ودونا عن الجميع كان دميان - في ذلك الوقت - يحوم حول بيت المأمور بلا سبت معلق في ذراعه منتظرا ربما أن تطل الست أم صفوت من البلكونة ليحادثها، ولكنها لم تطل؛ إذ كانت في ذلك الوقت جالسة على كنبة الصالة وأمامها جلست على الأرض بنت من الترحيلة تدلك لها قدميها وتحكي لها عن عزيزة وزوجها وكيف يعيشون في البلدة.
ظل دميان يحوم حول البيت ويتردد، إلى أن واتته الجرأة فدخل من الباب الخلفي الذي يؤدي إلى الحوش والمطبخ، دخل وهو يزعق: يا ست أم صفوت، يا ست أم صفوت، مش عايزة أقرى لك الفنجال؟
يزعق بنفس طريقته ونفس صوته الرفيع الذي يشبه صوت الأطفال ولكنه كان يشعر لحظتها برجفة غريبة عليه وعلى دميان.
وبعد دقائق كان دميان يغادر بيت المأمور من بابه الأمامي مطرودا هذه المرة ملعونا أبوه، وظل يمشي على غير هدى إلى أن وصل إلى الجرن حيث الجمع الكبير المحتشد، وتردد - برهة - بين أن يذهب إلى حيث الرجال في الجرن أو إلى حيث النساء حول عزيزة في مكان الترحيلة. ويبدو أنه خاف من جمع الرجال؛ إذ ما لبث أن توجه إلى حيث النساء مجتمعات حول عزيزة. وبكى دميان في ذلك اليوم بحرقة حتى كاد يضحك - بحرقته - النساء.
وأمام مباني الإدارة، وعلى بضع كراسي قديمة متناثرة معظمها قد سقط خوص قاعدته كان فكري أفندي المأمور جالسا وحوله مسيحة أفندي وأحمد سلطان والأسطى محمد والشيخ عبد الوارث الكبير والمخزنجي ورئيس الخولة، ومن بعيد كان يرقب جلستهم بعض الفلاحين الذين يؤثرون التطفل وتسقط الأخبار والعلم بكل ما يدور في التفتيش من أمور. وكان المأمور يتدارس مع الرجال المجتمعين حوله الحل الذي انتهى إليه في أمر عزيزة. فقد خلقت له عزيزة بوفاتها مشكلة لم تكن تخطر له على بال، إذ هو لا يستطيع الإبلاغ عن وفاتها أو دفنها في التفتيش فسوف يتطلب الإبلاغ كشفا يوقع على المتوفاة، ومن يدري ما يمكن أن يؤدي إليه الكشف من تستر على جانية وتحقيق وسين وجيم. ولم يكن هناك من حل إلا أن ترسل - ميتة - إلى بلدها، وهناك يتكفل الحاج عبد الرحيم مقاول الترحيلة بأمرها، فهو المسئول الأول والأخير عن أنفاره وحياتهم، ولا بد أن يكون أيضا مسئولا عن موتهم، فيمكنه أن يتفق مع عمدة بلده - وهو صاحبه وقريبه - على الإبلاغ عن وفاتها باعتبار أنها لم تكن في الترحيلة أو كانت هناك ثم لما عادت مرضت وماتت في بيتها. أو يمكنه أن يصنع أي شيء آخر يخلي التفتيش والمأمور من المسئولية. ممكن أي شيء ولكن الشيء المحتم الذي لا بد منه هو أن تنقل جثة عزيزة إلى بلدها.
ونقلها هو المشكلة التي ظلت تحير فكري أفندي طويلا حتى عثر لها على حل، وكان الحل في عربة التفتيش اللوري التي تذهب كل خمسة عشر يوما إلى بلد الترحيلة لتحضر لهم زوادتهم من عيش غرباوي وجبنة وبصل وعدس ومش. ولم يكن ميعاد ذهاب العربة قد حل، ولكن تقديم هذا الموعد ليس بالأمر الخطير غير المستطاع.
وكان المأمور قد أرسل في طلب الأسطى عبده سائق اللوري وأخذ يفهمه بلهجة جادة - تعمد أن تكون لهجة أمر - لا تسمح للأسطى عبده بالتحجج أو التهرب، يفهمه مهمته، وما يجب عليه عمله. وأبدى الأسطى عبده بعض التردد وأثار بعض الاعتراضات، تكفل الأسطى محمد العجوز بالرد عليها جميعا. ولم تبد على ملامح الأسطى عبده الموافقة النهائية إلا بعد أن تعهد له المأمور أنه سيكون مسئولا مسئولية تامة لو حدث شيء - لا قدر الله. وحينئذ - فقط - أرسل الأسطى عبده طاقيته الصوف الطويلة وجلبابه، اللذين يرتديهما في العادة، أرسلهما إلى بيته طالبا من امرأته أن تبعث له بالبدلة الكاكي التي يرتديها حين يسافر. ثم مضى إلى الجراج يعد اللوري للرحلة الطويلة التي عليه أن يقطعها على سكك متعبة غير ممهدة لكي يبعد - قدر طاقته - عن عساكر المرور وأكشاكهم.
وحين أعدت العربة وتم كل شيء كان الظلام قد خيم، وكان ميعاد ذهاب أنفار الترحيلة إلى الغيط قد حان، إذ كانت اللطع قد فقست في العزبة نمرة عشرة وكان الأنفار يعملون بالنهار في التقاط اللطع ويسرحون بالليل - لقاء أجرة ثانية - لهز أشجار القطن وجمع الدودة من فوق أوراقها، الدودة التي تختفي في النهار في شقوق الأرض ولا تبدأ زحفها الفاتك إلا في الليل.
وكانت عملية الهز تتم في وسط أنوار الكلوبات الساطعة، والعمل فيها يبتهج له الأنفار أكثر؛ إذ هو عمل في الليل حيث الجو معتدل ولطيف وحيث الأغاني، والنور الساطع، والظلام الذي يتيح بعض اللعب، يتيح لليد الخشنة أن تمتد إلى الجارة ويتيح للجارة أن تتغابى وتسكت.
كان الأنفار يسعدون بالعمل في الليل رغم كل شيء، ورغم أنهم كانوا يعملون أيضا في النهار، ولا ينامون سوى تلك السويعات القليلة التي يختلسونها ساعة الفجر وساعة الغروب، ولكنه عمل بأجرين والجسد المرهق ليس مشكلة، المشكلة في القرش والفرصة التي جاءت من السماء لاقتناصه واستخلاصه.
Bilinmeyen sayfa