكرنا في اتخاذه أحبولة اختطفه من أيدينا ليتركنا ساهمين حائرين. لقد كانت الخطة محكمة، وكان التدبير سليما، وكانت الغاية محققة، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يلمح ما وراء الغيب؟ ومن الذي في يده أن يكف يد القدر؟ ثم ابتسمت ابتسامة المفجوع وقالت: القدر؟ هذه تكأة العاجزين. أفيقي يا عائشة، إن اللوذعي
2
إذا لم يستطع أن يوقف القدر، فإنه يستطيع أن يتخيل مجرى القدر، وأن يعد لكل شيء عدته.
ثم أخذت سمتها نحو دار راميرز، فأنكرها أول ما رآها، فلما عرفته بنفسها، وثب نحوها يعانقها في محبة وشوق ويقول في صوت خافت: - كيف جازفت بنفسك يا سيدتي عائشة؟ - اسمي روزالي. - روزالي؟ مرحبا بروزالي، وهناء لدولة الأسبان بأمثالها. كيف خاطرت بالمجيء إلى قرطبة يا روزالي، وأعداؤك هنا لا يحصون عددا؟ - إن روزالي ليس لها أعداء، وقد ذهبت عائشة بنت غالب إلى غير رجعة، ولن تستطيع العين الطلعة أن تنفذ إلى عائشة بعد أن سترتها روزالي بحجاب من التنكر كثيف. أسمعت بالحادث المحزن الجديد؟ فارتاع راميرز وارتجف وقال في تلعثم. - أي حادث يا سيدتي؟ - قبض ابن جهور على ابن المرتضى.
فقهقه راميرز وصاح: لقد رعبتني يا سيدتي روزالي، وأي حزن، وأي أسى في هذا الحادث؟ إنني أنا الذي وشى به إلى ابن جهور، وأنا الذي أرشده إلى مكان اختفائه.
فصرخت عائشة: أنت أيها الجاهل الغر الأحمق! ومدت ذراعيها إلى رقبته تريد أن تخنقه لما انتابها من الغيظ، فتراجع خطوات في دهشة وقال: ماذا بك يا سيدتي؟ إنني أعد القضاء على أبناء الخلائف من أشرف الغايات التي نعمل لها ونسعى إليها. إن الملك لن يعود إلينا، ولن تخفق راية الأسبان على البلاد مختالة عزيزة، إلا إذا قضينا على هؤلاء النفر واحدا واحدا، مرة بالكيد، ومرة في ميادين القتال. لقد سمعت ملك قشتالة يقول: إننا سننقض
3
بنيان هذه الدولة حجرا حجرا. فهل يريد إلا أن يطوي أمراءهم واحدا بعد واحد؟ - سمعته يقول ذلك يا غبي؟ - نعم سمعته، وأنا ألقن الناس بما يريد. - اجلس. قاتل الله الجهل! وقاتل الله الغرور! أتدري أيها المفتون بذكائه أنك بفعلتك هذه لم تهدم البناء، ولكنك وطدت أركانه، وشددت أواسيه، ليبقى أعواما وأعواما حصينا ممنعا ؟ فبهت راميرز وقال متخاذلا: كيف يا سيدتي؟ - كان تدبير مولاي الملك أن يظاهر ابن المرتضى على ابن جهور، ويجلسه بقوة جنده وسلاحه على عرش قرطبة، ثم يتخذه وسيلة لغزو الولايات الأخرى، ويجعل منه طعما لصيد دويلات العرب واحدة تلو واحدة. وكانت رسالتي من قشتالة إلى قرطبة لإنفاذ هذه الخطة. أفهمت أيها العبقري المأفون؟ أفهمت أنك بذكائك الخارق ولوذعيتك التي لا تدرك أضعت على الأسبان جميعا فرصة سانحة لن يجود الزمان بمثلها؟
فاصفر وجه راميرز وأكثر من بلع ريقه وقال في توسل: لم أكن أعرف كل هذا يا سيدتي، وإنما فعلت مجتهدا ما ظننت فيه الخير لدولة الأسبان، وإني لأخشى أن يصل خبر فعلتي هذه إلى مولاي الملك فأكون من الهالكين. - لا عليك يا ابن بترو فلن يعرف الخبر إلا أنا وأنت. والمثل الأسباني يقول: ما أضيع الحزن على زجاج تحطم. أعندك خبر عن ابن زيدون؟ - لا يزال سجينا يقاسي مر العذاب. - ليتني أستطيع زيارته. - هذا ممكن، فكبير السجانين صديقي، وهو يزور حانتي بين الفينة والفينة. - نترك هذا إلى حين.
الفصل الثاني عشر
كان ابن زيدون لا يزال في سجنه يقاسي ألم الوحدة وذل الإسار، ويبكي بعده عن ولادة، ويندب آماله التي طارت مع الرياح. فقضى في السجن أكثر من عام يخاطب الجدران، وينادم القضبان، ويشكو بثه إلى نفسه، وينتظر الفرج في كل لحظة، فيخيب أمله في كل لحظة، ويستقبل النهار المشرق بمثل ما يستقبل به الليل العابس. وإذا أظلمت نفس المرء فماذا يفيد الضياء؟ وسعادة الإنسان وشقاؤه من نفسه التي بين جنبيه، فقد تريه الأمن خوفا، وقد تريه البؤس نعيما.
كان يوالي إرسال قصائد الاعتذار إلى ابن جهور فما أجدى، وكان يكرر الاستنجاد بابنه أبي الوليد فلا يجد مجيبا، فالتجأ آخر الأمر إلى صديقه الوزير أبي حفص بن برد، وكانت له منزلة أثيرة عند ابن جهور فكتب إليه:
ما على ظني باس
يجرح الدهر وياسو
ربما أشرف بالمر
ء على الآمال ياس
ولقد ينجيك إغفا
ل ويرديك احتراس
ولكم أجدى قعود
ولكم أكدى التماس
وكذا الدهر إذا ما
عز ناس ذل ناس
يا أبا حفص! وما سا
واك في فهم إياس
أنا حيران، وللأم
ر ظهور والتباس
لا يكن عهدك وردا
إن عهدي لك آس
وأدر ذكري كأسا
ما امتطت كفك كاس
وعسى أن يسمح الده
ر، فقد طال الشماس
فما كادت تصل الأبيات إلى ابن برد حتى أسرع إليه يواسيه ويروح عنه، ويعده بأن يعيد الكرة على ابن جهور، وأن يلحف في طلب العفو عنه، ثم طلب إليه أن يكتب إلى عميد الجماعة رسالة يصف فيها سوء حاله في السجن، ويعتذر من زلته، ويذكره بسالف بلائه في خدمته، وإخلاصه لدولته. فكتب ابن زيدون الرسالة بعد أيام، وبعث بها مع نائلة، وهي من روائع النثر العربي جاء فيها:
يا مولاي وسيدي الذي ودادي له، واعتمادي عليه، واعتدادي به، وامتدادي منه، ومن أبقاه الله ماضي حد العزم، وارى زند الأمل، ثابت عهد النعمة. إن سلبتني أعزك الله لباس نعمائك، وعطلتني من حلي إيناسك، وأظمأتني إلى برود إسعافك، ونفضت بي كف حياطتك، وغضضت عني طرف حمايتك، بعد أن نظر الأعمى إلى تأميلي لك، وسمع الأصم ثنائي عليك، وأحس الجماد باستحمادي إليك، فلا غرو قد يغص بالماء شاربه، ويقتل الدواء المستشفي به، ويؤتى الحذر من مأمنه، وتكون منية المتمني في أمنيته، والحين قد يسبق جهد الحريص.
كل المصائب قد تمر على الفتى
وتهون غير شماتة الحساد
ثم يقول:
هذا العتب محمود عواقبه، وهذه النبوة غمرة تنجلي، وهذه النكبة سحابة صيف عن قليل تقشع. ولن يريبني من سيدي أن أبطأ سيبه، أو تأخر غير ضنين غناؤه، فأبطأ الدلاء فيضا أملؤها، وأثقل السحائب مشيا أحفلها، وألذ الشراب ما أصاب غليلا، ومع اليوم غد، ولكل أجل كتاب.
ثم يقول:
ما هذا الذنب الذي لم يسعه عفوك؟ والجهل الذي لم يأت من ورائه حلمك؟ والتطاول الذي لم يستغرقه تطولك؟ والتحامل الذي لم يف به احتمالك؟ ولا أخلو من أن أكون بريئا فأين العدل؟ أو مسيئا فأين الفضل ؟
ألا يكن ذنب فعدلك واسع
أو كان لي ذنب ففضلك أوسع
حنانيك قد بلغ السيل الزبى، ونالني ما حسبي به وكفى.
ثم يقول:
وحسبك من حادث بامرئ
ترى حاسديه له راحمينا
فكيف ولا ذنب إلا نميمة أهداها كاشح؟ ونبأ جاء به فاسق؟ وهم الهمازون المشاءون بنميم، والواشون الذين لا يلبثون أن يصدعوا العصا، والغواة الذين لا يتركون أديما صحيحا.
ويقول:
وهل لبس الصباح إلا بردا طرزته بفضائلك؟ وتقلدت الجوزاء إلا عقدا فصلته بمآثرك؟ واستملى الربيع إلا ثناء ملأته بمحاسنك؟ وبث المسك إلا حديثا أذعته في محامدك؟
ثم يقول:
أعيذك ونفسي من أن أشيم خلبا، وأستمطر جهاما، وأكدم في غير مكدم، وأشكو شكوى الجريح إلى العقبان والرخم
ويقول:
لعلي ألقى العصا بذراك، وتستقر بي النوى في ظلك، وأستأنف التأدب بأدبك، حسبما أنت خليق له وأنا منك حري به.
يصور ابن زيدون لعميد الجماعة في هذه الرسالة أشتات نفسه الحائرة، ونوازعه الثائرة، فهو يعتذر حينا، ويعتب حينا، ثم يعترف بذنبه في ذل واستخذاء، ويعود فيغالي بنفسه فيرفعها في ثقة واعتداد عن دنس الإثم واقتراف الذنوب، ثم يثور ثورة جائحة فيمن على العميد سابق فضله عليه، ثم تهزه عاطفة الشاعر ويرى أن النثر قد يعيا عن التأثير الذي يريد، فيصحب الرسالة بقصيدة يقول فيها:
الهوى في طلوع تلك النجوم
والمنى في هبوب ذاك النسيم
سرنا عيشنا الرقيق الحواشي
لو يدوم السرور للمستديم!
