عاشور الناجي
شمس الدين
الحب والقضبان
المطارد
قرة عيني
شهد الملكة
جلال صاحب الجلالة
الأشباح
سارق النغمة
التوت والنبوت
عاشور الناجي
شمس الدين
الحب والقضبان
المطارد
قرة عيني
شهد الملكة
جلال صاحب الجلالة
الأشباح
سارق النغمة
التوت والنبوت
الحرافيش
الحرافيش
تأليف
نجيب محفوظ
عاشور الناجي
الحكاية الأولى من ملحمة الحرافيش
1
في ظلمة الفجر العاشقة، في الممر العابر بين الموت والحياة، على مرأى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة، طرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا.
2
مضى يتلمس طريقه بطرف عصاه الغليظة، مرشدته في ظلامه الأبدي. مولاي يعرف مواقعه بالرائحة وحساب الخطوات ودرجة وضوح الأناشيد والإلهام الباطني. بين مسكنه عند مشارف القرافة وبين الحارة يخوض أشق مرحلة في طريقه إلى الحسين وأعذبها. على غير المعهود تناهى إلى أذنيه الحادتين بكاء وليد. لعله دوي أكبر من حجمه في ساعة الفجر. الحق قد جذبه من سكرة الرؤى ونشوة الأناشيد. في هذه الساعة تهيم أمهات بأطفالهن! ها هو الصوت يشتد ويقترب، وعما قليل سيحاذيه تماما. وتنحنح كي لا يقع ارتطام في مشهد الفجر. وتساءل متى يكف الطفل عن البكاء ليرتاح قلبه ويعاود خشوعه. الآن صار البكاء ينخس جنبه الأيسر. تباعد يمنة حتى مست كتفه سور التكية، وتوقف قائلا: يا حرمة، أرضعي الطفل!
ولكن لم يجبه أحد، وتواصل البكاء، فهتف: يا حرمة! يا أهل الله!
فلم يسمع إلا البكاء. ساور الشك قلبه فولت البراءة المغسولة بماء الفجر، واتجه نحو الصوت بحذر شديد جاعلا عصاه لصق جنبه. انحنى قليلا فوق الصوت، مد راحته برحمة حتى مس سبابته لفافة. هو ما توقعه القلب. جال بأصابعه في طياتها حتى لامس وجها طريا متشنجا بالبكاء. هتف متأثرا: تدفن القلوب في ظلمة الإثم.
وصاح بغضب: لعنة الله على الظالمين.
وتفكر قليلا ولكنه قرر ألا يهمله ولو فاتته صلاة الفجر في الحسين. النسمة باردة في هذه اللحظة من الصيف، والزواحف شتى، والله يمتحن عبده بما لا يجري له في حسبان. وحمله برفق، ثم عزم على الرجوع إلى مسكنه ليشاور زوجته في الأمر. وترامت إليه أصوات آدميين لعلهم ذاهبون إلى صلاة الفجر، فسعل منبها، فجاءه صوت يقول: سلام الله على المؤمنين!
فأجاب بهدوء: سلام الله عليكم.
وعرف المتكلم صوته فقال: الشيخ عفرة زيدان؟ ماذا أخرك؟ - إني راجع إلى البيت، ولله الأمر من قبل ومن بعد. - سلامتك يا شيخ عفرة!
فقال بعد تردد: عثرت على وليد تحت السور العتيق.
وانداحت همهمة بين الرجال حتى قال أحدهم: اللعنة على الآثمين.
وقال ثان: اذهب به إلى القسم!
وسأله ثالث: ماذا أنت فاعل به؟
فقال بهدوء لا يناسب المقام: سوف يهديني الله إلى مشيئته.
3
انزعجت سكينة لدى رؤيتها زوجها الشيخ على ضوء المصباح المرفوع بيسراها، وتساءلت: ماذا أرجعك كفى الله الشر؟!
وسرعان ما رأت الوليد فهتفت: ما هذا يا شيخ عفرة؟ - عثرت عليه في الممر. - يا رحمة الله!
تناولت الوليد برقة، جلس الشيخ على كنبة بين البئر المغطاة والفرن وهو يغمغم: لا إله إلا الله!
راحت سكينة تهدهد الطفل، ثم قالت بحنان: إنه ذكر يا شيخ عفرة!
فحرك رأسه صامتا، فقالت باهتمام: يلزمه غذاء. - وما درايتك بذلك وأنت لم تنجبي ذكرا ولا أنثى؟! - أعرف أشياء، ومن يسترشد يجد من يرشده. ماذا أنت فاعل به؟ - نصحوني بأن أذهب به إلى القسم. - هل يرضعونه في القسم؟! لننتظر حتى يظهر من يبحث عنه. - لن يبحث عنه أحد.
وتجلى صمت مفعما بالانفعالات حتى تمتم الشيخ عفرة زيدان: أليس من الخطأ أن نبقيه أكثر مما ينبغي؟
فقالت بحماس وحرارة: الخطأ خطأ من ضيعه.
ثم قالت وهي تتلقى إلهاما بالرضا: لم يبق لي أمل في الإنجاب!
فحسر العمامة عن جبهته البارزة مثل قبضة الجندرة وتساءل: فيم تفكرين يا سكينة؟
فقالت ثملة بإلهامها: يا سيدنا الشيخ، وهبني الله رزقا فكيف أرفضه؟
مسح بمنديله عينيه المطبقتين ولم ينبس، فقالت بظفر: أنت نفسك تريد ذلك.
فتجاهلها يقول متشكيا: فاتتني صلاة الفجر في الحسين.
فقالت بثغر باسم وعيناها لا تفارقان الوجه المحتقن: الضوء شقشق والله غفور رحيم.
وقام الشيخ عفرة زيدان ليصلي، على حين هبط من السلم درويش زيدان مثقل الجفون من أثر النوم وهو يقول: جوعان يا امرأة أخي.
ورأى الوليد فذهل كما ينبغي لغلام في العاشرة من عمره وتساءل: ما هذا؟
فأجابته سكينة: رزق من الله العلي القدير.
فرنا إليه مليا، ثم تساءل: ما اسمه؟
فترددت المرأة، ثم غمغمت: ليكن اسم أبي اسما له؛ عاشور عبد الله، وليشمله الله ببركته ورضوانه.
وارتفع صوت الشيخ عفرة بالتلاوة.
4
وتتابعت الأيام على أنغام الأناشيد البهيجة الغامضة، وذات يوم قال الشيخ عفرة زيدان لشقيقه درويش: بلغت العشرين من عمرك فمتى تتزوج؟
فأجاب الفتى بفتور: عندما يشاء الله. - إنك حمال قوي، والحمال ذو رزق موفور. - عندما يشاء الله. - ألا تخشى على نفسك من الفتنة؟ - الله يحفظ المؤمنين.
فحرك المقرئ الضرير وجهه يمنة ويسرة وقال بأسف: لم تنتفع بالكتاب ولم تحفظ من كتاب الله سورة واحدة!
فقال بامتعاض: العمل هو ما يحاسب عليه، وإني أحصل على رزقي بعرق الجبين.
فتفكر الشيخ مليا وقال: في وجهك ندوب فما شأنها؟
فأدرك درويش أن امرأة أخيه قد وشت به، فرمقها مقطبا وهي عاكفة على إشعال الفرن بمساعدة عاشور، فقالت باسمة: أتتوقع مني يا درويش أن أخفي عن أخيك ما يضرك؟
وسأله الشيخ عفرة معاتبا: أتقلد أهل العنف والشر؟ - أحيانا يتحرش بي أهل الشر فأدافع عن نفسي. - يا درويش، لقد نشأت في بيت خدمة القرآن؛ شرفه وعزته، ألا ترى إلى سلوك أخيك الطيب عاشور؟
قال بحدة: ليس عاشور بأخي!
لاذ الشيخ بالصمت مستاء.
وكان عاشور يتابع الحديث باهتمام فصدم، صدمة متوقعة على أي حال، إنه يفعل ما بوسعه ولا يدعي أكثر مما له؛ يقوم بتنظيف البيت، وشراء الحوائج من السوق، ويمضي كل فجر بولي نعمته إلى الحسين، ويملأ الدلو من البئر، ويشعل الفرن، وعند الأصيل يجلس عند قدمي الشيخ فيحفظه ما يتيسر من القرآن، ويلقنه آداب السلوك والحياة. الحق أن الشيخ أحبه ورضي عنه، وكانت سكينة ترمقه بإعجاب وتقول: سيكون فتى طيبا وقويا.
فيقول الشيخ عفرة زيدان: لتكن قوته في خدمة الناس لا الشيطان.
5
جادت السماء ببركاتها على عاشور، فسعد به قلب الشيخ عفرة زيدان عاما في إثر عام، بقدر ما سخط على درويش شقيقه وربيبه. لم يا ربي وقد نشآ في حظيرة واحدة؟ ولكن درويش نأى عن ظل الشيخ سعيا وراء الرزق بعد أن رفض التعلم قلبه. انطلق إلى العالم غلاما طريا فتربى في أحضان المرارة والعنف قبل أن يستقيم عوده، قبل أن تتشرب روحه بالصلابة والنقاء. أما عاشور فتفتح قلبه أول ما تفتح للبهجة والنور والأناشيد، ونما نموا هائلا مثل بوابة التكية؛ طوله فارع، عرضه منبسط، ساعده حجر من أحجار السور العتيق، ساقه جذع شجرة توت، رأسه ضخم نبيل، قسماته وافية التقطيع، غليظة مترعة بماء الحياة. تبدت قوته في تفانيه في العمل، وتحمله لمشاقه، ومواصلته بلا ملل أو كلل، وفي تمام من الرضا والتوثب. وأكثر من مرة قال له الشيخ: لتكن قوتك في خدمة الناس لا في خدمة الشيطان!
وذات يوم أعلن الشيخ رغبته في أن يجعل منه مقرئا للقرآن مثله، فضحك درويش ساخرا وقال معلقا على رغبة شقيقه: ألا ترى أن هيكله الضخم جدير بأن يلقي الرعب في قلوب المستمعين؟!
ولم يحفل الشيخ بتعليق درويش، ولكنه اضطر إلى العدول عن رغبته عندما وضح له أن حنجرة عاشور لا تسعفه بحال، وأنها عاجزة عن تطويع النغم، لا حظ لها من الحلاوة والمرونة وكأنها بخشونتها ترن في جوف قبو، فضلا عن قصوره عن حفظ السور الطويلة.
وقنع عاشور بعمله كما قنع بحياته، وظن أنه سيبقى بالفردوس حتى آخر الأجل، وصدق ما قيل له من أن الشيخ تكفل به بعد وفاة والدين طيبين مقطوعين من شجرة، وحمد الله الذي قدر ولطف، فرعاه برحمة لا يستظل بمثلها مأوى آخر في الحارة. وفي ذات الوقت رأى الشيخ عفرة أنه استأثر به مدة كفت لتعليمه وتهذيبه، وأنه آن له أن يرسله لتلقن حرفة من الحرف، غير أن حتم الأجل كان أسرع؛ فمرض الشيخ بحمى لم تنفع في علاجها الوصفات الشعبية، فانتقل إلى جوار ربه ، ووجدت سكينة نفسها بلا مورد أو قدرة على العمل، فرحلت إلى قريتها بالقليوبية. كان الوداع بينه وبين سكينة مؤثرا ودامعا. قبلته ورقته ومضت، وسرعان ما شعر بأنه وحيد، في دنيا بلا ناس، اللهم إلا سيده العنيد درويش زيدان.
وأسبل جفنيه الغليظين متفكرا. شعر بأن الخلاء يلتهم الأشياء، وأنه يود أن يتسلق شعاع الشمس، أو يذوب في قطرة الندى، أو يمتطي الريح المزمجرة في القبو، ولكن صوتا صاعدا من صميم قلبه قال له إنه عندما يحل الخلاء بالأرض فإنها تمتلئ بدفقات الرحمن ذي الجلال.
6
تفحصه درويش وهو مقرفص على كثب من الفرن منكسر القلب. يا له من عملاق! له فكا حيوان مفترس، وشارب مثل قرن الكبش. قوة بلا حيلة ولا عمل ولا رزق. من حسن الحظ أنه لم يتعلم حرفة، ولكنه لا يمكن الاستهانة به. ترى لم لا يحبه؟ تذكره صورته المغروسة في الأرض بصخرة مدببة تعترض الطريق، بهبة من هبات الخماسين المثقلة بالغبار، بقبر يتجلى في الأعياد متحديا، يجب الانتفاع به، عليه اللعنة!
سأله دون أن ينظر نحوه: كيف ستحصل على لقمتك؟
ففتح عينيه العميقتين العسليتين وقال باستسلام: في خدمتك يا معلم درويش.
فقال ببرود: لست في حاجة إلى خدمة أحد. - علي أن أذهب.
ثم مستدركا في رجاء: هلا تركتني آوي إلى البيت الذي لا أعرف سواه؟ - إنه بيت لا فندق.
تبدت فوهة الفرن خامدة مظلمة، وندت عن الرف خشخشة رجل فأر ترتطم بأعواد الثوم الجاف.
وسعل درويش، ثم سأله: أين تذهب؟ - دنيا الله واسعة.
فقال متهكما: ولكنك لا تعرف عنها شيئا، وهي أقسى مما تتصور. - سأجد على أي حال عملا أرتزق منه. - جسمك أكبر عائق، لن يقبلك بيت، ولا معلم حرفة، ثم إنك تقترب من العشرين! - لم أستغل قوتي قط فيما يضر.
فضحك عاليا وقال: لن تحوز ثقة أحد؛ الفتوة يظنك متحديا، والتاجر يحسبك قاطع طريق.
ثم بهدوء وعمق: ستهلك جوعا إذا لم تعتمد على قوتك.
فقال بحرارة: أهبها عن رضا لخدمة الناس والله شهيد. - لا فائدة من قوتك إن لم تغسل مخك من الغباء!
فمد إليه بصرا حائرا، ثم قال: شغلني حمالا معك.
فقال ساخرا: لم أشتغل حمالا ساعة واحدة من حياتي. - ولكن ... - دعك مما قلت، أكان بوسعي أن أقول غيره؟ - فما عملك يا سيدي؟ - صبرك، سوف أفتح لك باب الرزق، لك أن تدخل ولك أن تذهب.
ترامى من القرافة صوات يشي بتشييع جنازة، فقال درويش: كل من عليها فان.
فقال عاشور وقد نفد صبره: إني جوعان يا معلم درويش!
فمد له يده بنكلة وهو يقول: إليك آخر هبة مني.
غادر عاشور البيت والمغيب يهبط على القبور والخلاء. أمسية من أماسي الصيف، وثمة نسمة رقيقة تتهادى حاملة أخلاط التراب والريحان. مضى في الممر حتى بلغ ساحة التكية. بدا لعينيه القبو مظلما، وترامت أشباح أشجار التوت من فوق الأسوار. تصاعدت الأناشيد بغموضها فصمم على طرح الهم جانبا وقال لنفسه: لا تحزن يا عاشور؛ فلك في الدنيا إخوة ليس لعدهم حصر.
ومضى تلاحقه الأناشيد:
أي فروغ ماء حسن
إز روى رخشان شما
ابروى خوبي از جاه
رنخسدان شما
7
امتلأ عاشور بأنفاس الليل. انسابت إلى قلبه نظرات النجوم المتألقة. هفت روحه إلى سماء الصيف الصافية. قال ما أجدرها ليلة بالعبادة؛ كي يجثو فوق الأعتاب، كي يناجي رغبات نفسه الكظيمة، كي ينادي الأحبة وراء سياج المجهول.
وثمة شبح يقف منه على بعد شبرين يعكر عليه صفوه، ويشده إلى عالم القلق، فرفع صوته الأجش متسائلا: ماذا تنتظر يا معلم درويش؟
فلكزه درويش في صدره وهمس بحنق: أخفض صوتك يا بغل!
كانا يلبدان وراء تعريشة عند طرف القرافة بمشارف الصحراء. الجبل في أقصى اليمين والقبور إلى اليسار. لا نأمة، لا عابر سبيل، حتى أرواح الموتى مستكنة في مقر مجهول. في تلك الساعة من الليل، والخواطر تتجسد في الظلمة كالنذر، ويخفق القلب الطيب في غير ما ارتياح، همس عاشور: نورني نور الله قلبك.
فنهره هامسا: انتظر، أليس عندك صبر؟
ثم وهو يميل نحوه: لا أطالبك بعمل، سأقوم بكل شيء، عليك أن تحمي ظهري إذا اقتضى الأمر حماية.
ولكني لا أدري عما تنوي شيئا. - اسكت، سيكون لك الخيار.
وتمخض جانب الصحراء عن نأمة. وحمل الهواء عطر حي، وارتفع صوت موسوم بالشيخوخة يقول: توكلي على الله.
وعند القرب وضح أن العجوز يمتطي حمارا. وعندما حاذاهما تماما وثب عليه درويش. ذهل عاشور وتحققت مخاوفه. لم ير شيئا بوضوح، ولكنه سمع صوت درويش وهو يقول متوعدا: هات الصرة وإلا ...
فتردد صوت مرتعشا بالكبر والذعر: الرحمة ... خفف قبضتك!
اندفع عاشور إلى الإمام بلا وعي وهتف: دعه يا معلمي!
صرخ به درويش: اخرس! - قلت لك دعه!
وطوقه بذراعيه وحمله بلا جهد، فضربه الآخر بكوعه قائلا: الويل لك!
لم يتحرك في درويش بعد ذلك إلا لسانه، أما عاشور فخاطب العجوز قائلا: اذهب بسلام!
حتى إذا اطمأن إلى نجاة الرجل أطلق درويش وهو يقول معتذرا: اغفر لي خشونتي.
فصاح به: أيها اللقيط الجاحد! - لقد أنقذتك من شر نفسك. - أيها البغل الخسيس المخلوق للتسول. - فليسامحك الله. - أيها اللقيط القذر.
فصمت عاشور محزونا، فعاد الآخر يقول: لقيط، ألا تفهم؟ هذه هي الحقيقة. - لا تستسلم للغضب، لقد قال الشيخ المرحوم كلمته.
فقال بحقد: الحقيقة هي ما أقول، لقد وجدك في الممر مهجورا من أم فاسقة! - رحم الله الطيبين. - بشرفي ورحمة أخي إنك لقيط ابن حرام! لماذا يتخلصون من وليد بليل؟!
فاستاء عاشور وصمت، فراح درويش يقول: ضيعت جهدي! أغلقت باب الرزق في وجهك، إنك قوي ولكنك جبان، وهاك الدليل.
وهوى بكفه على وجهه بجامع قوته، فبوغت عاشور بأول لطمة يتلقاها في حياته، وصاح درويش بجنون: أيها الجبان الرعديد!
عصف الغضب بعاشور. اجتاحت عاصفته جدران معبد الليل. وجه من راحته الكبيرة ضربة إلى رأس معلمه هوى على أثرها فاقد الوعي. لبث يصارع غضبته حتى تراخت للسكون. أدرك خطورة ما أقدم عليه. غمغم: غفرانك يا شيخ عفرة.
انحنى فوق الرجل فحمله بين يديه. مضى به يشق سبيله بين القبور حتى دخل به البيت. أنامه على الكنبة. أشعل المصباح. مضى ينظر إليه في قلق وإشفاق. تتابعت دقائق ثقيلة حتى فتح عينيه وحرك رأسه.
تطاير من عيني درويش شرر ينم على التذكر. ترامقا مليا في صمت. خيل إلى عاشور أن عفرة وسكينة حاضران ينظران في وجوم.
غادر عاشور البيت مغمغما: توكلت على خالق السموات والأرض.
8
هام عاشور على وجهه. مأواه الأرض، هي الأم والأب لمن لا أم ولا أب له. يلتقط الرزق حيثما اتفق. في الليالي الدافئة ينام تحت سور التكية، في الليالي الباردة ينام تحت القبو. ما قاله درويش عن أصله قد صدقه. طاردته الحقيقة المرة وأحدقت به. لقد عرف من حقائق الدنيا على يد درويش في ليال ما لم يعرفه طيلة عشرين عاما في كنف الشيخ الطيب عفرة زيدان. الأشرار معلمون قساة وصادقون. خطيئة أوجدته، توارى الخطاة، ها هو يواجه الدنيا وحده، ولعله يعيش الآن ذكرى محرقة في قلب مؤرق.
ومن شدة حزنه استمع إلى أناشيد التكية بحب. معانيها المترنمة تختفي وراء ألفاظها الأعجمية كما يختفي أبواه وراء وجوه الغرباء. وربما عثر ذات يوم على امرأة أو رجل أو معنى، وربما فك ذات يوم رمزا، أو أرسل دمعة رضا، أو تجسدت إحدى رغائبه في مخلوق حنون. ويتأمل الحديقة بأشجارها الرشيقة الحانية، ووجهها المعشوشب، وعصافيرها المعششة الشادية، ويتأمل الدراويش بعباءاتهم الفضفاضة، وقاووقاتهم الطويلة، وخطواتهم الخفيفة.
وساءل نفسه مرة: لماذا يقومون بالخدمة كالفقراء؟ لماذا يقومون بالكنس والرش والسقي؟ أليسوا في حاجة إلى خادم أمين؟! - البوابة تناديه، تهمس في قلبه أن اطرق، استأذن، ادخل، فز بالنعيم والهدوء والطرب، تحول إلى ثمرة توت، امتلئ بالرحيق العذب، انفث الحرير، وسوف تقطفك أيد طاهرة في فرح وحبور.
وملكه الهمس الناعم فمضى إلى الباب المغلق وهتف بخشوع وأدب: يا أهل الله.
وكرر النداء مرات.
إنهم يتوارون، لا يردون، حتى العصافير ترمقه بحذر، يجهلون لغته ويجهل لغتهم. الجدول كف عن الجريان، الأعشاب توقفت عن الرقص، لا شيء في حاجة إلى خدماته.
فتر حماسه، انطفأ إلهامه، جلله الحياء، عاتب نفسه، عنف عشقه، شد على إرادته، قبض على شاربه الشامخ، قال لنفسه: لا تجعل من نفسك حديث كل من هب ودب.
وتراجع وهو يقول: انصرف عن الذين يرفضون يدك لأنهم في غير حاجة إليها، وابحث عمن هم في حاجة إلى خدماتك.
ذهب وجاء وراء اللقمة. يجد زفافا فيتطوع للخدمة، أو يصادف مأتما فيتطوع أيضا. يتقدم لمن يريد حمالا أو رسولا، يرضى بالمليم أو بالرغيف أو حتى بكلمة طيبة.
وصادفه رجل ربعة قبيح الوجه كأن أصله فأر، فناداه قائلا: يا ولد!
فذهب إليه عاشور بأدب واستعداد للخدمة فسأله: ألا تعرفني؟
فأجابه مرتبكا: اعذر غريبا جهلك.
ولكنك من أبناء حارتنا؟ - ما عشت فيها إلا منذ قريب. - كليب السماني من رجال فتوتنا قنصوه. - تشرفنا يا معلم.
وتفحصه مليا، ثم سأله: تنضم إلينا؟
فقال عاشور بلا تردد: لا قلب لي على ذلك.
فضحك كليب ساخرا ومضى وهو يقول: جسم ثور وقلب عصفورة!
وكان يرى حمير المعلم زين الناطوري وهي ترابط في الحظيرة عقب يوم طويل في قضاء المشاوير، يتطوع بتنظيفها وتقديم العلف لها وكنس الفناء ورشه على مرأى من المعلم، ثم يذهب دون أن يسأله شيئا.
وذات يوم ناداه المعلم زين وسأله: أنت صبي المرحوم الشيخ عفرة زيدان؟
فأجاب بخشوع: نعم، رحمه الله رحمة واسعة. - بلغني أنك رفضت الانضمام لرجال الفتوة قنصوه؟ - لا مأرب لي في ذلك.
فابتسم المعلم وعرض عليه أن يعمل عنده مكاريا، ومن فوره قبل وقلبه من الفرحة يرقص.
ومضى بحماره متحمسا لعمله بكل قواه وحيويته، وكلما مضى يوم اطمأن المعلم إلى سلوكه وأدبه وتقواه، وأثبت عاشور بدوره أنه أهل للثقة.
وكان وهو يعمل في فناء البيت يتجنب النظر إلى الناحية التي يحتمل أن يلمح فيها زوجة المعلم، ولكنه رأى ابنته زينب وهي ذاهبة إلى الطريق فخانه طرفه لحظات خاطفة ولكنها جديرة بالندم. وتفشى الندم أكثر عندما اجتاحته شعلة ألهبت الصدر والجهاز الهضمي واستقرت في الجوهرة الحمراء المشعة للرغبة الجامحة. غمغم وهو ثمل بنشوة دسمة نهمة: ليحفظنا الله!
ولأول مرة يردد اسم الله بطرف لسانه وفكره مشدود إلى غيره؟ وحضرته تجاربه الجنسية البدائية المحدودة في رجفة من الحيرة والقلق والغربة.
واقتنع المعلم زين الناطوري بمزاياه كحارس أمين فسأله: أين تسكن يا عاشور؟
فأجاب ببساطة: سور التكية أو تحت القبو. - يسرك ولا شك أن تنام في الحظيرة؟
فأجاب بسرور: نعمة أشكرها لك يا معلم.
9
يستيقظ في الفجر. إنه يألف ظلمته المشعشعة بالبسمات، ودبيب أهل التقوى والفجور، وأنفاس الكون النقية المسربلة بالأحلام. ينفض عن قلبه صورة زينب المتحدية ويصلي. يلتهم رغيفا مع الزيتون المخلل والبصل الأخضر. يربت على ظهر حماره، ثم يسوقه أمامه نحو الميدان مستقبلا يوم الرزق والعمل. يفيض بحيوية متدفقة، يمتلئ بثقة غير محدودة في قدرته وصبره وامتلاكه للمجهول، تكتنفه دوامة تكاد تقتلعه من جذوره، دائما تتقدمه زينب فتغلبه بنداء غامض. وجهها مشوب بشحوب، أنفها بارز، شفتاها غليظتان، جسمها صغير ومدمج، ولكنها تستمد تأثرها عليه من مصدر مسحور، دائما تشعل جذوة في أعماقه، وأحيانا لا يرى الحمار وراكبه.
وفي أويقات الراحة يقف أمام البيت يتابع تيار السابلة. ما أكثر العاملين في الدكاكين أو وراء عربات اليد والسلال والمقاطف! وما أكثر المتشردين من الحرافيش بلا عمل! من أبوه بين هؤلاء الرجال؟ من أمه بين هؤلاء النسوة؟ رحلا عن الدنيا أم يبقيان؟! هل يعرفانه أم يجهلان؟ من الذي أورثه هذا الكائن الهائل المفعم بمعروف الشيخ عفرة زيدان؟ ويطرد عن رأسه الأفكار العقيمة المضنية، فتبادر إليه زينب زين الناطوري بندائها الغامض. وقال لنفسه: كل شيء يتحرك فلا بد أن تحدث أمور.
وقال لنفسه أيضا: ليكن الطيب حليفي جزاء نيتي البيضاء.
وترامى إليه صوت زين الناطوري وهو يحتدم غضبا. رآه في الفناء مشتبكا في معركة لفظية مع أحد العملاء، وبعنف صاح به: أنت لص لا أكثر ولا أقل!
فصاح العميل: احبس لسانك القذر!
وإذا بالمعلم يصفعه فيمسك الرجل بتلابيبه. هرع عاشور إليهما وهو يهتف: وحدوا الله!
رمى نفسه بينهما فركله العميل وهو يسبه. ضمه عاشور إلى صدره بقوة حتى صرخ. تركه يفلت وهو يقول له: اذهب بسلام فهو خير لك.
سرعان ما خلا منه الفناء، وتكأكأت النساء في النافذة، وصاحت الأم: لم يبق إلا أن يعتدي علينا في بيتنا!
ورمق زين الناطوري عاشور بامتنان، وقال مداريا حياءه: الله يفتح عليك.
ومضى المعلم إلى الداخل، ولم يبق في النافذة إلا زينب، عاد عاشور عند موقفه عند الباب وهو يقول لنفسه: لم يبق إلا أن نتبادل النظرات!
واستند إلى الجدار فلمح قطة تتوثب لتخويف كلب أسود يتنحى تجنبا للمعركة، وقال لنفسه: حذار يا عاشور، هذه وصية والديك!
واستسلم لأنامل الأحلام الناعمة حتى حرقته أشعة الصيف.
10
قالت عدلات لزوجها زين الناطوري: إنك تؤكد أنه أهل للثقة؟ - أجل، صار لي به ابن.
فقالت بنفاد صبر: عظيم، زوجه لزينب ...
فقطب زين الناطوري متفكرا، ثم قال: آمل فيمن هو خير منه! - طال الانتظار، وكلما جاء عريس لإحدى أخواتها رفضته إكراما لسنها، فقال باستياء: لو كانت من لحمك ودمك ما قلت ذلك. - أصبحت عقبة في سبيل بناتي، وهي في الخامسة والعشرين ولا جمال لها، وطباعها تسوء يوما بعد يوم.
فكرر عابسا: لو كانت من لحمك ودمك ما قلت ذلك. - ألا يكفي أنك تثق به؟ وأنت في حاجة إلى من تثق به في كبرك. - وزينب؟ - ستفرح، أنقذها من يأسها.
11
سمع عاشور المعلم زين يناديه من المنظرة. ولما ذهب إليه أفسح له مكانا إلى جانبه على الأريكة الخشبية المفروشة بفروة خروف. تردد عاشور، ثم جلس. عند ذاك سأله المعلم برقة: ألا تفكر يا عاشور في ضمان نصف دينك؟
12
الفرحة والنور. عندما يصير الحلم نعمة تشدو في الأذن والقلب. عندما تشرق وجوه العباد بضياء السماح، وحتى الحشرات تمسك عن ارتكاب الأذى.
ذهب عاشور إلى حمام السلطان فأزال الشعر والعرق، مشط شعره وهذب شاربه، تطيب بالجلاب، ونظف أسنانه بالسواك، رفل في جلباب أبيض ومركوب فصل خاصة لقدميه الضخمتين.
احتفل بزفاف مناسب في بيت الناطوري، ثم أقام العروسان في بدروم مكون من حجرة ودهليز يقع أمام بيت الناطوري. واندلق عاشور في الحب حتى قمة رأسه، وكان بعض أهل الفجور عقب انطلاقهم من الغرز في النصف الثاني من الليل يقرفصون في الظلام لصق شباك البدروم يتنصتون ويحلمون.
وأنجب مع الأيام حسب الله ورزق الله وهبة الله. وفي أثناء ذلك توفي المعلم زين وزوجه، وتزوجت البنات.
تمتع عاشور بحياة زوجية سعيدة. ظل يعمل مكاريا وأصبح مالكا للحمار الذي وهبه إياه الناطوري ليلة زفافه. وعملت زينب من ناحيتها بتربية الدجاج وبيع البيض، فتيسرت المعيشة وفاح الدهليز برائحة التقلية.
وتقدم الأولاد صوب الشباب فعملوا في مختلف الحرف؛ عمل حسب الله صبي نجار، ورزق الله مبيض نحاس، وهبة الله صبي كواء بلدي. ولم يرزق أحدهم عملقة أبيه، ولكنهم كانوا أشداء لدرجة تستوجب الاحترام في الحارة.
ورغم ما عرف به عاشور من دماثة الخلق فإن واحدا من رجال قنصوه الفتوة لم يتحرش به. ولم تكن زينب تماثله في دماثته؛ كانت عصبية، سيئة الظن، طويلة اللسان، ولكنها كانت مثالا طيبا للجد والاجتهاد والوفاء.
وكانت تكبره بخمس سنوات، وبقدر ما حافظ هو على حيويته وشبابه سارع إليها التغير والنضوب قبل الأوان؛ على ذاك لم تزغ له عين، ولم يزهد في حبها.
وبمرور الزمن ابتاع بنقوده ونقود زينب كارو فترقى من مكار إلى سواق. وقالت له زينب بنبرة وعيد: كان زبائنك من الرجال، ومن الساعة لن تحمل إلا النساء!
فضحك متسائلا: وهل يقصدني إلا زائرات الأضرحة والقبور؟!
فهتفت به: بيني وبينك ربنا!
وأحزنه أنه مضى ينسى ما حفظه من القرآن فلم تبق له إلا السور الصغيرة التي يتلوها في الصلوات، ولكن حبه الخير لم يفتر قط. وتعلم أن درويش زيدان ليس الشرير الوحيد في الحياة. تعلم أن الحياة حافلة بالمكر والعنف ورذائل لا حصر لها، ولكنه واظب على الاستقامة ما وسعه ذلك، وكان يحاكم نفسه محاكمة قاسية كلما تورط في خطأ. ولم ينس أنه استولى على جميع مدخرات زينب وبعض أجور أبنائه لكي يبتاع الكارو، وأنه في سبيل ذلك قسا عليهم بعض الشيء وغضب غضبات كاسرة!
