ودربه على الكارو، وتبادلا العمل عليها، ولما شارف الستين تركها له أكثر الوقت. وكان شمس الدين يعجب بأبيه ويجله، ويحن في الوقت ذاته إلى الحياة السائغة، ويؤيد أحيانا أماني أمه الجميلة، وبدافع من هذه الرغائب الكامنة قبل بسلامة نية «عيدية» قدمها له صاحب الوكالة، فبادر إلى شراء عباءة ولاثة ومركوب، وخطر مزهوا بها صباح يوم العيد. وما إن رآه عاشور حتى أخذه من تلابيبه إلى البدروم، ثم لطمه لطمة دار بها رأسه، وصاح به: يتسللون إلي من ثغرة ضعفك بعد أن أعيتهم إرادتي الصلبة!
وألزمه برد الملابس إلى البائع، ثم برد العيدية إلى صاحب الوكالة. وأدرك شمس الدين أنه لا قبل له بغضب أبيه، وخجل من نفسه، وخذلته أمه فلم تجرؤ على الدفاع عنه أو الوقوف إلى جانبه. - ولكن الحب - لا العنف - كان ما يربط شمس الدين بأبيه، فكان تلميذه ونجيه وصديقه، وتشبع بكلماته وبمثاله وبتقواه ونزوعه إلى الألحان والنجوم، ومضى بالكارو فخورا، وقاهرا لنزعات الضعف التي تومض بين الحين والحين في أعماقه.
ورغم الفقر كان الحب والإجلال يحفان بهم حيثما ذهبوا، فهل يستمر الحال كما كان؟
ها هي أمه ترنو إلى الغد بأعين طافحة بالهواجس!
13
في صحراء المماليك الوحشية المترامية لاح الرجال كحفنة من رمال. أرض الهاربين وقطاع الطرق، مأوى الجن والزواحف، مقبرة العظام المطمورة. غسان يتقدم هلالا من رجال، يقابله غير بعيد دهشان ورجاله. الأعين تترامق تحت أشعة شمس محرقة، وتتلقى من لظى الرمال جحيما. الخلاء المحيط يرنو بعين باردة ساخرة قاسية منذرا المنهزم بالضياع الأبدي.
أقبل شمس الدين هادئا، اختار موقفه في مركز بين الجماعتين، معلنا حياده، ومعلنا في الوقت ذاته استعداده للانضواء تحت راية المنتصر. ورفع يده تحية وقال بصوته الجهوري الخشن الذي لم يرث عن عاشور سواه: سلام الله على رجال حارتنا.
فتمتمت شفاه جافة من التحفز والإصرار: سلام الله على ابن العظيم الطيب.
وتذكر شمس الدين أن أحدا من الفريقين لم يسع إلى ضمه إليه ولا إلى نيل بركة أمه. أجل ففي ميدان الصراع الوحشي لا يكترث بالنساء ولا باليافعين.
وانضم شعلان الأعور إلى موقف شمس الدين وهو فتوة متقاعد بالكبر، ويقوم من الجماعة مقام الناصح الأمين. قال شعلان يمهد للمصارعة: سيبدأ الصراع بين غسان ودهشان، فليتذكر كل واحد من الجماعة واجبه.
Bilinmeyen sayfa