وغمغم الواقفون حوله يلعنون الغرابوة ويؤيدون. •••
والغرابوة ليسوا من قاطني التفتيش، ولا يمكن لأحد أن يتصور أنهم من قاطني التفتيش؛ إذ أليسوا هم أكثر الناس فقرا في بلادهم الذين يدفعهم الفقر إلى اللجوء إلى العمل في التفاتيش البعيدة، وترك دورهم وقراهم سعيا وراء يومية لا تتعدى القروش القليلة؟ أليسوا هم ذوي الأسمال البالية والرائحة الغريبة، والخلقة الكريهة؟ لا يمكن لأحد أن يتصور أناسا كهؤلاء من قاطني التفتيش، فقاطنو التفتيش كلهم مزارعون محترمون، لكل منهم بيته وأولاده وبهائمه وجلبابه النظيف الجديد الذي يرتديه بعد انتهاء العمل ليسهر به في القهوة ويروح به في المآتم والأفراح، وليس بين قاطني التفتيش عاطل، فالعزب مبنية بحيث تستوعب المزارعين كلهم، وكأنما هي مصنع كبير خصص جزء منه لسكن عماله، وعلى هذا فهم جميعا يعملون، وهم جميعا معهم نقود، والزوجة تدخل على زوجها بسرير ودولاب وأطباق صيني وأحيانا بماكينة خياطة. والعمل ليس مرهقا إلى الدرجة التي لا يتصورها العقل، فالري بماكينات، والحرث بأتومبيلات، والدراس بماكينة كبيرة جدا تحتل وحدها نصف الجرن. وصحيح أن التفتيش يأخذ معظم ما تنتجه الأرض، ولكن يبقى للفلاح ما يستره، ويكسوه، ويطعمه، ويجعله حتما ينظر إلى الغرابوة هؤلاء نظره إلى نفاية بشرية جائعة، مضطرة إلى الهجرة كي تعمل وتأكل وتنال حظا من الحياة. حتى اسمهم لم يتفق عليه أحد، رجال الإدارة يسمونهم «الترحيلة»، والفلاحون يسمونهم «الغرابوة»، أما هؤلاء الذين تعودوا «المقلتة» والتريقة فيسمونهم «الجلب جل الجشج عنه ما جلو يا سيد عنجلو»، ومعناها «الكلب كل الكشك عنه ما كلو يا سيد (السيد البدوي) عنقلو»، إذ هكذا ينطقون الكاف، وهكذا يحتقر فلاحو التفتيش كافهم ولهجتهم وحتى مجرد وجودهم على أرض تفتيشهم.
أما الغرابوة أنفسهم فقد كانوا لا يقيمون وزنا كبيرا لتريقة الفلاحين أو نظرتهم، وكأنما هم معترفون أنهم غرابوة وأنهم ترحيلة وأنهم أي شيء قد يخطر على بال إنسان. فما دام الواحد منهم قد حظي بمكان في الترحيلة وضمن أن يعمل أكثر من ثلاثة شهور كل يوم وبأجر، فليقل عنه القائلون ما شاءوا.
والقطن يزرع في أواخر الشتاء، وما إن تولى طوبة حتى تكون بذوره قد تشققت واخترقت الأرض السمراء ونبت لكل بذرة جذر ونما لها ساق، وحين تكبر العيدان فتغطي المساحات الواسعة السوداء بطبقة خضراء جميلة ريانة، ويحل أوان الدودة ولطعها، حينئذ يدور الجدل حول الترحيلة، يكتب فكري أفندي خطابا للإدارة في مصر والإدارة ترد بخطاب، ثم يأتي الإذن، ويأتي المبلغ، ويستيقظ فكري أفندي ذات يوم مبكرا، ويأخذ أول قطار ويغير في طنطا، ثم تحمله عربة أومنيبوس «لا ينسى أن يقيدها في كشف الحساب عربة أجرة» إلى قرية من قرى المنوفية أو الغربية، غير مهم؛ ففكري أفندي يعرف قرى كثيرة ومقاولين كثيرين، قرى يسميها هو عش النمل، فالناس فيها كثيرون أكثر من اللازم، أكثر من العمل المطلوب والطعام الموجود، وكلهم - ولله الحمد - فقراء، فقراء إلى الدرجة التي كان فكري أفندي نفسه يهز رأسه حسرة حين يراهم في بلادهم، وكيف يعيشون. المهم حالما يضع قدميه في بلدهم ينتشر خبر وصوله بطريقة سريعة غامضة خفية، فيتجمع منهم مئات ويكونون موكبه، يسيرون أمامه وخلفه وعلى جانبيه ويرمقونه في تدله وأمل وكأن لديه أجولة أعمار سيفرقها