وكان يشاهد ما يصيب بعض جيرانه من عنت الفتوة ورجاله، فيكظم غيظه ويطيب خاطر المظلومين بكلمات لا تغني، ويدعو للجميع بالهداية، وحتى قال له جار ذات يوم: إنك لقوي يا عاشور، ولكن ماذا أفدنا من قوتك؟!
علام يلومه الرجل؟! علام يحرضه؟ أليس حسبه أنه رفض الانضمام إلى الطغاة؟ أليس حسبه أنه لا يستغل قوته إلا فيما ينفع الناس؟!
رغم ذلك هفت في ضميره الوساوس كما يهفو الذباب في يوم قائظ، وقال إن الناس لا يرونه بالعين التي يرى بها نفسه، وتساءل في حزن: أين صفاء البال؟ أين؟!
13
كان يتربع في الساحة أمام التكية مودعا الغروب، مستقبلا المساء، ينتظر انسياب الأناشيد ونسمة من نسائم الخريف معطرة بالبرد والأسى، تنزلق من فوق السور العتيق، تشد بذيلها طيفا من أطياف الليل. بدا عاشور متخما بالسكينة ولم تشب له شعرة واحدة. كان يحمل فوق كاهله أربعين عاما وكأنها هي التي تحمله في رشاقة الخالدين.
همسة في باطنه جعلته يحول عينيه نحو ممر القرافة فرأى رجلا يخرج منه يسير في تكاسل. لم يستطع أن يسترد عينيه، عرفه في بقية ضوء المغيب، دق قلبه، وخمد سروره. أقبل الرجل نحوه حتى وقف أمامه حاجبا عنه التكية، ومضى ينظر إليه باسما.
تمتم عاشور: درويش زيدان!
قال درويش معاتبا: هلا بدأت بالتحية؟ مساء الخير يا عاشور!
فنهض باسطا يده وهو يقول بنبرة محايدة: أهلا بك يا درويش. - لم أتغير كثيرا فيما أظن.
مؤسف هذا الشبه بينه وبين المرحوم عفرة، ولكن غلظت قسماته وتحجرت، قال: بلى.
فحدجه بنظرة ذات معنى وقال: رغم أن كل شيء يتغير!
فتجاهل عاشور ملاحظته متسائلا: أين غبت طوال ذاك العمر؟
فقال باستهانة ساخرة: في السجن!
ورغم أنه لم يدهش فقد هتف: السجن! - الجميع أشرار ولكني سيئ الحظ! - الله غفور رحيم. - عرفت أن أحوالك رائعة؟ - الستر لا أكثر من ذلك.
فقال باقتضاب: إني في حاجة إلى نقود.
تضايق عاشور، ولكنه دس يده في صدره فاستخرج ريالا، أعطاه له قائلا: إنه قليل ولكنه كثير بالقياس إلى حالي.
تناوله بوجه مكفهر وقال بنبرة ذات مغزى: لنقرأ الفاتحة على روح أخي عفرة.
فقرأها، ثم قال: لم أنقطع عن زيارة قبره.
فسأله بجرأة: هل أجد عندك مأوى حتى أقف على قدمي؟
فبادره قائلا: لا مكان في حجرتي لغريب. - غريب؟!
فقال بإصرار وجرأة: لولا ذكرى مولاي ما مددت لك يدي!
فقال بقحة: أعطني ريالا آخر وسوف أسدد ديني عند الميسرة.
فلم يضن عليه بالنقود وهو من الضيق في غاية.
ومضى درويش نحو القبو صامتا، على حين تهادى من التكية صوت عذب ينشد:
زكريه مردم جشم نشسته در خونست
14
رأى عاشور وهو ينطلق بالكارو جماعة تتجمهر في خرابة على كثب من مدخل الحارة، وعندما اقترب منهم وضح له أنهم عمال بناء يحدقون بأكوام من الصفائح والأخشاب وسعف النخل، ورأى بينهم درويش زيدان. انقبض صدره وقال إن الرجل يشيد لنفسه مأوى. وصاح به درويش حين مر به: إني أبذل ما في وسعي لخدمتكم.
فقال له بجفاء: حسن أن يكون للإنسان بيت. - بيت؟!
وضحك درويش ضحكة عالية، ثم واصل: سيكون بيت من لا بيت له!
15
وقال حسب الله لأبيه عاشور: وضح الأمر، الرجل يبني بوظة!
فذهل عاشور متسائلا: خمارة؟!
فقال رزق الله: الجميع يقولون ذلك.
فهتف عاشور: رباه. لقد أسهمت نقودي في بنائها!
فقال هبة الله: إنما الأعمال بالنيات. - والحكومة؟ - أخذ الرخصة ولا شك.
فقال عاشور محزونا: حارتنا لم يشيد بها سبيل للعطشى ولا زاوية للمصلين بعد، فكيف تقام بها بوظة؟!
وافتتح البوظة قنصوه الفتوة ورجاله، فزادت كآبة عاشور وتمتم: وأيضا وجد الحماية!
16
ثمة ضجة وراء شباك البدروم. ما هذا؟ ألا تكف هذه الحارة عن الشجار؟ عاشور فوق الكنبة الوحيدة بالحجرة يحتسي قهوته، والمصباح لم يشعل بعد. ضلفة الشباك ترتعش بهبة من أنفاس الشتاء الباردة، وزينب عاكفة على كي ملابس بالجندرة. رفعت زينب رأسها وقالت بانزعاج: هذا صوت رزق الله! - الأولاد يتشاجرون؟!
وهرعت زينب إلى الخارج، وسرعان ما جاءه صوتها وهي تصيح: يا مجانين احتشموا!
وثب عاشور ناهضا. في لحظة كان يقف وسط أبنائه. صمتوا ولكن الغضب لم يتلاش من وجوههم. هتف: ما شاء الله!
لاحت منه نظرة إلى الأرض فرأى مخطط سيجة مبعثرة فوق حصوات اللعب، فتساءل بحدة: تلعبون أم تقامرون ؟
لم يجبه أحد. اشتعل غضبا. تساءل: متى تصيرون رجالا؟
وجذب إليه حسب الله قائلا: أنت الأكبر، أليس كذلك؟
وفغمته رائحة غريبة تتناثر من فيه فجزع. جذب الآخرين وتشمم أنفاسهم. آه، فلتخسف الأرض بمن عليها! - سكارى؟! يا كلاب!
وراح يعصر آذانهم وعضلات وجهه تموج بسحب حمراء. وتجمع غلمان يتفرجون، فهتف حسب الله متوسلا: فلندخل البيت.
فصاح بصوته الأجش: تخجلون من الناس ولا تخجلون من الله.
وشدته زينب من ذراعه وهي تقول: لا تجعلنا جرسة بين الأوباش.
فاستسلم ليدها وهو يقول: هم ... هم الأوباش!
فهمست بحدة: ليسوا أطفالا. - لا خير فيهم ولا فيك. - البوظة لا تفرغ من الناس!
فانحط على الكنبة وهو يتمتم: يا للخسارة! لا فائدة ترجى منك.
أشعلت المصباح ووضعته داخل الكوة، ثم قالت بنبرة لطيفة: إني أعمل أكثر منك، لولاي ما ملكت الكارو وما اشتعل لك كانون.
فقال بضجر: لم يبق منك إلا لسان مثل السوط.
فهتفت بحدة: ذبل الشباب في خدمتكم. - لا بد من تأديبهم. - ليسوا أطفالا وسيذهبون.
إنها تعلم أن الخصام سيتلاشى سريعا، وأن الكلمات القارصة والهمسات العذبة تمتزج في قدح واحد.
وفكر عاشور في أمر أولاده بقلق.
لم يفلح أحدهم في الكتاب، لم يجد أحد منهم عناية من والديه لانشغالهما بعملهما المتواصل، لم يحظوا بما حظي هو به في كنف الشيخ عفرة، تشربوا بعنف الحارة وخرافاتها وغابت عنهم فضائلها، حتى قوته لم يرثها أحد منهم. لم يتعلق أحدهم به أو بأمه، حبهم سطحي متقلب، قلوبهم متمردة من قديم وإن لاذت بالصمت. لا موهبة ولا ميزة. سيظلون صبيان ولن يترقى أحد منهم إلى درجة معلم أبدا، وها هم يهرعون إلى البوظة عند أول إشارة، ولن يقفوا عند حد.
قال بحزن: لن يجيئنا منهم إلا ما يكدر القلب.
فقالت بتسليم: إنهم رجال يا معلم!
17
مرة وهو مقبل بالكارو فيما أمام الخمارة تصدى له درويش قائلا: مرحبا.
لم يتجاهله هذه المرة، رغم مقته له لم يتجاهله. شد اللجام فتوقف الحمار عن السير، ووثب واقفا أمام درويش وقال له بحزم : هذا العمل لا يليق بذكرى أخيك.
فابتسم درويش متهكما وقال: أليس خيرا من قطع الطريق؟ - إنه سيئ مثله. - معذرة فإني أحب المغامرات. - بحارتنا من الشر ما يكفي وزيادة. - البوظة كما أنها تضاعف من شر الشرير، فإنها تضاعف من طيبة الطيب، شرف وجرب. - عليها اللعنة.
عند ذاك لمح داخل البوظة مخلوقا يمر بسرعة من جانب إلى جانب، فذهل متسائلا: النساء أيضا؟ - لعلك رأيت فلة؟
لم يكن رأى منها شيئا ذا دلالة فسأله: هل يجيئك نساء أيضا؟ - كلا إنها بنت يتيمة تبنيتها.
ثم مواصلا بلهجة ذات مغزى: أنت لا تتصور أني قادر على فعل الخير، ولكن أليس تبني لقيطة خيرا من بناء زاوية؟
تلقى الغمزة صابرا وسأله: ولماذا تجيء بها إلى الخمارة؟ - لتكسب رزقها بعرق جبينها!
فغمغم آسفا: لا فائدة.
ووثب إلى مقدم الكارو وهو يصيح «حا»، فمضى الحمار مرسلا بحدواته طقطقاته الموسيقية.
18
لم يعد عاشور يرى من النهار إلا غباره، ولا من الليل إلا ظلامه، وكلما أقدم على عطفة توقع عثرة ليست في الحسبان، وترف عينيه فيغمغم اللهم اجعله خيرا. ترى هل أصاب البنيان شدخ يتعذر ترميمه؟
وكان يستنيم إلى مضجعه عقب منتصف الليل عندما ترامى إليه صوت يزعق من وراء النافذة: يا معلم عاشور، يا معلم عاشور.
هرع إلى الشباك ففتحه وهو يغمغم «الأولاد!» فرأى شبحا منحنيا فوق القضبان، سأله: ماذا هناك؟ - أدرك أولادك! إنهم يتقاتلون في البوظة بسبب البنت فلة!
وهتفت زينب: ابق أنت ودعني أذهب إليهم.
فأزاحها عن طريقه، دس قدميه في المركوب، انطلق مثل عاصفة.
19
ملأ هيكله فراغ الباب. اتجهت نحوه أبصار السكارى المطروحين على الجانبين. وثب نحوه درويش وهو يهتف: سيهدم أولادك المكان!
رأى هبة الله ملقى على الأرض بلا حيلة. رأى حسب الله ورزق الله مشتبكين في صراع حقود، على حين انطرح السكارى غير مبالين. صاح بصوت فظيع: تأدب يا ولد!
انفصل الشابان وهما ينظران نحو مصدر الصوت برعب. بظهر كفه لطم الأول فالثاني فتهاويا فوق الأرض التربة العارية. وقف يقلب عينيه في الوجوه متحديا فلم ينبس أحد. قذف درويش بنظرة متحجرة وصاح به: ملعون أنت وملعون جحرك الموبوء!
عند ذاك ظهرت فلة لا يدري من أين جاءت وتمتمت: إني بريئة!
وقال درويش: إنها تقوم بالخدمة ولكن أولادك طمعوا فيها!
فصاح به: اخرس يا قواد!
فتراجع درويش قائلا: سامحك الله. - في قدرتي أن أهدم هذه البؤرة فوق رءوسكم.
تقدمت فلة خطوة حتى مثلت أمامه تماما وقالت: إني بريئة!
قال لها بخشونة وهو ينتزع عينيه منها: اغربي عن وجهي.
دفع بأولاده المترنحين إلى الخارج بعنف واحدا في إثر واحد. عادت فلة تتساءل: ألا تصدق أني بريئة؟
انتزع عينيه منها مرة أخرى هاتفا: بل شيطانة صغيرة من صنع شيطان كبير!
وغادر المكان وهو يتجنب النظر إليها.
في ظلام الحارة تنفس بعمق. شعر بأن سراحه قد أطلق، وأنه تملص من قبضة شريرة. الظلام كثيف لا عين له. أحد بصره ليعثر على أشباح أولاده ولكنهم ذابوا. هتف: حسب الله!
لا شيء سوى الصمت والظلام. بصيص ضوء ينساب من القهوة هناك ولا شيء بعد ذلك. قلبه يحدثه أنهم لن يرجعوا. سيهجرون مهدهم وسلطانه، سيتراءون في المستقبل كالغرباء. لا أبناء يلتصقون بأصولهم في هذه الحارة إلا أبناء الوجهاء.
شعر وهو يشق طريقه في الظلام بأنه يودع الطمأنينة والثقة. ها هو تيار مضطرب يلفه في دوامته، وهو يساوره الخوف كما يساوره النوم. وقال لنفسه إن البنت بهرتهم بجمالها. وقال أيضا إن البنت بهرتهم بجمالها الفتان، لماذا لا يتزوج الحمقى؟ أليس الزواج دينا ووقاية؟
20
في انتظاره كانت زينب أمام الباب. اهتدى إلى مسكنه بضوء مصباحها الموضوع على عتبة المدخل، سألته بلهفة: أين الأولاد؟
فتساءل بوجوم: ألم يرجعوا؟
فتنهدت بصوت مسموع، فتمتم: لتكن إرادة الله.
وهو يجلس على الكنبة قالت له بحدة: كان يجب أن تدعني أذهب! - تذهبين إلى البوظة في خضم السكارى؟! - ضربتهم، ليسوا أطفالا، ولن يرجعوا إلى البيت. - يتسكعون يوما، ثم يرجعون. - إني أعرف بهم منك.
فلاذ بالصمت فواصلت تسأله: وما هذه الفلة التي رمانا بها درويش؟
تجنب النظر إليها وقال بازدراء : فيم تسألين؟ بنت تقيم في خمارة! - جميلة؟ - داعرة. - جميلة؟
فقال بعد تردد: لم أنظر نحوها.
فقالت متأوهة: لن يرجعوا يا عاشور. - لتكن إرادة الله. - ألا تسمع عما يفعل الشبان؟
فلم ينبس، فقالت: علينا أن نتسامح مع الأخطاء.
فتساءل بذهول: حقا؟!
وتبدت لعينيه ناضبة شاحبة طاعنة في السن مثل جدار الممر العتيق، فتمتم: إني أرثي لك يا زينب.
فقالت بحدة: سنتبادل الرثاء كثيرا. - على أي حال فليسوا في حاجة إلينا. - بغيرهم لا أنفاس في البيت تتردد. - إني أرثي لك يا زينب.
أسندت رأسها إلى راحتها وتمتمت متشكية: لدي عمل في الصباح الباكر. - جربي النوم. - في هذه الليلة؟
فقال بضجر: في أي ليلة! - وأنت؟!
فقال بتصميم: الحق أني بحاجة إلى نسمة هواء في الخارج!
21
الظلام مرة أخرى. يتجسد في القبو، يغطي المتسولين والصعاليك، ينطق بلغة صامتة. يحتضن الملائكة والشياطين، فيه يختفي المرهق من ذاته ليغرق في ذاته. إن قدر الخوف على أن ينفذ من مسام الجدران فالنجاة عبث.
22
خرج من القبو إلى الساحة. انفرد بأناشيد التكية والجدار العتيق والسماء المرصعة بالنجوم. جلس القرفصاء دافنا وجهه بين ركبتيه. منذ نيف وأربعين عاما تسللت به أقدام خاطئة لتواري خطيئتها في ظلمة الممر. كيف وقعت تلك الخطيئة القديمة؟ أين؟ في أي ظروف؟ ألم يكن لها ضحية سواه؟ تخيل، إن استطعت، وجه أمك الحالم ووجه أبيك المحتقن، استعد، إن استطعت، كلمات التغرير المعسولة، استحضر اللحظة الحاسمة التي تقررت بها مصائر. كان يقف إلى جانبهما ملاك وشيطان، ولكن الرغبة تهزم الملائكة. تخيل صورة أمك، لعلها مثل! لكي تحتدم المعركة لا بد من بشرة صافية وعينين سوداوين مكحولتين وقسمات دقيقة مثل البراعم. لا بد من الرشاقة والسحر وعذوبة الصوت. وقبل ذلك لا بد من القوى الخفية المتدفقة المناسبة الغادرة المغتصبة بلا ضمير. والطعم الفواح تضعه الحياة في الفخ وتنتظر، وتودع ذلك كله خمسة عشر عاما من عمر البشر.
لذلك دق باب الأناشيد ولكنه لم ينفتح. الحق كان بوسعك أن تدفعه بقوتك ولكنك لم ترد. ومن يتزوج الحياة فليحتضن ذريتها المعطرة بالشبق، ولكن لا مفر من أن تعترف بأن ما يحدث لا يمكن أن يصدق، وأن تعاني إحساس المطارد إذا سبق. فالبسمة قدر، والدمعة قدر، وها هو مخلوق جديد يولد مكللا بالطموح الأعمى والجنون والندم. ويسأل الغوث من الرحمن فتنسكب عليه خمر الفتن.
وثقل رأسه فغفا.
رأى الشيخ عفرة زيدان أمام قبره. حمله بين يديه فسأله في جزع: إلى القبر يا مولاي؟
ولكنه مضى به إلى الممر، ومن الممر إلى الساحة، ومن الساحة إلى القبو، واستيقظ على شيء.
فتح عينيه فسمع صوت زينب وهي تقول: هذا ما خمنته، تنام حتى مطلع الفجر؟
نهض فزعا. أسلم لها يده. مضيا صامتين.
23
ما يدرون إلا وهيكله العظيم يملأ باب البوظة.
اختلجت الجفون الثقيلة، وترددت التساؤلات تحت غيوم الأعين: ماذا جاء يفعل؟ - مطاردة أولاده؟ - لا تتوقعوا من ورائه مسرة!
مسح المكان ببصره حتى وجد فراغا في الجناح الأيسر فمضى إليه وتربع هناك في هدوء تستر به على ارتكابه. هرع إليه درويش قائلا: خطوة عزيزة.
ثم وهو يبتسم: فليعني الله على التصديق!
تجاهله تماما، وفي الحال جاءت فلة تسعى بالقرعة وقرطاس الترمس المدعوك بالشطة. أسبل جفنيه وتذكر قصة الطوفان. نحى القرعة جانبا، وأدى الثمن بلا كلام. وجعل درويش يراقبه بحيرة، ثم همس له وهو يهم بالابتعاد: نحن في الخدمة أيا تكن!
سرعان ما نسيه الآخرون، أما فلة فساءلت نفسها عما يزهده في الشراب. اقتربت منه مرة أخرى وقالت وهي تومئ إلى القرعة: إنها جيدة فوق الوصف!
فحنى رأسه فيما يشبه الشكر. وقال لها أحد السكارى: ابعدي عنه يا بنت.
فرجعت ضاحكة وهي تقول بصوت مسموع: ألا ترى أنه يشبه الأسد؟!
قطرت السماء فرحة من أفراح الطفولة، ولكن عضلات وجهه تصلبت أكثر، ولم تعد ملابسه تحجب عريه عن الأعين. واختصر طريق حياته بين زاوية الممر وهذا المجلس بالبوظة، ما عدا ذلك طوي وتلاشى في نغمة جديدة غامرة. وسرعان ما استنام إلى الهزيمة جذلان بإحساس الظفر.
ووقفت فلة بين الأوعية الفخارية ترنو إليه باهتمام، على حين اقتحم الباب حسب الله ورزق الله وهبة الله.
سرى التوقع في ثنايا الخمول واشرأبت الأعناق. هتف حسب الله: سلام الجدعان.
ولمح أباه فتشنج حلقه وجمد، وخمد حماس رزق الله وهبة الله. وقفوا لحظة مذهولين، ثم استداروا فتلاشوا كشيء لم يكن. وارتفعت ضحكة هازئة. ونظرت فلة نحو درويش فلم ينبس، ولكن تجلى الضيق في وجهه.
24
احتجت قسمات زينب وسألته: وهل يستمر ذلك إلى الأبد؟
فتساءل عاشور في قهر: ما الحيلة؟ - عظيم أن تصدهم عن البوظة، ولكن بأي ثمن؟
فحرك رأسه الكبير بحيرة صامتا، فهتفت بحدة: النتيجة أنك بت الزبون الدائم عند درويش!
25
كان يمضي بالكارو عندما مرقت فلة من باب الخمارة فاعترضت طريقه. شد اللجام وهو يقول لنفسه: «لتدركني رحمة السماء.» ودون كلمة وثبت إلى الكارو برشاقة. تربعت وهي تحبك ملاءتها حولها، وكانت سافرة الوجه. نظر إليها مستفهما، فقالت بعذوبة: وصلني إلى مرجوش.
وظهر درويش باسما وهو يقول: في رعايتك، وحسابها عندي.
رأى خيوط العنكبوت ولكنه لم يبال. طرب حتى ثمل. هرس تراثه تحت حوافر الحمار. سارت الكارو وظهره ينصهر بالسخونة.
وإذا بصوتها يقول: لو أنصفت نفسك لكنت الفتوة.
فامتلأ بشاشة وتساءل: أترينني شريرا؟
فضحكت برقة وتساءلت بدورها: وما جدوى الخير مع أناس لا خير فيهم؟ - ما زلت صغيرة.
فقالت بنبرة لاذعة: لم أعامل كصغيرة قط.
فتجهم وجهه مقطبا. وحتى تلك اللحظة لم تغب عن عينيه النظرات المتطلعة إلى حمله الثمين، ووجد نفسه يسألها: لماذا تذهبين إلى مرجوش؟
ولما لم تجبه ندم على ما فرط منه، وطلبت منه التوقف عند مدخل مرجوش، ثم قالت: تمنيت لو كان المشوار أطول.
ثم وهي تهم بالذهاب: ولكن الليل ليس ببعيد!
ربت على عنق الحمار وهمس في أذنه: انتهى صاحبك.
26
مع أول شعاع للشمس اقتحم باب البوظة. استيقظ درويش صاخبا محتجا، ثم ذهل لمرآه، ثم تساءل: ماذا وراءك؟
فأقامه بيده وحدجه بنظرة هائجة وتمتم: لا بد مما ليس منه بد. - ماذا جاء بك يا عاشور؟
فقال بغلظة: إنك خبيث وشرير وتعرف كل شيء.
فدعك درويش قفاه وهو يطالعه بعينيه المحمرتين وتمتم: هذا وقت الرزق!
فقال ملقيا بنفسه في اليم: قررت أن آخذها.
فقال باسما: لكل شيء وقته!
فقال باستسلام نهائي: على سنة الله ورسوله!
اتسعت عينا درويش من وقع المفاجأة وراحا يترامقان في صمت حتى تمتم: ما معنى هذا؟ - لست كما تظن. - أجننت يا عاشور؟! - ربما.
فكساه الفتور وقال: إني لا أستغني عنها! - سوف تستغني عنها يا درويش! - هل فكرت في العواقب؟ - لا دخل للتفكير في ذلك!
فتساءل في خبث: ألا تعلم أنه ما من رجل ...
وقاطعه صوت فلة وافدا من فوق أريكتها مما قطع بمتابعتها للحديث وهو يقول: ماذا تريد أن تقول؟ لو كان في حاجة إلى شهادتك لسألك!
فثار درويش وصاح: ستصير أحدوثة الصغير والكبير.
فصاحت فلة: إنه قادر على حماية ما يملكه.
فانقض عليها فلطمها حتى صرخت، فوثب عاشور نحوه وطوقه بذراعيه وشد حتى صاح متأوها: أنا في عرض النبي!
فتركه وهو يزمجر غاضبا، فتهاوى درويش على الأرض وهو يصرخ: في ألف داهية.
27
جرى عاشور مع عزمته بجرأة مستهترة، حتى حزنه لزينب وذكرياتها لم يوقفه. وقال لها حاني الرأس: قضاء الله لا حيلة لنا فيه.
فنظرت إليه ببراءة مستطلعة فقال: سأتزوج من أخرى يا زينب!
وصعقت المرأة. ذهلت تماما وطارت من رأسها عصافير مصوصوة وصاحت: أنت الرجل الطيب!
فقال بخشوع: قضاء الله.
فصرخت: لم تتمحكون باسم الله؟! لم لا تعترف بأنه الشيطان؟ ترميني قشرة وتذهب؟!
فقال بتوكيد: مصونة جميع حقوقك!
فصاحت وهي تشرق بالدمع: لي الله وحده يا غادر يا خائن العيش والملح!
28
زفت فلة إلى عاشور في حفل صامت. استأجر لها بدروما في طرف الحارة من ناحية الميدان. وسعد الرجل بزواجه حتى خيل لمن يراه أنه رجع إلى شبابه الأول.
29
واجتاح خبر الزواج الحارة كالنار. تساءل كثيرون: ألم يكن بوسعه أن يفعل مثل الآخرين؟!
وقال حسب الله: إذن كان يصدنا نحن أبناءه ليستولي هو عليها!
وضاعف من أثر الخبر ما عرف به عاشور من الطيبة والاستقامة. أهكذا يقع الناس الطيبون؟ أين الوفاء لزينب؟ وأين الوفاء لزين الناطوري؟ من الذي جعل منه مالك كارو بعد أن كان مكاريا؟ ومن الذي انتشله من التشرد فجعله مكاريا؟
وكان عاشور يقول مدافعا عن نفسه: لولا أنني عاشور ما تزوجتها!
وتمضي الأيام وهو يزداد سعادة وامتنانا، واستهانة بالأقاويل. وتعلقت به فلة تعلقا لم يحلم به. صممت على أن تثبت له أنها ست بيت مطيعة، بعيدة كل البعد عما يثير غيرته. ومما جعلها أثيرة عنده أكثر أنه وجدها - مثله - مجهولة الأب والأم. وبسبب من شدة حبها له تسامح مع جهلها بكثير من الشئون النافعة، كما تسامح مع كثير من العادات السيئة. ومن أول الأمر أدرك أنها بلا دين إلا الاسم، وبلا أخلاق، وأنها تتبع في مسيرتها الغرائز وملابسات الحياة، فتساءل متى يجد وقتا ليلقنها ما ينقصها حقا في الحياة؟ الحب وحده ما يحفظها ولكن متى يكفي ذلك؟
ولم ينقطع عن زينب، ولم يغمط لها حقا. ومضت هي تألف الحياة الجديدة، وتعاشر جرحها معاشرة التسليم، فلا تكدر زياراته بمكدر.
وجعل درويش يراقب الأمور ويقول بحقد: العقرب تعبده، ما زالت تعبده، فمتى تلسعه؟
وتمضي الأيام فتحبل فلة، ثم تنجب ذكرا يسميه أبوه «شمس الدين»، ويفرح به عاشور فرحة كبرى كأنما هو بكريه.
وتمضي أيام صفاء وسعادة لم يجدهما عاشور فيما سلف من عمره.
30
ماذا يحدث بحارتنا؟
ليس اليوم كالأمس، ولا كان الأمس كأول أمس. أمر خطير طرأ. من السماء هبط أم من جحيم الأرض انفجر؟ وهل تجري هذه الشئون بمحض الصدف؟ ومع ذلك فالشمس ما زالت تشرق وتقوم برحلتها اليومية، والليل يتبع النهار، والناس يذهبون ويجيئون، والحناجر تشدو بالأناشيد الغامضة.
ماذا يحدث بحارتنا؟
وجعل يراقب شمس الدين الثمل بالانهماك في الرضاع ويبتسم، رغم كل شيء فهو يبتسم. وقال: ميت جديد، ألا تسمعين الصوات؟
فتساءلت فلة: بيت من يا ترى؟
فمد بصره من خلال قضبان النافذة متصنتا، ثم تمتم: لعله بيت زيدون الدخاخني!
فقالت فلة بقلق: ما أكثر أموات هذا الأسبوع! - أكثر ممن يموتون عادة في عام! - وقد يمر العام بلا ميت واحد.
ولم تهدأ ثائرة الطارئ الجديد.
وكان عاشور ماضيا بالكارو عندما اعترضه درويش وقال له: الأقاويل كثيرة، ألم تسمع شيئا يا عاشور؟ - عم تتحدث؟ - يتحدثون عن قيء وإسهال مثل الفيضان، ثم ينهار الشخص ويلتهمه الموت.
فتمتم عاشور بامتعاض: ما أكثر ما يقال في حارتنا! - أمس أصيب زبون عندي بذلك حتى لوث المحل.
فرمقه بازدراء، فعاد درويش يقول: حتى بيوت الأعيان لم تسلم، ها هي ذي حرم البنان توفيت صباح اليوم!
فقال عاشور وهو يمضي: إذن فهو غضب الله!
31
تفاقم الأمر واستفحل.
دبت في ممر القرافة حياة جديدة. يسير فيه النعش وراء النعش. يكتظ بالمشيعين، وأحيانا تتتابع النعوش كالطابور. في كل بيت نواح. بين ساعة وأخرى يعلن عن ميت جديد. لا يفرق هذا الموت الكاسح بين غني وفقير، قوي وضعيف، امرأة ورجل، عجوز وطفل. إنه يطارد الخلق بهراوة الفناء. وترامت أخبار مماثلة من الحارات المجاورة فاستحكم الحصار. ولهجت أصوات معوجة بالأوراد والأدعية والاستغاثة بأولياء الله الصالحين.
ووقف شيخ الحارة عم حميدو أمام دكانه وضرب الطبلة براحته، فهرع الناس إليه من البيوت والحوانيت.
وبوجه مكفهر راح يقول: إنها الشوطة، تجيء لا يدري أحد من أين، تحصد الأرواح إلا من كتب الله له السلامة.
وسيطر الصمت والخوف، فتريث قليلا، ثم مضى يقول: اسمعوا كلمة الحكومة.
أنصت الجميع باهتمام. ترى أفي وسع الحكومة دفع البلاء؟! - تجنبوا الزحام!
فترامقوا في ذهول. حياتهم تجري في الحارة، والحرافيش يتلاصقون بالليل تحت القبو وفي الخرابات، فكيف يتجنبون الزحام؟ ولكنه قال موضحا: تجنبوا القهوة والبوظة والغرز!
الفرار من الموت إلى الموت! لشد ما تتجهمنا الحياة! - والنظافة، النظافة.
تطلعت إليه في سخرية أعين الحرافيش من وجوه متوارية وراء أقنعة من الأتربة المتلبدة. - اغلوا مياه الآبار والقرب قبل استعمالها. اشربوا عصير الليمون والبصل.
ساد الصمت، وظل ظل الموت ممتدا فوق الرءوس حتى تساءل صوت: أهذا كل شيء؟
فقال حميدو بنبرة الختام: اذكروا ربكم وارضوا بقضائه.
رجع الناس إلى البيوت والدكاكين واجمين، وتفرق الحرافيش في الخرابات وهم يتبادلون الدعابات الساخرة ، ولم يتوقف موكب النعوش ساعة واحدة.
32
دفعه القلق إلى الساحة في جوف الليل. الشتاء يطوي آخر طية في ردائه. الهواء منعش لين القبضة. النجوم متوارية فوق السحب. في ظلمة داجية تهادت الأناشيد من التكية في صرحها الأبدي. لا نغمة رثاء واحدة تنداح بينها. ألم تعلموا يا سادة بما حل بنا؟ أليس عندكم دواء لنا؟ ألم يترام إلى آذانكم نواح الثكالى؟ ألم تشاهدوا النعوش وهي تحمل لصق سوركم؟
رنا عاشور إلى شبح البوابة، إلى هامتها المقوسة، بإصرار حتى دار رأسه. تضخمت البوابة وتعملقت حتى غابت هامتها في السحب. ما هذا يا ربي؟ إنها تتمخض عن حركة بطيئة دون أن تبرح مكانها. تتموج وقد تنقض في أي لحظة. وشم رائحة غريبة لا تخلو من نفحة ترابية. إنها تتلقى من النجوم أوامر صارمة. جرب عاشور الخوف لأول مرة في حياته. نهض مرتعدا. مضى نحو القبو وهو يقول لنفسه إنه الموت. تساءل في أسى وهو يقترب من مسكنه: لماذا تخاف الموت يا عاشور؟!