وطر ما انقضى إلى أن تقضى
زمن، ما ذمامه بالذميم
إذ ختام الرضا المسوغ مسك
ومزاج الوصال من تسنيم
أيها المؤذني بظلم الليالي
ليس يومي بواجد من ظلوم
قمر الأفق إن تأملت والشم
س، هما يكسفان دون النجوم
وهو الدهر ليس ينفك ينحو
بالمصاب العظيم نحو العظيم
بوأ الله جهورا شرف السو
دد في السرو واللباب الصميم
واحد سلم الجميع له الأم
ر، فكان الخصوص وفق العموم
أيها ذا الوزير ها أنا أشكو
والعصا بدء قرعها للحليم
أفصبر مئين خمسا من الأي
ام، ناهيك من عذاب أليم
سقم لا أعاد فيه وفي العا
ئد أنس يفي ببرء السقيم
بأبي أنت؛ إن تشأ، تك بردا
وسلاما كنار إبراهيم
وتصل الرسالة والقصيدة إلى ابن جهور فلا تتركا في نفسه من الأثر إلا ما يتركه دبيب النمال في الجبال، أو مناجاة الشعر للأطلال في الأطلال.
وبقي ابن زيدون كما هو في أسره وذله حزين النفس، واجف القلب، بعد أن تقطعت به الأسباب، وجفاه الصحاب. وكانت نائلة تزوره، وكانت ولادة لا تنقطع عنه، فبينما كانتا عنده في أحد الأيام راعهما ما بدا عليه من شحوب وذبول وقنوط من الحياة، وحنين إلى الموت. وكان يقول ويكرر؛ أما لهذا الليل من آخر؟ أما آن للطائر السجين أن يرف بجناحيه في الفضاء الطليق؟ ألم يأن للمقبور أن يبعث فيحاسب حسابا يسيرا أو عسيرا؟
فقالت ولادة: لا ينطلق الطائر إلا إذا حطم القفص. فنظرت إليها نائلة في استنكار وقالت: ما هذا يا ولادة؟ إن مما يؤلم اليائس أن يلوح له بأمل لا يتحقق - لماذا لا يتحقق؟ - لأن هذا السجن ليس قفصا يحطم، لأن حراس الطائر غلاظ شداد. - إن من الحيلة ما يعجز القوة. فعجل ابن زيدون وقال: وأين الحيلة يا سيدتي؟ - هينة يسيرة، وطالما فكرت فيها، وأقلقت وسادي في تصويرها. - وما هي؟ - إننا نبعث إليك بالطعام في كل يوم، وسيكون بين ألوانه في الغد طبق من الفالوذج خلط به عقار مخدر، فإذا حمله إليك السجان فأظهر الرضا عنه، وكافئه بطبق الفالوذج فيلتهمه، وعليك الباقي.
فوثب ابن زيدون نحو ولادة يقبلها من جبينها ويصيح: أنت ملك كريم يا سيدتي! عجبا كيف غاب عنا مثل هذه الحيلة!
فالتفتت إليه نائلة وقالت: وإذا تم خروجك من السجن سالما فاذهب إلى دار ابنة خالي، وهي مصاقبة
1
لدار ابن الحناط الكفيف، فاختف عندها حتى ندبر وسيلة للفرار من قرطبة، وسأخبرها الليلة حتى لا تدهش للقائك، ولا تخش عندها شيئا، فهي تعيش مع خادم عجوز بلهاء، زادتها السن خرفا وبلاهة. وبعد أن طال الحديث في الفرار وعواقبه، وفي تقصي كل ما يزيل عنه أسباب الخطر ، ودعتاه وانصرفتا.
وجاء الغد، وجاء السجان بالعشاء، وكان خبيثا لئيم الطبع، استعار قلبه صلابته من قضبان السجن وأغلاله، فلما رآه ابن زيدون بسط له وجهه وقال: ألا تزال كعهدي بك عابسا يا مخلف؟ - وما عليك من عبوسي إذا كنت منشرح الصدر مسرورا؟! - لقد وطنت نفسي على الآلام ورضيت السجن منزلا، وأنزل الله علي سكينة غسلت همومي، وعادت بي إلى الإيمان الحق والخضوع لأحكام القدر. - كلهم عندنا يعودون إلى ما عدت إليه، فهم أول الأمر ينوحون ويصخبون ويسخطون على الأرض والسماء، حتى إذا عركهم السجن وأذل نفوسهم، عادوا إلى التسليم بأحكام القدر، ورأوا أن لا بد مما ليس منه بد. - إن النقم يا مخلف لا تخلو في أطوائها من نعم. فليس في تصاريف الأيام شر محض ولا خير خالص. أليس من محاسن السجن أن نأمن الوشاية، وننام ملء العيون، لا نخاف حديث نمام ولا وقيعة كاشح
2 ؟ أليس من محاسن السجن أن نبتعد عن الناس وما يرتكسون فيه من شرور وآثام؟ أليس من محاسن السجن أن ينصرف المرء إلى ربه كما ينقطع الزهاد لعبادته في قمم الجبال؟ أليس.. فعجل مخلف وقال: كفى يا سيدي! فقد كدت تجعل من السجون جنات تجري من تحتها الأنهار. فضحك ابن زيدون ومد يده إلى مائدة الطعام وهو يقول: أرني ما أحضرت إلينا اليوم يا مخلف. - إن به ألوانا يسيل لها اللعاب. - هذا ديك مشوي، وهذا لحم متبل بالأفاويه، وهذا رقاق محشو بالجوز، وهذا تين ما لقي، وهذا فالوذج بالفستق. ما أحبه إلى نفسي! ثم ابتسم وقال: ولكنني أراك تكثر من النظر إليه يا مخلف، فخذه بارك الله لك فيه! فليس أشهى إلي من أن أشهد رجلا يأكل ما اشتهى. خذه يا مخلف ومتعني برؤيتك وأنت تأكله. التهمه يا مخلف فلم يوضع من قبله طعام في بطن من هو أحق به منك.
وما كاد يلمح مخلف في عين ابن زيدون أنه لا يمزح حتى وضع رأسه في الطبق ولم يرفعه إلا والطبق أجدب من كف اللئيم. ولم تمض لحظات حتى أخذ يترنح ويغمغم بألفاظ لم تستقم حروفها، ثم سقط على الأرض لا يعي. فهب ابن زيدون مسرعا، وجرده من ثيابه فارتداها، وخرج من الحجرة في زي مخلف وفي مثل سمته
3
وعبوسه وهيئة مشيته وحركاته، فما كان يشك شاك في ظلام السجن وغبش
4
الليل أنه هو، واتجه نحو الباب، فصاح به حارس الباب: إلى أين يا مخلف؟ إن موعد خروجك لم يحن بعد.
فنتر ابن زيدون ذراعه نحوه كالمغضب، فقهقه الحارس وقال: هكذا أنت دائما ساخط على الدنيا.
وكان ابن زيدون قد جاوزه بعيدا فعاد الاطمئنان إلى نفسه، وسار في سرعة يخترق دروب قرطبة وأزقتها، حتى بلغ دار حمدانة ابنة خال نائلة فطرق الباب في وجل ورعب، ففتحت العجوز الباب وصاحت مذعورة: اللص! اللص! فدفعها ابن زيدون بيده في رفق، ودخل وأغلق الباب دونه، وقدمت حمدانة ضاحكة من بلاهة خادمتها، ولكنها حينما رأت زي ابن زيدون لعب برأسها الشك، ولمح ابن زيدون ذلك في وجهها، فهمس: أنا يا سيدتي ضيف نائلة، فشدت حمدانة على يده في بشر وترحيب، ثم جذبته إلى حجرة من الدار منعزلة أعدت له فيها طعاما شهيا. ودار الحديث طويلا حول قصة سجنه وما لاقى من عنت وآلام، ثم في طريقة خلاصه وما فيها من مغامرة وإقدام. وقضى ابن زيدون ليله قلقا ينفس عن نفسه بالشعر ويقول:
شحطنا وما بالدار نأي ولا شحط
وشط بمن نهوى المزار وما شطوا
أأحبابنا ألوت بحادث عهدنا
حوادث لا عقد عليها ولا شرط
لعمركم إن الزمان الذي قضى
بشت جميع الشمل منا لمشتط!
ألا هل أتى الفتيان أن فتاهم
فريسة من يعدو ونهزة من يسطو
وأن الجواد الفائت الشأو صافن
تخونه شكل أزري به ربط
وأن الحسام العضب ثاو بجفنه
وما ذم من غربيه قد ولا قط
هرمت وما للشيب وخط بمفرقي
ولكن للشيب الهم في كيدي وخط
أتدنو قطوف الجنتين لمعشر
وغايتي السدر القليل أو الخمط؟
بلغت المدى إذ قصروا فقلوبهم
مكامن أضغان أساودها رقط
يولونني عرض الكراهة والقلى
وما دأبهم إلا النفاسة والغمط
وقد وسموني بالتي لست أهلها
ولم يمن أمثالي بأمثالها قط
فررت، فإن قالوا: الفرار إرابة
فقد فر موسى حين هم به القبط
وإني لراج أن تعود كبدئها
لي الشيمة الزهراء والخلق البسط
وشاع في الصباح خبر فرار ابن زيدون، وقام له ابن جهور وقعد، واجتمع الوزراء والقواد لهذا الحادث الجلل، وجمع كبير الشرطة أعوانه وأمرهم أن ينبثوا في المدينة وأرباضها، وأن يطلقوا عيونهم في كل مكان للوقوف على موضع اختفائه. ولم يكن للناس حديث في مجالسهم وندواتهم إلا في فرار ابن زيدون وما صحبه من إحكام الحيلة وإجادة التدبير، وقهقه العامة كعادتهم من غفلة المشرفين على المدينة مع ما يتبجحون به من صرامة وحزم وحذر. وانتقل الخبر من فم إلى فم، وذعر ابن عبدوس وجماعة الناقمين من ابن زيدون للحادث. ووصل النبأ إلى عائشة فتلقته في حيرة ووجوم. أتحزن أم تسر؟ لا تدري. تحزن، لأن عدوها الذي عملت على سجنه وتعذيبه أصبح حرا طليقا، وتسر، لأن أملا خافقا يخدعها بأن فراره قد يمهد لها السبيل إلى لقائه، وأن لقاءه قد يدفعه طوعا أو كرها إلى الرجوع إليها وإضفاء محبته عليها. فقابلت راميرز وقالت له: إن ابن زيدون فر من سجنه.