عليهم بعد حين، يحيونه ويتهافتون على لمسه ولفت نظره، والشاطر من يسلم عليه ويقبل، ويدله ألف على بيت المقاول مع أنه لا يكون في حاجة إلى دليل، فمن أعوام وهو يهبط القرية، والطريق إلى بيت المقاول في قرية صغيرة كتلك لا يمكن أن يضل فيه إنسان كفكري أفندي حباه الله عقلا ومعرفة وطربوشا ونابا أزرق. هناك يجد المقاول واقفا على عتبة البيت، إن لم تكن ضجة قدومه قد وصلت إليه وأوقفته على عتبة الشارع. وسلامات تدور من النوع الثقيل، ولا بأس من دمعة تفر من عين المقاول حسرة على الأيام الحلوة التي مضت، ويصر الرجل على أن ينادي فكري أفندي بحضرة المفتش، ويخجل فكري أفندي ويتواضع ويقول: يا سي الحج. وتطير رقاب الكثير من الحمام والبط، ويأكل المأمور ويحلي ويضطجع، ويحتسي القهوة وينفث في تلذذ دخان السيجارة التي عزم عليه بها المقاول وأقسم بالطلاق أن يدخنها، بينما الضجة خارج البيت تزداد، والنمل الكثير يخرج من جحوره؛ إذ قد جاء الأمل في العمل، يخرجون من جحورهم ويتعانقون أمام البيت ويتصايحون: جاء الفرج يا أولاد والأشيا ح تبقى معدن.
ويتناقش الضيف والمضيف قليلا أو كثيرا حول «الفية» أو الجعل، المأمور يقول النفر بسبعة قروش، وقرش «فيه» يبقى بواقع ثمانية، ويصر المقاول على عشرة، ويقول المأمور: تبقى مكشوفة قدام أصحاب الأطيان.
وينتهي الأمر ربما إلى تسعة، ويخرج المأمور حافظته، ويشعر بالدفء والفجيعة والأوراق الكبيرة الخضراء ذات المادنة تلمس يده بالكاد ليعدها ثم تختفي في كيس المقاول المصنوع من الكتان والمرسوم عليه هلال وثلاثة نجوم مكتوب تحتها - ولا أحد يدري لم؟ - الحكومة المصرية، وما يكاد هذا يحدث حتى يتفرق المنادون المتطوعون في البلدة: النفر بستة يا أهالي، والقبض على خمستاشر يوم، والغايب يعلم الحاضر.
مع أنه لا تكون هناك حاجة إلى منادين أو نداء، فجميع «الأهالي» موجودون متزاحمون عند بيت المقاول في الحارة وعلى الأسطح المجاورة وأمام الأبواب.
ويصبح الصباح وتأتي خمس من عربات النقل الكبيرة ذات التصاريح الخاصة بنقل الأنفار «مثلها مثل التصاريح بنقل أجولة الأرز أو المواشي» تحمل كل منها أكثر من مائة نفر من الرجال والبنات والنساء والأطفال وتحمل أيضا صررهم وقففهم وقد ملئوها لآخرها بزوادة العيش وزلع المش والجبنة، تحملهم في كتلة ضخمة متزاحمة لا تكاد تميز فيها الرجل من المرأة ولا الولد من البلاصي. ومع انطلاق العربات تنطلق الحناجر المتلاصقة المحشورة تغني وتضحك ويصل زعيقها الفرحان إلى عنان السماء، بينما العيون، عيون المرضى والعجزة وكل من لا يستطيع حمل الفأس أو حتى الظهر، عيون المتخلفين الزائدين عن المطلوب، ترقب الموكب المنتصر، الموكب الدالف إلى العمل والأجر ولقمة العيش، وملأ الصدر أنفاس، ترقبه في عجز باك وحسرة، وربما كلمة ذليلة يتصدق بها الجار على جاره: الصبر.
وتعلن العربات قدومها إلى التفتيش بسحابات غبار ضخمة تثيرها وتملأ بها الأفق، ومع هذا فقليلا ما يسترعي ذلك القدوم انتباه من في التفتيش إلا أن يقف أحدهم ويراقب العربات القادمة ويقول لمن يتصادف وجوده وهو يضحك ساخرا: الجلب جل الجشج عنه ما جلو.
وهناك خلف الإصطبل يرص الغرابوة مقاطفهم صفوفا وراء صفوف، وينطلقون إلى الجرن والأرض المجاورة يجمعون قش الأرز والأحجار ويصنعون منها مواقد وأفرشة.
Bilinmeyen sayfa