33
أشعل المصباح فرأى فلة نائمة، وشمس الدين لا يبدو من الغطاء إلا شعر رأسه. جمالها مستسلم لسطوة النوم. ثغرها مفتر بلا بسمة. منديلها منسحب وخصلات شعرها نافرة. دق الرعب أبواب رغبته الغافية. تمطى نداء مثل لسان من لهب. جن بالشهوة فاندفع بلهوجة المطارد. همس باسمها حتى فتحت عينيها. نظرت إليه منكرة حتى عرفته. فقهت وقفته ونظرة عينيه، فتزحزحت من تحت الغطاء بارزة، وتثاءبت، وابتسمت، وتساءلت: ماذا دهاك في الليل؟
ولكنه من شدة الانفعال صمت. امتلأ صدره العريض بالعنف والأسى.
34
نام ساعتين.
رأى في وسط الحارة الشيخ عفرة زيدان. هرع نحوه مجذوبا بالأشواق. كلما تقدم خطوة سبق الشيخ خطوتين. هكذا اخترقا الممر والقرافة نحو الخلاء والجبل. وناداه من أعماقه ولكن الصوت في حلقه انكتم.
واستيقظ في غاية من القهر.
وقال لنفسه أن ليس هذا لغير سبب. وفكر طويلا، وعندما نضح الشباك بلون الفجر تلقى عزمته، ونهض مرحا بعزمته. أيقظ فلة. بكى شمس الدين. غيرت لفته ودست برفق ثديها الثري في ثغره، ثم التفتت إلى الرجل تعنفه.
مسح على شعرها بحنان وقال: حلمت حلما مذهلا.
فقالت محتجة: لم أشبع من النوم.
فقال بجدية غير متوقعة: علينا أن نهجر الحارة بلا تردد.
فرمقته غير مصدقة، فعاد يقول: بلا تردد.
فتساءلت مقطبة: ماذا حلمت يا رجل؟! - أبي عفرة أراني الطريق. - إلى أين؟ - إلى الخلاء والجبل! - إنك ولا شك تهذي. - بل رأيت الموت أمس، ورائحته شممت. - وهل الموت يعاند يا عاشور؟
فقال وهو يحني رأسه في حياء: الموت حق والمقاومة حق. - ولكنك تهرب! - من الهرب ما هو مقاومة!
فتساءلت في قلق: وكيف نعيش في الخلاء؟ - الرزق في الساعدين لا في المكان.
فتنهدت قائلة: سيضحك الناس من جهلنا!
فقال بوجوم: لقد جفت ينابيع الضحك.
فأجهشت في البكاء، فتساءل في قلق: هل تتخلين عني يا فلة؟
فقالت وهي تنتحب: لا أحد لي سواك، سوف أتبعك.
35
اجتمع عاشور بأسرته الأولى، زينب وحسب الله ورزق الله وهبة الله، وباح لهم بحلمه وعزمته، ثم قال: لا تترددوا فالوقت ثمين.
ذهلوا جميعا وارتسم في وجوههم الرفض، وقالت زينب ساخرة: ها هي وسيلة جديدة لتجنب الموت!
وقال حسب الله: أرزاقنا هنا، ولا مجال لنا سواه.
فقال عاشور غاضبا: لنا سواعدنا، ولنا أيضا الكارو والحمار.
فسأله هبة الله: ألا يوجد الموت في الخلاء يا أبي؟
فقال عاشور وهو يزداد غضبا: علينا أن نبذل ما في وسعنا وأن نقدم الدليل للمولى على تعلقنا ببركته.
فهتفت زينب: أفسدت البنت عقلك!
فقلب وجهه في وجوههم وتساءل: ما قولكم؟
فأجابه حسب الله: عفوا يا أبي، نحن باقون ولتكن مشيئة الله!
هام عاشور في حزن عميق، ثم غادر المكان.
36
رفع شيخ الحارة حميدو رأسه عن مكتبه ليرى عاشور واقفا أمامه مثل الطود، فسأله بحدة: ماذا تريد يا عاشور؟
وقبل أن يجيبه عاشور قال: حدثني ابنك حسب الله عما عزمت، ولله في خلقه شئون!
فقال عاشور بهدوء عجيب: جئتك لتدعو الناس إليه بنفسك فهم أجدر أن يسمعوا لك!
فصاح شيخ الحارة: أجننت يا عاشور؟! أتفهم أنت خيرا من الحكومة؟! - ولكن .
فقاطعه بحدة: حذار أن تعطل الأرزاق وتنشر الفوضى. - لقد رأيت الموت والحلم! - هذا هو الجنون بعينه! الموت لا يرى، ونصف الأحلام مصدرها إبليس! - إني رجل طيب يا معلم حميدو.
ألم تذهب يوما إلى البوظة لتنقذ أبناءك من امرأة، ثم وقعت أنت في هواها واستأثرت بها لنفسك؟
فقال بغضب: لقد أنقذتها من الشر، ثم إنني لا أبرئ نفسي من الذنوب.
فصاح شيخ الحارة: افعل بنفسك ما تشاء، ولكن لا تغرر به أحدا وإلا أبلغت عنك القسم!
37
هاجر عاشور في الفجر، وتحركت به الكارو نحو القبو كما تفعل في مواسم القرافة. تربعت فوق سطحها المترجرج. فلة محتضنة شمس الدين، أمامها بقجة مكتظة، وراءها أجولة من الفول السوداني وبلاليص من الليمون والزيتون المخلل، وزكائب من العيش المقدد. ولما خلصت العربة إلى الساحة استقبلتها تراتيل آخر الليل وهي تشدو:
جز آستان تو أم درجهان بناهي ينست
سر مرا بجز أين در حواله كاهي ينست
استمع عاشور إليها بحزن، ثم دعا لحارته بالهداية من أعماق قلبه.
واخترق الممر الطويل، ثم شق سبيله بين القبور، قبور لا تكاد تغلق حتى تفتح ثانية، ثم انتهى إلى الخلاء. غمره تيار خفيف بارد، منعش وودود، ولكنه قال: احبكي الغطاء حولك وحول الولد.
فقالت متشكية: لا حي موجود. - الله موجود. - أين نقف؟ - عند سفح الجبل. - هل نتحمل جوه؟ - أقوى مما تتحمله التلال، وتوجد ثمة كهوف. - وقطاع الطريق؟!
فقال هازئا: فليقدم من كتب عليه الهلاك!
وراحت الكارو تتقدم والظلام يخف. تذوب الظلمة في ماء وردي شفاف فتتكشف عوالم في السموات والأرض. تنساب منها ألوان عجيبة متداخلة حتى اصطبغ الأفق بحمرة نقية متباهية، تلاشت أطرافها في زرقة القبة الصافية، وأطل من وراء ذلك أول شعاع مغسول بالندى. وتراءى الجبل شاهقا، رزينا، صامدا، لا مباليا. هتف عاشور: الله أكبر!
ونظر نحو فلة وقال مشجعا: انتهت الرحلة.
ثم وهو يضحك: بدأت الرحلة!
38
قضى عاشور وأسرته في الخلاء ما يقارب الستة الأشهر.
لم يكن يغادر موقع الكهف إلا ليحضر ماء من حنفية الدراسة، أو يبتاع علفا للحمار، أو بعض الضرورات في نطاق ما يملك من مدخر قليل. واقترحت فلة أن تبيع قرطها الذهبي ولكنه رفض. وأخفى عنها أسباب زهده؛ لقد جاءته والقرط في أذنيها فهو من مال حرام جاء!
وتبدت الحياة في الأيام الأولى نزهة ومغامرة ورياضة، ولم تشعر بخوف في ظل زوجها الجبار. وسرعان ما تبدت خالية مضجرة لا تحتمل. ماذا؟! هل جئنا نحسب الزمن بدبيبه المتتابع فوق جلودنا؟ هل جئنا لنعد حبات الرمال والنجوم الساهرة؟
وقالت له فلة: حتى الجنة لا تطاق بلا ناس وبلا عمل.
فلم يعترض ولكنه قال: نحن مطالبون بالصبر.
وقت طويل من وقته مضى في العبادة، ووقت طويل مضى في تذكر أسرته هناك وأهل حارته، حتى قال لزوجه مرة: ما أحببت الناس قط كما أحبهم اليوم.
وكان يحظى بنصيبه من النوم في النهار ويسهر الليل بطوله. وترامت تأملاته حتى شعر شعورا عجيبا بأنه عما قريب سيسمع أصواتا ويرى أشباحا. بات صديقا للنجوم وللفجر، وقال إنه من ربه قريب، لا يحجزه عنه شيء، وإنه لا يدري لم يستسلم أهل حارته للموت، ولا لم يقرون بعجز الإنسان؟ أليس الإقرار بعجز الإنسان كفرا بالخالق؟ واشتبك في أحاديث صامتة لا نهاية لها مع ماضيه، الشيخ عفرة، ست سكينة، الناطوري، زينب، وأحاديث حميمة حزينة مع حسب الله ورزق الله وهبة الله. حسب الله كان مرشحا دائما لصداقته فيا للخسارة! رزق الله لا خير فيه ولكنه ذكي. أما هبة الله فمتعلق بأمه بدرجة لا تليق. على ذلك فهو يقر بأنهم خير من كثيرين من أضرابهم، ودعا لهم ولأمهم طويلا. ولاحت له حارته مثل جوهرة غارقة في الوحل. إنه الآن يحبها حتى بسوءاتها، ولكن ثمة فكرة تتسلل إليه خلال عباداته المتواصلة بأن الإنسان يستحق ما يعانيه! الوجهاء والحرافيش ودرويش يدورون حول محور منحرف يرغب حقيقة في القبض على سره الماكر العسير، وها هو الله يعاقبهم جميعا كأنما قد ضاق بهم! ورغم ذلك يثمل الفجر بغبطته الوردية، ويرقص شعاع الضياء في مرح أبدي! إنه على وشك أن يسمع أصواتا، ويرى أشباحا، إنه يتمخض عن ميلاد جديد.
39
وثمة فرصة سنحت ليملأ قلب فلة بالإيمان. إنها امرأة صغيرة جميلة لا دين لها، لا تعرف الله ولا الأنبياء ولا الثواب ولا العقاب. يحفظها في هذه الدنيا المرعبة حبها وأمومتها. حسن، إنه يلقى عناء في تعليمها، ولولا ثقتها فيه ما صدقت كلمة واحدة مما يقول. تحفظ سور الصلاة في عناء. يغلبها الضحك فتخرج من الصلاة، وتصلي اتقاء لغضبه واستجلابا لمرضاته.
وسألته ببراءة: لماذا ترك الله الموت يفتك بالناس؟
فأجابها بعنف: من يدري؟ لعلهم في حاجة إلى تأديب.
فقالت مداعبة: لا تغضب مثل الله. - متى تهذبين ألفاظك؟ - عظيم، ولم خلقنا بهذا القدر من السوء؟
فضرب الرمل براحته وتساءل: من أنا حتى أجيبك نيابة عنه عز وجل؟
ثم برجاء: علينا أن نؤمن به فقط، علينا أن نضع قوتنا في خدمته.
فانسحبت من الحديث جملة، وهتفت متشكية: الأيام تمر والوحدة ثقيلة أفظع من الموت.
فحول عنها ناظريه في صمت. إنها تنذر بالتمرد. هل تغادره هاربة بشمس الدين؟ وماذا يبقى له في الحياة؟
شمس الدين سعيد. يزحف فوق الرمل، يجلس ليعبث بالحصى، يعرف النوم ولا يعرف الملل، ينضج في الهواء والشمس، يجد غذاءه الطبيعي متوافرا. الحمار أيضا سعيد. يأكل، ينعم براحة كبيرة، يهش الذباب بذيله، يهيم في ملكوته مزودا بصبر لا نهائي، ويرمقه عاشور بعطف وتقدير. إنه صاحبه ورفيقه ومصدر رزقه، وبينهما مودة راسخة.
40
وتمضي الأيام. يقتربون من حافة الانهيار.
وذات يوم قال لها عقب عودته من الدراسة: يقولون هناك إن الهلاك يولي مدبرا.
فصفقت فلة وصاحت: لنرجع في الحال!
فقال بحزم: بل ننتظر حتى أتحقق من الخبر.
41
رجعت الكارو تشق طريقها بين القبور في الهزيع الأخير من الليل. طفحت قلوب أصحابها بالسعادة تحت النجوم، وانتفضت بأماني النجاة. ولما انعطفت إلى الممر واستقبلتها الأناشيد دمعت الأعين، وقالت الأناشيد إن كل شيء سيكون كالعهد به.
ها هي الحارة مستغرقة في النوم، الإنسان والحيوان والجماد. عجيبة في سباتها كما هي عجيبة في يقظتها، ولسوف تتندر به طويلا . عند مسكن زينب توقف قلبه ولكنه أشفق من إزعاجهم، وأجل ارتباكه ساعتين. من القلوب انسابت قبلات تلثم الجدران والأديم والخدود وترقص بالطرب. الموت لا يجهز على الحياة وإلا لأجهز على نفسه، ولكن ثمة شعور بالندم والخجل.
وضمتهم أخيرا حجرتهم فامتلأت خياشيمهم برائحة التراب والعطن، وبادرت فلة تفتح النافذة وهي تقول: كيف يلقاك الناس يا عاشور؟
فقال بتحد كاذب: كل يعمل بإيمانه.
42
قبع وراء قضبان النافذة يترقب بصبر انطواء آخر ذيول الظلام. ها هو أول ضياء يتطامن فوق الجدران. ها هي معالمها تتحدد كوجه صديق قديم. من أول قادم يكون؟ لعله اللبان أو خادم من بيوت الوجهاء، سيجيبه بصوت يمزق الصمت، وليلق من السخرية حظه المقسوم. ها هو النور يشعشع في الحارة، وحتى دكان الفول لم يفتح.
تراجع متململا وهو يقول: الظاهر أن تعاليم الحكومة قد غيرت من عادات حارتنا.
ودس قدميه في المركوب قائلا: سأذهب لزيارة الأولاد.
43
انطلق في خلاء بين أبواب ونوافذ موصدة، إلى بدروم زينب. دفع الباب فانفتح، وجد نفسه في حجرة خالية عبقة برائحة محزنة. الفراش كما هو مغطى بطبقة من التراب، والكنبة الوحيدة عليها أشياء كالخرق البالية، والمقعد الخشبي مقلوب على مسنده، وتحت الفراش تكومت الحلة والأطباق والكانون ومقطف مملوء بالفحم إلى منتصفه. والسحارة ليست خالية، توجد بها الملاءة وجلباب ومشط ومرآة ومنشفة. - هاجروا؟ ولكن لم يتركون الملابس؟!
عبثا حاول أن يدفع البلوى أو أن يؤجل تجرعها. ضرب جبينه براحته. تأوه. أجهش في البكاء. قال إنه سيعلم من الآخرين الخبر، وإنه لم يفقد بعد الأمل.
غادر المكان مترنحا.
44
اندفع في الحارة حتى مطلعها عند الميدان. يا له من صمت! ويا له من خلاء! لا باب مفتوح ولا نافذة. تقدم ببطء وذهول. الخمارة مغلقة، البيوت، الوكالة، القهوة، لا نأمة، لا قطة، ولا كلب، لا رائحة لحياة، الدور التربة غارقة في نفس الفناء.
الشمس ترسل أشعتها بلا جدوى، هواء الخريف يتموج في فتور وبلا هدف.
وصاح بصوته الأجش الباكي: يا هوه! يا أهل الله!
فلم يجبه أحد. لم تفتح نافذة. لم يشرئب رأس من جحر. ليس سوى صمت اليأس العنيد، والرعب المتحدي، والقهر الصليد.
اخترق القبو إلى الساحة فطالعته التكية كما هي دائما. رنت إليه أوراق التوت فرأى رحيقها يسيل دما. سكتت الأناشيد وتلفعت بطيلسان اللامبالاة. رنا إليها طويلا والحزن يعصف بجذور قلبه ودموعه تسيل.
وبصوت كالرعد صاح: يا درويش!
خيل إليه أن غصون الأشجار تميد من صوته ولكن لم يجبه أحد.
وراح يصيح دون توقف، وبلا جدوى.
وقهقه كالأبله، ثم تساءل: من ذا يسمع أناشيدكم اليوم؟ ألا تعلمون؟
45
قال لفلة وهو يجفف دمعه: لا حي في الحارة!
رأى في حمرة عينيها أنها فطنت إلى الكارثة بطريقة ما. سمعها وهي تقول منتحبة: من الخلاء إلى الخلاء يا عاشور!
وراح يتأوه فقالت: فلنهاجر إلى مكان معمور.
فنظر إليها بحيرة وصمت، فتساءلت بحدة: أنبقى في هذه القرافة؟!
فتمتم بفتور: سنتجول فوق عربتنا. لن نبقى في البيت، أما المأوى فلا مأوى لنا إلا هنا.
صاحت: بيت في حارة خالية؟!
فصاح بغضب: لن تبقى خالية إلى الأبد!
46
لا حزن يدوم ولا فرح.
عاد عاشور إلى ممارسة عمله كسواق كارو، وكان يأخذ معه فلة وشمس الدين النهار كله وشطرا من الليل، ثم يأوون إلى البدروم في كنف الرجل العملاق.
أدرك عاشور أن الحارة أصبحت منسية في غمار المسئوليات التي واجهت الحكومة بسبب انتشار الشوطة في جميع الأحياء. لا أحد يدري به في هذا الركن الفاني ولكنهم سيأتون، يوما ما سيأتون. سيجيء أناس من هنا وهناك، وستردد الأنفاس من جديد وترسل دفأها في البقاع.
وكلما خرج مبكرا ليعد العربة جذبت عينيه دار البنان. تعجبه هامتها الأرجوانية وضخامتها المهيبة وأسرارها المنطوية. ماذا بقي في الداخل؟ ألا يوجد من آل البنان من يهمه استردادها؟
ويرسخ الإغراء في أعماقه وينفث أحلاما سحرية. كما اشتاق يوما إلى الاطلاع على أسرار التكية. غير أن دار البنان قريبة ولا حي سواه في الحارة. ليس بينه وبين تحقيق الحلم إلا حركة، حركة مغلفة بالأمان!
47
هز منكبيه العريضين استهانة ودفع الباب فانفتح . التراب يغطي الفسيفساء، كما يغطي أرض السلاملك الرخامية. التراب هو ما يسود في كل مكان. وقف عند البهو مرتاعا. إنه ميدان يا عاشور. سقفه عال جدا لا تبلغه رءوس الجان، في وسطه نجفة مثل قبة الغوري، ومن أركانه تتدلى القناديل. على جوانبه أرائك مغطاة بالسجاجيد المزركشة، كما تغطى جدرانه بالحصر الفاخرة وأطر الآيات المذهبة.
ترامى إليه صوت فلة وهي تنادي فجرى نحوها. رمقته بذهول. تساءلت: ماذا فعلت؟
فأجاب بحياء: أمنية طارئة حققتها! - ألا تخشى أن يعلم أصحابه؟ - لا صاحب له.
وترددت تلعب بها الأهواء، ثم أشارت إلى الكارو وقالت: تأخرنا.
فقال بحياء أشد: إني أدعوك للمشاهدة يا فلة.
أمضيا النهار في التنقل من حجرة إلى حجرة، وقفا طويلا في الحمام والمطبخ، جربا الجلوس على دواوين ومقاعد وأرائك. طفر الجنون من عيني فلة الجميلتين. قالت: نبيت ليلتنا هنا.
صمت عاشور وهو يعاني ضعفا أشد، فقالت: نستحم في الحمام العجيب، نرتدي ثيابا جديدة، وننام فوق هذا الفراش. ليلة واحدة نعود بعدها إلى الكارو.
48
لكنها لم تكن ليلة واحدة.
كانا يغادران الدار فجرا ثم يتسللان إليها مع الليل. في النهار تمضي بهما الكارو من حي إلى حي. يتناولان طعامهما عدسا وفولا وطعمية، وفي الليل يرفلان في الثياب القطنية والحريرية، يستريحان في السلاملك الداخلي أو فوق الدواوين، وينامان فوق فراش وثير يصعد إليه بسلم قصير من الأبنوس. وتتحسس فلة الستائر والوسائد والطنافس براحتيها وتهتف: لم تكن حياتنا إلا كابوسا.
وتتبدى لهما الحارة، في الليل من المشربية ظلمة وهياكل أشباح غارقة في التعاسة، فيتمتم عاشور في أسى: حكمة الله تعز على العقول!
فتجيبه بتحد: ولكنه يهب الرزق لمن يشاء.
ويبتسم متسائلا حتى متى يدوم هذا الحلم؟ ولكنها كانت تفكر في أمور أخرى فقالت: انظر إلى التحف حولنا، لا شك أنها غالية الثمن، لم لا نبيع بعضها لنأكل مثلما نعيش؟!
فقال بإشفاق: ولكنه مال الغير. - لا صاحب له كما ترى، هو رزقنا من الله.
وتفكر عاشور مليا. زحف عليه الإغراء كما يزحف النوم على المكدود، وصمم على أن يجد لأزمته حلا. واهتدى إلى حكمة جديدة فقال: المال حرام ما لم ينفق في الحلال!
فقالت متوثبة للخصام: هو رزقنا يا عاشور، وما نريد إلا أن نأكل.
ومضى يذرع السلاملك حائرا، ثم تمتم: هو حلال ما دمنا ننفقه في الحلال!
49
وبمرور الأيام هان كل شيء فأصبحت إقامة عاشور وأسرته بدار البنان دائمة. سرح الحمار في الفناء الخلفي، وووريت الكارو في البدروم. خطر عاشور في الدار مثل الوجهاء، بعمامة مقلوظة وعباءة فضفاضة، وعصا ذات مقبض ذهبي. وتجلت فلة في نضارة النعيم كأجمل هانم عرفتها الحارة، أما شمس الدين فكان يبول على سجاد شيرازي يقدر ثمنه بالمئات. وشاع الدفء في المطبخ، وتطايرت منه روائح اللحوم بأنواعها.
وبمضي الأيام أخذت الحياة تتسرب إلى الحارة. جاء حرافيش فآووا إلى الخرابات، وكل يوم يعمر بيت بأسرة جديدة. ومضت الدكاكين تفتح أبوابها. ترددت أنفاس الحياة، ارتفعت الحرارة، تجاوبت الأصوات، هلت الكلاب والقطط، عادت الديكة تصيح في الفجر، ولم تبق خالية إلا دور الأغنياء.
وعرف عاشور بوجيه الحارة الوحيد. يشار إليه بإكبار، ويقال بإخلاص: سيد الحارة.
وشاع أنه الوحيد الذي نجا من الشوطة، فأطلق عليه «عاشور الناجي». وتحمس الجميع لإغداق الثناء عليه لجوده وإحسانه وعطفه. كان راعي الفقراء، يتصدق عليهم، ولم يقنع بذلك؛ فكان يشتري الحمير ويسرح بها العاطلين، أو يبتاع لمن يريد عملا السلال والمقاطف وعربات اليد، حتى لم يبق عاطل واحد في الحارة عدا العجزة والمجاذيب.
الحق أنه لم يعرف عن وجيه من قبل مثل ذلك؛ لذلك رفعوه إلى مرتبة الأولياء، وقالوا إنه لذلك نجاه الله من دون الآخرين.
وهدأ عاشور واستكن ضميره الحي، وشرع في تحقيق أحلام كانت تراوده من قبل، فجاء بعمال لتنظيف الساحة والممر، وتطهيرها من تلال الأتربة والزبالة، وشيد حوض مياه الدواب، والسبيل، والزاوية، تلك المعالم التي رسخت في وجدان حارتنا مثل التكية والقبو والقبور والسور العتيق، وبها وبه صارت الحارة جوهرة الحي كله.
50
ترامت إلى أذنيه حركة غريبة آتية من ناحية الخمارة!
كان في طريقه إلى الحسين فتوقف . رأى عمالا يرممون المكان ويعدونه لحياة جديدة. مال نحو المدخل، ثم تساءل بصوت مرتفع: لحساب من تعملون؟
فجاءه صوت من ركن مظلم إلى يمين الداخل يقول: لحسابي أنا يا سيد الحارة!
وبرز درويش من الظلام فتراءى أمامه. دهمته قشعريرة مفاجئة مختلطة بوثبة غضب. هتف: أنت حي يا درويش!
فقال حانيا رأسه بامتنان: بفضلك يا سيد الحارة!
ورآه في حاجة إلى إيضاح، فقال بنبرة لم تخل من سخرية: عملت بحكمتك فهاجرت إلى الخلاء، لم أكن بعيدا عنك طيلة الوقت.
فصمم على مواجهة الموقف بالقوة الضرورية فقال: لن أسمح بفتح البوظة! - إنك سيد الحارة ووجيهها الأوحد، ولكنك لست القانون ولا الفتوة!
فسأله بحنق: لم لا تذهب إلى أي حارة أخرى؟ - هنا وطني يا سيد الوجهاء.
وتبادلا نظرة طويلة، حتى قال درويش: بل إني أتوقع أن يشملني إحسانك العميم!
ها هو يخطط للابتزاز! وأرعشه الغضب فسحبه من يده إلى الخارج، ثم قال له: لعلي لا أستطيع أن أغلق خمارتك ولكني لن أخضع لأي تهديد. - ولكنك تجود على كل محتاج؟! - في سبيل الخير أعطي لا في سبيل الشر.
فقال بنبرة ذات مغزى: إنك حر في «مالك» يا سيد الحارة!
وضغط على «مالك» ضغطا موحيا، فرفع عاشور منكبيه استهانة وقال: قد تسول لك نفسك أن تشي بي، وأن تفشي سري بين الناس، هذا ممكن يا درويش، ولكن أتدري ماذا ستكون عواقب ذلك؟ - تهددني يا عاشور؟ - أعجنك ورأس الحسين حتى لا يعرف لك رأس من قدم! - تهددني بالقتل؟! - وأنت تعرف أنني على ذلك قادر! - من أجل أن تستأثر بمال لست صاحبه؟ - إني صاحبه ما دمت أنفقه فيما ينفع الناس.
تبادلا نظرة طويلة مرة أخرى. تجلى التخاذل في عيني درويش، فقال ملاينا: ما أريد إلا أن تجود علي مثل الآخرين. - ولا مليم لأمثالك.
وساد صمت، فرجع عاشور يتساءل: ماذا قلت؟
فتمتم درويش بأسف: ليكن، رغم أننا أخوان فسنعيش كالغرباء!
51
تلقت فلة الخبر بانزعاج شديد حتى تجهم وجهها العذب بالتعاسة، ثم قالت برجاء: غير معاملتك له، أعطه ما يطمع فيه، أبعد عنا شبح الغدر.
فقال عاشور مقطبا: ألم يطهرك هواء الخلاء من الضعف؟
فلوحت له بخمار من الحرير الدمشقي وقالت: أخاف على هذا.
فحرك رأسه بحدة، فقالت: لم يعد الأمان كما كان يا عاشور.
فقال باستهانة: إنه شرير حقا ولكنه جبان.
52
وأشرقت الشمس من جديد في أعقاب ليلة عاصفة باردة. ها هو دكان شيخ الحارة يفتح أبوابه، ويحل به شيخ جديد؛ عم محمود قطائف. أدرك الناس أن الحكومة أخذت تفيق من هجمة الموت فتعين أحياء مكان من هلك من عمالها.
وتفاءل كثيرون بالحدث، ولكنه كان ذا رجع مختلف في دار عاشور. انقبض قلب عاشور لا شك، وفزعت فلة فضمت شمس الدين إلى صدرها وتمتمت: لا شيء يبتسم.
فتساءل عاشور في قلق: أليس ما مضى قد مضى؟ - ولكنك تشاركني مخاوفي يا عاشور! - ماذا جنينا؟ وجدنا مالا بلا صاحب فأنفقناه فيما ينفع الناس. - ألا ينذر وجه ذلك الرجل بشر؟
فغضب عاشور وصاح: فلنثق بصاحب المال الأصلي جل جلاله.
فهدهدت فلة شمس الدين وقالت: أما أنا فأرغب في أن يمتد نهر الخير حتى يسبح فيه هذا الولد!
53
وقرر عاشور أن يواجه التحدي بلا تسويف.
مال في طريقه إلى دكان شيخ الحارة ليحييه. استقبله الرجل بحرارة وهو يقول: أهلا بسيد الحارة وراعيها.
فشاع السرور في صدر عاشور وقال: أهلا بشيخ حارتنا!
وإذا به يقول: أتدري يا معلم أنني كنت على وشك الذهاب للقائك؟
فخفق قلبه ولكنه قال: أهلا بك في أي وقت. - أجدني في حاجة إلى رأي الناجي أحق الناس بالكلام عن الحارة الهالكة.
54
هكذا دخل محمود قطائف دار عاشور، وجلسا متجاورين على ديوان بالبهو، على حين توارت فلة وراء الباب الموارب. احتسيا القهوة وهما يتبادلان كلمات المجاملة حتى قال الرجل: بحاجة أنا إلى رأي رجل يعده الجميع ولي نعمتهم!
فقال عاشور بفتور: في خدمتك يا شيخ حارتنا.
فتريث الرجل قليلا، ثم قال: تكونت لجنة منذ قليل لجرد دور الأغنياء ومحسوبك عضو فيها. - ليرحم الله من مات. - وقد تبين لنا أن الدور قد نهبت يا صاحب النجاة! - ولكن لم يكن بالحارة حي! - ذاك ما كشف عنه الجرد.
فقال عاشور بحنق: إنه لغريب. أسأل الله أن يكون المال قد وقع في يد من يستحقونه! - يستحقونه؟! - أعني الفقراء من أبناء حارتنا.
فابتسم محمود قطائف وقال: هذه نظرية، ولكن للحكومة نظرية أخرى. - وما نظرية الحكومة؟ - الدور تعتبر ملكا لبيت المال، وسوف تعرض للبيع في المزاد.
فحدجه عاشور بحدة وسأله: وماذا عن النهب؟
فهز منكبيه قائلا: رأت اللجنة أن تتغاضى عنه منعا لتعريض الأبرياء للتهم!
أدرك عاشور أن اللجنة قد نهبت الدور، ورغم شعوره بالازدراء فقد استعاد الكثير من طمأنينته، وقال مداعبا: لعل اللجنة تعمل بنظريتي يا شيخ محمود.
فقال شيخ الحارة بإشفاق: تبقى مشكلة واحدة.
فتساءل عاشور بعينيه وهو يشعر بأنه وافى شاطئ الأمان. وقال شيخ الحارة: تريد اللجنة أن تطلع على وثائق ملكيتك لهذه الدار، وبذلك تنتهي مهمتها.
اغتيل الأمان بطعنة غادرة، فاختطفت عينيه نظرة من الباب الموارب، وتساءل: أثمة شك في ملكيتي لها؟! - معاذ الله، ولكنها الأوامر!
فقال بحدة بصوته الخشن: أريد أن أعرف ما تعنيه أوامرك؟
فقال محمود قطائف بصوت منخفض: اغتصبت بعض دور الهالكين في الأحياء المجاورة!
وغرقا معا في صمت ثقيل مشحون بالتوجس والريب، حتى رفع عاشور صوته قائلا: هبها فقدت في فوضى الموت والهجرة!
فتمتم شيخ الحارة بأسف: ستكون ورطة أي ورطة!
فصاح عاشور غاضبا: ورطة! ... أ لم تقنع اللجنة بما نهبت؟
فارتعد الرجل من شدة الصوت، وقال كالمعتذر: ما أنا إلا عبد الأمر. - عندك معلومات فصرح بما في نفسك. - المسألة أن عضوا من أعضاء اللجنة أعلن بعض التساؤلات. - عليه اللعنة! - الوثائق تحسم كافة الريب. - ولكنها ضائعة!
فقال بلين وخوف: ستكون ورطة يا معلم عاشور.
عند ذاك اقتحمت الحجرة فلة ثائرة وهتفت مخاطبة شيخ الحارة: لندع اللف والدوران.
فنهض الرجل مرتبكا، فقالت بصراحة مثل ضربة نبوت: لن يصعب عليك صعب. فلنسو الأمر فيما بيننا.
فقال الرجل بأسف: لو كان الأمر بيدي لهان!
ونهض عاشور محتدا وهو يقول: لتكن إرادة الله.
55
تحدث أمور في السر والعلانية. الحارة الغارقة في نشاطها الدائب لا تفطن لها. قليلون جدا من يلاحظون أشياء دون أن يرتبوا عليها نتائج ذات بال، والقلوب ثملة بالآمال مؤمنة بالضياء.
وذات صباح خرج عليهم عاشور الناجي منكس الرأس. بجسمه العملاق، ولكنه منكس الرأس ومكبل اليد بقيد حديدي أيضا. هو عاشور الناجي دون غيره. يحف به جنود، يتقدمهم ضابط ويسير محمود قطائف في ذيل الموكب.
انتشر شرر الذهول الغاضب بين الناس، فشدهم من الدكاكين والبيوت وملأ بهم النوافذ. - ماذا نرى؟! - ماذا وقع للدنيا؟! - الرجل الطيب في الحديد!
وهتف الضابط بحدة: أوسعوا الطريق!