فأجابها مسرعا: حسنا فعل. وهو سيكون شجا في حلق ابن جهور، والعرب تقول: الكلاب على البقر! - أي كلاب؟ وأي بقر يا راميرز؟ - ماذا تريدين؟ - أريد أن أعرف مكانه دون أن أقبض عليه. - وهل تطلبين معونتي؟ - لا. ثم ابتسمت وقالت: لا أدري لم أحدثك في هذا؟ ولكنه ضعف النساء الذي ينتابني بين الحين والحين.
ومضت أشهر على اختفاء ابن زيدون كانت فيها عائشة تفكر في وسائل العثور على مخبئه، وما كاد يلتمع لها قبس من الرأي حتى قصدت في إحدى الليالي إلى دار خادمها بلال، فلما رآها ولم يكن متوقعا أدركه البهر وأخذ لسانه يتلجلج بكلمات كان منها: سيدتي عائشة؟ ... ماذا أرى؟ ... نعم ... أهلا بسيدتي ... كيف بلغت بك الطريق إلى داري؟ ألا تخافين عيون ابن جهور؟ ... ما كان أسعد أيامي بك وبأمك يرحمها الله! إنها ماتت حزنا عليك يا سيدتي. - علمت بموتها يا بلال منذ عدت إلى قرطبة. اسمع - ووضعت في يديه كيسا من الدنانير - أريد أن أعرف مكان اختفاء ابن زيدون. - ابن زيدون؟ وأين نجده وقد عجز عن العثور به الشرط وجميع جواسيس الدولة؟
اسمع يا بلال، إنه في المدينة من غير شك، ولن يستطيع مغادرتها وإلا قبض عليه حراس التخوم. - نعم في المدينة. نعم صحيح. ثم جرؤ على الابتسام وقال: ولكن المدينة يا سيدتي ليست جحرا أو دارا أو زقاقا أو محلة، وإنما هي بحر زاخر بأمم من أقطار الشرق والغرب. إن الذي يبحث عن مختف في هذه المدينة كمن يبحث عن دينار سقط في الوادي الكبير. - ليس الأمر كما تظن يا بلال. وقد توفق إذا حصرنا البحث عنه في دائرة أصدقائه. - أصدقاؤه لا يشون بصاحبهم. - يا بلال، تأن قليلا، وألصق هؤلاء الأصدقاء بابن زيدون امرأتان: ولادة ونائلة الدمشقية. - هذا صحيح يا سيدتي. - ولا بد أن يتردد على داريهما كيفما بالغ في الاختفاء، وأغلب الظن أن يكثر من زيارة ولادة. فهل تستطيع أن تتحسس منه في دارها؟
فصاح بلال قائلا: أستطيع وأستطيع! إن جاريتها عتبة لي صديق، وهي تطمع في أن أكون لها بعلا. - حسن جدا. كرر زيارتها وتلطف ولا تشعرن بك أحدا، حتى تحصل منها على ما تريد دون أن تعرف من الأمر شيئا، وسأزورك أو ستزورك دنانيري مضاعفة بعد أيام، ثم مدت إليه يدها واندست في الظلام كأنها طيف خيال.
وسعى بلال جاهدا ليعرف مخبأ ابن زيدون، فتردد على عتبة وأكثر من التودد إليها، وبذل لها الوعود البراقة الخاتلة، حتى بلغ منها بعض ما يريد، ثم طفق ينتظر وعد عائشة بزيارته، حتى إذا كانت ليلة حالكة السواد، مريضة النجوم، سمع طرقا على بابه فأسرع للقاء عائشة محتفلا فرحا بما سينال من أجر، ولكنه ما كاد يفتح الباب حتى بهت وذعر وكاد يسقط على الأرض مما أصابه من الهول، فإنه ما كان يظن أن يرى عبيد الله بن يزيد صاحب المدينة بين جنده وأعوانه، وهؤلاء لا يزورون رجلا في جنح الظلام للسؤال عن غالي صحته، أو للتمتع بحسن حديثه.
وقف بلال مبهورا، وصاح به صاحب المدينة: أين كنت بالأمس بعد العشاء الآخرة؟ فتلعثم بلال وأرتج عليه باب الكلام فوقف مشدوها. - أين كنت بالأمس يا رجل؟ قل ولا تخف عني شيئا، فإن جواسيسي يقرءون ما في الصدور ويعرفون ما تخفيه السرائر. - كنت يا سيدي.. عند عتبة ... عند عتبة. - جارية ولادة بنت المستكفي؟ وماذا كنت تصنع في دار ولادة؟ - أزور عتبة يا سيدي. - تزورها في كل ليلة؟! - حقا لقد أخطأت وجاوزت الحد. هل شكت سيدتي ولادة من زيارتي لدارها؟ إني سأتزوج عتبة يا سيدي، وقد تواثقنا على الزواج، وإذا كان أحد لا يحب أن أزورها قبل الزواج فإني أعاهدك ألا أطرق لها بابا. - ليس هذا ما أقصد يا رجل. ألم تقابل ولادة في إحدى زياراتك؟ - لا يا سيدي، وأنى لمثلي أن يقابل مثلها؟ - ألم تحمل منها رسالة إلى صديق أو تحضر إليها رسالة من صديق؟ - أي صديق يا سيدي؟ - لا شأن لك بهذا يا رجل، وإياك أن تتباله فإننا لسنا من الغفلة بحيث نصدق ما تقول؟ - أقسم بالله يا سيدي إني لا صلة لي بسيدتي ولادة، وإني لا أعرف من أمر الرسائل التي تذكرها شيئا. - اعلم يا رجل أنك إذا خطوت مرة أخرى نحو دار ولادة كان دمك مهدرا. - عهد الله يا سيدي ألا يراني أحد من رجالك مارا بدارها!
فأطال إليه صاحب المدينة النظر في شك وتردد، وبين تصديق وتكذيب، ثم انصرف، وبقي بلال خافق القلب مرتعد الأوصال، يلعن الشرطة ورجالها، واللحظة التي زارته فيها عائشة فنصبته هدفا للشكوك، وجعلت داره مغدى ومراحا لأعوان السلطان كلما حلا لهم أن يخلعوا قلبه من مكانه.
لم تمس يده في هذه الليلة طعاما، وأخذ يبسط فراشه في تكاسل ورعب، وهو على يقين من أن النوم لن يطرق له جفنا. وبينما هو يتقلب على الفراش، والوهم يرسم له من التهاويل ما يزلزل فؤاد الشجاع، إذا طرق خفيف على الباب فأنصت مستعيذا بالله من الشيطان الرجيم، ومن شر رجال الشرطة، وقام وهو يقول لنفسه: عادوا ثانية للقبض علي وإلقائي في غيابات السجون، لأني رأيت في عين كبيرهم كأنه في شك من أمري، ولن أملك إلا التسليم، فإن ظلم هؤلاء ليس له من مرد.
وفتح الباب فإذا عائشة بوجهها المؤتلق، وثغرها الباسم، تحييه، وتمد إليه يدا كانت في يده الجافية السوداء كقطعة من الزبد في جفنة من القار. همس بلال قائلا والرعب لم يفارقه: أهلا بسيدتي عائشة! هل قابلت صاحب المدينة بالطريق؟ - من صاحب المدينة؟ أنت تحلم يا بلال؟ - لا يا سيدتي. إني يقظان، هذه يدي أهزها، وهذا جسمي لا أزال أراه مرتعدا. - ماذا بك يا بلال؟ - الذي بي يا سيدتي أن صاحب المدينة زارني منذ ساعة. - وهل هذا كل ما يهولك؟ إن صاحب المدينة لا يزور الناس دائما ليقتلهم، وقد يكون من متممات بحثه أن يهتدي بسؤال هذا أو ذاك. - إن نظراته مخيفة يا سيدتي، وإني لا أحب مقابلة أحد من هؤلاء ولو سألني عن الطريق. - هون عليك يا بلال. عم سألك؟ - سألني عن أسباب ترددي على دار سيدتي ولادة. - آه فهمت. إنهم يرقبون دارها لعلهم يصلون إلى موطن اختفاء ابن زيدون؛ وهم يسلكون الطريق التي أسلكها، ولكني سأبلغ الغاية قبلهم. ماذا وراءك من أخبار عتبة؟
ولمح بلال أنها تحمل في يدها كيسين فأطال النظر إليهما وقال: من أخبار عتبة؟ - نعم يا بلال من أخبار عتبة. وألقت في يده الكيسين فسمع إلهما وسوسة ورنينا طار لهما لبه فقال: علمت من عتبة أن الوزير أبا حفص بن برد يزور ولادة في كل خميس بعد الهزيع الأول من الليل ومعه رجل ملثم، وأنهم يختلون في غرفة بعيدة عن الخدم، وأن الرجلين ينصرفان قبل انبثاق الفجر. - حسن يا بلال، ثم أسرعت وقالت: وماذا فعلت بعد ذلك يا بلال؟ - كمنت وراء جدار، حتى إذا غادر الرجلان الدار تبعتهما من بعيد في حيطة وحذر، فلما فصل ابن برد ليذهب إلى داره واصل الرجل الملثم السير حتى بلغ خطة جند الشام فدخل دارا تقرب من مسجد الشهداء. - مرحى يا بلال! لقد عثرنا على الدينار الضائع في الوادي الكبير. إن الرجل الملثم هو ابن زيدون من غير شك، وسينالك مني أضعاف ما نالك من مال عندما أقتنص هذا الطائر النفور. عم مساء يا بلال. ثم انفلتت نحو الباب مرحة جذلى، كأنها سيقت إليها الدنيا بحذافيرها.
وجاء الصباح، وانقضى النهار وأقبل الليل، ومرت منه زلف،
5
وكانت عائشة في هذا الحين تسير وبلال خلفها نحو خطة الشام، بين خوف وتوجس ويأس وأمل، حتى بلغت دار حمدانة مالت نحوه وقالت: قف خلف هذا الجدار يا بلال، وسأدخل الدار فأمكث بها قليلا أو كثيرا، فإذا سمعتني أهتف باسمك فادع رجال الشرطة، وناد بأعلى صوتك بأن ابن زيدون مختف بهذه الدار.
ثم طرقت الباب ففتحت لها العجوز مرتاعة، ووثبت عائشة إلى فناء الدار وقالت: أريد لقاء السيد الذي يقيم عندكم.
