وقبل شروق شمس اليوم التالي تطفح في الجو رائحة المش وقد فتحت أوانيه، وبين الحين والحين تسمع خشخشة بصلة تتكسر وهمهمات وصرخات بنت لم تجد زوادتها، وأصوات خيزرانة الريس، وهي تدق على قفة أحدهم دقا ملحا متواصلا يستعجل به إنهاء الطعام والمسير، ولا يلبث الدق أن ينتقل من القفف إلى الأقفية والأجساد، ولكنه أيضا لا يتعدى الدق، ثم يصرخ الريس، وحينئذ تقوم الترحيلة في كتلة ضخمة غامقة اللون، لا تلبث أن تتبعها مفردات متناثرة، ويكون موكبهم أول من يضع أقدامهم فوق المشاية التي ختمها الندى، وتشرق الشمس وكل منهم قد تسلم خطا، ولا بد ظهر كل منهم محني وعيناه على اللطعة.
وقبل كل غروب يزدحم دكان جنيدي «أبو» خلف وهو الدكان الوحيد في العزبة الكبيرة، يزدحم بالأطباق الفخار والأيدي الجافة الممدودة والأصوات التي جرحتها عيدان القطن، وهي تطلب في إلحاح وبلهجتها الغرباوية المعووجة، بتلاتة ميلم زيت، بميلم ملح، بربع قرش عسل، بتعريفة دفتر بافرة، ويسب جنيدي الغرابوة واليوم الذي جاءوا فيه ولكنه يبيع، ويلعن آباءهم ويبيع، وتتكوم في درجه المزيت ملاليمهم الصدئة ونكلهم، كلها ملاليم ونكل، وأكبر قطعة فئة عشرة مليمات، وفي الغروب تماما وقبل أن تظلم الدنيا، تختلط خلف الإصطبل رائحة الزيت المقدوح برائحة السمك الصغير المشوي برائحة الجبنة القديمة والعدس والبصل والصابون الفنيك، تختلط الروائح في مزيج نافذ غريب مكونة رائحة خاصة، من شدة دلالتها ونفاذها يسميها الفلاحون رائحة الترحيلة. تتصاعد الروائح وتفتح البلاليص، ويوضع كل ما استطاعت اليد انتزاعه من الغيط، فجل أو سريس أو جلاوين أو خنشير، وتحشى البطون بكل هذا كما تحشى الأجولة بالقش، بينما الصمت يسود المكان، صمت لا يسمع خلاله إلا أصوات التشدق بلقم العيش، وأصوات بعيدة لملاعق قليلة تصطدم بالأواني النحاسية وتقتلع منها ما التصق بقاعها من حبات أرز.
وتحمل الريح الضجة والرائحة إلى العزبة الكبيرة وقاطنيها، فتنطلق النكات وتتصاعد القهقهات ويزداد الناس إيمانا بأنهم - حقا وصدقا - نفاية بشرية منحطة، أولئك الناس الذين يدعونهم الترحيلة. •••
طمس فكري أفندي الدائرة التي كان قد رسمها بعصاه على تراب الأرض، ووضع في وسطها نقطة وأخرج منها خطوطا إلى محيط الدائرة، بل دار بقدميه عليها حتى لم يبق منها سوى النقطة وقد خرجت منها خطوط مبتورة، لم تكن لديه خطة واضحة، فحتى مع افتراض أنه قد حدد أن الفاعلة من الغرابوة، فماذا يمكنه أن يفعل ليعثر عليها؟ مضى يعتصر عقله ويده تدق بالخيزرانة على رجل سرواله الأصفر ، وعيناه تائهتان في ملل المفكر، إذا كانت ثمة امرأة من الغرابوة قد فعلت هذا فلا بد أنها راقدة الآن عند مكان الترحيلة، لا بد هذا، فمن غير المعقول أن تضع الواحدة مولودا كهذا وتقتله أو يموت منها وتذهب في الصباح التالي لتعمل وتمسك خطا، والمسألة في يده وليس عليه إلا أن يتأكد.