ولكنهم تجمعوا وراء الموكب وتبعوه كالظل، حتى صاح الضابط مرة أخرى: الويل لمن يقترب من القسم!
وجعل درويش الخمار يتساءل عن معنى ما يرى ويرفض تصديقه، وبصوت مرتفع قصد أن يسمعه عاشور قال: ورحمة أخي ما خرجت من لساني كلمة واحدة.
وتبدت فلة آية في الجمال والحزن، متوركة شمس الدين، حاملة بقجة، محمرة العينين من البكاء.
56
وكانت محاكمة عاشور من الأحداث المستعصية على النسيان. شهدها جمع غفير من الحارة، وخفقت لها القلوب. لأول مرة تحب الحارة وتعشق. ووقف عاشور في القفص مزهوا بحرارة القلوب من حوله. ولعل القضاة أعجبوا بعملقته، وبصورة الأسد المرسومة في صفحة وجهه. ولم ينس الناس صوته الأجش وهو يقول: لست لصا، لم أعتد على أحد، صدقوني. كان الموت قد أهلك الحارة. رجعت من الخلاء فوجدتها خالية، وجدت الدار بلا صاحب، ألا تستحق أن توهب للوحيد الذي نجا؟ ولم أستأثر بالمال لنفسي، اعتبرته مال الله، واعتبرت نفسي خادما له في إنفاقه على عباده، فلم يعد يوجد جائع ولا متعطل، ولم يعد ينقصنا شيء؛ فعندنا السبيل والحوض والزاوية. لماذا قبضتم علي كاللصوص؟ لماذا تعاقبونني؟
وقال الناس آمين. وحتى القضاة ابتسم باطنهم طوال الوقت، وحكموا عليه بعام واحد.
57
رجعت فلة إلى البدروم وهي لا تملك مليما واحدا. وجدت رعاية صادقة؛ جاءها الطعام، وحمل إليها الماء والوقود، وعبق مسكنها بالكلمات الطيبة. وانحسار الستر عن سر عاشور لم ينل من حب الناس له أو احترامهم، بل لعله خلق منه أسطورة أغنى بالبطولة والجود.
ولكنها قررت ألا تعيش على جود المحسنين، وأن تعمل في سوق الدراسة بعيدا عن الأعين.
واعترض طريقها درويش وقال لها بخشوع: قلبي معك يا أم شمس الدين.
فقالت له بحدة: اشمت بنا ما تشاء يا درويش!
فقال لها بحرارة: لا دخل لي فيما كان، ومحمود قطائف شاهد على ذلك. - ولكنه جاء على هواك. - سامحك الله! ماذا أفيد من سجنه؟! - لا تخف فرحك يا درويش.
فقال متوددا: سامحك الله. دعي الخصام واقبلي مشورتي. - مشورتك؟! - لا يصح أن تعملي في سوق الدراسة وحدك.
فسألته ساخرة: عندك عمل أفضل؟! - تحت رعايتي أفضل من العمل وحدك في سوق! - في البوظة؟! - مع الحفظ والصون!
فصاحت به: ملعون أنت في الدارين!
وغادرته بلا تحية.
وفي المساء ترامت إليها أنباء بأنه يكون عصابة لينصب نفسه فتوة للحارة.
58
ولما زارت عاشور ورأته في لباس السجن اغرورقت عيناها، وتواثب شمس الدين مرحا حتى تلقى قبلة أبيه من وراء الحاجز. وسألها عن حالها فقالت: أعمل في السوق والحال معدن.
وبدا ممتعضا متمردا، وقال: الظلم أقبح من السجن نفسه!
وأكثر من مرة قال: لا أستحق العقاب.
وبلغت نبرته غاية الاحتجاج وهو يقول: ليس بين المساجين من يماثل درويش في شره.
فقالت ساخرة: ألا تعلم، لقد دعاني إلى العمل عنده! - الوغد! وماذا عن شيخ الحارة؟ - يعاملني باحترام. - وغد آخر ، ولص حقيقي. - أحمل إليك تحيات لا عد لها. - مباركة تحياتهم، وكم أتوق إلى سماع الأناشيد! - سترجع إلى سماعها، أما الزاوية والسبيل والحوض فأصبحت تذكر مقرونة باسمك. - بل يجب أن تقرن باسم صاحبها الحقيقي جل شأنه.
وابتسمت فلة بفتور، وقالت: من أخبارنا التعيسة أن درويش أصبح فتوتنا.
فقطب عاشور وتمتم: لن ينفعه ذلك.
وعجبت فلة؛ فقد خيل إليها أن عاشور يزداد صحة ونضارة.
59
لم ينقطع الناس عن التفكير في عاشور الناجي طيلة مدة سجنه. انتظر الحرافيش على لهف يوم عودته، وعمل آخرون لذلك اليوم ألف حساب. حصن درويش نفسه بالأتباع ، وأغدق عليهم النقود من حصيلة الإتاوات المفروضة على العباد، وشجعه على ذلك محمود قطائف قائلا: إن الكثرة تغلب الفرد مهما تكن قوته.
وأيده الأعيان خوفا من حب الحارة للغائب، حتى اتفق الرأي على إخضاعه أو اغتياله.
وتتابعت الفصول، وظلت التكية تشدو بالأناشيد الغامضة، حتى جاء اليوم الموعود.
وتلفت شيخ الحارة فيما حوله وغمغم حانقا: ما شاء الله!
رأى الأعلام ترفرف في أعالي الدكاكين والأسطح، رأى الكلوبات تعلق، رأى الأرض تفرش بالرمل الفاقع، سمع موجات الأصوات وهي تهدر بتبادل التهاني. وعاد يغمغم: كل ذلك من أجل عودة لص من سجنه!
ورأى درويش قادما فسأله: هل أعددت العدة لاستقبال الملك؟
فهمس درويش بصوت مضطرب: أما علمت بما حدث؟
وقص عليه حكاية العصابة، كيف انفضت من حوله وذهبت إلى الميدان لاستقبال العائد فلم يبق معه رجل واحد. اصفر وجه شيخ الحارة وتمتم: الأوغاد!
وهمس في أذن درويش: علينا أن نعيد التفكير لمواجهة الخماسين.
فمضى درويش وهو يقول: إنه الفتوة الجديد بلا منازع.
ومن الميدان ترامى طبل وزمر.
وفي الحال خرج إلى الحارة أهلها نساء ورجالا وصغارا. وتهادت كارو من ذوات العجلات الأربع قد تربع في وسطها عاشور، تتقدمها الزفة، ويحدق بها رجال العصابة.
صفق الناس وهللوا ورقصوا، ومن شدة الزحام قطعت العربة المسافة بين مدخل الحارة والزاوية في حوالي الساعة.
وتواصل الرقص والطرب حتى فجر اليوم التالي.
خاتمة
وجد عاشور الناجي نفسه فتوة للحارة دون منازع. وكما توقع الحرافيش أقام فتونته على أصول لم تعرف من قبل؛ رجع إلى عمله الأول ولزم مسكنه تحت الأرض، كما ألزم كل تابع من أتباعه بعمل يرتزق منه، وبذلك محق البلطجة محقا. ولم يفرض إتاوة إلا على الأعيان والقادرين لينفقها على الفقراء والعاجزين. وانتصر على فتوات الحارات المجاورة فأضفى على حارتنا مهابة لم تحظ بها من قبل؛ فحف بها الإجلال خارج الميدان، كما سعدت في داخلها بالعدل والكرامة والطمأنينة.
وكان يسهر ليله في الساحة أمام التكية، يطرب للألحان، ثم يبسط راحتيه داعيا: «اللهم صن لي قوتي، وزدني منها؛ لأجعلها في خدمة عبادك الطيبين.»
شمس الدين
الحكاية الثانية من ملحمة الحرافيش
1
في ظل العدالة الحنون تطوى آلام كثيرة في زوايا النسيان. تزدهر القلوب بالثقة وتمتلئ برحيق الموت. ويسعد بالألحان من لا يفقه لها معنى، ولكن هل يتوارى الضياء والسماء صافية؟
2
لأول مرة تستيقظ فلة فلا ترى عاشور جنبها يغط في نومه. قلقت عيناها المثقلتان بالنوم وانقبض صدرها. استعاذت بالله من همسات الغيب في القلب العاشق، وأسفر عالمها العذب عن خلاء. أين الشاب العجيب البالغ الستين من عمره، القوي النشيط الفاحم الشعر؟ هل غلبه النوم في سهرته الليلية أمام التكية؟
ونادت شمس الدين حتى فتح عينيه متذمرا. طالعها بوجهه الجميل متسائلا، فقالت له: أبوك لم يرجع من سهرته!
ولما استوعب قولها أزاح عنه الغطاء ونهض بجسمه الرشيق المائل إلى الطول، وبقلق غمغم: ماذا حدث؟
فقالت تتحدى هواجسها: لعل النوم قد غلبه.
تجلت رشاقته أكثر وهو يرتدي جلبابه، ووسامته المكللة ببراءة الشباب الأول. ومضى وهو يقول: كيف يطيب السهر في فجر الخريف؟!
3
في الجو نسيم رطيب، وذيول شابورة تتلاشى في المجهول، وفي الجنبات تتدفق حياة البشر. عما قليل سيلقى أباه. سيجده مستلقيا بلا غطاء. سيعاتبه بما له عليه من دالة.
واخترق القبو إلى الساحة. سبقته عيناه وهو يتأهب لملحمة اللقاء، ولكنه وجد المكان خاليا. جال ببصره فيما حوله في صمت وقهر. الساحة والتكية والسور العتيق ولا أثر لإنسان. في هذا الموضع يجلس العملاق عادة، فأين ذهب؟!
وألقى على التكية نظرة حانقة. هي شاهد لا يدلي بشهادته. وتساءل مرة أخرى: «أين ذهب؟!»
4
لعله يجد الجواب عند غسان أو دهشان أقوى مساعدين للرجل، ولكنهما تلقيا السؤال بعجب، وقالا إنه يذهب إلى الساحة قبيل منتصف الليل فيمكث ساعة أو أكثر، لا يتقدم ولا يتأخر. وسأل شمس الدين: ألم يكن هناك ميعاد به ارتبط؟
فنفيا علمهما بأي شيء عدا ما ذكر.
وبعد تردد قصد شيخ الحارة محمود قطائف فتلقى الرجل الخبر بدهشة، وراح يفكر ويفكر، ثم قال: لا تقلق لغياب الأسد، عذره معه، وسيرجع قبل الضحى.
5
وخذلت فلة إرادتها فهتفت: أفزع إليك يا ربي من قلبي ومخاوفه!
وجلس شمس الدين بين رجال أبيه في القهوة يتناقشون وينتظرون، ينظرون نحو القبو تارة، ونحو مدخل الميدان تارة أخرى. وانتشرت سحائب الخريف مفضضة بالنور المستتر. وانتصف النهار ولم يظهر لعاشور أثر. عند ذلك تفرق الرجال في شتى الأنحاء وراء شهادة أو خبر. وعرفت الحارة الواقعة فاشتعلت بها، وشغلت بها عن الرزق والكدح.
6
ونما الخبر إلى الأعيان والتجار فدهمهم الذهول، وتفشى في جوهم سحر كالمعجزة. أجل؛ فعندما تستحكم القبضة ولا يوجد منفذ واحد للأمل، تؤمن القلوب القانطة بالمعجزة. ولولا الإشفاق من خيبة عاجلة لأسدلوا الستائر وجهروا بالشماتة والفرح. ماذا ينقذهم من سطوة الجبار وشبابه المتجدد وإرادته الحديدية إلا معجزة؟! فليدم الغياب، ولتطو الأسطورة، ولينقلب الوضع إلى الأبد!
وسعى درويش الخمار إلى محمود قطائف وسأله: أين ذهب الرجل؟
فقال شيخ الحارة بنبرة ساخرة: وهل أنا على الغيب مطلع؟
فحرك درويش رأسه الأبيض وتمتم: ثمة احتمال لا يجوز أن يغيب وهو ضعفه المباغت أمام النساء!
فابتسم محمود قطائف بازدراء ولم يعلق، فواصل الآخر: كنت أحسب له للبقاء مائة سنة! - فغمغم شيخ الحارة:
ويخلق ما لا تعلمون .
7
وهبط المساء، وساقت أمواج الليل برودة غير متوقعة، ولم يظهر لعاشور الناجي أثر. وغشيت الكآبة القهوة والبوظة والغرز. ولم ينم من أسرته أو رجاله أحد. وتأوهت فلة قائلة: ما أكثر الرجال وما أقل الحيلة.
فتساءل شمس الدين بحزن: هل أغفلنا بابا أو تهاونا في عمل؟
فتركت دموعها تسيل وقالت: قلبي رفض من بادئ الأمر أن يخدع بالأمل.
فصاح بحنق: إني عدو القلوب الضعيفة المتشائمة! ما كان أبي لعبة ليختطف، ولا كان غرا ليمضي إلى شرك بلا حذر، وما يحزنني إلا انسداد السبل.
8
وفي ضحى اليوم التالي اجتمع رجال عاشور في القهوة، بينهم شمس الدين وفلة، وانضم إليهم محمود قطائف شيخ الحارة وحسين قفة إمام الزاوية. لفتهم الحيرة جميعا وغصت قلوبهم بالنذر. وساورتهم مخاوف ولكن لم يجرؤ أحد على التصريح بما يساوره. وقال دهشان: معلمنا لم يخرج عن عاداته مرة طوال عشرين سنة.
فقال الشيخ حسين قفة: في الأمر سر!
فقال غسان: لا يخفي عنا سرا.
وقالت فلة: ولا عني من باب أولى.
فتساءل حسين قفة: ألا يكون قد انضم إلى التكية؟
فارتفع أكثر من صوت يقول: خيال لا يقبله عقل!
فقال محمود قطائف: قلبي يحدثني بأنه سيظهر فجأة كما اختفى فجأة.
فقالت فلة بنبرة باكية: لا يوجد أمل!
وعند ذاك صاح دهشان: لعله الغدر!
وخفقت القلوب وتطاير من الأعين الشرر، فعاد دهشان يقول: حتى الأسد يجري عليه الغدر.
فصاح محمود قطائف: الصبر الصبر يا رجال، لا يوجد بحارتنا كاره واحد لخير من حملت الأرض. - يوجد كارهون وغادرون! - احذروا الفتنة واصبروا، والله شهيد.
9
وكان درويش يقدم قرعة لسكير فقبض الرجل على ذراعه وهمس في أذنه: سمعت الرجال وهم يقولون إنه لا يغدر بعاشور إلا درويش!
ففزع الخمار وهرع إلى دكان محمود قطائف وأفضى إليه بما سمع وهو يرتعد من الذعر، حتى ضاق به شيخ الحارة وقال له بحدة: لا تفعل كالنساء. - كيف أتهم وأنا لا أغادر البوظة ليلا ونهارا؟!
فتفكر شيخ الحارة مليا وقال له: اهرب، لم يعد أمامك إلا الهرب.
وقد اختفى درويش زيدان فجأة، فلم يعد يعرف إن كان هرب أم قتل، ولم يسأل أحد عنه، وتجاهله محمود قطائف تماما، وما لبث أن حل محله عليوة أبو راسين بياع المنزول وكأن درويش لم يكن.
10
ومضت الأيام لا تحمل بصيصا من أمل. تسير بطيئة ثقيلة مسربلة بالكآبة. ويئس كل قلب من أن يرى من جديد عاشور الناجي وهو يمضي بهيكله العملاق، يكبح المتجبرين ويرعى الكادحين وينشر التقوى والأمان.
وترتدي فلة الحداد، ويبكي شمس بلا حساب، ويغرق الأعوان في الحزن والتفكير. وقد اعتقد قوم أن درويش غدر بالرجل في مجلس السماع، ثم سحبه إلى القرافة فدفنه في قبر مجهول. وأصر الناس رغم اليأس على أنه سيرجع ذات يوم هازئا من كافة الظنون. ومن شدة الحزن تصور آخرون أن اختفاءه كرامة من كرامات الأولياء.
ومضى سحر العادة القاسي يفعل فعله بالخطب، يعاشره ويألفه ويهونه، ويدفعه في تيار الأحداث اللانهائية فيذوب في عبابها.
لقد اختفى عاشور الناجي.
ولكن الزمن لن يتوقف وما ينبغي له.
11
وكان لا بد من اختيار فتوة جديد للحارة قبل أن ينفرط نظامها أو تدوسها أقدام الحارات المتربصة. وانحصر الاختيار بين غسان ودهشان باعتبارهما أقوى الرجال وألصقهما بالناجي، ولم يلتفت إلى شمس الدين لحداثة سنه ونعومة مظهره. وانحاز رجال لكل رجل، فتقرر اتباع ما يتبع عادة في هذه الأحوال؛ وهو أن يتصارع المتنافسان في صحراء المماليك، ثم يتوج الفائز فتوة للحارة.
تلقت فلة تلك الأنباء، ورأت شمس الدين وهو يرتدي جلبابه استعدادا لشهود المعركة ضمن الأتباع، ففاضت دموعها وراحت تندب حظها. وضاق الشاب بذلك فقال: لا يمكن أن تعيش الحارة بلا فتوة.
فتساءلت بحدة: وهل تخلف القطط الأسود؟ - لا حيلة أمام قضاء الله. - سوف ترتد الفتونة إلى عهد البلطجة والطغيان.
فقال الشاب بحرارة: ليس من اليسير النكوص عن تراث الناجي.
فتنهدت وقالت وهي تخاطب نفسها: أمس كنت رغم الفقر السيدة، ومن الغد سأكون الأرملة الحزينة المهجورة، أبتهل للمجهول بلا أمل، أحلم بالفراديس المفقودة، أنزوي عند الأفراح، أخاف الظلام، أحذر الرجال، أتجنب النساء، ولا صديق إلا الإهمال والنسيان.
فقال بعتاب: ولكنني لم أمت بعد يا أمي! - فليمد الله في عمرك حتى تلعن الحياة، ولكنه تركك يافعا، سواق كارو، لا مال ولا جاه، ولا عملقة تضمن لك الفتونة.
فتمتم في كآبة: آن لي أن أذهب، أستودعك الحي الذي لا يموت.
وتأبط عصا أبيه العجراء وذهب.
12
نشأ شمس الدين في مسكن متقشف؛ فلم يعرف من الحياة إلا البساطة والكدح. لم تحتفظ ذاكرته بصورة واحدة من دار البنان السامقة. وكان عاشور يتملى وجهه الوسيم، المقتبس من وجه أمه، ويقول باسما: لن يصلح هذا الولد للفتونة.
وأرسله إلى الكتاب، وسكب في قلبه أعذب ألحان الحياة، ولم يهمل جانب القوة فعلمه ركوب الخيل واللعب بالعصا والمصارعة، وإن لم يفكر أبدا في إعداده للفتونة. ولما درج شمس الدين في الوعي بنفسه وبما حوله، أدرك سطوة أبيه غير المحدودة، وسرعان ما ارتطم بالتناقض الحاد بين «عظمته» وبين حياته الفقيرة الكادحة. وقال له مرة عند قدوم عيد: أريد يا أبي أن أرتدي عباءة ولاثة.
فقال عاشور بحزم: ألا ترى أن أباك لا يرتدي إلا الجلباب؟
وكانت فلة تضيق بالحياة مثل ابنها، وكانت تقول لعاشور على مسمع من شمس الدين: لو أخذت من الإتاوات ما يضمن لك حياة كريمة ما لامك أحد.
فيقول لها عاشور: بل عليك أن تربي الدجاج لتهبي حياتنا شيئا من اليسر المشروع. ثم يقول مخاطبا شمس الدين: لا قيمة لبريق في هذه الحياة بالقياس إلى طهارة الضمير وحب الناس وسماع الأناشيد!
ودربه على الكارو، وتبادلا العمل عليها، ولما شارف الستين تركها له أكثر الوقت. وكان شمس الدين يعجب بأبيه ويجله، ويحن في الوقت ذاته إلى الحياة السائغة، ويؤيد أحيانا أماني أمه الجميلة، وبدافع من هذه الرغائب الكامنة قبل بسلامة نية «عيدية» قدمها له صاحب الوكالة، فبادر إلى شراء عباءة ولاثة ومركوب، وخطر مزهوا بها صباح يوم العيد. وما إن رآه عاشور حتى أخذه من تلابيبه إلى البدروم، ثم لطمه لطمة دار بها رأسه، وصاح به: يتسللون إلي من ثغرة ضعفك بعد أن أعيتهم إرادتي الصلبة!
وألزمه برد الملابس إلى البائع، ثم برد العيدية إلى صاحب الوكالة. وأدرك شمس الدين أنه لا قبل له بغضب أبيه، وخجل من نفسه، وخذلته أمه فلم تجرؤ على الدفاع عنه أو الوقوف إلى جانبه. - ولكن الحب - لا العنف - كان ما يربط شمس الدين بأبيه، فكان تلميذه ونجيه وصديقه، وتشبع بكلماته وبمثاله وبتقواه ونزوعه إلى الألحان والنجوم، ومضى بالكارو فخورا، وقاهرا لنزعات الضعف التي تومض بين الحين والحين في أعماقه.
ورغم الفقر كان الحب والإجلال يحفان بهم حيثما ذهبوا، فهل يستمر الحال كما كان؟
ها هي أمه ترنو إلى الغد بأعين طافحة بالهواجس!
13
في صحراء المماليك الوحشية المترامية لاح الرجال كحفنة من رمال. أرض الهاربين وقطاع الطرق، مأوى الجن والزواحف، مقبرة العظام المطمورة. غسان يتقدم هلالا من رجال، يقابله غير بعيد دهشان ورجاله. الأعين تترامق تحت أشعة شمس محرقة، وتتلقى من لظى الرمال جحيما. الخلاء المحيط يرنو بعين باردة ساخرة قاسية منذرا المنهزم بالضياع الأبدي.
أقبل شمس الدين هادئا، اختار موقفه في مركز بين الجماعتين، معلنا حياده، ومعلنا في الوقت ذاته استعداده للانضواء تحت راية المنتصر. ورفع يده تحية وقال بصوته الجهوري الخشن الذي لم يرث عن عاشور سواه: سلام الله على رجال حارتنا.
فتمتمت شفاه جافة من التحفز والإصرار: سلام الله على ابن العظيم الطيب.
وتذكر شمس الدين أن أحدا من الفريقين لم يسع إلى ضمه إليه ولا إلى نيل بركة أمه. أجل ففي ميدان الصراع الوحشي لا يكترث بالنساء ولا باليافعين.
وانضم شعلان الأعور إلى موقف شمس الدين وهو فتوة متقاعد بالكبر، ويقوم من الجماعة مقام الناصح الأمين. قال شعلان يمهد للمصارعة: سيبدأ الصراع بين غسان ودهشان، فليتذكر كل واحد من الجماعة واجبه.
وحرك يده محذرا وواصل: يلزم كل مكانه، يرضى بما يقع، وخرق العهد معناه الضياع للجميع.
لم ينبس أحد. ظل الخلاء يرنو بنظرته الباردة القاسية الساخرة، ونعق غراب في القبة الصافية، فعاد شعلان الأعور يقول: للفائز الحق، وعلى الجميع الطاعة وأولهم الخاسر.
استسلمت الجباه المبللة بالعرق للمقادر ولم تعترض، فخاطب شعلان غسان متسائلا: تتعهد بالطاعة إذا الآخر انتصر؟
فقال غسان: أتعهد والله شهيد. - وأنت يا دهشان؟ - أتعهد والله شهيد.
فقال شعلان: اللمسة كافية لتقرير النصر، والحذر الحذر من عنف لا يورث إلا الضغينة.
واتسعت الدائرة فاقتصرت الحلقة على غسان ودهشان. جسمان متينان يلعبان بالنبوت لعب الحواة ويتحفزان. وثب غسان إلى الأمام فانقض عليه دهشان. التحم النبوتان وتحاورا برشاقة ومكر ودهاء. يجهد كل للنفاذ إلى ملمس، فيقابل بالصد والرد والإفلات، ويستحر الهجوم والحذر والإصرار، وتبارك الشمس النضال بجحيمها المستعر.
وبحركة خاطفة مباغتة يعمى الحذر فيلمس نبوت غسان ترقوة دهشان.
وتهتف جماعته بحماس متقد: غسان! غسان! اسم الله عليه!
وتراخى دهشان وهو يلهث ويتجرع الأسى. ومد له غسان يده وهو يقول: نعم الأخ أنت !
فشد عليها دهشان وهو يتمتم: ونعم الفتوة أنت!
ورددت الأفواه بنبرة منغومة: اسم الله عليه! اسم الله عليه!
ودار غسان حول نفسه في رشاقة وسعادة وهو يتساءل: هل من معترض؟!
استبقت الحناجر إلى المبايعة. ولما هدأت العاصفة ارتفع صوت يقول: إني أعترض يا غسان.
14
انجذبت الأنظار نحو شمس الدين في ذهول. كان يقف بقامته الرشيقة المائلة للطول، رافعا وجهه الوسيم، وبشرته بأشعة الشمس تحترق. تمتم غسان: أنت يا شمس الدين؟!
فأجابه بثبات: نعم يا غسان! - أتطمع حقا في الفتونة؟ - هي واجبي ومصيري.
فقال شعلان الأعور بإشفاق: أبوك نفسه لم يعدك لها! - تعلمت أشياء، وعرفت أشياء لا يستثمرها مثل فتوة! - الخير وحده لا يكفي!
فلعب شمس الدين بنبوت أبيه في رشاقة خلابة، فصاح غسان: يعز علي أن أسيء إليك. - لندع النبوت يتكلم! - إنك غلام يا شمس الدين!
فقال بإصرار: إني رجل من صلب رجل.
فرفع غسان وجهه إلى السماء تحت النار المندلعة وصاح: عفوك يا عاشور ومعذرة!
لم يرتح أحد لما يجري. التوت الشفاه بالامتعاض، وتبدت نظرة الخلاء أبرد وأقسى وأسخر مما كانت.
وبدأ شمس الدين المعركة فتلاقى الخصمان، وتفجرت معجزة في اللحظة الأولى فتسلل نبوت شمس الدين إلى ساق غسان والتصق. وقف غسان ذاهلا، وخيل إلى كثيرين أنه استهان بخصمه فحدث ما حدث. المعركة لم تبدأ فكيف هكذا تنتهي؟ وتمادى غسان في ذهوله، ولم يهتف أحد. ومد شمس الدين يده وهو يقول: نعم الأخ أنت!
فتجاهل غسان يده، وتوثب بين حاجبيه الغضب. وصاح شعلان الأعور مشفقا ومحذرا: غسان امدد يدك!
فهتف غسان: إنها ضربة حظ وقدر. - ولكن شاء الله أن ينتصر.
فهتف غسان بإصرار: النبوت حكم فاصل لمتماثلين في القوة، ولكن شمس الدين عود أخضر ما أيسر أن ينكسر، أم تريدون أن تكونوا لقمة سائغة لكل حارة، ولعبة بيد كل فتوة مقتدر؟!
عند ذاك رمى شمس الدين نبوته، ونضا عنه ملابسه إلا ما للعورة يستر، ووقف بقامته الرشيقة المتألقة بلعاب الشمس ينتظر.
وابتسم غسان ابتسامة ثقة، وفعل مثل صاحبه وهو يقول: سوف أحميك من شر نفسك.
وتقاربا خطوة فخطوة حتى التصقا تماما، ولف كل منهما ذراعه حول الآخر. وشد كل بما فيه من عزم وإصرار وقوة حتى انتفخت منه العضلات ونفرت العروق. انغرزت الأقدام في الرمال، وتعملقت إرادة صلبة تروم اعتصار الخصم وتصفية ماء حياته. وحملقت الأعين في ذهول وتوقعت لدم أن ينفجر. وتتابعت الثواني منصهرة في الأتون الملتهب. وانحبست الأنفاس فلم تسمع نأمة واحدة. حتى تلاقى حاجبا غسان في عبوسة حاقدة. وبدا متحديا للمستحيل والقدر، أو أنه يغالب الغرق، ويدافع المجهول ولو بالجنون. ويطلق الحقد الأعمى على اليأس الزاحف، ويتخاذل رغم الإصرار والكبرياء والغضب، ويتخبط وتترنح ساقاه، ويتهاوى في العجز ويشهق، فلا يرحمه شمس الدين حتى تسقط ذراعاه وتتداعى رجلاه وينهدم.
ويقف شمس الدين لاهثا غارقا في العرق، ويغلب صمت الذهول، حتى يمضي شعلان الأعور إليه بملابسه وهو يقول: نعم الفتى، ونعم الفتوة!
وتنطلق الحناجر هاتفة: اسم الله عليه! اسم الله عليه!
وصاح دهشان: ها قد بعث عاشور الناجي!
فقال شعلان الأعور: اسمه الجديد شمس الدين الناجي.
وظل الخلاء محيطا متراميا مثابرا على جلاله وتعاليه.
15
وكانت الحارة تنتظر زفة الفتوة الجديد. راهن كثيرون على غسان، كما راهن كثيرون على دهشان، ولكن لم يخطر ببال أحد الفتى المليح شمس الدين. ولما ترامت الأخبار ذهل الجميع، وسرعان ما انقلب الذهول فرحة شاملة. فرح الحرافيش ورقصوا وقالوا إن هذا يعني أن عاشور حي لم يمت.
وتساءل محمود قطائف بامتعاض شديد: هل رجع عصر المعجزات؟!
واستقبل شمس الدين بالبهجة والأفراح، وحتى فلة زغردت رغم الحداد.
واستمع شيخ الحارة إلى القصة كما رواها شعلان الأعور بكآبة دفينة، وراح يتساءل: ترى هل يمتد عهد التجهم والفقر؟!
16
وقال شمس الدين لأمه فلة مزهوا: كنت أعد نفسي لذلك.
فقالت بابتهاج: حتى أبوك لم يصدق.
فقال بجدية: ما أشق أن يكون مثلي خليفة لأبي.
فقالت بدهاء: لا تنس عدوك غسان، ولكن بيدك أن تملك قلوب رجالك!
فتجهم وجهه وقال: إني اليوم الأمل فلا خاب الأمل.
فقالت بإغراء: الاعتدال سيد الأخلاق.
فقال بإصرار: إني اليوم الأمل فلا خاب الأمل.
17
ومضت الأيام هازجة بالأفراح، وآمن الناس بأن عاشور الناجي لم يمت. وكان غسان يسهر في البوظة فيسكر ويغني:
البخت إن مال حتعمل إيه بشطارتك؟
وذات مرة قال له شعلان الأعور: ألم تشبع من هذا الموال؟! عليك أن تنقي قلبك.
فقال دهشان: إنه يفتحه للشياطين.
فقال غسان بغلظة: إنك لا تغفر لي انتصاري عليك يا دهشان. - عليك اللعنة، بل عاملتك بالأصول. - لولا الحقد ما رحبت بفتونة غلام!
فتساءل دهشان بحنق: ألم ينتصر بكل جدارة؟
وعند ذاك تساءل عليوة أبو راسين الخمار: قلبي يحدثني بأن فتوتنا الجديد سيكون من زبائني الكرام.
فقهقه غسان وقال: أحلق شاربي لو فعل، ولن نحظى منه إلا بالفقر.
فصاح شعلان الأعور: لن تمر الليلة على خير!
فقال غسان ساخرا: هذيان سكران يا شعلان. ستمر الليلة مثل كل ليلة، ومثل الليالي السعيدة الغابرة التي شهدت ست الستات وهي تخطر بين السكارى بجمالها الفتان!
ورماه دهشان بالقرعة فأصاب صدره وصرخ في وجهه: يا وغد!
ووقف غسان متحديا، فوثب شعلان نحوه وقال له بحزم: لا حياة لك في هذه الحارة!
فأدرك خطأه رغم سكره، وغادر البوظة وهو يترنح.
18
ولم يفكر أحد في إبلاغ شمس الدين بما قيل عن أمه. قال شعلان لدهشان: لا علم للفتى بذلك التاريخ القديم.
فقال دهشان: ولكن من حقه علينا أن نبلغه بتمرد غسان.
وصمم شمس الدين على حسم الأمر بالسرعة الواجبة، فقصد غسان في مجلسه بالقهوة. وقف أمامه بوجه يموج بالغضب، وسأله: يا غسان هل يمكن أن تخلص لي كما أخلصت لأبي؟
فقال غسان: لقد عاهدتك على ذلك. - ولكنك كاذب وغير أمين. - لا تصدق الوشاة. - أصدق المخلصين.
ومال نحوه وهو يقول: لن تكون بعد اليوم من رجالي.
ولم ير غسان بعد ذاك اللقاء في الحارة.