وتنبهت حمدانة من نومها فذهبت لتستجلي الخبر، واستيقظ ابن زيدون على أصوات مختلطة فيها غضب، وفيها استنكار وفيها سخرية، ففتح باب حجرته قليلا، ولمحته عائشة فصاحت به. - قضي الأمر يا أبا الوليد، وبلغ الكتاب أجله، وأخذت الطرق على الفريسة، ووقع البلبل الغريد في الفخ، وليس لك إلا أن تلقي السلاح عاجزا مستنيبا. ثم وثبت نحو حجرته فدخلتها وأغلقت الباب، وقالت في هدوء كأن الموقف وما حوله من أحداث وخطوب لم يترك في أعصابها أثرا: اجلس يا أبا الوليد، فإننا قد نتحدث طويلا، وقد تحتاج إلى كل ما منحك الله من عقل وحكمة وصدق أناة، لتخرج من هذا الأمر الجلل كريما سليما دون أن يصيبك من أوضاره رشاش، أو يمسك خطر. أنصت إلي أبا الوليد، فقد كنت منذ أزمان تحن إلى حديثي، وترتاح إلى أنغام صوتي، كنت في ذلك الحين شابا مكتمل الرجولة، وافر العقل، سديد الرأي، لم تلعب بفؤادك الحسان، ولم يخدعك الطلاء الكاذب، والجمال المصنوع، والكلام المتكسر الممضوغ، ولم تقتنصك الحبائل المدفونة في التراب، ولم تلعب بك الآمال المضللة التي أسخطتك على حياتك الهادئة الناعمة، لتدفعك إلى حياة موهومة فيها مناصب، وفيها جاه وصولة، وفيها عز وسلطان، والتي لم تفتأ أن أردتك في الهاوية، وأوردتك ظلمات السجون.
كنت تحبني يا أبا الوليد، وتريد أن تكون لي بعلا، وكنت ولا أزال بك مفتونة، وبحبك ضنينة، وعليك غيورا، وكنا نعيش في دوحة هذا الحب طائرين غردين، تنبسط أمامهما الحياة بحدائقها الغلب، ومروجها الخضر، وأزهارها الباسمات، وأنهارها الجاريات، لتصور ما في نفسيهما من قناعة ورضا ولذة نعيم، ولكن بومة شريرة تزيت بزي الطاووس، وتصنعت صوت العندليب، حامت حول عشنا يوما، فأفسدت كل شيء، وجرتك بخيط كاذب من الأمل، ولون خداع من الجمال إلى تدمير سعادتك وهلاك نفسك.
أنصت إلي يا أبا الوليد، إني لن أسلوك إذا سلوتني، ولن أهجرك إذا هجرتني، وسأعمل وأعمل حتى نصبح زوجين سعيدين، فلا تظن أنك تستطيع الخلاص من يدي. إنك لي، وإنني لك وليس في الأرض من قوة تحول بيني وبينك. وإذا حاول الموت أن يفرقنا فسأموت معك، وسأرى في الموت هناء وراحة.
أنصت إلي يا أبا الوليد وكن عاقلا، لقد جربت الناس والأيام، فهل رأيت أوفى مني عهدا، أو أصدق حبا؟ نعم إني كدت لك عند ابن جهور، وطوحت بك في غيابة السجن، ولكني أقسم إني فعلت ما فعلت وأنت أعز الناس علي، وأحبهم إلى نفسي. إن الحب مجنون يا أبا الوليد، وإذا اشتد لم يعرف ماذا يأتي وماذا يدع، والغيرة نار مشتعلة الأوار تلتهم كل شيء ألم تسمع بذلك الشاعر المشرقي الذي قتل حبيبته لولهه بها وشدة غيرته عليها من أن تنالها عين ناظر، أو يصل إلى أذنها حديث عاشق.
كنت أحبك يا أبا الوليد حبا عاصفا، وكنت أغار عليك في الصباح من الضياء، وفي المساء من الظلام، فاعذرني يا أبا الوليد واغفر لي.
كان الغيظ يحتدم في صدر ابن زيدون، والخوف من العودة إلى السجن يزيده ارتباكا، وكانت لتلك المفاجأة صرعة بددت نفسه وأطارت صوابه فقال في صوت أجش حزين: أما الغفران فقد غفرت لك، ولن أحمل لك في نفسي ضغنا أو حفيظة، وإذا كان لنا صلة وداد في الماضي فإني سأحرص على ذكراها، ولكن الأحوال تتبدل والقلب يتقلب
لا يلبث القرناء أن يتفرقوا
ليل يكر عليهم ونهار
وخير لنا يا سيدتي وقد طار من بيننا الحب، أن نضع مكانه صداقة نقية كريمة، هي بنا أليق، وبذكرياتنا القديمة أجدر.
إن حبنا لم يطر يا أحمد. - قولي ما شئت يا سيدتي. - لا تقل «يا سيدتي» قل «يا عائشة». - قولي ما شئت يا عائشة، فإن قلبي إذا انصرف عن شيء عجز أهل الأرض عن إكراهه عليه. - دعه لي يا أحمد وأنا أعرف كيف أروضه، وكيف أعيده إلى سالف عهده، دعه لي يا أحمد، وهلم بنا نفر من هذا البلد المشئوم لنعيش في أي بلد آخر زوجين سعيدين. - إن قلبي ليس بين جنبي. - آه إنه عند ولادة أيها الأحمق! لقد كنت أريد لك الخير كله، كنت أريد أن أنقذك من ابن جهور، وكنت أريد أن أنقذك من ولادة، ولكنك كالفراشة الخرقاء تسقط على النار فلا تفارقها حتى تحترق. إن صيحة مني الآن تجمع عليك العسس ورجال الشرطة، وتزج بك في ظلمات السجون. فقلها كلمة واحدة أتريد أن تكون لي زوجا؟ - لا. - فصاحت عائشة: يا بلال! وما كاد بلال يسمع نداءها حتى صرخ بأعلى صوته: اقبضوا على ابن زيدون! اقبضوا على ابن زيدون! وسمع أعوان الوالي صوته فاندفعوا نحو الدار في لغط وصياح، وأقبلوا ليقفوا على جلية الأمر، وقال أحد الجنود: أين ابن زيدون؟ فأشار بلال إلى دار حمدانة، وتكاثر الجند على الباب فخلعوه، واندفعوا في فناء الدار كأنهم الأتي
6
الجارف، وتسللت عائشة من الباب، واندست بين الجمع المحتشد تبحث عن بلال لتبادر معه الفرار. وما كان الجند يقبضون على ابن زيدون حتى سمعوا نداء من مئذنة مسجد الشهداء، فتسمعوا فإذا المؤذن يقول: سلام على الإسلام بعد ابن جهور! سلام على الحق والعدل بعد ابن جهور! سلام على الجهاد في سبيل الله بعد ابن جهور! أيها المسلمون مات ابن جهور وصعدت روحه الطاهرة إلى بارئها الساعة راضية مرضية. أيها القرطبيون! مات خادم الدين، وحامي المسلمين، فترحموا على تلك النفس الزكية، واضرعوا إلى الله أن ينزلها عنده في جنات النعيم. أيها القرطبيون! مات ابن جهور وخلفه ابنه أبو الوليد محمد، وهو من تعرفون حزمه وعزمه ودينه وغيرته على الإسلام، فادعوا له بالعز والتوفيق.
وما كاد ابن زيدون يسمع الدعاء حتى صاح بالجند: أدركوا المرأة الأسبانية، أدركوا جاسوسة الإفرنجة. ثم جذب رئيسهم من ذراعه، وأشار بيده إلى المرأة وكانت قد ابتعدت عن الدار، فكر نحوها الجنود، وقبضوا عليها، ثم اتجه ابن زيدون إلى رئيس الجند وقال: والآن تستطيع أن تشد وثاقي إذا أردت.
فقال الجندي متهكما: وإذا لم أرد؟ - كان ذلك خيرا لك وأدعى إلى مكافأتك. - كيف؟
لأني كنت طريد ابن جهور، وهو قد لاقى ربه كما سمعت من نداء المؤذن. أما خليفته أبو الوليد فأحب الناس لي، وأعطفهم علي، وقد بذل جهد طاقته لتخليصي من السجن أيام أبيه فلم يستطع. - عذرا يا سيدي فإني لا أعرف ذلك، ولكني أمام شخص يقال إنه فر من سجنه، ولا أملك إلا أن أذهب به إلى صاحب المدينة ليرى فيه رأيه. - افعل ما شئت أيها الجندي الشجاع، ولكن حذار من أن تفلت من يدك هذه المرأة، فإنها أضر على الدولة من جميع الأسبان في الشمال. ثم انطلقوا جميعا إلى دار عميد الجماعة الجديد.
وكان ابن زيدون وهو في الطريق يغمغم بأبيات من الشعر ازدحمت بصدره تطلب متنفسا، فلما مثل أمام أبي الوليد ابن جهور، قام له وأخذ يعانقه مداولا بين الترحيب والاعتذار له عما ناله من ضر أيام أبيه، ثم شد على يديه وهو يقول: لقد عفا عنك أبي قبل موته، دخلت عليه في مرضه فأحسنت فيك القول، وذكرت ما أصابك من ضعف النفس والجسد، وألححت عليه في ألا يجعل إهدار حياتك آخر ما يتقدم به إلى ربه. فقال في صوت خافت: إن ابن زيدون كوكب الأندلس، والكواكب لا تطفأ بالأفواه، وقد تمر السحب فتحجب من ضيائها، ثم تنقشع. فأسرعت أقول: أعفوت عنه يا أبي؟ فهز رأسه فيما يشبه الرضا وقال: ومن أنا يا ولدي حتى أعفو عنه؟ الله يعفو عنه ويعفو عنا جميعا. ولم أرد أن أثقل عليه بعد أن عرفت حسن رأيه فيك. ورجوت أن يبل من مرضه بعد أيام، وأن يطلق سراحك بنفسه، ولكن المنية فاجأتنا فيه يا أبا الوليد.