تجهم وجه فكري أفندي علامة على أنه وصل إلى قرار، وتحرك - ومعه الجمع الصغير - إلى مكان الترحيلة، كان المكان خاويا ليس فيه سوى القفف والمواقد وبقايا الخشب المحترق وروائح الغروب، فالأنفار كانوا قد ذهبوا قبل الشروق، كالعادة، إلى الغيط. أدرك فكري أفندي ومن معه هذا بنظرة واحدة عريضة ألقوها على المكان، ولكنه آثر أن يبحث بنفسه لعل وعسى. وراح يتجول مطأطئ الرأس وقد وضع يديه وإحداهما ممسكة بالخيزرانة وراء ظهره، راح يتجول ويشمشم ويخبط القفف وأجولة الزواد بين آن وآخر من قبيل الاحتياط. ظل سائرا هكذا ووراءه الجمع حتى وصلوا في النهاية إلى «أم الترحيلة» كما كان يدعوها أطفال العزبة، والمرأة عجوز؛ من كثرة كبرها لا تستطيع أن تحدد لها سنا، ومع هذا فهي تحرس صرر الترحيلة وحاجياتهم وترعى الأطفال حتى تعود أمهاتهم في آخر النهار. توقف المأمور أمامها وغالب ابتسامته وهو يرى العجوز وحولها عشرات الأطفال بعضهم في حضنها وبعضهم قد سبح وحبا بين الصرر، بعضهم يصيح والبعض الآخر هادئ ساكن عاقل يعبث بثوب المرأة وقدميها، غالب الابتسامة؛ فالمرأة كانت حائرة ملتاعة لا تعرف كيف تتصرف، ولا ماذا تقول للأطفال أو كيف تحنو عليهم، وبينها وبين خصال الأمومة ورعاية الأطفال أزمان وأحقاب.
وعبثا حاول أن يظفر منها بجواب على كل ما وجهه إليها من أسئلة، فهي في غيبوبة السن والعجز لا تعي إلا حين يقترب بشر ما من المكان فتصرخ فيه أن يبتعد، وإلا حين تحضر الأمهات قبل الغروب وتقوم الجلبة التي تنتهي بانسلال كل أم ومعها طفلها، أو التي لا تنتهي حين تروح تتعثر في البحث مع أم عن ابنها وقد تاه بين الصرر.
ولم يكن فكري أفندي حتى في حاجة لسؤال المرأة، فلم يكن هناك أحد، ومعنى هذا شيء من اثنين: إما أن تكون الفاعلة المجرمة قد تحاملت على نفسها وذهبت مع الأنفار لتعمل حتى لا تكتشف، وإما أنها ليست من الغرابوة وقد تكون من أهل العزبة.
عند هذا الاحتمال الأخير توقف المأمور وراح مرة أخرى يحدق في الفضاء ويجوبه بعين نصف مغمضة وعين مفتوحة، وفكر قلق مخلخل. هو على يقين قاطع أن الفاعلة منهم كيقينه بيوم القيامة والنفس اللوامة، ولكن هناك احتمالا واهيا بسيطا أن تكون الفاعلة من العزبة، خاصة ومكان الغرابوة نظيف، احتمال تافه قد لا يتعدى واحدا في الألف، ولكنه احتمال والسلام، عليه أن يناقشه. لقد استعرض العزبة من هنيهة وكانت النتيجة براءة نسائها جميعا، ولكن من الجائز أنه سها أو نسي، أو فاتته واحدة تكون هي الجانية. من الجائز جدا.
لم يفطن المأمور - وهو يفكر - إلى اقتراب صالح خولي الزراعة منه، لم يفطن إلا حين أصبحت طاقية صالح الصوف التي يتعمم عليها تحت أنفه تماما، وإلا حين رفع صالح ذيل بصره في نظرة ماكرة مقترحة، وقال في همس مبتسم: ما تكونش نبوية هي اللي عملتها ليه؟
خرجت كلماته هامسة، ولكن همساته سمعها كل المرافقين، وعلت الأصوات تحتج وتؤكد أنهم الغرابوة، وتكاد تحلف على المصحف والربعة وتندد بالاتهام والباعث عليه، وتشرح - في كلمة من هنا وأخرى من هناك - قصة نبوية التي كانت زوجة لعربجي من عربجية التفتيش ومات، وترك لها العربة والحصان وبنتا وولدا. فباعت العربة والحصان وتاجرت بثمنهما في «القوطة» وأفلست، وعملت مقاولة أنفار وخبازة، وخدامة في بيت المأمور السابق، واشتغلت، أخيرا، تاجرة بيض، وربت البنت والولد، بل حتى أرسلت الولد ليتعلم في الكتاب، ولم تفرط في أي منهما، ولكن مسألة تفريطها في نفسها كانت موضع أخذ ورد ومساجلات وتكهنات. ارتفعت الأصوات تندد وتحتج وتراقب أثر الكلام على وجه المأمور، ويبدو أن الواقفين حين لم تبد على ملامحه دلائل الاقتناع بدءوا يتراجعون، وبدأ واحد يقول: لا يعلم الغيب سوى الله يا جماعة.
Bilinmeyen sayfa