19
لم يتغير شيء من عهد عاشور الناجي. خلفه شمس الدين راعيا للحرافيش، شاكما للسادة والأعيان. وثابر الفتوة على عمله سواقا للكارو، كما اشتغل كل رجل من رجاله بحرفته. ولم يتخل عن شقته الصغيرة مسكنا، وسد أذنه دون همسات أمه المتوسلة. امتلأت أعطافه بالعظمة الحقيقية، وروى ظمأ قلبه بحب الناس وإعجابهم، وسرعان ما صار من رواد الزاوية وأصدقاء الشيخ حسين قفة. ومن أموال الإتاوات جدد أثاث الزاوية، ورحب باقتراح للشيخ حسين قفة فأنشأ كتابا جديدا فوق السبيل.
ولم يغفل عن مسئوليته حيال الحارة والناس أبدا. شعر بثقل الأمانة وخطورتها شأن المخلصين من الرجال. ولا شك أن فتوات الحارات المجاورة قد استردوا أنفاسهم باختفاء العملاق المهيب، وراحوا يتحرشون ببعض الباعة المتجولين من أبناء الحارة. فلكي يؤكد قوته وينفض عنها شبهات الظنون، ولكي يثبت أن ملاحته ورشاقته لا ينقصان من فتونته، قرر أن يتحدى أقوى الفتوات وهو فتوة العطوف. وتحين فرصة زفة عطوفية فتعرض لها في ميدان القلعة، فدارت بين الفريقين معركة حامية انتصر فيها انتصارا حاسما اجتاحت أنباؤه الحارات جميعا، فأيقن كل من داعبه أمل التحدي أن شمس الدين لا يقل عن عاشور قوة وبأسا.
هكذا حافظت الحارة على نظامها المثالي في الداخل، وعلى سمعتها خارج نطاق الميدان.
20
رغم ذلك رجع شمس الدين من معركة العطوف مبلبل الخاطر. الزوبعة الثملة بالقوة والنصر تتشرب بالأتربة والقاذورات. لقد قال له فتوة العطوف وهو يتوثب للالتحام: أقدم يا ابن الزانية! أقدم يا ابن عاهرة خمارة درويش!
وملأ سبابه الأسماع. هلل له رجاله وزمجر الآخرون. أهو محض سباب مما تتفتح به المعارك؟ أم هو تاريخ يعلمه الجميع ويجهله هو بحكم حداثة سنه؟
وخلا إلى شعلان الأعور وسأله عما يعنيه الرجل، فقال له شعلان بحدة: نباح كلب جريح!
وقال له أيضا: إن امرأة يختارها عاشور الناجي زوجة له ووعاء لذريته لا يمكن أن ترتقي إليها شبهة من الشبهات.
واطمأن قلبه، ولكن لفترة قصيرة. لم يسترد الصفاء. وهامت في صدره الهواجس مثل السحائب في اليوم المطير. وفي وقت راحته جعل يسترق النظرات إلى فلة. إنها في الأربعين أو دون ذلك، مليحة ملاحة فائقة، صغيرة الجسم، رشيقة فاتنة. عيناها تنفثان سحرا خالصا. تقية محترمة وذات شخصية مؤثرة. لا يمكن أن يتصور ذلك، والويل لمن تسول له نفسه اقتحام محرابها! كم تعلق بها لدرجة الهوس، حتى قال له عاشور الناجي يوما: الرجل الحق لا يتعلق بأمه مثلما تفعل.
واستصحبه معه وهو صغير، فكان يأكل وينام فوق الكارو، ودار في فلك أبيه منتزعا من الأحضان الدافئة.
ترى ماذا شهدت خمارة درويش؟ هل يوجد رجال يعرفون من خفايا أمه ما لا يمكن أن يعرف؟!
وغمغم بغضب: الويل لمن تسول له نفسه اقتحام محرابها!
21
وذات يوم رأى وجها أرجعه سنوات إلى عهد الطفولة. كان يمضي بالكارو نحو الميدان فاعترضته معركة عجيبة ناشبة بين فتاة وفتى؛ كانت الفتاة تثب كالنمر فتلطم الفتى، تبصق على وجهه، قاذفة إياه بسيل من الشتائم، وهو يتفادى من هجماتها، يرد الشتائم بأقبح منها، والناس من حولهما يتفرجون ويتضاحكون.
ولما رأى الناس شمس الدين حيوه، وتوقفت المعركة، فهرب الفتى، وراحت الفتاة تلتقط ملاءتها من الأرض وتلتف بها وهي ترامقه في حياء.
أعجب شمس الدين بحيويتها، ونضارة وجهها، ومرونة جسدها. ورأته يرنو إليها فقالت معتذرة: قل أدبه يا معلمنا فأدبته.
فتمتم باسما: أحسنت، ما اسمك؟ - عجمية.
ثم بمزيد من الحياء: ألا تذكرني يا معلم؟
وتذكرها فجأة فقال بدهشة: بلى، كنا نلعب معا. - ولكنك لم تتذكرني. - تغيرت كثيرا، أنت ابنة دهشان؟
فحنت رأسها وذهبت.
ابنة معاونه دهشان، ولكن لشد ما تغيرت.
وأشعلت حواسه فتدفق شبابه مثل أشعة الظهيرة.
22
وعند مشارف الغورية رأى عيوشة الدلالة وهي تشير إليه فتوقف. تبين له أنها بصحبة سيدة أخرى، سيدة ذات بهاء يلفت الأنظار بملاءتها الكريشة وعروس برقعها الذهبية، وعينيها المكحولتين الجميلتين، وجسمها المدمج الريان. وسرعان ما اتخذت المرأتان مجلسهما فوق العربة وعيوشة تقول بنبرتها العجوز: الدرب الأحمر يا معلم.
وثب إلى مقدمة الكارو وهو يتمنى لو يخطف من المرأة نظرة أخرى.
وجعلت عيوشة تقول: ما أجمل أن تسوق الكارو يا فتوتنا وأنت إن شئت أن تعيش حياة الوجهاء ما منعك مانع!
فسعد بقولها ولكنه لم ينبس. إنه يسعد بدفء الحب، ويمتلئ بأريج العظمة الحقيقية، ويمحق بذلك خطرات الضعف والغواية. وتوقع أن تقول الجميلة شيئا ولكنها لاذت بالصمت حتى غادرت العربة في الدرب الأحمر. هناك ملأ منها عينيه، وأتبعها ناظريه وهي تمضي نحو رواق المشايخ.
ولبثت عيوشة بمحلها فنظر نحوها متسائلا فتمتمت: القلعة.
مضت العربة وهو صامت. صمت رغم أنه رغب في التكلم. وإذا بالعجوز تسأله: ألم تر من قبل ست قمر؟
فشكر للمرأة فتحها الحديث وأجاب: كلا. - هذا شأن السيدات المصونات! - من حارتنا؟ - نعم، أرملة غاية في الجمال والغنى.
فتساءل: ولم لا تستقل الحنطور؟ - رغبت في عربة فتوتنا!
فالتفت نحوها فقرأ في عينيها الكليلتين نظرة باسمة ماكرة. اشتعلت حواسه مرة أخرى. استحضر صورة عجمية فتراقصت الصورتان في وجدانه وثمل. وقالت عيوشة: أعجبتك ولا شك؟
فسألها بخشونة مصطنعة: عم تسألين يا ولية؟
فقالت ضاحكة: مهنتي بيع الملابس والسعادة للناس.
فانقطع عنها في حذر.
وعند ميدان القلعة غادرت العربة وهي تقول له: للكلام بقية فلا تنس عيوشة.
23
وتلاقت به أكثر من مرة فوق الكارو، عيوشة الدلالة. الغزو يطرق بابه بعنف، ولكن ضعفه الحقيقي يكمن في قلبه الفتي، في شبابه المتوقد. قمر تناوشه بأبهتها، وعجمية تناوشه أيضا بشبابها، ولعله يتجاوز عمره اليافع في إدراك ما يعنيه زواجه من سيدة في مركز قمر، وما يعنيه زواجه من فتاة مثل عجمية. ثمة عاصفة تتوثب في الأفق. من المستحسن أن تقصف بوادرها وأن يخوض ضرباتها ليحظى في النهاية بالهدوء والاستقرار.
وفي جلسة المساء عقب العشاء رأى أمه في حال غير عادية. عيناها الجميلتان تبرقان بالمكر، وتنفذان إلى دوامة هواجسه. وها هي تسأل في عتاب: ماذا يجري وراء ظهري؟
حسن. إنه يرحب بالمكاشفة، ويرغب في هتك أسرار قلبها المتمرد. - عم تسألين؟
فرفعت رأسها في كبرياء من يتعالى على الانخداع وتساءلت: أي لعبة تلعبها عيوشة الدلالة؟
وقال لنفسه إنه لا سر يصان في فم عيوشة المثرم. وابتسم مستسلما وهو يتمتم: إنها تمارس مهنتها.
فقالت بحدة: قمر في مثل سن أمك وهي عقيم!
فقال رغبة في الإثارة ليس إلا: ولكنها جميلة وغنية! - لم يبق من عمر جمالها إلا أيام، وإذا كنت ترغب حقا في الثراء فماذا يصدك عنه؟
فتساءل منكرا: أترضين لي خيانة عهد عاشور الناجي؟ - ولكن الإثراء عن طريق امرأة لا يقل عن ذلك عارا!
فقال لا عن إيمان ولكن تماديا في إثارتها: لا أظن ذلك. - حقا؟! إذن دعني أختر لك عروسا مناسبة من بنات الوجهاء! - هو أيضا إثراء عن طريق امرأة! - ولكنه طبيعي لا شذوذ فيه، وأصارحك بأن هذا ما يتمناه قلبي! فرنا إليها بقلق وقال: إنك لا تسلمين بحياتنا المجيدة إلا مضطرة، أصدقت حقا أني أستهين بحب الناس وبالعظمة الحقيقية؟ - أكنت تمكر بأمك؟ - كنت أداعبها!
فقالت باستياء: لست أنانية كما تتصور. أمس فقط رفضت يد سيد وجهاء الحارة!
فقطب منزعجا وقد تخضب وجهه بالدم، فقالت: وعيوشة كانت الواسطة أيضا! - عليها اللعنة! - قلت لها إن أرملة عاشور الناجي لا تقبل أن يحل محله رجل آخر.
فقال بجفاء: أقل ما يمكن أن يقال.
فقالت بتحد: قلته إكراما لأبيك لا خوفا منك. - ومن الوغد؟ - ليس وغدا، وما طلبه مشروع. - من هو؟ - عنتر الخشاب صاحب الوكالة!
فقال بازدراء: إنه متزوج ويماثلني في السن!
فهزت منكبيها استهانة وقالت: هذا ما كان! أما حالنا فنحن نجري العدل بين الناس ونظلم أنفسنا!
فقال بحزم: لقد قال أبي كلمته وما علي إلا الطاعة.
وقال لنفسه إن قلبها لطموح، إنها متمردة، ترى ما حقيقة تاريخك أيتها السيدة التي أحبها أكثر من أي شيء في الوجود؟
24
اعترف شمس الدين بأن أمه قوية وعنيدة. اعترف أيضا بأنه يحبها ويحترمها، لا باعتبارها أمه فحسب، ولكن بصفتها أرملة عاشور الناجي أيضا. أجل إن عاشور الناجي أبوه، ولكنه يمثل في الوقت ذاته حقيقة أكبر من الأبوة. وهو يهيم بهذه الحقيقة أكثر من الأبوة نفسها، هي محور حياته. ومعقد أمله، وسر افتتانه بالعظمة الحقيقية.
لذا قرر أن يصيب هدفه دون مشاورة عقيمة.
مضى بصديقه دهشان إلى الساحة أمام التكية في أول الليل. كانت ليلة من ليالي الصيف الرائقة، والحناجر تشدو بألحانها، والنجوم فوقها تتوامض في سلام.
وقال شمس الدين لدهشان: في هذا المكان الطيب كان عاشور يخلو إلى نفسه ويواصل أسمى أفكار الحياة.
فدعا دهشان لمعلمه القديم بالرحمة في السموات، فقال شمس الدين: وقد اخترته لتحل بركته بما سأطلبه منك.
فتمتم دهشان: إني رهن أمرك ولتحل به البركة.
فقال شمس الدين بهدوء: أريد ابنتك عجمية على سنة الله ورسوله!
وأخذ دهشان بما لم يتوقع فانعقد لسانه، فسأله شمس الدين بلطف: ما قولك يا دهشان؟ - يا له من شرف لم أحلم به يا معلمي!
فمد له يده قائلا: إذن فلنقرأ الفاتحة.
25
ولدى رجوعه إلى بيته من الساحة مارس شعورا أليما، شعور التحدي لسطوة أمه، السطوة القوية الناعمة. قال وهو يجالسها في هدوء غامض: أمي، قرأت الآن فاتحة عجمية بنت دهشان.
وللحظة لم تفهم فلة شيئا، ثم رنت إليه في ذهول: ماذا قلت؟!
فقال بإباء داخلي: قرأت فاتحة عجمية بنت دهشان. - مزاح من جديد؟ - هي الحقيقة يا أمي.
فتساءلت محتجة: أما كان يجب أن تشاورني قبل أن تفعل؟ - بنت مناسبة وأبوها رجل مخلص. - أبوها رجل مخلص ولكن أما كان يجب أن تشاورني؟
فقال بهدوء: إني أعرف رأيك مقدما وهو مستحيل.
فتمتمت محزونة: يا للخسارة!
فتساءل باسما: ألا أستحق تهنئة طيبة؟
وترددت قليلا، ثم اقتربت منه فلثمت جبينه وتمتمت: فليبارك المولى خطواتك.
26
واستأذن شيخ الحارة محمود قطائف في مقابلة شمس الدين. وتذكرت فلة خطوة مثل هذه في العهد القديم، فغمغمت «عليه اللعنة». فاستقبله شمس الدين فأجلسه إلى جانبه على الكنبة الوحيدة في الحجرة. ورغم تجاوزه الستين بدا متمتعا بالصحة والحيوية، وأقدر على الصمود لضآلة جسمه وخفته. وقدمت فلة القهوة وقد لفت رأسها بخمار أسود، وجاملته قائلة: كيف حالك يا معلم محمود؟
فدعا لها الرجل بالصحة والبركة وقال: ليتك تشرفين مجلسنا بحضورك لننتفع برأيك!
فتبادلت فلة نظرة مع شمس الدين، ثم جلست على حافة الفراش؟ وتوثب شمس الدين للاستماع وهو لا يتوقع خيرا. كان يعد محمود قطائف بين كارهيه المكظومين، مثل الأعيان، ومن فقدوا بفتونته الجاه والسيطرة. وقال شيخ الحارة: الحلم سيد الأخلاق، والكمال من شيم القادرين.
فهز شمس الدين رأسه دون أن ينبس، فواصل الرجل: بكل أمانة يا معلم شمس الدين إني مفوض من الأعيان للحديث معك. - ماذا يريدون؟ - لهم رغبة شريفة صادقة في الاحتفال بزفافك.
فقال شمس الدين ببساطة: سيجري زفافي في نطاق قدرتي كسواق كارو. - ولكنك فتوة الحارة أيضا؟ - لن يغير ذلك من وضعي كما تعلم. - إنك فتوة الجميع، فتوة الأعيان، كما أنك فتوة الحرافيش، ومن حق كل فريق أن يحتفل بك بطريقته وفي نطاق قدرته.
والتفت شيخ الحارة نحو فلة وسألها: ما رأيك يا ست أم شمس الدين؟
فأجابت فلة بدهاء: الكريم يقبل التكريم ولكن الرأي رأيه.
فقال محمود قطائف بارتياح: بالحق دائما تنطقين.
وتجهم وجه شمس الدين فقال: كيف أقبل تكريم أناس أعلم أنهم يكرهونني؟ - كلا لا أحد يكره العدل، ولكنهم يرغبون في تصفية الجو. - إنه لن يصفو بالألاعيب، وإني أخمن أن عندك الكثير فهات ما عندك. فتحرج محمود قطائف مليا، ثم قال: إنهم يقولون إن جميع الناس يتمتعون بالعدل والكرامة عدا الأعيان وأصحاب النشاط الحقيقي، فهل هذا من العدل؟!
ها هي جيوش الظلام تتحرك. تريد أن تطمس قبسات النور في زوايا الحارة وأزقتها. يتوهمون أن شمس الدين صبي يافع تخلب لبه الزينة كما تخلب لب أمه الجميلة. فارفع عصا عاشور العجراء واهو بها على نبضات الفتنة والغرور والإغراء.
وتساءل بخشونة: ألا يعيشون في أمان وراحة بال؟ - حلمك يا معلم، لم لا تؤخذ الإتاوات إلا منهم؟ - هم وحدهم القادرون. - ولكن الناس تفسر ذلك على هواهم ويستهينون بهم!
فقال بغضب: إنهم يأبون إلا الرفعة لأنفسهم والدونية للآخرين.
فصمت محمود قطائف مليا، ثم قال: من حقهم أن يطالبوا باحترام يكافئ أعمالهم. - ماذا تعني؟ - ماذا كانت تكون حارتنا لولاهم؟ دورهم زينة، أسماؤهم نجوم في الحي، من حوانيتهم يتدفق الغذاء والكساء لحارتنا، ومن أموالهم شيدت الزاوية والحوض والسبيل والكتاب الجديد، ألا يكفي ذلك كله؟!
فاحتد شمس الدين غاضبا وقال: لولا أبي ما انتفع بأموالهم أحد، انظر إلى نظرائهم في الحارات الأخرى ماذا يفعلون؟!
فلاذ شيخ الحارة بالصمت مرة أخرى، بدا مترددا، فقالت فلة: تكلم، ما على الرسول إلا البلاغ.
فتشجع محمود قطائف قائلا: إنهم يرون أنهم مظلومون، كما يرون أنك ورجالك مظلومون أيضا. يقولون إن منزلة الفتوة الحقيقية بين الأعيان، وإن الأعيان فضلهم الله درجات على الناس، ولن ينتقص ذلك من حق الفقير في العدل!
فصاح شمس الدين: وضح الأمر يا شيخ الحارة، إنهم يغرونني بنبذ العهد والارتماء في أحضان البلطجة. - معاذ الله! - هي الحقيقة وإنك لتؤمن بما أقول. - معاذ الله يا معلم. - إليك رأيي النهائي ...
فقاطعه واقفا وهو يقول بتوسل: بل فكر في الأمر قليلا. لا أطالبك إلا بتأجيل الحكم حتى تفكر. ومرق من الحجرة كالهارب.
27
اختفى محمود قطائف تاركا خلفه رائحة تبغ وعرق، وترك صمتا تتلاقى فيه النظرات وتتباعد. وثمة تناحر بين الفتى وأمه، بين الفتى وغرائزه، وزينة الدنيا ذات رائحة نفاذة ينجذب إليها لحل الأهواء المكبوتة. في هذه الحجرة الحقيرة تضطرم أحلام باللآلئ والنعيم والضجعة الطيبة. همسات النفس يحمر لها الوجه خجلا؛ أمه الجميلة المتمردة ذات الالتفاتة الساحرة، جمالها مجهول النسب يتجسد ضعفه البغيض المستتر.
وقال لها متحديا: الفتوة كما تعلمت هو حامي الحارة وراعيها وكابح قوى الشر فيها.
فقالت ساخرة: وهو لا يتميز عن أي متسول فيها!
فقال بحرارة: أمي، كوني معي لا علي! - إني معك دوما والله شهيد.
فهتف منقضا على أمه ونفسه معا: أريد أن أكون جديرا باسم الناجي وعهده.
فقالت أمه بظفر: عاشور لم يتردد عن وضع يده على دار البنان الخالية!
فقال غاضبا: العبرة بالخاتمة! - بل أعطانا في كل حال مثلا يحتذى.
فقال بازدراء: سيجيء زمن نلصق فيه بعاشور العظيم كل خلجة ضعف تضرب في نفوسنا.
28
مشى شمس الدين بحذاء الحمار مطمئنا ومثخنا بالجراح. طالما رأى الشعاع يسيل مبتهجا عقب الغيوم الممطرة. لا خجل من الضعف إذا المرء عليه انتصر. وما معنى القوة إذا لم تستو فوق خلجات الخور. فانهل من رحيق الحياة السامي النابع من علو الهمم.
وأمام دكان محمود قطائف شد اللجام فتوقفت العربة.
وهرع إليه الرجل متلهفا، فتخطاه بنظرة باردة وقال بحزم: عاشور الناجي لم يمت!
29
وكان شمس الدين ماضيا نحو مسكنه ليلا عندما اعترضه شبح امرأة. همست: مساء الخير. - عيوشة! ماذا جاء بك؟ - هلا تبعتني إلى حجرتي؟
خفق قلبه. خاف الدعوة. ثار فضوله. اشتعل شبابه. مضى وراءها صاغرا.
30
همست العجوز وهي تتقدمه في الدهليز: أمرك عجيب! - ماذا؟ - ألا يحق لنا أن نسأل لم يرفض البدر في تمامه؟
فتحت باب الحجرة فارتمى ضوء المصباح على الأرض. تنحت من أمامه وهي تدفعه بيدها. رأى ست قمر جالسة على حافة الفراش، وهو الموضع الوحيد الصالح للجلوس، مبرقعة ملفوفة في ملاءتها، غاضة البصر من الحياء.
وقف يرنو إليها في غاية من الانفعال.
وتساءلت عيوشة من موقعها فوق العتبة: هل بلغك عنا ما يسوء؟
فأجاب بارتباك: أبدا. - هل في جمالنا نقص أو عيب؟
فقال والحذر يسري في حواسه: معاذ الله. - هل هون من شأننا البوح بسرنا؟
فغمغم بأصوات مغضوضة وجف ريقه.
وأغلقت العجوز الباب فدفعت به إلى الحافة.
وتمتمت قمر بصوت لا يكاد يسمع: إني خجلى، لا أدري ماذا صنعت بنفسي.
فقال ببلاهة: كل خير. - لا تسئ بي الظن.
وتهاوى تحت دفعة طوفان فالتهمت الغريزة الكون كله، وأذعن لمشيئة القوة الملكية المزهوة بالاستهتار والخيلاء والعمى.
وهمست قمر وهي تقاوم مقاومة لا معنى لها: لا تسئ بي الظن.
31
وجد شمس الدين نفسه في الدهليز مرة أخرى. عقب إغلاق الباب وراءه. سبح الظلام في المكان وتسرب إلى حنايا نفسه. أخلفت النار رمادا خانقا وزفرت الدنيا فتورا وأسى.
وعند نهاية الدهليز رأى شبح عيوشة على ضوء النجوم الباهت. همست له وهو يمضي: الأمل في شهامة الرجال لا يخيب.
فتجهم حانقا ومضى مثقلا بالأسى.
32
لقد أخطأ ولكن خطأ الآخرين أفدح. وهو مبلبل البال ولكنها امرأة داهية. لن يقع في الشرك كأبله. لن يقامر بمعدنه النفيس، ولو تحمل ألما وكدرا. إن قوى الظلام تتآمر عليه، كما تتآمر عليه أمه ونزعات ضعفه، ولكنه جدير بخوض المعارك.
33
وزفت عجمية دهشان إلى شمس الدين الناجي.
وتصدى له شعلان الأعور وهو يقول: هذه ليلة يطيب فيها الخروج على الأصول.
ومضى به إلى غرزة خليل سكر، ومن الغرزة مضى به إلى بوظة عليوة أبو راسين.
وسارت الزفة التقليدية تجوب أطراف الحي يتقدمها الطبل والزمر، وتحدق بها النبابيت. لم يعترضها معترض، وبها رسخت مهابة الفتوة الأكبر.
ورأى شمس الدين أنه يطير بلا توقف، وعند كل محطة تهزه نشوة سرور وإلهام. وباركه عاشور الناجي وهو يمتطي مهرا أخضر. وهزجت له الملائكة فوق سطح السحاب. وانفتح باب التكية وتدفق منه اللحن الملكي وثمار التوت.
أما عجمية فقد حملت على هودج مكلل بالستائر المزركشة.
واستقبلتها فلة بوجه مشرق وقلب كئيب.
34
في الصباحية جلس على أريكته المختارة بمدخل القهوة.
لمح عيوشة تتسلل نحوه، ثم تقرفص تحت يمينه. حجبت سحابة ضوء الشمس. همس الصوت المثرم: ألف نهار أبيض!
فشكر، فاستدركت: ولو أني لم أشهد الفرح!
فقال بخمول: دعوتك مباحة في جميع الأفراح. - على أي حال نتوقع أن يشملنا عدل فتوتنا كالآخرين! - أي ظلم تشكين؟ - إني أدافع عن ضعف سيدة جليلة.
فقال بامتعاض: أنت الغاوية! - هل تصح الغواية على القوي الأمين؟!
فتمتم متكدرا: عليك اللعنة.
فنهضت لتذهب وهي تقول: لن نمل انتظار العدل.
35
وتمر الأيام.
تزمجر زوابع أمشير، ثم تعقبها رياح الخماسين. تتراكم السحب، ثم يسفر بحر الصفاء الأزرق.
من أول شهر ينشب صراع حام بين فلة وعجمية، يستحر ويستفحل بلا أمل في سلام، وتنجب العروس ولدا بعد ولد، ويتجاهل شمس الدين الصراع. يشفق من مساندة المظلوم كما يشفق من زجر الظالم. ثبت له أن دخول معركة آمن من الدخول بين امرأتين متعاديتين. وتبدت فلة عنيدة شرسة لا ترحم، كما تبدت عجمية قوية سليطة اللسان متوحشة عند الغضب، رغم مزاياها النافعة في النشاط والتفاني في العمل والإخلاص للزوج والولد.
وسمع ذات يوم فلة تعير زوجته بجد لص، وما يدري إلا وعجمية تصيح بها «يا ربيبة البوظة». عند ذاك فقد صوابه وصفع زوجه صفعة كادت تفقدها الحياة.
ومضى إلى ساحة التكية منفردا بنفسه في الظلام. لم يسمع الألحان ولا رنا إلى نجم. انصهر في نار باطنه الموقدة. هي الحقيقة بلا مراء. يعرفها الأعداء والأصدقاء. لولا سطوته لتغنى بها الكارهون. هي حكايتهم المفضلة وراء الأبواب المغلقة. إنه يعانق الجنون. يعانق الجنون ويرفض أن يحتقر أمه. لو لم تكن بريئة وفاضلة ما تزوج منها عاشور الناجي. اقترانها بعاشور شهادة أبدية بفضلها وخلقا جديدا لها. الويل لمن تسول له نفسه المساس بها. ولكن تبقى بعد ذلك الحقيقة قرحة دامية. وقد جاء الوباء ليهلك أي رجل من العابثين بها. ولكن تبقى الحقيقة قرحة دامية. قدح الحياة حتى في أسعد أحوالها لا يخلو من كدر وسم. الويل الويل للحزن والكدر.
ومن شدة أساه حمل السور العتيق المترامي فوق عاتقه.
36
رغم كل شيء اعتبرته أمه متهاونا في حقها، واستسلمت للغضب فرمته بطعنة مفاجئة. انتهزت فرصة غياب عجمية في الخارج وقالت له بجرأة سافرة: قررت أن أتزوج!
فذهل شمس الدين ورماها بنظرة متأججة وهو يتساءل: ماذا؟! - قررت أن أتزوج! - إنك تمزحين. - بل هو الجد.
فصاح: هو الجنون. - لا جنون فيما الله به أذن.
فصرخ بغضب: لن يقع ذلك وأنا حي!
وصار عنتر الخشاب غريمه فأهانه وهدده، حتى اضطر الرجل إلى لزوم داره، وراح يقول لأصحابه: انظروا ماذا يفعل الفتوة العادل؟!
وقال أيضا: إنه يتحدى شريعة الله ذي الجلال.
ويتضاعف غضب شمس الدين، ويتضاعف حزنه، ويشعر بأن الأرض الطيبة تميد به وأنه ينحرف عن الجادة.
وتصاب فلة بحمى. تتدهور صحتها ولا تنفع معها وصفات العطار. وترنو إليه صامتة، وتعجز حتى عن البكاء، وتسلم الروح في جوف الليل.
37
شعر بأنه يقتلع من جذوره وأن الشمس لم تعد تشرق.
وتطايرت شائعات في الحارات المعادية بأن شمس الدين دس السم لأمه ليمنعها من الزواج. وتمادوا فقالوا إنه اكتشف علاقة غير مشروعة بينها وبين عنتر الخشاب. وهاج شمس الدين فخاض معارك حامية دون أن يتحداه أحد، وتمثل في الحي جبارا لا يعرف الرحمة.
وغشيته كآبة دائمة مثل المرض المزمن. وتهولت في خياله انحرافاته ، واجتر مواقفه المؤسفة مع قمر وفلة وعنتر الخشاب وعنفه الجنوني في المعارك.
وراح يقول محزونا: إني أحمل اسم الناجي لا صفاته.
وذات ليلة اضطربت أعصابه تحت ضربات قدره فمضى كالنائم إلى مسكن عيوشة الدلالة. جلس على الفراش دون أن ينظر إليها وهي تحملق فيه بذهول.
وقال بلا أي انفعال: إلي بقمر!
38
وتمضي الأيام.
يكبر الأبناء ويتأهلون بشتى الحرف.
يموت شيخ الحارة محمود قطائف فيحل محله سعيد الفقي. يموت شعلان الأعور ويتقاعد دهشان. ويموت شيخ الزاوية حسين قفة فيحل محله الشيخ طلبة القاضي. ويموت عليوه أبو راسين فيشتري الخمارة عثمان الدرزي.
وولدت عجمية آخر العنقود «سليمان». وجاء نموه خارقا للمألوف حتى ذكر أباه بعملقة عاشور؛ لذلك قرر أن يؤهله للفتونة، وأن يربيه التربية المثالية الخليقة بعهد الناجي وتقاليده.
ورغم ما عانى شمس الدين من انحرافات شخصية فإنه حافظ على نقاء فتونته للحارة. ظل يعمل سواق كارو رغم سطوته وتقدمه في العمر. ورعى الحرافيش بالرحمة والعدل والحب. وعرف بالتقوى والعبادة وصدق الإيمان. وتناسى الناس أخطاءه، وعبدوا طيب خصاله، وأصبح اسم الناجي مرادفا عندهم للخير والولاية والبركة.
39
تنساب عربة مكللة بالزهور والحياء. صلصلة عجلاتها المدوية لا يسمعها أحد. الأذن لا تسمع إلا ما ترغب في سماعه. يتوهم الفحل أنه اقترن بالدنيا قران دوام، ولكن العربة لا تتوقف والدنيا زوج خئون.
40
دأبت عجمية على صبغ شعرها بالحناء. غزاها المشيب منذ بلغت الخمسين، فلما شارفت الستين لم يبق برأسها شعرة سوداء واحدة. الحناء تروي الشعر بماء الغسق، وتضفي عليه حرارة وشموخا. وهي ما زالت قوية، تفيض بالحيوية، متحركة لا تهمد، تواصل العمل مع الشمس وأحيانا مع الشمس والقمر، ولم تزايلها النضارة، واكتسبت مع الأيام بدانة فاخرة. لم يتسلل إلى هيكلها المتين ما يثير هواجس الحذر.
ويداعبها شمس الدين فيقول لها وهو يلحظ عجينة الحناء: ما جدوى الكذب يا ولية؟!
فتسائله ساخرة: إذا كان الشيب علامة صادقة فلم يبق رأسك أسود؟
فاحم الشعر، قوي البنيان، مستمسك بالقوة والرشاقة والبهاء، إنها تضمر نحوه حبا وإعجابا بلا حدود ، ومسا من الغيرة والخوف؛ لم يتزوج بأخرى، لم يرتكب إلا هفوة عابرة لم تتكرر مع عجوز في سن أمه، ولكن من ذا يضمن المستقبل؟!
41
وذات صباح وهو يمشط ذؤابته حملقت عجمية في رأسه، وبفرحة لم تفلح في مداراتها هتفت: شعرة بيضاء!
التفت نحوها باهتمام كما يلتفت إلى صوت النذير في المعركة. حدجها باستياء فقالت: شعرة بيضاء وحق النعمة!
فنظر إلى المرآة الصغيرة بيده وتمتم: كاذبة.
فاقتربت منه مركزة بصرها على هدفها كالقطة عندما تنقض على الفأر. استخلصت من الذؤابة شعرة وقالت: ها هي يا معلم.
تفحصها في المرآة. لا مفر ولا مكابرة. كأنما في سوء ضبط، كما ضبط منذ أعوام وأعوام وهو يتسلل إلى بدروم عيوشة. امتلأ قلبه بالاستياء والحنق، والخجل. وتجنب النظر إليها متمتما باستهانة: وماذا يعني هذا؟!
ومضى وهو يقول: يا لك من حقود!
42
لم يمر الاكتشاف بسلام كما توقعت. كان يتفحص رأسه كل صباح بتدقيق واهتمام. ندمت على ما بدر منها، وقالت مداهنة: لا علاقة البتة بين الشيب والعافية.