فاتجه ابن زيدون إلى السماء يستمطر الرحمات على الكريم الراحل، ويعتذر عنه بأنه لم يعمل إلا ما كان يراه حقا وصوابا، وبأنه أنصت إلى الوشاة فزينوا له الباطل، وأدخلوا عليه من زخارف القول ما لم يستطع له تكذيبا. ثم هنأ الحاكم الجديد ودعا له بالتوفيق والسداد، ومد يده فأخرج من كمه رقعة ثم أنشد:
ألم تر أن الشمس قد ضمها القبر
وأن قد كفانا فقدنا القمر البدر
إن الحيا إن كان أقلع صوبه
فقد فاض للآمال في إثره البحر
إساءة دهر أحسن الفعل بعدها
وذنب زمان جاء يتبعه العذر
فلا يتهن الكاشحون فما دجى
لنا الليل إلا ريثما طلع الفجر
وإن يك ولى جهور فمحمد
خليفته العدل الرضا وابنه البر
عزاء فدتك النفس عنه فإن ثوى
فإنك لا الواني ولا الضرع الغمر
لك الخير إني واثق بك شاكر
لمثنى أياديك التي كفرها الكفر
فصدق ظنونا لي وفي فإنني
لأهل اليد البيضاء منك ولا فخر
ومن يك للدنيا وللوفر سعيه
فتقريبك الدنيا وإقبالك الوفر
فطرب أبو الوليد للمديح، وقام فأجلس الشاعر إلى جانبه، وبذل له من صنوف التكريم ما ملأ نفسه ثقة وسرورا.
وهنا اتجه ابن زيدون نحو عائشة وقال: هذه - يا مولاي - عائشة بنت غالب جاسوسة ملك الأسبان التي وصمها أبوك بالنار ونفاها إلى الشمال، وعادت اليوم إلى قرطبة لتتجسس للأسبان، ولتبث الفتنة في صفوف المسلمين.
فاتجه أبو الوليد إليها وقال غاضبا: متى وصلت إلى قرطبة أيتها المرأة؟ - منذ شهور. - ولم جئت؟ - لا أدري. - ومن الذي ينفق عليك؟ - أهل الخير والإحسان.
فغضب أبو الوليد ودعا عبيد الله بن يزيد صاحب المدينة وقال: اسجن هذه المرأة في المكان الذي كان يسجن فيه أبو الوليد بن زيدون جزاء وفاقا لكل ما اقترفت من إثم وخيانة.
وابتسم ابن زيدون لصاحب المدينة وهمس في أذنه: قل لمخلف السجان أن يحذر هذه المرأة فإنها عظيمة الدهاء، لها في الختل أفانين لم يهتد لمثلها إبليس اللعين، وقل له إن ابن زيدون يقرئك السلام ويوصيك أن تبتعد عن أكل الفالوذج ولو خلط بفستق من الجنة!
الفصل الثالث عشر
كان لقاء ابن زيدون لولادة في فضاء الحرية وبعد انقشاع الهموم لقاء الطائر يعود إلى إلفه بعد أن ظل طويلا يتخبطه الفخ، ويعض حديده جناحه. أو لقاء الصح الباسم بالأمل، لدنف
1
طال به ليل الشكوك، وأقضت فراشه الآلام. كان لقاء اضطربت فيه العواطف، واختلطت طرائق التعبير، ففيه ضحك، وفيه بكاء، وفيه لذة، وفيه ألم، وفيه رضا، وفيه سخط. والعاطفة إذا قويت جاوزت حدها، فانقلبت إلى ضدها. وللنفوس لغة مألوفة في إظهار ما يجيش بها، ولكنها إذا تملكتها عاطفة شديدة عاتية نبذت لغتها زاعمة أنها لا تفي ببث ما فيها، ولجأت إلى النقيض، فبكت للسرور، وضحكت عند ازدحام المصائب. وربما كان من أسباب اختلاج العواطف أن النفس تذكر عند السرور ما مر بها من أحزان، وعند اللذة ما عانته من ألم، فتهم أن تعبر عن العاطفتين في آن، فتتغلب أقواهما أثرا، وأكثرهما عن النفس تفريجا.
كان لقاء عجيبا لو حاول القلم وصفه لعجز القلم. نعم إنهما كانا يلتقيان، ولم يغلق باب السجن يوما في وجه ولادة، ولكن لقاء السجن خير من الافتراق. لقاء أوله أسف، وآخره ألم. لقاء تحيط به القضبان، وتطل عليه أعين الجواسيس. إنه في الحق لم يكن لقاء ولكنه كان إثارة للأشجان، وتنبيها لراقد الهموم.
تكلم الشوق في هذا اللقاء صامتا فأطال وأسهب، وطافت الذكريات عزيزة محبوبة رائعة الألوان ذهبية الحواشي، ولمعت الآمال براقة فتفتحت لها النفوس، وانبسطت الوجوه، ثم أخذ ابن زيدون يصف حفاوة أبي الوليد بن جهور به، واحتفاظه بمودته. وإلحاحه عليه في أن يبقى في خدمته عزيز الجانب ملحوظ المكانة.
فأطرقت ولادة كالمفكرة، وقالت: كل هذا حسن يا أحمد. ولكن احذره فإن الولد صورة من الوالد. وأبو الوليد ورث أباه في كل شيء. وزاده عنفوان الشباب غرورا لم يكن بين صفات أبيه. إن أعداءك لم يناموا عنك طرفة عين يا أبا الوليد، وكأني بابن عبدوس وابن المكري يجمعان اليوم رأسيهما في دسيسة تعود بك إلى السجن. أو تلقي بك في مهاوي الحتوف، فليس من الهين عليهما أن تبعث من القبر المظلم الذي قذفاك فيه سليما ناشطا، تنفض عن أثوابك التراب في مرح وغبطة. وليس من الهين عليهما أن يرياك وقد عدت إلى مكانتك عند الأمير تأمر وتنهي، وتقاد إليك النجائب، وتسير بك المواكب. وليس من الهين عليهما أن تتألق عبقريتك بدار الحكم فيفضح ضوؤها تلك القناديل المريضة، والسرج الخافتة. ثم ابتسمت في استحياء وقالت: ثم إنه ليس من الهين عليهما أن ينتصر الحب على الدسائس، وأن يجمع الله شتيتين لم يكن لهما في الحياة من مأرب إلا أن يفرقاهما. لقد انتهينا من عائشة بنت غالب، وطواها السجن كما يطوي الخضم أشلاء الغريق، وكانت خصما لدودا، وعدوا مثابرا، وكان لها من الدهاء ما لا تنفع معه الرقى، ولا يفيد الحذر، ولكن لا يزال لك بين جنبات قرطبة أعداء وحساد لا يقلون عن عائشة مكرا ومحالا. ولقد كنت فيما مضى يا أبا الوليد جريئا غير هياب، سريعا إلى الثقة بمن حولك، قليل الاعتداد بما يكون وراء الكلام من عواقب، فكبا بك الجواد دون الشوط، ووقفت بك العجلة إلى المجد دون الغاية، وهوت بك التمائم إلى هاوية بعيدة القرار، وأريدك اليوم أن تكون أشد حذرا، وأكثر صمتا، وأبعد عن قرناء السوء، وأقوى على الأيام تجربة ومراسا.
إن الفتن في قرطبة في تأجج واضطرام، فدعنا نكن حولها من المشاهدين دون أن نكون لها حطبا، وإذا كان لك رأي فيما يجب أن يكون عليه الحكم فبالله عليك دعه الآن ، وهلم بنا إلى حياة هادئة حلوة المجتنى، يرف فوقها جناحان من أمن وسكينة.
فنظر إليها ابن زيدون نظرة ساهمة حزينة وقال: ومن الذي يراك يا سيدتي ولا يختطفك ليفر بك إلى قمة جبل بعيد عن دسائس البشر ونمائمهم؟ إن للعيش في ظلالك معنى ليس في جنات النعيم، ولكن ماذا أفعل يا سيدتي في نفس جموح طموح لا يلين لها زمام، ولا تذل لقائد؟ لقد خلقت للمجد ولعظائم الأمور، فإذا ثارت نفسي إلى مطلب ركبت إليه أسنة الرماح، ولم أبال بما يملأ طريقي من أشراك وحبائل، وسخرت من الكاشحين، وغبرت في وجوه الحاسدين، وإن شيئا واحدا هو الذي يغض من جماحي، ويخفف من غلوائي. أتعرفين ما هو؟
فابتسمت ولادة وقالت: أعرف. وإني أستحلفك بحق هذا الحب أن تطامن من نفسك قليلا، وأن تتركنا نعيش في سلامة وهدوء بال زوجين سعيدين. اهجر هذه المطامح البعيدة أبا الوليد التي ستوردنا موارد التلف. - إلا مطمحي الأسمى، فإني سأعمل له أو أموت دونه، ولن أستحق أن أكون بعلا لأكرم نساء قرطبة إلا إذا ظفرت به يدي. - أي مطمح؟ - أن أعيد الدولة العربية بالأندلس إلى سالف مجدها أيام عبد الرحمن الداخل والناصر والمنصور بن أبي عامر. يجب أن يتحد العرب، ويجب أن تجمعهم عروة لا تنفصم، ويجب أن تتجمع دويلات الأندلس في دولة عربية موحدة يخفق فوقها علم واحد يصور وحدة الكلمة، ووحدة القوة، ووحدة الغاية. فلقد قالوا قديما، وكان قولهم حقا: إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. أتعرفين يا سيدتي أننا لم ينفعنا إلا تفرق كلمة ملوك الإفرنجة، وهم ولله الحمد على نعمائه دائما في شجار وشقاق وتنافس، ولولا ذلك ما كنت بجانبك اليوم في مدينة قرطبة، وربما كنا نكون تائهين في صحراء مراكش، نحسد رعاة الإبل على ما منحهم الله من دار ووطن. ولكن عراك الإفرنجة لن يطول، وسوف يدفعهم حب الغلب، ويحفزهم طلب الثأر إلى توحيد الكلمة ونسيان الأحقاد والوثوب على العرب من كل مكان، فإذا لم نأخذ الأهبة للهجمة الكبرى، ونعد العدة للداهية العظمى، ذهب كل شيء من أيدينا. فتنهدت ولادة وقالت: لن تجد اليوم من أبناء الخلائف من أمية من يعيد لك أيام الناصر، ولن تجد بين الأمراء من يعيد لك أيام الناصر، وهذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، ذلك بأن ينبع من أرض الأندلس رجل له عزيمة عبد الرحمن الداخل وصرامته وعبقريته، فيجمع الأواصر، ويوحد الكلمة، ويستميل القلوب، ويرد الدعاة المتهافتين على الحكم إلى أجحارهم. ولكن أين هذا الرجل الآن يا أبا الوليد بعد أن أقفرت الأندلس من الرجال؟
فأطرق ابن زيدون ثم رفع رأسه وقال: بعد أن مات ابن المرتضى فليس لي أمل إلا في رجل واحد، ولكنه أمل ضعيف خائر. - من هو؟ - إني أنظر إلى أشبيلية. - إلى بني عباد؟ - ربما. - إنهم طبل أجوف. - ولكنهم خير الشر. - أفي الشر خيار؟ - نعم إذا أجدب الزمان، وقلت الأعوان. وبينما هما في الحديث إذ دخلت نائلة فقبلت ابن زيدون في جبينه فعل الأم الرءوم، وانطلقت على طريقتها في سيل من الحديث لم يترك كلمة لقائل. ثم صاحت: أسمعتما بالنبأ العجيب؟ فقالت ولادة: هاتي يا جهينة الأخبار هاتي. - لقد ولى أبو الوليد بن جهور صفيه وخليله ابن السقاء الإشراف على شئون الدولة، وجمع في يديه كل أزمة المملكة، يصرفها كيف شاء.
