كان ميعاد ذهاب الأنفار للغيط قد حان، ومع هذا أبوا ورفضوا أن يتحركوا - قيد أنملة - إلا بعد أن يودعوا عزيزة الوداع الأخير.
وحانت اللحظة التي كان على عزيزة أن ترحل فيها، وجيء باللوري وهو يجأر ويتراجع به الأسطى عبده إلى الخلف، ويزجر الأطفال الذين تعلقون بجوانبه ويلعن آباءهم ليستطيع أن يصل إلى أقرب نقطة من المكان الذي ترقد فيه عزيزة، ووقف الرجال واجمين متزاحمين حول اللوري، وما كاد يرتفع صراخ النساء حتى هب فيهن المأمور طالبا السكوت التام مهددا بكسر عنق الواحدة منهم لو فتحت فمها، فالعملية كان يجب أن تتم بهدوء وبلا إعلان أو فضيحة.
وعلى ضوء كلوب جنيدي الباهت الذي كثيرا ما كان يشحر ويختنق نوره، لفت عزيزة بالكيس الذي كانت تتغطى به، وتبرع الشيخ عبد الوارث بحصير بال من عنده لف فوق الكيس، ثم حملت الجثة ملفوفة بالحصير بين نهنهة النساء وصمت الرجال الواجم، ووضعت على أرض صندوق اللوري الخشبية. وجمعت كل القفف والزلع والبلاليص الفارغة من الترحيلة - وعلى كل منها علامة ليعرف صاحبها، جمعت ووضعت فوق الجثة لتداريها وتخفي معالمها، ثم صعد الريس عرفة إلى العربة وصعد معه بعض أنفار الترحيلة من الرجال، وتصاعدت صرخة من أم الحسن طالبة أن تذهب معهم، فالمتوفاة حرمة وكلهم رجال، وليس أجدر منها بالمحافظة عليها، ولم تغلق فمها إلا حين حملت إلى اللوري ووضعت فيه. وعبد المطلب الخفير أصر على أن يرافقهم ليشيع عزيزة إلى مقرها الأخير. قائلا إنه لا يمكن أن يترك الأسطى عبده يذهب وحده في تلك المهمة الخطرة.
وأخيرا قال فكري أفندي المأمور لعبده بأنفاس متهدجة: اتوكل على الله يا أسطى.
وقال الأسطى عبده وهو يجذب عصا «الفيتيس»: توكلنا على الله، الفاتحة.
وانسل اللوري وقد تعالى صوت ماكينته من بين مئات الرجال والنساء المتجمهرين، الذين لا يضيء وجوههم الشاحبة إلا كلوب جنيدي الشاحب، والذين لم يتمالك بعضهم نفسه فانفلت صوته - رغما عنه: مع السلامة يا عزيزة، مع السلامة. •••
وبعد قليل كانت العربة قد استوت على الطريق الزراعي الكبير الذي يمر بحذاء شريط الدلتا، السائق صامت واجم يدخن السيجارة التي عزم عليه بها الرئيس عرفة، وعبد المطلب بجواره صامت هو الآخر وواجم. أما من في صندوق العربة فقد كانوا جالسين متشبثين بحافة الصندوق وكأنهم يتحاشون الجلوس فوق إبر حادة، كلما هزتهم العربة تشبثوا بالحافة أكثر محاولين - قدر الطاقة - أن يبتعدوا عن كومة القفف والبلاليص التي ترقد تحتها المرحومة.
وبينما العربة تئز وتتمايل بحمولتها، وأزيزها المكتوم تحمله الرياح وتتشربه - على مهل - كتل الظلام الهائلة الرابضة على صدر الكون، كان خط أنفار الهز قد انتظم تحت ضوء الكلوبات المعلقة على عروق طويلة والعصا الخيزران قد بدأت ترتفع وتهوي على الظهور المحنية، بينما أصوات الخولة والسواقين تصرخ بنبرات متقاربة متلاحقة: وطي يا ولد، وطي يا بنت.
خاتمة
وانتهى العام ورغم كل شيء كللت جهود فكري أفندي بالنجاح وهزمت الدودة رغم فقسها، وسلم المحصول، وعاد الغرابوة إلى بلادهم.
Bilinmeyen sayfa