ولكنه كان يتساءل عما بلغ من عمر: متى بلغه؟ كيف قطع ذلك الشوط الطويل؟ ألم يهزم غسان أمس؟ وكيف هرم دهشان وبات يمشي مثل طفل؟ وأي قيمة لفتوة بغير قوة دائمة؟
وعادت عجمية تقول: الصحة هي ما الله نسأل.
فسألها بغيظ: لماذا تكثرين من الحكم الفارغة؟!
فضحكت لتهون من حدته وقالت: الصبغة لا تعجب الرجال.
فهتف: لست من الحمقى.
لأول مرة يتساءل عما فات وعما هو آت، ويتذكر الأموات، ويتذكر الأولياء الذين عمروا ألف عام، والخراب الذي يعبث بالأقوياء، وأن الغدر ليس وقفا على ضعف النفس والرجال، وأن هدم زفة مسلحة أيسر ألف مرة من صد ثانية بما لا يقال، وأن البيت يجدد والخرابة تعمر لا الإنسان، وأن الطرب طلاء قصير الأجل فوق موال الفراق.
وطوق رأسه باللاثة وسألها: أتدرين ما هو الدعاء؟
ولما لم تجبه قال: أن يسبق الأجل خور الرجال!
43
وقالت عجمية عقب ذهابه إن ما يبقى للإنسان هو الإيمان. وجاءها نعي أبيها دهشان فصرخت صرخة ارتجت لها قضبان الشباك.
44
بكت عجمية أباها دهشان طويلا. جعلت تقول إن الإنسان يصبح بطول العمر عادة محبوبة يتعذر تصور الدنيا بغيرها. وحزن شمس الدين لوفاة صديقه وصديق أبيه من قبل، ولكن لم يزعجه موت كما أزعجه موت عنتر الخشاب صاحب الوكالة؛ فهذا رجل يماثله في السن، يقف معه في صف واحد، وتدهورت صحته بغتة عقب شلل مفاجئ. ولكن الموت لا يهمه، لا يزعجه بقدر ما تزعجه الشيخوخة والضعف. إنه يأبى أن ينتصر على الفتوات وينهزم أمام الأسى المجهول بلا دفاع. وتساءل في دهشة: ألم يكرم عاشور الناجي بالاختفاء وهو في عز القوة والكرامة؟!
45
وجرت أمام عينيه بمجلسه بالقهوة مصارعة ودية بين ابنه سليمان وبين شاب آخر من رجاله يدعى عتريس. تعادلا في القوة والمهارة دقائق حتى تمكن سليمان من هزيمة صديقه.
اشتعل باطن شمس الدين بالغضب، وكبر عليه أن يصمد عتريس أمام سليمان أكثر من دقيقة. لم يسر بانتصاره. لم يتصور أن القوة تعوزه وهو الشبيه بعاشور في عملقته ولكن تنقصه ولا شك المهارة الكافية.
46
ومضى بسليمان إلى سطح البيت الذي يقيم في شقة منه. خلع ثيابه إلا ما يستر العورة مغموسا في أشعة الغروب الذهبية، وقال لسليمان: افعل مثلي.
فتساءل الشاب متراجعا: لم يا أبي؟ - إنه أمر.
وتراءيا وجها لوجه. شمس الدين بجسمه القوي الرشيق، وسليمان بهيكله العملاق كأنه عاشور.
قال شمس الدين: بكل ما أوتيت من قوة صارع.
فقال سليمان: أعفني من العار. - صارع وتعلم فليست القوة بكل شيء.
وأطبق عليه بالقوة والإصرار.
تلاحما فانتفخت منهما العضلات وهو يقول: بكل قوتك.
فقال سليمان: إني أمهلت عتريس مودة لا عن عجز.
فزمجر شمس الدين: بكل قوتك يا سليمان!
وشعر شمس الدين بأنه يغالب السور العتيق، وأن أحجاره المترعة برحيق التاريخ تصكه مثل ضربات الزمن. وحمي الصراع حتى خال شمس الدين أنه يصد الجبل. منذ دهر لم يخض معركة. قوته راكدة في ظل سمعته الشامخة. تناسى أنه يدرب فلذة الكبد. الموت أهون من التراجع. ركبه عناد ذو عين واحدة . شد على عضلاته بالإصرار والكبرياء. رفع البنيان بين ذراعيه، ثم طرحه أرضا.
وقف يلهث ويتألم ويبتسم.
ونهض سليمان وهو يضحك قائلا: أنت الناجي الأصيل المقتدر.
راح شمس الدين يرتدي ثيابه. تنازعته انفعالات متضاربة. لا حزين هو ولا سعيد. غابت الشمس واستكن الهدوء الشامل بين يدي المساء.
47
جلس شمس الدين على الكنبة فلم يفارقه سليمان. لم يفارقه؟ هل يشي وجهه بآلامه؟ - لم لا تنصرف بسلامة الله؟
فتمتم سليمان: إني خجلان بما جرى. - اذهب مصحوبا بالسلامة.
أراد أن يكرر الأمر ولكنه صمت. لم يتحرك لسانه ونسي. أقبل الليل قبل موعده.
48
أغمي على شمس الدين الناجي.
فتح عينيه فرأى تلالا حمرا فوقها سماء تقطر غبارا. غازلته ذكرى، وسرعان ما تلاشت. إنه يتنفس في كهف تسكنه اللامبالاة. ينحسر الضباب فيتراءى وجه عجمية ووجه سليمان. يدهمه الوعي بغلظة وضحكة صفراء. شم رائحة ماء الورد المتطايرة من عنقه ورأسه.
همست عجمية بوجه شاحب: هربت دمنا!
وسأله سليمان بصوت متهدج: بخير يا أبي؟
غمغم: الحمد لله.
ثم بنبرة المعتذر: حتى شمس الدين لا ينجو من المرض.
فقالت عجمية بحيرة: ولكنك لم تشك! - ما أبغض الشكوى إلي.
وبقلق تساءل: تسرب الخبر إلى الخارج؟ - كلا، غبت دقيقتين. - عظيم، لا يجوز أن يعرف الخبر، حتى الأبناء لا يجوز أن يعرفوا.
ونظر إلى سليمان وقال: ستنسى كل شيء عقب خروجك.
فحنى رأسه امتثالا، ولكن عجمية سألته: أنت بخير؟ - كل خير. - عند العطار وصفة ولا شك تفيدنا.
فقال بامتعاض: إنه من أعدائنا. - الحلاق مفيد أيضا وهو من محبيك. - قلت إنه لا يجوز أن يعرف الخبر، وأنا بخير.
فتساءل سليمان بجزع: ولكن لم حصل ما حصل؟
فقال متظاهرا بالثقة: إنه الجهد عقب الإفراط في الطعام!
استرد الوعي تماما فاسترد الثقة. نهض وتمشى في الحجرة الصغيرة. ألا يحسن به أن يسهر بعض الليل في الساحة كما كان يفعل عاشور؟
ثم ناداه النوم بإغراء لا يقاوم.
49
مضى نحو الساحة عند الأصيل. كانت الشمس تسحب أذيالها من الأسطح والمئذنة. مر بعتريس وهو يسقي حماره من الحوض ، فحياه الشاب تحية الصبي لمعلمه المهيب. وعند زاوية السبيل التقى بسعيد الفقي شيخ الحارة، فوقف يتبادل معه حديثا عابرا. من مكمنه وراء جناح السبيل ترامى إليه صوت عتريس وهو يخاطب آخر قائلا: معلمنا شمس الدين ليس كعادته.
فقال الآخر بأسف: لعله مريض.
فقال عتريس مشاركا في الأسف: أو لعله العمر!
اجتاحته شعلة غضب. غادر مكمنه فرجع إلى عتريس وهو يهتف: أيها الجماد!
ورفعه بين يديه عاليا ورمى به في الحوض. تفرق الواقفون تاركين الحمير وقد جفلت من رجرجة الماء عقب سقوط الجسم.
ولم يعد يصلح لزيارة الساحة فعدل عنها. وباندفاعة عمياء بادر إلى الخمارة فمرق من بابها مثل عاصفة. سكتت الأصوات المخمورة، وحدقت به الأبصار في توقع ودهشة. جعل ينظر إليهم في تحد غير مفهوم حتى وقفوا مترنحين وخاشعين.
دارت برأسه أفكار شيطانية، وسرعان ما هرع إليه عثمان الدرزي. أفاق من جنونه فتلاشت نواياه المستهترة. استسخف سلوكه. كلا، لن يتحدى الهواء، لن يتمادى في ارتكاب الحماقات. ستسنح فرصة فينتهزها، ستعرض تجربة فيخوضها.
وغادر المكان دون أن ينبس بكلمة أو يفعل شيئا تاركا وراءه ذهولا شاملا.
50
الأيام تتلاحق. ثمة مصير يتخايل عن بعد، ولكنه راسخ ويقترب. لا شيء يؤخر خطوته. إنه يشد عضلاته ويسل إرادته وينتظر. لماذا تتمسك بالقوة ولست عابدها الأوحد. الشيب ينتشر. أيضا التجاعيد حول الفم وتحت العينين. البصر يفقد حدته وكذلك الذاكرة.
ويزحف التغير على عجمية بسرعة أشد ودون تدرج. تفتر شهوتها للطعام ويسوء الهضم، وتصاب بآلام مجهولة في الظهر والساقين، وتهزل وتنضب، ثم تستسلم للرقاد. ماذا دهى هذه المرأة القوية؟ وتجرب الوصفة بعد الوصفة، ولكن ثمة شيئا جوهريا فقد.
ويكثر من الجلوس في القهوة تاركا الكارو لسليمان. يجتمع برجاله، يسمع الأخبار، يزن كل يوم سطوته، يمتحن في النفوس أثره وهيبته. ويقول أحد أتباعه ذات يوم: ظهر في العطوف فتوة جديد.
فيقول باستهانة: لعل القدر يعميه عن وزنه الحقيقي لنؤدبه!
وفي المساء يخلو إلى نفسه ساعة في الساحة يستمع إلى الأناشيد، ثم يسرع إلى البيت ليجلس إلى جانب عجمية، ويلاحظ بلا جهد أنها تمضي من سيئ إلى أسوأ. هل تقدر عليه الوحدة في آخر أيامه؟ كل وصفة جربت، ولكنها تمضي من سيئ إلى أسوأ.
51
وكان راجعا إلى البيت ظهرا عندما ارتطمت قدمه بنحلة يلعب بها طفل. وجاء صوت الطفل وهو يصيح مغيظا: يا عجوز يا أعمى!
التفت نحوه فرآه في طول عنزة وهو يحدجه بنظرة جريئة متحدية. ود لو يهرسه بقدمه. كظم غيظه ومضى. هذا جيل يجهله. إنه يعيش بفضله ويجهله. ويصرح بعفوية بما يكتمه الراشدون. أليس من الأفضل أن نموت مرة واحدة؟
52
عند الفجر من تلك الليلة استيقظ على حركة مبعثها عجمية. أشعل المصباح فوجدها جالسة في الفراش متألقة بحيوية طارئة بعثت في نفسه الأمل. قال لها: لقد شفيت يا عجمية!
ولكنها لم تجبه. نظرت إلى الجدار وهمست: أبي.
فامتلأ كآبة وتمتم برجاء: عجمية!
رآها تغيب في المجهول وتتلاشى، فهتف: لا تتركيني وحدي!
أسندها إلى صدره.
رفيقة العمر تحتضر.
ودهمه البكاء مجردا، ولكن لم تسل من عينيه دمعة واحدة.
53
تناوبت زوجات أبنائه خدمته. لم يخل البيت من أصوات وأنفاس، ولكنه كان يناجي نفسه: ما أفظع وحدتي!
لم يحزن لموت عجمية كما توقع. شعر بأنه على بعد خطوات قلائل منها. الحزن في مثل سنه لا يعني شيئا. إنه لا يخشى الموت ولكن الضعف يخشى. أصبح طاعنا في السن، وسيجيء يوم لا تبقى له فيه من الفتونة إلا الاسم والذكرى.
وقال له بكريه سماحة وكان قد جاوز الخمسين: من حقك أن تخلد إلى الراحة.
وأكثر من واحد قال: ستجدنا جميعا في خدمتك.
فتساءل محتدا: ماذا تريدون؟
فلم ينبس أحد فقال: لولا ثقتي بقوتي لاعتزلت!
فقال سماحة: دع سليمان يحمل العبء.
ولكن سليمان بادره: ما زال أبي هو الأقوى.
فرمق ابنه بامتنان وتساءل: ماذا تعرفون عن لعنة العمر؟
فقال سماحة: إنه ينقلب نعمة بين أحضان الراحة. - ويطمع الآخرون فينا، ما أبغض قفا الحياة!
وساد الصمت، حتى قال بضيق: انصرفوا مشكورين.
54
صلاح كار كجا ومن خراب كجا
ببين تفاوت ره أز كجاست تابكجا
كان يذوب في السماع تحت ضوء البدر الذي حول بكيميائه بلاط الساحة إلى فضة.
وقبيل منتصف الليل غادر مجلسه. مر بدكان سعيد الفقي شيخ الحارة وهو به، فلما رآه الرجل مضى إليه وهو يتساءل: أما علمت يا معلم؟
فلما استوضحه ما يعني قال سعيد الفقي: رجالك يتربصون لزفة فتوة العطوف الجديد!
انتفض غاضبا وهتف: كذب. - هي الحقيقة وسينتصرون بإذن الله. - أين؟ - عند بوابة المتولي، يريدون أن يشكموا الفتوة الجديد.
فتساءل شمس الدين محتدا: من وراء ظهري؟!
وضرب الأرض بعصاه العجراء واندفع في الظلام.
أتبعه سعيد الفقي عينيه حتى اختفى، ثم تمتم ساخرا: أيها العجوز المخرف الذي يبول على نفسه!
55
بدأت المعركة قبل وصوله بدقائق. رآه بعض رجاله فصاحوا: شمس الدين الناجي!
الزفة تفور بضربات النبابيت. سليمان يفعل الأعاجيب. فتوة العطوف يحمل حملات صادقة تزلزل الرجال.
اندفع شمس الدين بلهفة إلى قلب المعركة. وثب برشاقة أمام ابنه سليمان فصار وجها لوجه مع فتوة العطوف. تفادى من ضربة شديدة، ثم وجه ضرباته السريعة في خفة وحذر. امتلأ بقوة عجيبة لا يدري من أين جاءته، فقاتل كخير ما قاتل من قبل. تجلى مندفعا فياضا ملهما شديد البأس. تضاعف حماس رجاله وتصاعدت جعجعة النبابيت. وثمل بنشوة القتال فخلق المعجزات. أصابته ضربات لم تعجزه ولم توقفه. ونال من خصمه ضربة أخرجته من النضال. وسرعان ما تفشى الخور في رجال العطوف وأخذوا يتقهقرون.
وما هي إلا ساعة حتى انقلبت الزفة مأتما. تحطمت الكلوبات وديست الورود وتحطمت المزامير والدفوف، ولاذ الرجال بالهرب.
وقف شمس الدين وهو يلهث والدم يخضب جبهته. التف حوله رجاله. وجاء سليمان فلثم يده، ولكنه قال له: لي معك حساب.
فقال سليمان معتذرا: إنه الوفاء لا الغدر.
وصاح الرجال: صلاة النبي ترضي النبي.
56
رجع الرجال، على رأسهم شمس الدين الناجي، يخوضون الظلام على ضوء الشموع، وأنشدوا بأصوات أيقظت النيام:
اسم الله عليه، اسم الله عليه.
ثم غنى ذو صوت حسن:
يا عود قرنفل في الجنينة منعنع
ولكن شمس الدين لم ينعم طويلا بفوزه المبين. سرعان ما انفصل عن الجمع فوجد نفسه وحيدا. وحيدا في وحدة متعالية وموحشة. ووردت كلمة تقول إن كل شيء هباء حتى الفوز، وتقول أيضا إن الهتاف كثير، ولكن ما أكثر الآذان التي تتعاقب على سماعه! وأقبل نحوه عاشور الناجي حاملا على ذراعيه أمه الجميلة في كفنها الكموني، وفرح لظهور عاشور بعد اختفائه الطويل، وقال إنه كان على يقين من ظهوره ذات يوم، ولكن ألم تدفن أمه بعد؟ وفي لحظات الرضا تهبط سحابة فيمتطيها ذو الحظ السعيد فترتفع به في جوف القبة. عند ذاك لا يبالي بالموجات المثبطة التي يتلقاها من المجهول. يستوي لديه أن تحمله ساقاه أو تخذلانه. ولكنه وحيد، وحيد يتألم. ما معنى هذا الضعف الزاحف؟ الأنوار الخافتة تنطفئ. إنه يقترب من الحارة، وفي الحقيقة هو يبتعد. يبتعد إلى ما لا نهاية. لم يعد له من مطمح أكثر من أن يبلغ فراشه.
وتجلجل الأصوات:
اسم الله عليه، اسم الله عليه.
ويصارع شمس الدين المجهول في وحدته. إنه يصده عن السير، يرفع أديم الأرض حيال قدميه، يسرق فوزه العظيم ببسمة ساخرة، ويكور قبضته، ويسدد إليه ضربة في الصدر لم يعرف لعنفها مثيلا من قبل.
وتأوه شمس الدين الناجي، ثم تهاوى فتلقفته أيدي الرجال.
الحب والقضبان
الحكاية الثالثة من ملحمة الحرافيش
1
خفقت الأفئدة لموت شمس الدين الناجي. أسهمت الحارة في تشييد قبر له يليق بمقامه، وشيعته إليه في جنازة مهيبة لم يتخلف عنها رجل أو امرأة. وعدت صلابته البطولية أسطورة وكرامة من كرامات الأولياء، حتى سمي بقاهر الشيخوخة والمرض. وبقيت ذكرى فتونته النقية العادلة خالدة مثل فتونة أبيه العظيم، وتنوسيت هناته الانفعالية، ولم ينس أحد أنه عاش ومات كادحا، كما عاش ومات فقيرا.
وبفضله وفضل أبيه عاش وجدان الحارة مثلا أعلى ترنو إليه الأعين والقلوب على تعاقب الأزمان.
2
تولى الفتونة سليمان شمس الدين الناجي. عملاق مثل جده عاشور، دون أبيه في الجمال والرشاقة، ولكنه مكتس بروعة الصورة الشعبية الأصيلة. لم يتقدم لمنافسته أحد، وانضم إليه عتريس بحماس وحب. ولم يتغير مذاق الحياة في شيء. لعب الأمل بقلوب السادة والوجهاء أياما، ثم خمد. لم يكن عمره يتجاوز العشرين ولكنه اتبع خطى أبيه بلا تردد. ظل حامي الحرافيش وشاكم الأغنياء، وعدو البلطجة، ومارس مهنة أبيه برضى واقتناع.
وكالمتوقع واجه تحديات من فتوات الحارة المجاورة فلم ينكص عن خوض المعركة بعد المعركة، وأحرز في كل معركة انتصارا، أجل لم تكن انتصاراته بقوة انتصارات أبيه أو جده، ولكنها كانت كافية لتأمين الحارة وبسط قدر لا يستهان به من هيبتها. وترك العراك آثارا مستديمة في الجبين والعنق، ولكنها عدت شهادة طيبة لبطولته الرائعة.
ومن الحق أن يقال إن قلبه كان ينازعه أحيانا إلى الحياة الطيبة الرغيدة، وأنه كان يقرأ مثل ذلك في وجوه أعوانه وإخوته، ولكنه تجهم الضعف ولم يشجعه، وفتح قلبه الغض لسحر العظمة الحقيقية.
3
وكانت فتحية - شقيقة صديقه عتريس - زميلته في الكتاب. وغابت عنه دهرا حتى رآها مرة أخرى في جنازة أبيه. ورغم حزنه مال قلبه إليها. كانت تقاربه في السن، في أنفها فطس، عميقة السمرة، جميلة العينين، ذات حيوية فائقة، وشعر بأن الزواج جدير بأن يصون فتونته من مباذل لا تليق بالفتونة النقية. هكذا طلب يدها من عتريس، وسرعان ما زفت إليه، واستبشرت الحارة بالزواج خيرا، وعدته نصرا للحرافيش والفتونة النقية.
4
ومضت عشرة أعوام هادئة. كان سليمان يعمل شاعرا بأن الفتونة عبء ثقيل وبهجة عابرة. وكانت فتحية تعمل كما عملت عجمية وفلة من قبل، وتلد بنتا بعد بنت.
وفي العام الأخير من أعوامه الهادئة رأى سنية السمري.
من مجلسه في القهوة في أوقات الراحة يراها والدوكار يمضي بها. كريمة السمري كبير تجار الدقيق، براقة المنظر في طزيرتها، تطل من فوق برقعها الأبيض عينان سوداوان ساجيتان ساحرتان، يبعث مرورها السريع الدفء والإلهام.
تعلق بالدوكار اهتمامه. امتد بصره إلى دار السمري السامقة. حلم على إيقاع جرس الدوكار برقص الفتوات في أعقاب الظفر. تاه بعملقة الفتوة على تواضع الكارو. وتساءل من يجلس إذا سليمان وقف؟ وعدا بوابة التكية فأي باب يغلق في وجهه. والضعف قبيح، ولكن ألم يعشق عاشور فلة جدته. أليست دار السمري أنقى من خمارة درويش؟ هل كان عاشور ينكص إذا كانت فلة كريمة للبنان؟ هل غير استيلاؤه على دار البنان من عدله وطيبته؟ وهو قادر على قهر الفتوات ومحق الإغراء، ولكن الحب قدر. وحتى شمس الدين في هوى قمر وقع. سيجزع الحرافيش ويفرح السادة، ولكن سليمان لن يتغير. ثم ما الحيلة إذا كان الحب حكم. أجل ما زالت فتحية الزوجة المخلصة والأم الولود، وهي أيضا شقيقة عتريس الوفي. الحب الجديد غطاها كالموجة الصاخبة، ولكن جذورها هناك راسخة. ما أعذب الألم في محن الأهواء الجامحة!
5
عقب صلاة الجمعة سار سعيد الفقي شيخ الحارة إلى جانبه. قبيل القهوة قال له: رأيت يا معلم حلما عجيبا.
فحدجه سليمان بنظرة متسائلة فقال: حلمت بأن أناسا طيبين يتمنون لقاءك.
فخفق قلب سليمان وشعر بأنه تجرد فجأة من ملابسه، وتمتم ساخرا ليداري اضطرابه: حلم شيطاني.
فواصل شيخ الحارة بجدية: ولكنهم ينتظرون أن تجيء الخطوة الأولى منك.
وتساءل سليمان متخابثا: ماذا يريدون من سواق كارو؟
فأجاب سعيد الفقي بإجلال: أن يوصلهم إلى سيد الحارة دون منازع.
6
ارتفعت موجة الإغراء كالجبل فاستدعى سليمان عتريس إلى مجلسه بالقهوة وقال له: عندي سر أريد أن أفضي به إليك.
فتطلع إليه عتريس في امتثال، فتساءل سليمان: أنت صديقي، فكيف تراني لو تزوجت مرة أخرى؟
فسأله عتريس ببساطة: تنوي التخلص من فتحية؟ - بل ستبقى في أعز مكان.
فضحك عتريس وقال: أنت تعلم يا معلمي أني شارع في الزواج من الثالثة! - الرجال لا يتنابذون بسبب النساء، ولكن توجد مشكلة في الأمر.
فابتسم عتريس وقال: إن الجديدة من دور السادة؟!
فتمتم سليمان بارتياع: ذاع السر لهذا الحد؟ - الحب ذو رائحة نفاذة! - ماذا يقول الناس؟ - وماذا يهمنا من الناس؟ - ماذا يقول الحرافيش؟
فقال عتريس باندفاع: اللعنة على الحرافيش، أما أعوانك المخلصون فسيرقصون طربا.
فبادره سليمان عابسا: أخطأت التصور يا عتريس، سليمان الناجي لن يتغير.
فانطفأ تألق الآخر وقال: هل تشرك الهانم في بدروم فتحية؟ - أيا كان الحل فسليمان لن يتغير. الحق أنكم تضيقون بالعدل ضيق الوجهاء. - معلمي، من من الفتوات يرضى بما نرضى به من العيش؟!
فقال سليمان بإصرار: سليمان لن يتغير يا عتريس!
7
حمل سعيد الفقي رغبة سليمان إلى السمري، وسرعان ما قوبلت بالرضا. كان السمري في أعماقه يحتقر سواق الكارو وأصله، ولكنه كان يتطلع إلى مصاهرة الفتوة الجبار سيد الحارة وشاكم الأغنياء. ورجا رجاء واحدا أن يخصص لكريمته جناحا في داره حتى يشيد لها دارا مناسبة، فلم يعارض سليمان في ذلك. وصعقت فتحية وبكت، ولكنها سلمت بالمقدر. وفرح السادة وتوجس الحرافيش، ولكن سليمان أعلن أنه لن يتغير.
وشهدت الحارة زفافا لم تشهد له مثيلا من قبل.
8
هكذا ربطت المصاهرة بين الفتوة سليمان وبين الوجيه السمري. وقال عنها شيخ الحارة سعيد الفقي: مصاهرة مباركة بين الفتونة والوجاهة.
وقد امتلأ جيبه جزاء سعيه المشكور. بالرغم من أن سليمان أعلن أنه لن يتغير، ولكن الحياة جادت بمذاقات جديدة، وحملت السحب ماء سلسبيلا. وقال سليمان لنفسه إن من النساء من هن جبن «قريش»، ومنهن من هن زبدة وقشدة. أسكرته الرائحة الزكية، وداهنته البشرة الملساء، وأطربته النبرة العذبة. وحلت دنياه الرشاقة اللعوب. وبإقامته في دار السمري أياما معدودات كل أسبوع عرف نعومة المجلس ودفء المرقد وسلاسة الملبس وأبهة الماء الساخن في الحمام الفسيح، والستائر والوسائد والنمارق، والتحف والتهاويل، والسجاجيد والأبسطة، والحلي والجواهر، والأهم من ذلك كله الأطعمة الفاخرة واللحوم المتنوعة والحلوى الساحرة. وذهل الفتوة، وعجب كيف تستكن هذه الجنة الخلابة في طوايا الحارة المتقشفة. أجل حافظ على مظهره في الخارج، وأصر على ممارسة عمله المتواضع، ولم يتلفع أمام الأعين إلا بعظمته الحقيقية، غير أنه آنس رياحا جديدة تهب على جوه المستقر، وشررا يتطاير يوشك أن يشعل حرائق الأركان. ثمة نظرات نافذة تهتك ما يستقر في معدته من أطايب الأطعمة والأشربة. وهمسات تدور حول الجنة الخفية، بخاصة من رجاله وأتباعه. واضطر - ولأول مرة - أن يوزع عليهم في المواسم والأعياد، وفي سرية بالغة، نقودا من الإتاوات، دون غبن يذكر للفقراء والحرافيش . شعر وهو يفعل ذلك بأنه يخطو الخطوة الأولى في طريق كريه شديد الانحدار، وأنه يحيد نوعا ما عن سبيل الناجي. ثم هاله أن ينعم بما ينعم به في دار السمري، على حين تعاني فتحية وبناتها حياتهن الجافة الشاحبة، فامتدت يده مرة أخرى إلى الإتاوات وخصهن بنفحات محدودة، منحدرا درجة جديدة في الطريق الكريه. ومضى يقول متعزيا: لن يمس ذلك حقوق الفقراء والحرافيش إلا قليلا!
ولم يسكت حواره مع نفسه، ولم تصف الحياة من شوائب الكدر. وها هي سنية تلح عليه في أن يكف عن ممارسة مهنته، أن يؤجر آخر ليسوق الكارو، وها هو يرفض بإباء، ويحاول أن يسيطر سيطرة الفحل القوي، وهي تحب وتتظاهر بالطاعة تاركة الفعل والتأثير لحبها المتسلل المقتحم.
وكلما شعر سليمان بأنه يتغير قال لنفسه بحزم: ما تغيرت، ولن أتغير.
9
وجمعت مائدة العشاء بدار السمري بينه وبين وجهاء الحي. كانوا يتجنبونه خوفا أو إيثارا للسلامة، الآن يحدقون به آمنين كما يحدق المشاهدون بالأسد في حديقة الحيوان.
وتبودلت الأنخاب، وجرت الدماء بالشجاعة، وهلت تباشير الآمال، حتى قال صاحب الوكالة: لعلك ظننت يوما أننا لا نذعن لك إلا بالقهر، ألا تدري يا معلم أن العدل قيمة يحبها في النهاية من ينتفع بها ومن يخسر؟!
فتمتم متسائلا: ومن يخس؟ - حسبك أنك جنبتنا الحقد والحسد واللصوص.
وهنا قال البنان: ولكننا وجدنا في عدلك الشامل شيئا من الظلم!
فتساءل مقطبا: الظلم؟! - ظلمك نفسك وأتباعك.
وتساءل العطار: أي ظلم في أن تنال نصيبك كاملا وأن ينالوا نصيبهم؟
وتساءل حموه السمري: ألا تسفك دماؤكم دفاعا عن كرامتنا؟
وقال تاجر الغلال: الفتوة ورجاله من الوجهاء، أو هذا ما ينبغي أن يكون.
فقال معترضا: كلا، ما فعل ذلك أبي ولا جدي.
فقال صاحب الوكالة: لولا إقامة جدك العظيم في دار البنان ما عرفت الحارة معنى الفلاح.
فقال بإصرار: كان فتوة أعظم منه وجيها.
فقال صاحب الوكالة: خلق الفتوة ليكون وجيها، وليلعني الله إن كنت كاذبا أو مغرضا فيما أقول!
وضحك ساخرا ودفء الخمر يغزوه!
10
وأنجبت سنية له «بكر»، ثم «خضر»، فنعم بما يعده أبوة حقيقية. وفي أثناء ذلك تم تشييد دار جديدة لسنية. وبات سليمان يسعد بأيامه في الدار بقدر ما يشقى بعودته الإجبارية إلى بدروم فتحية. استولت سنية على قلبه تماما كما استحوذت دارها على رغباته. وبتعاقب الأيام زحف على وجدانه مخدر فعال؛ كف عن عمله وأحل فيه أحد رجاله، وزاد من الهبات لنفسه ولأعوانه، فمضت العصبة ترتفع نحو منازل الوجهاء حتى هجروا في النهاية حرفهم البسيطة أو أهملوها، وتناقصت أنصبة الفقراء والحرافيش وإن لم يحرموا من الهبات. تغير وجه الحارة المشرق، وأخذ الناس يتساءلون: أين عهد عاشور؟ أين إخلاص شمس الدين؟ وتحفز الأتباع للمتسائلين وأرهبوا الساخطين.
وأنشأت سنية بكر وخضر نشأة مرفهة ناعمة، ثم أدخلتهما الكتاب، وأعدتهما للتجارة؛ فلم يبشر أحدهما بأنه سيخلف أباه ذات يوم. ولما بلغا سن المراهقة فتحت لهما محلا لبيع الغلال؛ وبذلك صارا تاجرين وجيهين.
وتجنب سليمان المعارك ما وجد إلى ذلك سبيلا، وآثر في النهاية أن يحالف فتوة الحسينية ليتفادى من مواجهة التحديات وحده، وفقدت الحارة مركز السيادة الذي تبوأته منذ عهد عاشور الناجي.
وتغيرت صورة العملاق ومنظره؛ ارتدى العباءة والعمامة، واستعمل الكارتة في مشاويره، نسي نفسه تماما، ثمل حتى أصابه خمار الانحراف، ومضى يمتلئ بالدهن حتى صار وجهه مثل قبة المئذنة، وتدلى منه لغد مثل جراب الحاوي.
وكان سعيد الفقي عندما يهنئه بأحد الأعياد يقول له: أيامك كلها أعياد يا معلم سليمان!
11
كان الشقيقان بكر وخضر مختلفي المظهر؛ بكر يشابه أمه سنية هانم في جمالها ورقتها، يبدو دائما هاشا مترفعا. أما خضر فرغم جماله ورث عن أبيه وجنتيه البارزتين وطوله دون عملقته، وإلى الرقة كان أقرب. ولعله لم يكن في ترفع شقيقه، ولكنه لم يعد على أي حال متواضعا. واكتسبا معا من دار السمري أسلوبا راقيا في الحياة وعادات عالية وتهذيبا أنيقا، فلم يعرفا حارتهما إلا من الشرفات العالية، ولم تطأ أقدامهما أرضها المبلطة، وأدارا محلهما من حجرة فاخرة لا يتلاقيان إلا بكبار التجار، تاركين المعاملات اليومية مع الجمهور لوكيل المحل. ولم يفهما والدهما. رغم أنهما لم يرياه إلا في أفخم صورة، فإنهما لم يقتنعا بالفتونة ولا أضمرا لها الاحترام الكافي. لم يفطنا إلى أنه لولا سطوة أبيهما لما نجحت تجارتهما، ولعبث العملاء والتجار بسذاجتهما التجارية، فحصلا الخبرة والمهارة في أسعد الظروف المواتية وهما لا يعلمان.