فصاح ابن زيدون: هذا أول البلاء ونذير الزوال، إن ابن السقاء رجل واسع مدى العقل، كبير الآمال، ولكن كبار العقول بعيدي الآمال كثيرا ما يكونون خطرا على الدولة. إنه رجل متسلق هجام بعيد الحيلة، لا يتعفف عن جريمة إذا كان يصل بها إلى غايته. إنه يقطع اليد التي امتدت لمعونته بعد أن ينال منها مأربه.
فقالت نائلة: لا تبالغ يا أبا الوليد. - ستعلمين نبأه بعد حين. - إنه أرسله اليوم للسفارة بينه وبين ابن عباد. - ثعلب يلتقي بذئب! - ومن الفريسة؟ - قرطبة المسكينة. - لا تكن متطيرا، فالدنيا لا تزال بخير. ثم هرولت إلى الباب وهي تتجه نحو ولادة وتقول: الدنيا بخير مادام فيها حب وأمل.
وعاش ابن زيدون في كنف أبي الوليد بن جهور أول الأمر هانئا سعيدا، وعاد إليه ما كان من نفوذ وعلو مكانة، وكان يجمعهما المساء في ندوة ولادة بين أخدان من الشعراء والأدباء، فيطوون الليل بين سمر وطرب وفكاهة.
وترامت الأيام، وكرت الليالي، وأخذ شغف ابن جهور بابن زيدون يهدأ قليلا ويعدو عليه السأم ويصيبه الملال. واستمر أعداء ابن زيدون يرسلون الأخلوقة إثر الأخلوقة، والنمة وراء النمة، وكانوا من اللباقة في الكذب والبراعة في الدس بحيث ينقلون الخطا فيما هموا به من الفساد وئيدة وئيدة، حتى لا يشعر من يسعون عنده بأنهم يتغفلونه أو يستغلون ثقته.
بعث ابن جهور ابن زيدون للسفارة بينه وبين إدريس الحسني بمالقة، فأحتفى به الحسني مقدرا عظيم منزلته ورفيع أدبه، وأنزله خير منزل، وأجزل له الصلات، وأجرى عليه من الخدمة ما لم يجره قبله على عظيم. ثم أنس بمجلسه، وشغف بالاستماع إلى أدبه، وفتن بروائع أخباره وبدائع نوادره، وألح في أن يطيل ثواءه عنده، وتمنى لو جعل مالقة دار إقامته، واختار من مناصبها أعلاها قدرا وأبعدها نفوذا، فمالت نفس ابن زيدون إليه، وهفت إلى كريم وعوده، وذكر أعداءه بقرطبة، وذكر دالة ابن جهور عليه، وذكر أنه يعيش في كنفه كما يعيش راكب البحر، لا يفتأ في خوف وحذر وإن سكنت الريح وصحت السماء. ولكنه ذكر أيضا ولادة، وذكر أن العيش بدونها لا يطيب، فنفض عنه الرغبة في البقاء، ورأى أن قرطبة جنة نعيمة وإن حفت بالنار من كل جانب.
ولما طالت إقامته بمالقة دخل ابن عبدوس وابن المكري على ابن جهور ذات صباح، فقال ابن عبدوس: هل وصل إلى سمع مولاي أن ابن زيدون عزم آخر الأمر على الإقامة بمالقة؟ - لا. وكيف يتاح لوزير في دولة أن يكون في خدمة دولة أخرى تنافسها وتضمر لها العداء؟
فقال ابن المكري: إنه يا مولاي قد يسدي إلى قرطبة من الخدم وهو بمالقة ما لا يستطيعه هنا. - إن القائد الحذر لا يبتعد عن ميدانه. ولقد سقطت علينا أخبار من مالقة تدل على أن الرجل ألقى زمامه للحسني يصرفه كيف يشاء.
فقال ابن عبدوس: علمت أنه يعمل معه على إعادة قرطبة لبني الحسن بن علي.
فظهر الغضب على وجه ابن جهور وقال: لا يا أبا عامر إنه لن يتدلى إلى هذا الدرك، ولن يستطيع أعدى أعدائه أن يقول إنه يفرط مثقال خردلة في وطنه الذي يفديه بروحه. إن ابن زيدون إذا جرد من كل صفة من صفات الرجولة والكرامة، فلن يستطيع أحد أن يرميه بخيانة وطنه. ثم إنه لا يجهل ما أصاب قرطبة على أيدي الحسنيين من كوارث وفتن حاطمة، ولن ينسى أهل قرطبة تلك السنين السبع الشداد التي دمر فيها الحسنيون قصور الزهراء، وفتكوا بالناس، ونهبوا كل شيء، وسلطوا البربر فانبسطوا في قرطبة يقتلون ويأسرون، إلى أن أنقذ أبي البلاد من شرهم، ورد الأمر إلى بني أمية. لا يا ابن عبدوس، إن أبا الوليد لا يبيع بلاده لأحد، فكيف يبيعها لهؤلاء المردة الطغاة؟
فقال ابن المكري: كنت أعتقد كل هذا يا سيدي، ولكن الأخبار التي تحملها إلينا ريح مالقة زلزلت يقيني، ووضعت مكانه حيرة وشكوكا. وإني أرى أن يتحصن مولاي بسوء الظن، فإنه أسلم عاقبة وأدنى إلى الحيطة والحذر. - أي حيطة وأي حذر؟ إن الرجل من هذه الناحية فوق مطار الظنون.
فأسرع ابن عبدوس وقال مبتسما: إن القلوب تتقلب يا سيدي، والطموح والآمال الكاذبة قد تعصف بالمرء فتخدعه عن نفسه، وتزعم له أن الخير لا ينال إلا بالشر، وأن الحق لا يمشي إلا على قدمين من الباطل، وإلا فلماذا كلما قابلت ابن ذكوان أو ثابتا الغافقي أو عمارا الباجي، وهؤلاء حملة رسالته وموطن أسراره، تسللوا لواذا،
2
وصرفوا وجوههم عني في خوف الجبان وحذر اللئيم لماذا كلما سألت أحدهم عن ابن زيدون وعن طول غيبته بمالقة تردد وتلعثم واصفر وجهه وبلع ريقه وأدركه البهر؟
3
لا يا مولاي، إن ترك النار تدب في الهشيم تهاون واستهداف للخطر، وإن السكوت على الجريمة جريمة.
وأسرع ابن المكري فقال: لقد علمت أنه بعث برسالة إلى خادمه علي أمره فيها أن يلحق به بمالقة مع عبيدة وأهل بيته، ولكني غير واثق بهذا الخبر.
فتحرك ابن جهور في مجلسه، وقد بدا على وجهه القلق، وطلب من رئيس كتابه أن يبعث رسالة إلى ابن زيدون يستعجل قفوله، ويصرفه عن السفارة.
وقفل ابن زيدون إلى قرطبة حزينا كاسف البال، لأنه علم أن الحيات بقرطبة عادت تهز رءوسها، وأن عناصر الشر التي خمدت حينا أخذت تتجمع من جديد لتفعل أفاعيلها، وأنه أصبح بقرطبة بين فكي أسد لا يبعد أن يحلو له يوما أن يحرك ماضغيه.
عاد ابن زيدون إلى قرطبة، وقابل ابن جهور فعتب عليه عتبا خفيف المس خفي الإشارة، تتخلله الأفاكيه، وتخفف من وقعه البسمات، فخرج من لدنه وهو يعلم أن ابتساماته أشبه بالبروق التي تسبق الصواعق، وأن وراء هذا اللطف أحابيل تنصب، وقضاء يدبر. وقابل ولادة ونائلة ونفض إليهما جلية أمره، وما يجيش بصدره من مخاوف، ثم أخرج من جيبه رسالة بعث بها إليه المعتضد بن عباد يدعوه فيها إلى حضرته بإشبيلية، ويعده بأرفع المناصب وأسمى المراتب.
فقالت نائلة: إن ابن عباد داهية ماكر، وأخشى أن يتخذ منك أحبولة لمآربه.
فقالت ولادة: وما مآربه يا ترى؟ - أن ينال قرطبة. إنه مجنون بشيء يسمى قرطبة. أتعلمين أنه قتل بيديه ابنه إسماعيل، لأنه دعاه إلى غزو قرطبة فتردد واعتذر لقلة الرجال والعتاد؟ - إنه قتله حينما قبض عليه وهو يتآمر مع طائفة من الجند على قتله. - ولم تآمر على قتله يا فتاة؟ تآمر على قتله لأنه عرف أنه بعد أن أبى أن يغزو له قرطبة مقتول لا محالة.
وقال ابن زيدون: وما عيب الرجل إذا أراد امتلاك قرطبة؟ إنه أقوى أمراء الأندلس وهو قمين بأن يملك جميع ولاياتها ويجعل منها دولة تهابها الإفرنجة ويخشى بأسها شذاذ العرب والبربر. إن هذا الرجل لا يبرح من بالي كلما خطرت به فكرة جمع كلمة العرب.
فجعلت نائلة تقول: لا تبث هذا السر لأحد، وإلا عدنا إلى مصائب الأغلال والسجون. ثم ضحكت وقالت: ولسنا نستطيع أن نغري مخلفا بأكل الفالوذج في كل مرة!
وانفض المجلس، وأقام ابن زيدون شهرا يهيئ فيه لفراره، وعزمت ولادة ونائلة أن تلحقا به بإشبيلية.
وفي إحدى الليالي انطلق ابن زيدون نحو إشبيلية بجواده في خوف وتوجس كما ينطلق السهم، ولفه الليل كأنه طيف نائم، أو خيال شاعر.
وأصبحت المدينة ولا حديث لها إلا فرار ابن زيدون، والتقى ابن عبدوس بابن المكري آسفين فرحين، لأنهما كانا يريدان القضاء عليه والتنكيل به، ولكنهما رضيا آخر الأمر بأن انفسح أمامهما الطريق وخلا لهما الميدان. وأرسل ابن جهور جنوده حول قرطبة للبحث عنه والقبض عليه ولو غاص في الماء، أو طار في الهواء، ولكنهم لم يجدوا له أثرا بعد أن سلكوا كل مسلك، وقلبوا للبحث عنه كل حجر.
ومضت أشهر أوشك فيها الناس أن ينسوا فرار ابن زيدون، فأزمعت ولادة ونائلة الرحيل إلى إشبيلية، ولكن جواسيس ابن عبدوس أوصلوا إليه الخبر فنقله إلى ابن جهور وأغراه بمنعهما من السفر، فأرسل إليهما صاحب المدينة ينذرهما بسوء العاقبة إذا غادرتا قرطبة، ووضع حول داريهما الأرصاد والعيون.
الفصل الرابع عشر
بلغ ابن زيدون إشبيلية بعد أيام، وكانت في ذلك العهد من أعظم مدن الدنيا بهجة ورواء وطيب أرض واعتدال جو واتساع رقعة، وهي على الضفة اليسرى من الوادي الكبير الذي يصعد المد فيه كل يوم نحو اثنين وسبعين ميلا، فيسقي الرياض والحدائق، ثم ينحسر
1
عنها كما ينحسر السحاب في الليلة المزهرة عن صفحة السماء. وبها جبل الشرف، وهو أحمر التربة، يمتد من الشمال إلى الجنوب نحو أربعين ميلا، لا تكاد تسقط أشعة الشمس على بقعة من أرضه، لالتفاف أشجار الزيتون والتين به.
وبإشبيلية أسواق قائمة، وتجارات رابحة، وقصور سامقة، وبساتين ناضرة. وبأهلها يضرب المثل في الخلاعة والترف والمجون حتى قيل: إنه كلما مات عالم بإشبيلية حملت كتبه لتباع بقرطبة، وكلما مات مطرب بقرطبة حملت آلاته لتباع بإشبيلية.
ما بلغ ابن زيدون المدينة حتى قصد لتوه قصر المعتضد، وهو قصر فخم يطل على النهر، فسيح الأرجاء سامق البناء، كأن لقبابه حديثا لا ينقطع مع السماء. وخير لنا ألا يجرؤ قلمنا على وصفه، فإنه يكفي أن نقول: إنه قصر بني عباد، وبنو عباد هؤلاء خلقوا وفي دمهم الانفراد بالعظمة، والغيرة من أن يسبقهم في فخامة الملك وجلالة السلطان سابق، ثم إن من طبائعهم السرف والافتنان في النعيم والتمتع بلذائذ الحياة.
استأذن ابن زيدون على المعتضد، وكان يجلس في قاعته الكبرى التي يستقبل فيها الوزراء والسفراء وكبار رجال الدولة، فلم يصل إلى حضرته إلا بعد جهد ولأي، فقد أخذ يتلقفه عبد أسود، ليسلمه إلى خادم صقلبي ليسير به إلى بعض كبار القصر، ثم إلى ذي الوزارتين أبي علي بن جبلة، كأنه كرة يقذف بها لاعب للاعب. وحينما رآه ابن جبلة رحب به وعانقه وأظهر له من الود والحفاوة ما يرتاح لهما قلب الكريم. ثم دخل به إلى المعتضد وكان جالسا على كرسي عال تحيط به الوسائد، ويقوم إلى جانبيه عن يمين وشمال عبدان لا يكاد الناظر يرى منهما إلا لهيب عينيهما لكثرة ما تدججا به من سلاح.
وكان المعتضد في نحو الخامسة والأربعين، مديد القامة جهم الوجه، براق العينين، يكاد سنا برقهما يذهب بالأبصار. وكان على كبريائه وغروره داهية حاد الذكاء، باقعة في السياسة، شديد البطش جبارا. كان أسدا يفترس وهو رابض، وثعلبا يعرف متى يثب ومتى يفر، وكان كثير الأطماع بعيد منال الآمال، لا يكاد يستقر له سيف في غمد، أو يلقي عن جواد له لجام، فهو دائما مع من حوله من الوزراء في صدام وعراك وحرب ضروس.
دخل ابن زيدون فحياه الأمير في عظمة الملوك وسطوة الجبابرة، وتصدق عليه بابتسامة ذابلة، وكلمات هادئة في الترحيب بمقدمه، وكأن ناطق حاله كان يقول: هذا كل ما أستطيع أن أتبسط فيه مع مثلك، فاحمد الله عليه، فإني لا أجود به على أحد. وأخرج ابن زيدون من كمه قصيدة كان أعدها لمدحه في الطريق جاء فيها:
للحب في تلك القباب مراد
لو ساعف الكلف المشوق مراد
من مبلغ عني الأحبة إذ أبت
ذكراهم أن يطمئن مهاد؟
إن أغترب، فمواقع الكرم الذي
في الغرب شمت بروقه، أرتاد
أو أنأ عن صيد الملوك بجانبي
فهم العبيد مليكهم عباد
المجد عذر في الفراق لمن نأى
ليرى المصانع منه كيف تشاد
في آل عباد حططت فأعصمت
هممي بحيث أنافت الأطواد
أهل المناذرة الذين هم الربا
فوق الملوك، إذا الملوك وهاد
بيت تود الشهب في أفلاكها
لو أنها لبنائه أوتاد
نفسي فداؤك أيها الملك الذي
زهر النجوم لوجهه حساد!
تبدو عليك من الوسامة حلة
يهفو إليها بالنفوس وداد
لم تشف منك العين أول نظرة
لولا المهابة راجعت تزداد
فلئن فخرت بما بلغت لقل لي
ألا يكون من النجوم عتاد
مهما امتدحت سواك قبل فإنما
مدحي إلى مدحي لك استطراد
فاهتز المعتضد للمديح وزاد في الثناء عليه والترحيب به، وخلع عليه منصب الوزارة، وأمر ابن جبلة أن يهيء له دارا تليق بمنزلته، وأن يعد له بها من الخدم والعبيد ما يوائم جلال منصبه.
وعاش ابن زيدون في كنف المعتضد عظيم الجاه مسموع الكلمة نافذ الرأي، وأخذ إقبال الأمير عليه ورعاؤه له يزداد مع الأيام شيئا فشيئا كلما ظهر نبوغه في حل المعضلات، وبدا مضاؤه في تصريف الأمور.
وتحدثت حسان المدينة بقدوم ابن زيدون، وودت كل ذات وجه صبيح أن تسعد بأبيات من غزله تباهي بها صويحباتها، وتدل بها على خطابها، فقد سبقه إلى إشبيلية شعره في ولادة، فرددته جنباتها، وأنشده المنشدون، وغنى به المغنون، ولكن شاعرنا جاوز الآن مرحلة الشباب، وعرى أفراس الصبا ورواحله، ولم يعد بقلبه متسع لنزيل جديد بعد أن شغله حب ولادة ولم يترك في إحدى زواياه مكانا خاليا. لم ينس ابن زيدون عهد ولادة ولم يزده تنائي الديار إلا شغفا بها، وهياما بذكراها وكان إذا طواه الليل وقف بنافذة داره، ولمح البارق المؤتلق في شمال الأفق وتلقى الريح السارية من نحو قرطبة بليلة شذية، فهاجت بلابله، وثارت شاعريته فقال:
أضحى التنائي بديلا من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
إن الزمان الذي ما زال يضحكنا
أنسا بقربهم قد عاد يبكينا
غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا
بأن نغص فقال الدهر آمينا
فانحل ما كان معقودا بأنفسنا
وانبت ما كان موصولا بأيدينا
وقد نكون وما يخشى تفرقنا
فاليوم نحن وما يرجى تلاقينا
لم نعتقد بعدكم إلا الوفاء لكم
رأيا، ولم نتقلد غيره دينا
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا
شوقا إليكم، ولا جفت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا
يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت
سودا، وكانت بكم بيضا ليالينا
إذ جانب العيش طلق من تآلفنا
ومرتع اللهو صاف من تصافينا
ليسق عهدكم عهد السرور فما
كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
والله ما طلبت أهواؤنا بدلا
منكم، ولا انصرفت عنكم أمانينا
يا ساري البرق غاد القصر واسق به
من كان صرف الهوى والود يسقينا
ربيب ملك كأن الله أنشأه
مسكا، وقدر إنشاء الورى طينا
يا روضة طالما أجنت لواحظنا
وردا، جلاه الصبا غضا ونسرينا
ويا حياة تملينا بزهرتها
في وشى نعمى سحبنا ذيله حينا
لسنا نسميك إجلالا وتكرمة
فقدرك المعتلى عن ذاك يغنينا
وأظله عيد الأضحى وهو بعيد عن مغاني هواه وملاعب صباه، فتوالت عليه الذكريات، وزاد به الحنين، واستبد به الشوق، فردد في همهمة الحزين، وترنيم الطائر السجين:
خليلي لا فطر يسر ولا أضحى
فما حال من أمسى مشوقا كما أضحى؟
ألا هل إلى الزهراء أوبة نازح
تقضى تنائيها مدامعه نزحا
محل ارتياح يذكر الخلد طيبه
إذا عز أن يصدى الفتى فيه أو يضحى
وحمل إليه البريد خبر موت نائلة فذهبت نفسه عليها حسرات، وتقطعت زفرات، وبكى فيها الوفاء والحنان والحب السماوي النقي الطاهر وأنشد:
لرزئك تنهل الدموع فمثله
إذا حل ود القلب لو كان مدمعا
لقد أجهش الإخلاص بالأمس باكيا
عليك كما حن الوفاء فرجعا
ودنيا وجدنا العيش في غفلاتها
طريقا إلى ورد المنية مهيعا
نعلل فيها بالمنى فتغرنا
بوارق ليس الآل فيها بأخدعا
وكانت الرسل بينه وبين ولادة لا ينقطع لها مجيء وذهاب، كأنها وشيعة الحائك لا تكاد تلتقي بيمينه حتى تعود إلى شماله، ولكن ماذا تعمل الرسل، وماذا تجدي الرسائل، وحبيبته حبيسة عند ابن جهور، ربيطة بقرطبة، لا تستطيع منها فكاكا؟ قاتل الله ابن جهور! ولعن الله الأيام السود التي نصبته عميدا للجماعة وسيدا مطاعا بين ساداتها وكبرائها! لقد بذل نفسه في خدمته فما أجدى، وخلع عليه من المديح أثوابا يبلى الدهر ولا تبلى، ثم يجيء آخر الأمر فيحول بينه وبين ريحانة حياته وخاتمة آماله.