12
وذات مساء جلست الأسرة حول المدفأة المطلية بالفضة في بهو المعيشة. كان شهر طوبة يستوي على عرشه الثلجي، والرذاذ لم ينقطع منذ الصباح الباكر. ونظر سليمان إلى ابنيه الرقيقين المتلفعين بالعباءة المخملية المنزلية، ثم قال باسما: لو رآكما عاشور الناجي لأنكركما وتبرأ منكما.
فقالت سنية وهي ترمقهما بحب وإعجاب: حتى الملوك يتمنونهما!
فقال سليمان بوجوم: إنهما ابناك وحدك، وما منهما أحد يخلفني!
فبادرت متسائلة: ومن أعلمك أنني أود لهما الفتونة؟
فسألها بجفاء: ألا تحترمين الفتونة؟!
فتراجعت بلباقة قائلة: أحترمها كما أحترم رجلها، ولكنني أكره أن يتعرض ابناي لمخاطرها.
وتساءل ما جدوى الخصام؟ وماذا بقي من العهد؟ لقد تزوجت بناته الكبريات من حرافيش، أما الصغيرة المعاصرة للوجاهة فقد تزوجت من «محترم»، وسوف تنجب ذرية غريبة مثل أبيها. وقد استنام الضمير إلى الدعة، واستسلم الجسد الشره إلى تيار الإغراء والاستهانة، والمعارضة في هذه الحال حركة ساخرة.
قال ابنه بكر: ولكن جدنا عاشور الناجي كان يحب الحياة الفاخرة!
فسأله بغضب: من أنت لكي تفهم المعلم عاشور؟! - هكذا قيل يا أبي. - لا يفهم عاشور إلا من اشتعل قلبه بالشرارة المقدسة. - ألم يحتل دار البنان؟
فقال سليمان محتدا: معجزته في الحلم والعهد.
فقال بكر بجرأة غير محمودة: كان يستطيع أن يهرب من الشوطة بلا حلم.
احتقن وجه سليمان بالدم وهتف: هكذا تتكلم عن الناجي؟!
تمخض الوجيه عن وحش في لحظة من الزمان وكأن عاشور الأسطوري قد بعث من جديد، فجفلت سنية وقالت مخاطبة ابنها بحدة: جدك رجل مقدس يا بكر!
وصاح به أبوه: إنك لا تصلح لشيء نبيل.
وغادر الرجل مجلسه إلى مخدعه، فقالت سنية لبكر: لا تنس أنك بكر سليمان شمس الدين عاشور الناجي!
وتمتم خضر : أجل.
فقال بكر وما زال متأثرا من غضبة أبيه: ولكني تاجر ومن آل السمري أيضا.
13
وقررت سنية هانم أن تفرح ببكريها. وكانت معجبة برضوانة رضوان كريمة الحاج رضوان الشوبكشي العطار فخطبتها له. لم يرها بكر من قبل، ولكنه كان يثق بشهادة أمه.
وكان الحاج رضوان الشوبكشي واسع الثراء وفير الذرية وعاشقا للهو والطرب. وزفت رضوانة إلى بكر، وخصص لهما جناح في الدار.
14
بزواج بكر وفد إلى الدار جمال جديد. فرح بها بكر وعشقها من أول ليلة. كانت ذات عينين زرقاوين وشعر ذهبي. ذات قامة فرعاء رشيقة. شيء واحد ضايق بكر مضايقة عابرة؛ أنها كانت تماثله في الطول، وتبدو أطول منه بحذائها ذي الكعب العالي. وقالت له أمه تطمئنه من ناحية أخرى: ستجدها ذات قابلية للامتلاء، وستصير مع الأيام في وزن أمها بإذن الله.
وكانت العروس تتعثر في الحياء ولا تكاد تنظر في وجه أحد، ولكنها مع الأيام بدأت تكتشف ما حولها، وتحدق بنظرات نافذة في وجه الأب العملاق، وخضر شقيق زوجها، وسائر الأشياء المحيطة بها.
وقال خضر لأمه مرة: العروس لا تستقر.
فقالت باسمة: ستستقر عندما تنجب، إني أعرف هذا النوع النفيس. ألا تود أن أخطب لك فتاة مثلها؟
فقال خضر: ليس قبل أن أبلغ العشرين.
وتردد وهو يرنو إلى عينين فارسيتين ترنوان إليه من سجادة معلقة فوق الجدار، ثم قال: وأفضل الشعر الذهبي والعينين الزرقاوين.
فبسطت سنية ضفيرتها الفحماء أمام عينيها وتساءلت باسمة: هل ولى زمان الشعر الأسود؟!
15
وانعقدت بين رضوانة وخضر صداقة وأخوة. وكان يقوم بخدمتها كلما غاب بكر في إحدى رحلاته التجارية. وفي أثناء ذلك عرف شقيقتها الصغرى وفاء. كانت صغيرة الجسم، باهرة الجمال، ولكنها ذات شعر كستنائي وعينين عسليتين. وقام بخاطره أن رضوانة قد تقترحها عليه زوجة بطريقة أو بأخرى، فأشفق من أن يغضبها رفضه. وسألته أمه ذات يوم: هل تعجبك وفاء؟
فقال بحزم: فتاة ممتازة، ولكن ليست لي.
فتمتمت أمه بأسف: أراها ممتازة حقا.
وعند ذاك قال لأمه: أخشى أن تغضب رضوانة إذا علمت.
فقالت سنية: رضوانة ذات كبرياء، وهي لا تعرض شقيقتها للبيع، ثم إن الزواج قسمة ونصيب!
16
وقام بكر برحلة تجارية تستغرق بضعة أيام.
وعندما رجع خضر من المحل مساء إلى الدار وجد رضوانه واقفة عند مدخل جناحها. تصافحا، وعندما هم بالسير قالت له: أريد مشورتك في أمر.
تبعها إلى بهو الجلوس. جلس على ديوان. جلست أمامه على أريكة وراحت تتطلع إليه في صمت كأنما لا تدري كيف تبدأ حديثها. تنسم في الجو عبق بخور مخدر، وراح ينصت لهسيس الصمت. ولكي يشجعها على الكلام قال: إني رهن إشارتك.
فلم تنبس، ولما لاحظت شدة انتظاره قالت: لا أدري ماذا أقول، هل ضقت بسرعة من وجودك معي؟ - أبدا، المسألة إني أود خدمتك.
فقالت بغموض: لا أريد أكثر من ذلك.
انتظر وهو يقلق تحت شعاع العينين. تضاربت في رأسه التخمينات. حدث شيء لم يقع له في بال؟ هل سيفاجأ باقتراح محرج؟ قال: تحت أمرك.
فقالت بنبرة غريبة: أنت تجهل حالي؛ ولذلك فإني أغفر لك تسرعك. - دعيني أطمئن عليك. - أهذا ممكن؟ - لم لا؟ يجب أن يكون ممكنا.
فتساءلت وهي تهرب من عينيه: هل ذقت الهزيمة في حياتك؟ - لا أظن، ولكن أي هزيمة؟ من عدوك؟ - لا عدو لي، إنها هزيمة من الداخل.
فهز رأسه متحيرا، فقالت متشجعة بصورة أوضح: هزيمة الإنسان أمام نفسه، رضاؤه بالدمار إذا شئت.
فقال متجهما: أعوذ بالله! صارحيني كأخ.
فقالت بنبرة قاطعة: كلا، إخوتي هناك في الدار الأخرى. - ولكني أخوك أيضا. - كلا، ولكن لم لا تسمع القصة من أولها؟
فقال بتلهف: إني مصغ.
فقالت بقلق واضح: حدث وأنا بنت في دار أبي أنني رأيتك مرة، ومرة على تباعد في الزمن، وسمعت من يقول إنك ابن الفتوة سليمان الناجي.
هز رأسه صامتا، وتلقى في الوقت نفسه رسالة مقلقة من المجهول. أما رضوانة فواصلت حديثها: لم أر بكر أبدا، هكذا حدث، لم أعرف حتى إن لك شقيقا، فلا لوم على أحد.
ازدادت نذر المجهول، نفثت المخاوف في الجو المعبق بالبخور، استحضر صورة بكر وأمه وأبيه، جاءت الأسرة لتسمع القصة العجيبة. - لماذا لا تتكلم؟ - إني أصغي.
فقالت ضاحكة في ارتباك: ولكن القصة انتهت. - ولكني لم أفهم شيئا. - إنك لا تريد أن تفهم.
فقال بيأس خفي: كلا.
فقالت وهي تحدجه بنظرة ماكرة وجريئة: سأجاريك ليس إلا؛ ذات يوم أخبرتني أمي أن سنية هانم السمري خطبتني لابنها.
رفعت عينيها إلى السقف حتى ترامى جيدها كالشمعدان الفضي. شيء هتف به أن الجمال الآسر قد خلق للقتل، وأن الأسى أثقل من الأرض وأشمل من الهواء، وأن الإنسان لا يتنفس بحرية إلا في منفى الهجر.
واعترفت قائلة في استسلام ناعم عذب: بصعوبة شديدة واريت فرحتي!
ثم فيما يشبه الغناء: ولم يداخلني شك في أنه أنت!
خرس وجفل، فقالت وهي تحدجه بجرأة: هذه هي القصة، فهل فهمت؟
فقال بصوت متهدج: ساق الحظ إليك خير الشقيقين.
فقالت برقة وعتاب: لا تسمعني صوت الخوف! - إنه صوت النجاة. - طالما أشعرتني بودك. - طبعا؛ فإنك زوج أخي المحبوب!
فنهضت نحوه بحركة رشيقة ومالت قليلا حتى غزته بشذاها الطيب وقالت: بل حدثني عن مكنون قلبك.
فوقف مذعورا، وتباعد قائلا: صارحتك بكل شيء. - أنت خائف! - كلا! - تخاف أخاك، تخاف أباك، تخاف نفسك. - كفى عذابا. - ليس للحيطان آذان ولا عيون.
فانفلت نحو الباب وهو يتمتم: وداعا.
وغادر البهو أعمى العين والقلب والبصيرة.
17
تجنب خضر رؤيتها. حتى الغداء كان يتناوله في المحل، والعشاء في أي سهرة مفتعلة. لم تلاحظ سنية شيئا، ومرت الساعات في هدوء ودعة في دار سنية السمري.
وعصفت الأحزان والقلق بقلب خضر. ماذا عليه أن يفعل؟ إنه مهجور مع مشكلة لا يجوز فيها المشاورة. نازعته نفسه إلى هجر الحارة كلها، ولكن أين يذهب، وبأي عذر يتعلل؟ إنه صاحب مبادئ طالما قال عنه سليمان إنه تشرب ببعض روح الناجي وإن حرم من قوته وسيطرته، بخلاف شقيقه بكر الذي عشق التجارة والمغامرة والربح.
إنه يتعذب ولا يفعل شيئا، ويسلم للمقادر بلا ثقة ولا اطمئنان.
18
رجع بكر من رحلته فقصد المحل قبل الدار. استقبله خضر بحرارة. أقبل بكر متهللا بالفوز وهو يقول : صفقة رابحة والحمد لله.
فابتسم خضر مرحبا، فتساءل بكر: كيف حال العمل؟ - عال.
وإذا به يسأله: لست كعادتك، ما لك؟
فارتعد، وتعلل بوعكة عابرة. كيف يمكن أن تطيب المعاشرة بعد ذلك؟ سجل تفاصيل الصفقة في الدفتر والأفكار تتلاطم في رأسه. الإفضاء إليه بالسر جريمة، وإخفاؤه عنه جريمة أخرى. كيف يمكن أن يختفي؟
وقام بكر وهو يقول: إني مرهق ويحسن بي أن أذهب إلى الدار.
19
في هذه اللحظة يلتقي بكر برضوانة. في هذه اللحظة أيضا يدرك خضر مدى خطئه ببقائه في الحارة. كيف تلقاه الجميلة الجريئة؟ هل تستطيع تمثيل دور الزوجة المشتاقة المنتظرة؟ هل تقبل عليه كما أقبلت نحوه بنظرتها المشتعلة وأشواقها المحمومة؟ هل يسدل الستار على نزوة الماضي ويمضي تيار الحياة في مجراه المألوف، أو يغلبها الفتور والعواطف الدفينة فتتعلل بالمرض؟ هل يدب الفساد في الحياة الزوجية الجديدة فتتعقد الأمور ويتجهم وجه الحياة؟
وارتعدت مفاصله وغمغم: بوسعها أيضا أن تنتقم!
ها هو بكر يسألها عما بها فتقول باكية: أخوك غدر!
أي أكذوبة؟ أي شر يبتدر!
ولكن مهلا. لم لم تخبر حماها أو في الأقل حماتها؟ على أي حال ستجد من يصدقها ولن يجد هو من يصدقه.
كلا. إنها ماكرة وجريئة. ستتظاهر بالحزن، وتقول في غموض: أود أن نعيش بعيدا عن هذه الدار.
سيسألها بكر عما يضايقها فتقطب ولا تجيب. تشاجرت مع أمي؟، مع أبي؟ كلا، كلا. لا يبقى إلا خضر. ألم يحسن خضر خدمتك؟ إنها لا تطيق سماع اسم خضر. أي خطأ ارتكب؟ ثم تتضح الحقيقة مثل سواد الليل تحت سماء ملبدة بالغيوم. في هذه الحال تلوذ الجميلة الماكرة بانطباع شخصي قد يصدق وقد لا يصدق، ولكنه يترك أثره المحتوم. لن تصرح بأكثر من أن نظراته لم تعجبها، لم ترتح لها؛ وأنها لذلك تفضل العيش بعيدا عن دار السمري!
كيف يدافع عن نفسه؟ هل يهدم سعادة أخيه وسمعة أسرته؟ هل يهرب حاملا الإثم وحده؟
ولكن أليس من الجائز أن أوهامه محض هواجس لا أساس لها، وأنهما الآن ينعمان بالحب بعد الغياب؟!
عند ذاك سمع وقع أقدام متوترة، ثم رأى بكر يسد الباب مرتجفا من شدة الغضب.
20
صرخ بكر: يا لك من وغد خسيس.
انقض عليه كالوحش وراح يكيل له الضربات والآخر لا يرد. دميت شفتاه وأنفه ولكنه لم يرد، فصاح بكر: شلك العار!
فتراجع متسائلا: ماذا جرى لك؟! - ألا تعرف حقا؟! - لا أفهم شيئا.
فصرخ: تطمع في زوجة شقيقك.
فهتف خضر: أي جنون!
واستأنف الحملة عليه حتى هرع عمال إلى مدخل الحجرة، وتجمهر نفر في الحارة أمام المحل.
وترامى من بعيد صوت سليمان الناجي وهو يزمجر.
21
تفرق الناس ورجع العمال إلى أماكنهم. صاح سليمان: إذا رفعت يد فإني قاطعها.
تراجع بكر، ومضى خضر يجفف دمه بمنديله. قال بكر: إنه غادر يستحق التأديب. - لا أريد أن أسمع كلمة هنا.
وردد بصره بينهما في غضب، وأمر قائلا: اتبعاني.
ومضى نحو الدار مثل أسد جريح.
22
وقفوا أمامه جميعا، بكر وخضر ورضوانة وسنية. صاح بفظاظة: الحقيقة!
لم ينبس أحد، فصاح: الويل لمن يخفي همسة!
ورمى رضوانة بنظرة حادة آمرا: تكلمي يا رضوانة!
فأجهشت في البكاء، فهتف متبرما: لا أحب الدموع.
فتمتمت وهي تشهق: لم أقل إلا أنني أريد أن أعيش بعيدا. - هذا وحده لا يعني شيئا ذا بال!
فقال بكر: فهمت من حديثها أنها تكره أن تعيش في دار واحدة مع خضر! - لماذا؟ أريد حقيقة ملموسة.
فقال بكر: تجسدت لي الحقيقة دون تصريح.
فصاح سليمان: الحقيقة الحقيقة حتى أقوم بواجبي.
ثم نظر نحو رضوانة وأمر: تكلمي بالصراحة الكاملة!
فأجهشت في البكاء مرة أخرى، فلوح بيده ساخطا، ثم التفت نحو خضر وسأله بحنق: ماذا فعلت؟
فتمتم خضر: لا شيء، والله مطلع. - أريد أن أعرف كل شيء فلا تثور زوبعة بلا سبب.
هنا قالت سنية: يوجد سوء تفاهم ليس إلا.
فقال لها سليمان بحدة: اسكتي!
فقالت بيأس: إنه الشيطان يندس بيننا.
فقال سليمان بحنق: الشيطان لا يندس إلا بإذن منا.
فقالت سنية مولولة: حلت بنا اللعنة!
فقال سليمان: فلتحل اللعنة بمن يستحقها.
وبغتة غادر خضر البهو ، فصاح به سليمان: ارجع يا ولد!
ولكنه اختفى، فصاح بكر: ألا ترى أنه يهرب يا أبي؟
فصرخ سليمان وهو ينهض: ها أنت تعترف يا مجرم!
ولكنه لم يرجع ولم يلحق به أحد.
23
جرت فضيحة آل سليمان الناجي على كل لسان. وترحم الحرافيش على عهد الناجي القديم، واعتبروا ما نزل بسليمان وابنيه جزاء عادلا على انحرافه وخيانته. قالوا إن عاشور كان وليا، أيده الله بالحلم والنجاة، وأكرمه حيا وميتا. أما الكارهون فقالوا إنها ذرية داعرة متسلسلة من أصل داعر لم يكن إلا لصا فاسقا.
واجه سليمان ذلك بوحشية غيرت من شخصيته للمرة الثانية، فكان يشق الحارة بجسمه العملاق وبدانته الآخذة في التمادي، متربصا لأي هفوة حتى خافه أقرب المقربين إليه، ولم يعد منظره ينسجم مع الفتونة؛ فهو يترهل ويعلوه الخمول ويغرق في الإدمان والترف. وانتفخت كرشه وتدلت عجيزته، ومن إفراطه في الطعام كان يغلبه النوم وهو متربع على أريكته في القهوة.
24
وذات صباح وقف سليمان الناجي يحادث سعيد الفقي شيخ الحارة وسط وحل تكدس في جنبات الحارة من أثر مطر انهل شطرا من الليل. وكان سعيد الفقي يقول له: إن الله يمتحن من عباده المؤمنين.
وأراد سليمان أن يعلق، ولكنه حملق بغتة في وجه عدو ينقض عليه من الغيب، وتهاوى على الأرض كمئذنة. حاول النهوض مرات ولكنه عجز، ثم استسلم لما يشبه النوم. وهرع إليه سعيد الفقي وآخرون، ولكنه أصدر أصواتا مبهمة ولم يستطع النطق.
وحمل سليمان الناجي إلى دار سنية هانم السمري كطفل عاجز.
25
دهمه شلل نصفي فرقد فوق فراشه عاجزا، وكل من رآه أدرك أن سليمان الناجي قد تحول إلى لا شيء. وعادته فتحية وبناته مثل الغرباء. وقامت سنية برعايته وتمريضه في صبر وحزن وهي تغمغم دائما: حلت بنا اللعنة!
وانقضت بضعة أعوام قبل أن يستطيع أن يتحرك. غدا في قدرته أن يسير على نصف، جارا نصفه الآخر وهو يتوكأ على عكازين. وكان ينشد الفرجة بالجلوس أمام الدار أو في القهوة، ينطق بالكلمة أو الكلمتين، ويلقي على ما حوله نظرة غائبة وقد هجرته معاني الأشياء.
26
وناب عتريس عن سليمان في الفتونة. ظل على ولائه له بادئ الأمر، يزوره، ويعطيه نصيبه كاملا من الإتاوات، ويمارس السلطة الفعلية في العصابة، ويقول له: أنت سيدنا وتاج رأسنا.
ثم شغلته واجبات الفتونة - هكذا قال - عن واجب الزيارة، فكف عن ورود دار السمري إلا يوم حمل الإتاوة.
ثم أعلن فتونته واستولى على نصيب سليمان من الإتاوات فلم يصادف من أحد الأعوان ما يكدر، بل لعلهم أملوا أن يتحرروا على يديه من الالتزامات المحدودة التي ظل سليمان ملتزما بها حيال الحرافيش.
وسرعان ما عادت الفتونة إلى سابق عهدها قبل عاشور الناجي. فتونة على الحارة لا لها، ولا خدمة تؤديها إلا خدمة الدفاع ضد الفتوات الآخرين. وحتى في هذه الناحية اضطر عتريس إلى مهادنة أعداء ومخالفة آخرين، بل حتى الإتاوة دفعها إلى فتوة الحسينية ليتجنب معركة خاسرة. وكلما هان خارج الحارة زاد طغيانا وصلفا داخلها. وأهمل أخته فتحية. وأكثر من الزواج والطلاق. واستأثر بالإتاوات هو وعصابته، على حين أغدق على الحرافيش الزجر والتأديب، وأنزل الوجهاء - على حد قول سعيد الفقي شيخ الحارة - حيث أنزلهم الله سبحانه وتعالى.
27
لم يفقد سليمان الناجي الفتونة فحسب، ولكنه فقد نفسه أيضا. لم يعد شيئا، وتلاشت الدوافع والمعاني، واستمسك بأمل شارد في الشفاء، حتى سأل رضوان الشوبكشي العطار حما ابنه بكر: أليس لحالي دواء عندك؟
فأجابه الرجل وهو يداري ازدراءه: لقد بذلت العطارة جميع ما في وسعها.
وقال رضوان الشوبكشي لنفسه: «يطمع في استرداد قوته وفتونته عليه اللعنة وعلى أصله.»
وطاف سليمان بالأولياء، الأحياء منهم والأموات. وناجى الأمل كل مناجاة. وظل يزحف على عكازين، ويجمد فوق الأريكة مثل قدر المدمس. وانتابته حكمة لم يعرفها في حياته، فقال إن الإنسان لعبة هزيلة والحياة حلم. وتجاهله عتريس تماما، كما تجاهله الأعوان، وتجاهله الحرافيش بلا رحمة، وعدوه المسئول الأول عما حاق بهم.
ثم تغلغلت التعاسة في جوف داره. بدا أن سنية هانم برمة بالحياة في جواره. تركت مهمة رعايته إلى جارية، وتجهمت الحياة بقدر ما تجهمتها الحياة. ولم تنس قط ابنها الهارب خضر، وفترت لذلك العلاقة بينها وبين رضوانة. ومضت تتغيب عن الدار كثيرا ناشدة التسلية في دور الجيران. وتألم سليمان لذلك غاية الألم، وقال إن أثر الشمس يمحى وراء الغيوم، وإنه لا كرامة لعاجز.
وقال لها مرة: غيابك عن الدار يطول أكثر مما يليق.
فقالت له بحدة: لم يبق بها شيء!
وخطر له كثيرا أن يطلقها، ولكنه أشفق من ألا يجد في مسكن فتحية الراحة الضرورية. وتجرع الذل والمهانة متصبرا.
28
وجالسه سعيد الفقي ذات يوم في القهوة. طالعه بوجه ودود، وقلب ذي حقد دفين قديم. وقال له بنبرة الصديق: يا معلم سليمان يعز علينا حالك.
فرمقه بنظرة لا معنى لها، فواصل الرجل: ولكن لك علينا حق الصدق والإخلاص.
ماذا يريد الرجل؟ - الرأي عندي يا معلم أن تطلق سنية هانم!
فاختلج جفناه وارتعشت يده، فقال سعيد: هذه نصيحتي كصديق قديم.
غمغم سليمان: لم؟
فأجاب الرجل: لن أزيد حرفا.
29
لم يعد رد الفعل عنده ذا شأن. غدا ألمه مجردا؛ لا السرور يضحكه ولا الحزن يبكيه، ولكن لا بد من الطلاق. سيسير في الطريق حتى نهايته المسدودة.
ورجع من القهوة إلى مسكن فتحية الذي استأجره لها عقب انقلابه الخطير. استدعى المأذون وطلق سنية هانم، وقد جزع لذلك بكر وقال له: ما كان ينبغي أن يقع ذلك.
فقال له: بل عليك أن تصون أمك يا بكر!
فصرخ بكر: قطعا لألسنة الوشاة!
وافترقا شبه متخاصمين. وجعل سليمان ينفق من مدخره ويقول: أسأل الله أن يجيء موتي قبل أن أمد يدي إلى بكر.
30
في أثناء ذلك تحسنت أحوال بكر التجارية والمالية، وأنجب من رضوانة رضوان وصفية وسماحة. وقد زلزله طلاق أمه، وترامت إليه شائعات أليمة، حتى اضطر إلى أن يبصرها بسلوكها وما يثيره حولها. وغضبت سنية ولعنت الحارة ووصمتها بكل خسيس، ولم تغير من تحررها وانطلاقها.
إلى ذلك كان بكر قلقا مضطربا في حياته الزوجية. لم يشعر أبدا بأنه ملك رضوانة، ولم يكف عن التفاني في حبها. ليست هي بالمطيعة ولا بالمتفاهمة ولا بالمستجيبة، وبها حدة مجهولة الأسباب تستفحل مع الأيام. إنها تنال ما تريد بلا امتنان ولا سعادة، وهو لا يطيق الدنيا إذا جفته أو خاصمته. ويجن جنونا إذا خطر له أن حبها له ليس بالقوة اللائقة. ماذا ينقصها؟ ماذا تريد؟ أليس هو بالزوج المثالي؟ إنه يتجنب ما يثيرها من قريب أو بعيد، ولكن ما يثيرها يدهمه من حيث لا يحتسب. وبدت المعاشرة بلا أثر، وبدت الذرية بلا أثر كذلك. وانطوى على قرحة أفسدت عليه مذاق حياته الخاصة. - رضوانة، بوسعك أن تجعلي من دارنا عشا للسعادة.
فتساءلت بغموض: أليست هي كذلك؟ - ولكنك تهملين حبي يا رضوانة؟
فقالت متأففة: إنك لا تفكر إلا في مسراتك، وتنسى أنني أم لثلاثة.
فقال بأسف: إني أفتقد حرارة تكافئ حبي العظيم!
فضحكت بفتور وتمتمت: أنت طماع، أما أنا فأبذل خير ما عندي.
وضاعف من تعاسته تمزق العلاقات الطيبة بين أمه وزوجته. منذ اختفاء خضر تغيرت سنية، وسرعان ما قابلت رضوانة التغير بمثله أو بأسوأ منه. وتنافرتا مرة بعنف حتى قالت سنية لها بحدة واتهام: قلبي يحدثني ببراءة خضر!
فأجابتها بحدة أشد: الأصوب أن تصوني سمعتك!
فهاجت سنية ورمتها بشمعدان صغير لم يصبها. ولما رجع بكر وجد رضوانة شعلة من الكراهية والغضب. وخلا إلى أمه يعاتبها ولكنها قالت له: نصيحتي لك كأم أن تطلقها.
فذهل بكر، فقالت ساخرة: كانت قدم الشر الذي قضى على أخيك وأبيك وأمك.
ثم بصوت حاد متهدج: إبليس نفسه يعجز عن فعل ذلك كله، حتى أنت حفيد الناجي الكبير تؤدي الإتاوة لصعلوك من خدم أبيك وجدك.
وقال بكر لنفسه: إنها اللعنة قد حلت بنا حقا!
ودارت عجلة الأيام بلا توقف كعادتها. ومات السمري الكبير أبو سنية، فورثت عنه مالا لا بأس به، واستوهبها بكر بعض المال ليزيد من رأس ماله فلم تمنعه، ومضى في طريق الثراء بلا حدود. أخذ يتسلى عن همومه بالإغراق في العمل وخوض المغامرات الناجحة والمضاربات الخطيرة، حتى كادت أن تستأثر به شهوة المال لدرجة الجنون. كان يكنز المال كأنما يتحصن به حيال الموت والأحزان والفردوس المفقود، وكان ينطلق نحو الكفاح من مركز منغرس في أرض الأحزان والهموم، متحديا الألم والمجهول. ولم يكن بكر كريما ولكنه أيضا لم يكن بخيلا. لم يكن ينفق في الخارج مليما لغير ما فائدة تعود عليه، أما في داره فكان بحرا؛ أهدى إلى رضوانة جواهر تساويها وزنا، وجدد أثاث الدار ورياشها وتحفها حتى صارت متحفا. وقال والحسرة تقرض قلبه: ليت السعادة بالمال تشترى!
31
وذات يوم أشهر رضوان الشوبكشي - أبو رضوانة - إفلاسه. كان الرجل مسرفا، مولعا باللهو والطرب والليالي الملاح، فأفلت منه توازنه التجاري وهوى. ورحب بكر بالفرصة ليثبت لزوجته المتمردة حبه وكرمه، فلما عرضت دار الشوبكشي للبيع في المزاد اشتراها بثمن فاحش لييسر لحميه تسديد ديونه. وألحق بمحله إبراهيم الشوبكشي شقيق رضوانة الأصغر وجعله وكيله وأمين سره، غير أن رضوان الشوبكشي لم يتحمل الصدمة فمات بالسكتة، وشيعه بكر بما يليق بمقامه، وأقام له مأتما استمر ثلاثة أيام، وتوقع بعد ذلك أن تغير رضوانة من سلوكها أو تهذب من طبعها، ولكنها كانت مثل الصلب لا تلين، وزادتها الأحزان فتورا ونفورا، حتى قال بكر لنفسه: إن قيام القيامة نفسها لن يغيرها.
32
وأطبق الظلام عندما اختفت سنية أمه من الدار والحارة! كارثة لم يستطع لها دفعا. وسرعان ما عرف أنها أخذت مالها وهربت مع شاب سقاء وتزوجت منه. كارثة حقيقية نكست رأسه، فنفض منها يديه، ولم يهتم حتى بمعرفة مقامها الجديد، وتوارى وراء سجلاته ورحلاته.
وسعى إليه عتريس الفتوة وقال له: إني في خدمتك إن أردت خدمة.
فكره منظره، وداراه بابتسامة ممتنة، وقال له: الشكر لك يا معلم، وليفعل الله بها ما يشاء.
وتبدت له الدنيا رمادية ضاربة للحمرة. وتساءل لماذا نحب هذه الحياة ونحرص عليها هذا الحرص كله؟ لماذا نذعن لمشيئتها الحادة القاسية؟ ألا يحق لها بعد ذلك أن تسلط علينا دود أرضها؟ اللعنة على عاشور الناجي الأسطورة الكاذبة! اللعنة على الدراويش المجانين الذين لا يكفون عن الغناء! وتساءل أيضا: يوجد خطأ جسيم ولكن أين هو؟
33
وذات مساء أرسل سليمان الناجي في طلبه. تذكر أنه لم يزره منذ أشهر فخجل. كان قد مر على شلله عشرة أعوام، وكان قد لزم الفراش منذ عام في رعاية مخلصة من فتحية. ذهب إليه، قبل يده، جلس إلى جانب فراشه وهو يعتذر عن إهماله بشواغله وهمومه.
وقال سليمان الناجي: نهايتي اقتربت يا بكر.
فدعا له بطول العمر والعافية، فقال الرجل: حلمت بجدك شمس الدين ثلاث مرات في ثلاث ليال متعاقبة. - هذا لا يعني شيئا ضارا يا أبي. - هذا يعني كل شيء، وقد قال لي إن الدنيا لا تساوي شيئا حتى يهبها الإنسان روحه. - رحمه الله يا أبي.
فقال بأسى: ما مضى قد مضى، ولكني أسألك من من أبنائك يصلح لها؟
فأدرك أنه يعني الفتونة، فدارى ابتسامة وقال: ما زالوا صغارا ولن يصلحوا لها. - ولا أحد من أبناء أخواتك لأبيك؟
فقال بعد تردد: لا أدري يا أبي. - لأنك لا تدري عنهم شيئا.
وتأوه، ثم قال: إني أودع الدنيا مثل سجين. أستودعك الحي الذي لا يموت!
34
في جوف ذلك الليل فاضت روح سليمان شمس الدين عاشور الناجي. وبالرغم من عزلته الطويلة مشى في جنازته جميع أهل الحارة، حتى عتريس ورجاله، ودفن إلى جانب شمس الدين.
وثارت مكامن الأحزان في قلوب آل الناجي والحرافيش، وانسابت عليهم الذكريات مترعة بالأسى.
35
وطرأت حركة جديدة غير مألوفة، ندت عن تيار الأحداث الرتيبة والساعات التوائم مثل شهاب يمرق في سماء باهتة.
وتساءلت رضوانة في حيرة: «ماذا يفعل الرجل؟»
على غير عادة أخذها بكر من يدها وراح يتفقد جنبات داره الكبرى طابقا بعد طابق. إنه جاد أكثر مما تتصور، عظيم الاهتمام، كأنما يستعد لرحلة أو لمضاربة خطيرة: ماذا تفعل بالله؟
فلم يجب، لم يبتسم، مضى بها من حجرة إلى حجرة، من بهو إلى بهو، من قاعة إلى قاعة، طائفا بقطع الأثاث النادرة، بالتحف، بالطنافس والستائر والسجاد، بالقناديل، والشمعدانات والتحف، بمخدع نوم رضوان وصفية وسماحة.