بني جهور أحرقتم بجفائكم
حياتي ولكن المدائح تعبق
تعدونني كالعنبر الورد إنما
تطيب لكم أنفاسه حين يحرق
وطالما همت ولاده باللحاق به بإشبيلية تحت ستار الليل، فكان ابن عبدوس يفشي سر مؤامرتها، ويحول بينها وبين السفر.
عاش ابن زيدون بإشبيلية سنوات قلق النفس مضطرب الخاطر، لم ترتح نفسه للمعتضد وإن أغدق عليه، ولم يطمئن له قلبه وإن توالت مواهبه، لأنه كان من الصنف الذي يعطي من غير أريحية، ويبتسم من غير حب، ويسأل عنك من غير شوق، ويجاملك في غير مودة. صنف تشعر وأنت تجالسه بأنك تحت كابوس مخيف لأنه يراك دونه، ويريد أن يكون لطيفا، ويريد أن يكون ظريفا، ولكن شتان بين الخلق والتخلق، وشتان بين الروح الخفيفة المرحة والروح التي تريد أن تكون خفيفة وتريد أن تكون مرحة. ومثل هذا الصنف قد يمدحك وقد يثني عليك، ولكن مديحه يطن في أذنك كما يطن مديح السيد لعبده، وقد يطرح معك الكلفة، ويتبسط في الحديث، ولكنه يحرص دائما على أن يشعرك في غضون كل هذا أنه إنما يتصدق عليك بتواضعه، ويتخذ منك وسيلة للاستراحة من عظمته التي ضاق بها صدره.
لكل هذا أبى ابن زيدون أن يعرض على المعتضد أمنيته التي لاقى في سبيلها عذاب الهون وآلام الحبس والتشريد. أبى أن يدعوه إلى توحيد دويلات العرب بالأندلس لأنه رأى فيه جبارا يضع السيف في موضع الندى، ومتكبرا صلفا لا يدين إلا بسياسة العنف والجبروت، لذلك كتم سره في صدره، ولم يومئ به لأحد لا في صراحة ولا في تلويح. ولم يكن له من سلوى في غربته إلا في محمد بن عباد ولي عهد المملكة، فقد كان شابا طموحا، تزدحم نفسه بالآمال الكبار، وكان إلى بطولته الكامنة مرحا مولعا باللهو والشراب، وكانت له مجالس يجتمع بها ابن زيدون وابن عمار وابن مرتين، وكانت هذه المجالس صورة من العبث الأندلسي الذي قضى على دولة العرب، وأمات في شبانها النخوة والإقدام وصدق العزيمة.
ومرت الأيام، وتعاقبت السنوات، فلحق المعتضد بربه، وشغلت الرهبة منه قلوب الناس عن الحزن عليه، وأكد ابن زيدون قريحته فبضت له بأبيات سقيمة في رثائه. وخلف المعتمد أباه، واستوى على عرش إشبيلية، فاستبشر الناس وتمنوا على الله لو صدقت فيه المخايل. وكان أديبا شاعرا فأقبل على ابن زيدون ووالى عليه نعمه، فملأ قلوب حاسديه عليه حقدا، وتألب عليه نفر كان يحمل لواءهم ابن عمار وابن مرتين، فما برحوا يدسون له عند المعتمد حتى إنهم زينوا لمغنيته «صبح» أن تغنيه:
يأيها الملك العلي الأعظم
اقطع وريدى كل باغ يلؤم
واحسم بسيفك كل داء منافق
يبدي الجميل وضد ذلك يكتم
فبدأ الغضب على وجه المعتمد وصاح بابن عمار: ماذا تقصد هذه الجارية؟
فابتسم ابن عمار في خبث ودهاء وقال: لا أدري يا مولاي من تقصد على التحقيق، ولكنها تردد صدى ما تتحدث به المجالس والأندية بأشبيلية. - وبأي شيء تتحدث هذه الأندية؟ - اعفني يا مولاي فقد يكون حديثها عن أقرب الناس إليك، وأحظاهم عندك. - من هو؟ صرح وإلا سبق كلمتي إليك سيفي! - هو ابن زيدون يا مولاي. - ابن زيدون؟ - نعم يا مولاي، فإنهم ينسبون إليه بيتين قالهما عندما بلغه نعي مولاي المعتضد. - ما هما؟ - يقولون إنه قال:
لقد سرني أن النعي موكل
بطاغية قد حم منه حمام
تجنب صوب الغيث قبرك جافيا
ومرت عليه المزن وهي جهام
فقهقه المعتمد في سخرية واستخفاف وصاح: الآن عرفت سخف النمائم وما يمكن أن تنفثه سموم الوشايات! هذان البيتان قلتهما أنا حينما علمت بموت ابن ذي النون صاحب طليطلة، وابن زيدون بريء منهما كبراءتي من كل أعدائه ومنافسيه.
وعلم ابن زيدون بالخبر فنظم قصيدة بارعة يمدح بها المعتمد ويندد بحساده منها:
قل للبغاة المنبضين قسيهم
سترون من تصميه تلك الأسهم!
ما كان حلم محمد ليحيله
عن عهده دغل الضمير مذمم
وزادت منزلة ابن زيدون عند المعتمد علاء ورفعة، فاهتبل فرصة خلوته به ليلة، وأخذ يحضه في إغراء واستهواء على أن يعيد لدولة العرب مجدها، ويجدد شبابها، ويذكره بما كان لها من الحول والصول، ثم يعود إلى ذكر ما ارتكست فيه من الضعف بعد أن فصمت عروتها، ثم يصيح في ألم وحسرة: انظر يا مولاي إلى هؤلاء الذين سموا أنفسهم أمراء وحدثني بحقك عمن تراه منهم جديرا بالرياسة. ابن هود ذلك الغادر؟ أم ابن الأفطس الذي يقضي ليله ونهاره في اللهو والطرب؟ أم ابن ذي النون الذي أصبح سيفا في يد ملك الأسبان؟ أم ابن باديس البربري الجاهل؟ من من هؤلاء يا مولاي يصلح لقيادة العرب وتوحيد الكلمة؟ لم يبق إلا أنت لرأب
2
الصدع وجمع الشمل، فاحمل العبء ثقيلا لتكتب في سجل العظماء، وليدوي ذكرك في أجواء التاريخ كل صباح ومساء. ثم إنك لم تكن دخيلا في الملك، ولا لصيقا في الرياسة، وإنك لخمي يا مولاي، إنك من بني المنذر بن ماء السماء ملك العرب وسيد سادتها.
كان المعتمد يصغي وغرائز العظمة تتوثب في نفسه، فمال على ابن زيدون وقال: وما الطريق إلى هذه القمة الشامخة وهذا الأمل البعيد؟ - الطريق يا مولاي أن تستولي على قرطبة أولا وأن تجعلها قصبة ملكك، ثم تغير منها على هذه الدويلات واحدة في إثر واحدة، والنصر يا مولاي يجلب النصر، والرعب إذا استولى على قلوب أعدائك سجن سيوفهم في أغمادها. - إن قرطبة الآن في يد هذا الطاغية الفاجر حريز بن عكاشة، فقد استولى عليها بعد أن رحل عنها المأمون بن ذي النون بجنوده، وقد علمت أن عبد الملك بن جهور يقاسي الآن من ابن عكاشة ما هو شر من الموت وأنكى من الذل والإسار. - نعم يا مولاي والرأي أن يتقدم مولاي بجيشه إلى قرطبة، وأن يذيع قبل مقدمه أنه إنما يزحف لإنقاذها من ابن عكاشة وإعادتها إلى عبد الملك بن جهور، ولا بد أن يكون لمولاي بين وزراء قرطبة وعظمائها من يمهدون لهذه الحيلة حتى لا يجد الجيش من القرطبيين مقاومة أو دفعا. - إن رجلنا هناك الوزير ابن السقاء، وهو أخلص الناس لنا وأحرصهم على خدمتنا. - حسن يا مولاي، فلنبعث إليه رسولا الليلة، ولنعد الجيش في أيام لننقض به على قرطبة.
واقتنع المعتمد بالرأي، وسار الرسول، وأعد الجيش وكان في مقدمته المعتمد وابن زيدون، وبلغ الجنود أسوار قرطبة فدخلوها وقد فتحت أمامهم الأبواب، وذللت لهم السبل، وقتل المعتمد ابن عكاشة وأباد جيشه، وظن عبد الملك أن الأمر انتهى عند هذا الحد، وأن المعتمد سيعود بجيشه إلى إشبيلية، ولكن المعتمد لم يفعل شيئا من هذا، بل قبض على عبد الملك وعلى إخوته وسائر أهل بيته وأودعهم غيابات السجون.
وسر ابن زيدون بلقاء ولادة، فبكيا معا من شدة سرورهما باللقاء، وبكيا معا لأن نائلة لم تكن معهما بعد أن عادت إليهما الأيام.
التقى ابن زيدون بولادة ولكن بعد أن فات الفوت، وذهبت بشبابه السنون، ولوت قناته كوارث الأيام، ونيفت سنه على الثامنة والستين. فكان كالمتمني أن يرى فلقا من الصباح، فلما أن رآه عمي عاد ابن زيدون إلى قرطبة، ولكن لم يعد إليه هناء قرطبة وطيب أيام قرطبة، فقد لبث أشهرا يعاني آلام الأمراض وآلام الخيبة، لأنه رأى بعد طول التجربة أن المعتمد لا يصلح لما كان يرجى منه من خطيرات الأمور.
واشتد في إحدى الليالي به المرض، فجلست ولادة حول سريره باكية نادبة، وهو يجود بنفسه، ويلفظ أنفاسا قصارا كأنها خفقات السراج آخر الليل، ويردد:
ألم يأن أن يبكي الغمام على مثلي
ويطلب ثأري البرق منصلت النصل
وهلا أقامت أنجم الليل مأتما
لتندب في الآفاق ما ضاع من فضلي
وما زال يكرر البيتين حتى أدركته غشية أوردته الردى، ولم تجعل ليومه غدا.
Bilinmeyen sayfa