وتمتمت بضيق: تعبت.
فأشار إلى مرآة تحتل جدارا كاملا مؤطرة بالذهب الخالص وقال: لا نظير لها في البلد كله.
وأشار إلى نجفة شامخة مترامية الأبعاد، مرصعة بالكواكب وقال: إحدى ثلاث في مدينتنا الكبرى.
ثم أشار إلى القبة الزجاجية التي تعلو المنور بألوانها الشتى وقال: صنعت وزخرفت في عام كامل وكلفت ثمن مئونة جيش!
ثم بسط راحتيه نحو سجادة عملاقة تغطي أرض البهو الكبير وقال: حملت إلي خاصة من أرض العجم!
لم يترك صوانا إلا أشاد به، لم يغفل جوهرة حتى قدم لها فروض الطاعة والثناء.
عند ذاك توثبت رضوانة للتحدي، فجذبت معصمها من قبضته وتساءلت: ما الحكاية؟!
فشبك ذراعيه على صدره وهو يحدقها بنظرة غريبة غامضة، ثم قال: الحكاية أنني محبوب الأقدار! - ماذا تعني؟ - الأقدار تعشقني فهي لا تغفل عني لحظة ولا تنام! - إنك تبدو لعيني غاية في الغرابة؟ - انظري إلي جيدا، تأمليني طويلا ما استطعت، أنا الدنيا بلا زيادة ولا نقصان. - لم تعد أعصابي تتحمل أكثر.
فابتسم لأول مرة وقال: الحكاية يا رضوانة العزيزة المحبوبة المدللة المتمردة أن بكر سليمان شمس الدين عاشور الناجي قد أفلس!
36
لم تفهم شيئا. لم تصدق المستحيل. نطح رأسها سقف الصوان. تخايلت لها الدنيا في صورة امرأة تغمز بعينها اليسرى. تهيأت لتستقل العربة الماضية إلى جبال الواق. تبدى لها وجه بكر أجمل من الواقع وأتعس من الممكن. مرقت من فيها شهقة سرعان ما تجسدت في صورة عقرب.
تمتم بكر: هي الحقيقة يا رضوانة.
رآها تتمخض عن تمثال للذهول، فقال بقهر ويأس وحقد: لا فتونة ولا مال ولا سعادة!
تساءلت بريق جاف: ولكن ... لكن كيف وقع ذلك؟! - كما يقع الشلل والفضيحة والموت، لم تتعجبين؟ ما هي إلا مغامرة أخطأت الهدف!
فقالت بعذاب: طالما حذروك من المغامرات!
فقال بازدراء: الذين لا يعلمون ينتقدون ويعظون ويحسدون، عليهم اللعنة!
وساد الصمت دقيقة فرقصت أشباح المخاوف، وارتطمت الأحلام المستحيلة بجدران الواقع الصلد المكفهر، ثم تساءلت: وماذا بعد؟ - سوف تصفى التجارة وتعرض جميع الأملاك في المزاد، أما بعد ذلك ..
وتوقف فتساءلت: أما بعد ذلك؟ - بعد ذلك ننضم إلى قافة المتسولين. - لا شك أنك تحاول إرعابي. - أحاول إيقاظك ليس إلا.
فصاحت: إنه جزاء الجنون.
فقال ساخرا: إنها التجارة فحسب، فيها شريك خفي هو القدر. - أنت الذي غامرت لا القدر. - وأنت طالما جحدت وتنكرت، ولكن لا شأن لذلك بالسوق.
فانهمرت دموعها وقالت: الآن أعرف كيف مات أبي.
فقال بمرارة: كان سعيد الحظ! - والأولاد ما مصيرهم؟!
فقال بامتعاض: فلندعهم ينعمون بنوم سعيد.
37
توقفت الحارة عن نشاطها المألوف لتشهد المزاد الخاص بالرجل الذي كان أغنى أغنيائها من قبل أن ينزلق في هاوية الإفلاس.
ثمة سحائب كانت تركض فوق سطح الشمس في اليوم الأخير من أمشير. ووقف بكر سليمان الناجي وسط الشركاء الذين انقلبوا دائنين. جفت فوق شفاههم بسمات التودد، انداح فوق خدودهم شحوب القلق، وارتباك التحفز، ولكن الأشداق انتفخت بحتمية التصميم.
ومال سعيد الفقي شيخ الحارة على أذن عثمان الدرزي الخمار وسأله متهكما: لم لم ير حلم النجاة مثل جده الأول؟
فهمس الخمار: أحلام المتخمين كوابيس!
وقبيل المناداة بدقيقة ترامى رنين جرس مؤثر.
اتجهت أبصار نحو مدخل الحارة فرأوا كارتة قادمة يتوسطها رجل. ترى أهو مزايد طارئ من الخارج؟ وقفت الكارتة عند الحلقة. غادرها شاب في عباءة سوداء، وعمامة مقلوظة، طويل رشيق، ذو سحنة غير غريبة.
وأكثر من صوت هتف: يا ألطاف الله! هذا خضر سليمان الناجي!
38
تطايرت التوقعات من رأس إلى رأس. سرت الهمهمة مثل الطنين. دارى سعيد الفقي ابتسامة. اصفر وجه بكر وارتعشت أطرافه، أما خضر فقد رفع يده بالسلام، وتلقى الرد بترحيب ورجاء، وقال سعيد الفقي: جئت في وقتك!
وتساءل عثمان الدرزي: أجئت متزايدا؟
فقال خصر بأسى: بل جئت لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
أدرك الجميع أنه يتكلم من موقع القوة والثقة، وأن الفتى نجح في مهجره وأثرى، فانتعشت أنفس الدائنين وقال صوت: فليبارك الله خطاك.
فقال خضر: إذن فليؤجل المزاد لعلنا نصل إلى اتفاق.
عند ذاك صرخ بكر: كلا!
تركزت عليه الأبصار في ذهول فصاح مخاطبا أخاه: لن يطهرك الزمن من جريمتك، فاخسأ ملعونا غير مشكور!
وتناثرت الاعتراضات مثل الرذاذ وقد تلاحقت السحائب الراكضة، فانعقدت خيمة دكناء.
وقال خضر برجاء: دعني أقم بواجبي.
فصرخ بكر في هياج: الخراب أحب إلي من النجاة على يدك!
فقال الشيخ طلبة القاضي شيخ الزاوية: لا يجوز تبديد رحمة من السماء.
فصاح بكر: ما جاء إلا للشماتة والانتقام.
وأحاط الدائنون ببكر يهدئونه ويقنعونه، وقال الشيخ طلبة القاضي: فليؤجل المزاد حتى نستقر على رأي لا يعقبه ندم.
39
ختم بكر حديثه، ثم نظر نحو رضوانة وقال: هذه هي الحكاية.
انتظر التعليق بشغف محموم ولكنها ارتبكت وقهرت ولم تجد ما تقوله. انحصرت في قفص من نظراته الحادة المستطلعة. وتساءل بكر: ما لك لا تتكلمين؟
غاصت أكثر في الصمت، وغلبت على أمرها. فعلت السخرية في نبرته وهو يقول: خبريني برأيك؟
فهربت ببصرها نحو البسملة المؤطرة بالذهب المثبتة فوق الجدار، وقالت مدفوعة بإرادة يائسة: ماذا أقول والأولاد مهددون بالتسول؟! - أسمعيني رأيك صريحا مثل النار.
فقالت وقد استردت بعض عنادها: أرى أنه يرغب في إنقاذ سمعة الناجي.
فقال بحنق: كلا، لو كان يقيم وزنا للسمعة ما طمع في زوجة شقيقه!
فتمتمت في حرج: لعله ينشد التكفير. - لا تكفير لمن لا ضمير له. - لم يضحي بماله إذن؟
فاجتاحه الغضب وقال: لعله يرغب في إنقاذك أنت!
فلوحت محتجة وقالت بحدة: كلا! - كلا هذه لا تعني شيئا. - أعتقد أنه يسعى لإنقاذ سمعة أسرته.
فاشتعل غضبه وقال: إنك تكذبين!
فقالت محتدة: لا تزد الأمور سوءا. - دعيني أشك في كل شيء، حتى أنت!
فصاحت به: إنك في حال لا يمكن أن تحاسب معها على قول. - إني في تمام قواي العقلية. الإنسان قد تجنه النعمة، ولكنه يلقن الحكمة على يد الإفلاس والمحن، ما أنت إلا امرأة قذرة تتطلع إلى عاشقها القديم.
فصرخت: لقد فقدت عقلك. - المعجزة أنني لم أفقده طيلة معاشرتي لك، هل وجدت منك إلا الجحود والتمرد والنفور؟ هل وجدت منك إلا الغدر والخيانة المكبوتة؟ أعطيتك كل شيء ولم آخذ إلا الهواء، وكنت اللعنة وراء جنوني وإفلاسي، فلتحل بك اللعنة والخزي.
وتلوث قائمة مثل لسان من لهب وصرخت في وجهه: اقطع لسانك القذر!
فجن جنونه.
انهال عليها ضربا وصفعا وركلا حتى تهاوت مغمى عليها. ومن خلال النار المشتعلة في عينيه حملق فيها ذاهلا. اعتقد أنها تحتضر أو أنها ماتت، وبسرعة تملص من هموم حياته ومن عذابات الحيرة؛ وثب من فوق أسوار الواقع فغادر المكان مكتظا بتصميم مدمر.
40
كان خضر سليمان الناجي مجتمعا بالدائنين في دكان شيخ الحارة عندما اقتحمها بكر. قبض بيده على سكين وثمل برحيق الجنون الأحمر. صاح: لقد قتلتها وسأقتلك يا تيس!
ووجه نحو أخيه ضربة. انحرفت الضربة بسبب تدخل البعض فاخترقت العمامة دون الرأس. تكالبوا عليه، انتزعوا السكين من يده، طرحوه أرضا. - جن الرجل. - بل هو مجرم.
رفع بكر رأسه عن الأرض قليلا وصاح: أنتم وراء المال ولو في بؤرة فسق!
وقال شيخ الحارة: نسلمه إلى القسم.
هتف خضر بجزع: لقد قتل زوجته. - يسلم للقسم.
وعاد بكر يصيح: جميعكم أوغاد وكلاب!
41
سرعان ما تكشفت الحقائق. لم تمت رضوانة كما توهم بكر. أطلقوا سراح بكر. توارى بكر عن الأنظار واختفى من الحارة.
أدى خضر ما تم الاتفاق على أدائه من أنصبة الدائنين. صفيت التجارة، أما دارا السمري والشوبكشي فبقيتا في حيازة رضوانة.
ودعت ست فتحية خضر للإقامة في مسكنها الصغير - مسكن أبيه - حتى ينظم حياته. ووضح أن خضر ينوي الإقامة في حارته. وبلا تردد اتخذ الإجراءات لشراء محل الغلال ومواصلة نشاطه التجاري السابق. وفكر أيضا في شراء دار السمري أو الشوبكشي ليجد لنفسه مقاما مناسبا من ناحية، ولتفيد رضوانة من ثمن الدار ما تعيش به عيشة كريمة هي وأبناء أخيه رضوان وصفية وسماحة.
وقالت له فتحية زوجة أبيه: جميع ما ينبع من قلبك نبيل.
فأجابها بفتور: لم أنس أسرتي، ظلت تعيش معي في الخارج.
وحارته أيضا. وتعلم في مهجره أن الناجي معنى حي، أما السمري فلا وزن له يذكر. تعلم أن البطولة الحقة مثل المسك تطيب بها النفوس وتهفو إليها الأرواح ولو لم تؤت القدرة على استعمالها. ولكن أهذا هو ملاك الأمر كله وراء رجوعه إلى الحارة ؟!
وسألته فتحية: لم لم تكمل نصف دينك؟
فأجابها مبادرا: كرهت الزواج في الغربة!
42
وبوحي من تفكيره طلب مقابلة عتريس. تم اللقاء في دار عتريس الفخيمة. واستقبله الفتوة بترحاب واحتفاء، وقال له: شرفت الدار يا سليل البطولة.
فقال خضر بتواضع: إنه واجب من يروم الإقامة نحو فتوتنا.
فقال عتريس بارتياح: أنتم أصل الخير والبركة.
بذلك خمدت تساؤلات مريبة في مهدها.
43
حتام ينتظر؟ إنه يمارس عمله في محل الغلال، ويعاني شتى الانفعالات المتضاربة، وها هي الخماسين تسفع الجدران، تثير الغبار، ترفع الحرارة، تلون الجو بالكدر، وعما قليل يتهادى الصيف بجلاله الشعبي وصراحته الحامية وأنفاسه اللزجة. حتام ينتظر؟ لقد أرسلت رضوانة إليه من يشكره، فرد الرد الجميل، وعن لسانه قالت فتحية لرضوانة إنه يتذكر دائما أنه تبودلت الرسل بينهم كالأغراب، حتى أرسل إليها ست فتحية طالبا مقابلتها. وذهب إليها ليلا متجنبا الأنظار حتى لا تصبح ذكريات الماضي حكاية مرة أخرى على الألسنة. ذهب يحمل بين جنبيه دوامة، ويضمر أيضا تصميما.
استقبلته رضوانة في بهو الاستقبال. طالعته محتشمة الملابس، مطوقة الرأس بخمار أسود كأنها في حداد. وتصافحا، وتلاقت عيناهما مقدار ثانية، ولكنها مشتعلة مثل شرارة متطايرة عن احتكاك حجرين، ثم جلسا صامتين متحرجين يودان الخلاص.
قالت رضوانة: إنها لفرصة كي أشكرك بنفسي.
فقال متحررا من حرجه بعض الشيء: وفرصة لي لأضع نفسي في خدمتك. - ماذا عن بكر؟ - لم أهمل واجبي في ذلك الشأن ولكن لم يعثر له على أثر. - متى يرجع في تصورك؟ - إنه ذو كبرياء فيما أعلم وأخشى أن تطول غيبته. كيف حال الأولاد؟ - على خير ما تحب.
فتردد خضر قليلا، ثم قال: أود أن أشتري دار الشوبكشي إذا أذنت.
فقطبت قليلا وهي تقول: تريد أن تقدم مالا لامرأة مفلسة!
فقال متلعثما: إني بحاجة إلى دار بصفة عاجلة!
ثم بتسليم: وأولادك أولادنا على أي حال.
فقالت وهي تتفحصه: تشكر على نواياك الطيبة.
وصمتت لحظة، ثم تساءلت: ترى هل نسيت الإساءة القديمة؟
فبادر يقول: من يحمل الماضي تتعثر خطاه. - ولكن هل ينسى الماضي حقا ؟ - أجل، إن يكن من الخير أن ننساه. - لا أدري. - لولا ذلك ما رجعت، وما تم بيننا لقاء.
فلاحت نظرة حذرة في عينيها الجميلتين وتساءلت: هل جئت حقا من أجل شراء الدار؟
فدارى ارتباكا تهدده لحظة وقال: أجل. - ولكنك تعلم أنها ما زالت ملك بكر الغائب!
فتورد وجهه وهو يقول: قد نجد لذلك حلا.
فهزت رأسها في ريبة، فقال: على الأقل لأكون في خدمتك.
فقالت بكبرياء: في الدارين من التحف ما يكفل لنا حياة رغيدة! - ولكني مسئول أيضا.
فقالت وهي ترمقه بنظرة غامضة: لست في حاجة إلى مساعدة والشكر لك.
فحنى رأسه امتثالا، وتحرك حركة توحي بوجوب إنهاء المقابلة، فتساءلت بقلق: أم جئت لغرض آخر؟
فتطلع إليها بنظرة دهشة فقالت بجرأة: من أجل الزجر والتأديب؟
فهتف بصدق: أعوذ بالله من خاطر لم يدر لي في بال!
فلاذت بالصمت فعاد يقول بحرارة: ما نطقت إلا بالصدق.
فانقشع التوتر من شفتيها وحل مكانه سلام. وعند ذاك قلبت الصفحة قائلة: لقد نجحت في مهجرك والحمد لله. - أجل. انتفعت بمدخري الذي حملته معي. - تسعدنا ولا شك سعادتك.
فتوقف قليلا، ثم قال: النجاح لا يوفر دائما السعادة. - تلك حقيقة عرفتها بنفسي، ولكن ماذا حرم عليك السعادة أنت؟
فلاذ بصمت ذي مغزى، فارتبكت وقالت: نحن أيضا خسرنا السعادة.
فتمتم: يا لها من لعنة! - كانت سنية هانم تردد دائما أن اللعنة قد حلت بنا.
أدركت من تجنبه السؤال عن أمه أنه علم بمصيرها فندمت على ذكرها، ولكنه قال: لعلها صدقت.
فقالت بأسى: كانت تعدني اللعنة.
فقال بصوت منخفض: نحن نبالغ في أحزاننا.
فقالت بجرأة: أعترف بأنني كنت شريرة وأنني ظلمتك ظلم الحسن والحسين.
فغمغم: لا عودة إلى الماضي.
فقالت متمادية في جرأتها: لا أحد يعترف للعواطف بحق.
فلم يجد ما يقوله، فقالت: ولو كانت صادقة!
ها هي لحظة طالما يئس من العثور عليها. لعله من أجلها جاء. لعله من أجلها رجع إلى الحارة. لعله بسببها لم يذق للسعادة طعما.
وقال منحدرا في عذوبة: حتى أصحاب العواطف قد يتنكرون لها.
فتألقت عيناها، وجرى في لونهما المشرق التماع التفكير والنهم للمعرفة، تساءلت: ماذا تعني؟
فصمت معانيا الإثم، فعادت تتساءل: ماذا تعني؟
فتساءل في حيرة: ماذا قلت؟ - أصحاب العواطف قد يتنكرون لها، لا تهرب!
فهرب في الصمت فقالت وهي تثمل بنشوة طارئة: من ناحيتي لم أتنكر!
ظل صامتا فواصلت بانفعال شديد: لا تصمت، لماذا جئت؟
فقال متهالكا: لقد قلت. - أعني قولك الأخير.
فقال بنبرة اعتراف: تكلمت أكثر مما يجوز.
فهتفت وهي تفقد الوعي: ما الذي يجوز؟! ما الذي لا يجوز؟! لماذا جئت؟! إنك ما جئت إلا لتقول ذلك.
فقال وهو يتدهور أكثر فأكثر: في البدء كانت اللعنة، والآن الجنون.
فبعث جمالها جارفا الأسى وقالت: اسمعني بصراحة ووضوح. - إنك تدركين كل شيء. - لا أهمية لذلك. أسمعني صوتك.
فرنا إليها بنظرة هشة تسيل اعترافا. بعثت النظرة في أوتارها عزف النغم فتوهج جمالها كالشعاع، واكتسى بحلة الظفر المبهرجة: إذن لم يكن أنت الذي قال لا.
فقال بأسى: شخص في قالها. - ثمة شخص آخر، ماذا يقول؟
قال بجدية بالغة: كنت أحبك، ما زلت أحبك، ولكن علينا أن نفكر طويلا.
واستقر الصمت بإرادة الطرفين في وقار الليل، وفي الصمت عزفت في الآذان دقات القلوب.
44
لو أن شيئا يمكن أن يدوم على حال فلم تتعاقب الفصول؟
45
الانتظار محنة. في الانتظار تتمزق أعضاء الأنفس. في الانتظار يموت الزمن وهو يعي موته. والمستقبل يرتكز على مقدمات واضحة، ولكنه يحتمل نهايات متناقضة. فليعب كل ملهوف من قدح القلق ما شاء.
متزوجة، غير متزوجة، أيضا عاشقة. تكاشف الأولياء، تستشير المحامي، تجن من التفكير في الخطوة التالية.
في محل الغلال تمارس التجارة بمهارة، تحاور العواطف بشغف، تداري الأشواق بعذاب، تصارع الغرائز بعنف، ترفع إلى السماء أماني وابتهالات.
الناس تراقب وتتذكر، تحصي اللفتات والنوايا، تؤول الأوهام بأوهام، تتعجل تحقيق الظنون، تتستر بالتقوى والبراءة.
ويقول سعيد الفقي شيخ الحارة: الشهامة قناع، والفاسق أبرع من الشيطان.
ويسأل عثمان الدرزي السكارى في البوظة: لم لم يتزوج حتى الآن؟
46
زحف مد الأسى حتى غطى إبراهيم الشوبكشي شقيق رضوانة ووكيل خضر. الأقاويل تدهمه مثل الشرر. خسر الجاه، وها هو على وشك أن يخسر الشرف. الحياة تدبر رويدا رويدا منذرة بمأساة.
وسأل خضر ذات يوم: أليس من حقك أن تطالب بداري الشوبكشي والسمري نظير ما سددت من دين؟
فأجابه خضر بدهشة: ما خطر لي ذلك ببال.
فقال إبراهيم بمكر: جميل أن تحفظ عهد بكر رغم أنه ضيعه.
فقال خضر ببراءة: أبناء بكر أبنائي.
ما أجمل الكلام! ولكن ماذا عن النوايا؟
47
ولقي إبراهيم الشوبكشي نفسه في الجحيم. بين يديه سهل منبسط، وحياة واعدة لا بأس بها، ولكن ثمة قوى نابعة من المجهول تدفعه إلى طريق وعر، وهو لا يسير مغمض العينين، ولكنه يمتلئ بوعي حاد كالنصل، ويدرك أنه يطرق باب الرعب.
ذهب في المساء لزيارة شقيقته رضوانة، طالما تبادلا الحب صافيا والرعاية.
ولكنه لم يجد بدا من مصارحتها بما يتردد على ألسنة الخلق. واستاءت رضوانة استياء جليا، وقالت بحدة: هكذا الناس دائما وأبدا.
فقال إبراهيم: من واجبنا أن نقطع الألسنة. - أود أن أقطعها بلا رحمة!
فقال إبراهيم بمكر: نالنا ما نالنا من اختفاء زوجك، إنه لوغد!
فانزلقت قائلة: هو كذلك، ومن حقي ألا أسكت على ذلك.
فاشتعلت هواجسه وتساءل: ماذا تعنين؟ - من حقي أن أطالب بالطلاق!
فصرخ إبراهيم بغضب: الطلاق! - أجل، ماذا أغضبك؟ - النساء المحترمات لا يفعلن ذلك. - لا يفعل ذلك إلا النساء المحترمات! - وكيف تبررينه؟ - بأنه تركني بلا مورد!
فتساءل بتربص: وهل يجيئك الطلاق بمورد؟
أدركت أنها جاوزت الحد بتصريحها فارتبكت قليلا، ثم تمتمت: على الأقل أن أقطع صلة لم يبق لها معنى.
فقال برجاء: أجلي ذلك من فضلك، ثم إنه طريق معقد لا ندري شيئا عن مسالكه. - كلا، المحامي له رأي آخر!
فتساءل في ذهول: استشرت محاميا أيضا؟
فلاذت بصمت متحرج فهتف: يا للعار! ومن وراء ظهري؟! - محض استشارة لا ضرر منها. - يحق للناس عند ذاك أن يقولوا إنك تسعين إلى الطلاق تمهيدا للزواج من خضر! - عليهم اللعنة! - ولكنه أمر خطير بالنسبة لسمعتنا!
فقالت بحدة: سلوكي طاهر لا شائبة تشوبه.
فقال وهو يحملق في وجهها بوحشية: سيرجح لديهم - ولهم العذر - أنك كنت شريكة في جريمته. - سيجدون دائما ما يقولونه. - ولكنه خطير جدا وسينسف سمعتنا نسفا.
فقالت بغضب: لست قاصرة يا إبراهيم! - المرأة قاصرة حتى تدخل القبر.
وجفلت من غضبه فقالت: فلنؤجل الحديث إلى وقت آخر.
فقال بعناد: إنه غير قابل للتأجيل.
فهتفت بعصبية: دعني وشأني!
فصرخ: الآن أدرك أنك شريكة له! - أنسيت ما حدث؟ - ولكني أعرف قصة امرأة العزيز.
فصاحت غاضبة: حسبي أني واثقة من نفسي.
فوقف شاحبا وسأل: بصراحة أجيبيني، هل تنوين الزواج من خضر؟ - أرفض الاتهام كما أرفض التحقيق. - يا للكوارث التي لا تريد أن تقف عند حد!
فوقفت بدورها وهي تتساءل: أليس الزواج علاقة مشروعة؟ - أحيانا يكون هو والزنا سواء. - لم أسمع عن ذلك من قبل.
فقال بهدوء طارئ: إذن فأنت تنوين الزواج من خضر؟
فلاذت بالصمت وأطرافها ترتعش. - إنك تنوين الزواج من خضر! حقا إن للناس غريزة لا تخيب.
فقالت بأسى: تبرأ مني إذا شئت، لننفصل يا إبراهيم!
فقال بهدوء: سوف ننفصل يا رضوانة.
وانقض عليها بغتة. بكل وحشية وجنون طوق عنقها بيديه. شد بقوة حتى ثمل بالعنف وتمادى في القتل. ودافعت رضوانة عن حياتها بيدين عاجزتين، بانتفاضات عشوائية، بصرخات لم تخرج، باستغاثات لم تسمع، بأماني لم تذعن، بيأس بدد النور والأشياء.
مضت تسترخي، تستسلم، تهن، تهمد، معلنة العدم!
المطارد
الحكاية الرابعة من ملحمة الحرافيش
1
الشمس تشرق، الشمس تغرب، النور يسفر، الظلام يخيم، الأناشيد تشدو في جوف الليل. غابت رضوانة في بطن الأرض، غاب إبراهيم في السجن، غاب بكر في المجهول.
لم يرث أحد للقتيلة، فاز إبراهيم بالعطف والتقدير، انطوى خضر على أحزانه لا يشاركه فيها أحد. كثر تداول الحكم عن فساد طبيعة المرأة، الأمثال تضرب على خيانة الإخوة، تردد المواعظ اللعنة النازلة بآل الناجي.
تنكرت لهم الفتونة، رفل في ثوبها الزاهي عتريس حتى انتقل إلى الآخرة، حل محله الفللي أقوى أتباعه، اندرج عاشور وشمس الدين وحتى سليمان ضمن ركب الأساطير.
ها هو كبيرهم خضر سليمان الناجي يتربع فوق كرسيه بمحل الغلال، يثرى يوما بعد يوم، يؤدي الإتاوة للفللي في حينها. مبتور الصلة ببطولة الأبطال.
شيد دارا جديدة، عكف على تربية رضوان وصفية وسماحة، لبث أعزب حتى قارب الأربعين، دفن فتحية زوجة أبيه، شهد موت الشيخ طلبة القاضي إمام الزاوية، وسعيد الفقي شيخ الحارة، وعثمان الدرزي الخمار.
وأخيرا تزوج خضر من ضياء الشوبكشي صغرى أخوات رضوانة، وهي بنت بها من رضوانة مشابه، وفيها جمال أليف، وسرعان ما تبين له طيبتها غير العادية، طيبة النقاء والبساطة التي تقف على حافة السذاجة والبله. لم تلعب في الدار دورا ذا شأن، ولم تنجب أطفالا، وتركت جمالها للفطرة بلا تأنق ولا تزويق. ورضي خضر بحظه ولم يخطر له ببال أن يتزوج من أخرى. ومال إلى الورع والتقوى، وأكثر من السهر في الساحة أمام التكية كما فعل جده عاشور من قبل.
وتزوجت صفية من بكري صاحب وكالة الخشب، وعمل رضوان في محل الغلال وكيلا لعمه في المكان الذي خلا بسجن إبراهيم الشوبكشي. ومن خلال العمل تجلت رزانته وأمانته ومواهبه التجارية، فبشر بمستقبل رائع.
أما سماحة فقد بدا أنه مشكلة.
2
كان سماحة متوسط الطول، فائض الحيوية، قوي العضلات، في وجهه ملامح شعبية من وجه جده سليمان، تنبسط تحت رأس نبيل وبشرة صافية تذكران بأمه رضوانة.
أتم تعليمه في الكتاب، واكتسب من عالم الفضيلة شهامة وكرما وبعض الورع، ولكنه ولع بمغامرة الشباب، والجسارة، وعبادة البطولة، أما العمل في المحل فلم ينشرح له صدره، ولا تجلت له فيه مواهب. واتخذ من بعض أفراد عصابة الفللي أصدقاء، فشاركهم سهراتهم في الغرز، وحتى البوظة طاف بها مرات.
وقلق لذلك خضر، وكثيرا ما كان يقول له: يلزمك قدر كبير من الإرادة والتركيز.
فينظر سماحة إلى شقيقه رضوان بفضول ويقول: لم أخلق للتجارة يا عمي.
فيسأله قلقا: لم خلقت إذن يا سماحة؟
ويشرد ببصره في حرج، فيقول خضر: إن مصاحبة الفتوات واللهو معهم ليس هدفا لأمثالك.
فيتساءل سماحة: ماذا كان أجدادنا يا عمي؟
فيقول خضر بجدية : كانوا فتوات حقا لا بلطجية، ولم يعد لنا من أمل إلا في التجارة والجاه!
رغب في إرشاده وتوجيهه مدفوعا بقوة حبه لأمه، وقد تركزت فيه وفي رضوان وصفية عواطف أبوته المغتالة. حقا لم تعد رضوانة إلا ذكرى، ولكنها ذكرى لا تريد أن تموت.
3
وما يدري خضر سليمان الناجي إلا وسماحة ينضم إلى عصابة الفللي رجلا من رجاله. احتفل الفتوة بانضمام حفيد الناجي إلى أعوانه، وعده أكبر نصر له في حارته. أما الحرافيش فاعتبروا ذلك طورا جديدا من أطوار المأساة التي تطحنهم. وقيل - فيما قيل - إن الله قادر على أن يخلق أحيانا من صلب الأبطال أوغادا لا وزن لهم، وأن عاشور صاحب الحلم والنجاة والعدل الشامل ظاهرة خارقة لا تتكرر.
وحزن خضر حزنا عميقا، وعانى مرارة الخيبة والمهانة. وقال لابن أخيه: إنك تمرغ ذكرى الناجي والسمري والشوبكشي في التراب!
فقال له سماحة: رأسي مليء بالآمال يا عمي. - ماذا تعني يا سماحة؟ - سوف يرجع عهد الناجي ذات يوم إلى أصله!
فتساءل خضر جزعا: هل تراودك فكرة الفتونة؟
فقال بثقة: لم لا؟ - ولكنك لا تملك القوة الكافية.
فقال بحرارة: هكذا ظن بشمس الدين! - ولكنك لست شمس الدين.
فقال: عندما يحين وقت المعركة.
فقاطعه خضر: احذر الفللي، إنه شيطان ماكر، احذر أن تجرفنا مغامرتك فتلقي بنا في الهوان والضياع.
وقال له شقيقه رضوان: أقلع عن طموحك. للفللي مائة عين. لقد طواك تحت جناحيه حتى لا تغيب عنه حركة من حركاتك.
فابتسم سماحة، وتجلت الأحلام في عينيه مثل حمرة الغسق.
4
في تلك الليلة سهر خضر في الساحة أمام التكية. دفن قلقه ومخاوفه في الظلمة المباركة. رفع عينيه إلى النجوم الساهرة طويلا. رنا بإجلال إلى شبح السور العتيق. ابتهل إلى بوابة التكية الشامخة. تأمل ممر الفناء بأسى. حيا أشباح أشجار التوت. تذكر بوجد الثاوين في القبور والضائعين في المجهول، والعواطف المشبوبة التي لم تنهل من رحيق الحياة، الآمال التي تلاشت في الأبدية، الأحلام المنطلقة من وهدة السكون مثل الشهب، العرش الهائم فوق كافة احتمالات الخير والشر . وتساءل: ماذا يخبئ الغد؟ لم اختص عاشور وحده بالرؤيا الهادية؟
وانتبه إلى الأنغام وهي تصعد مثل الهداهد هاتفة:
آنا نكه خاك را بنظر كيميا كنند
آيا بودكه كوشه جشمي بما كنند
5
وفكر خضر في تزويج سماحة من بنت الحلال. اعتقد أنه يعيش طور مغامرة هوجاء، وأنه ينقصه العقل، والارتباط بأسرة كريمة مدعاة إلى إعادة التفكير، والنزول بدار فاخرة وإنجاب ذرية كريمة ومصاهرة الأكابر من شأنه خلق دنيا جديدة تقتضي أن يغير الإنسان جلده وعينيه. ورأى في أنسية كريمة محمد البسيوني العطار أمله المنشود. وجس النبض فلقي ترحابا كما قدر وأكثر.
عند ذاك قال لسماحة: وجدت لك ابنة الحلال.
فتساءل سماحة: أليس من الواجب أن نبدأ بأخي الأكبر رضوان؟ - أو نبدأ بالجواد الجامح!
فقال سماحة بعذوبة وجرأة: الحق أني سبقتك يا عمي. - حقا؟!
فحنى رأسه بهدوء فسأله بلهفة: من السعيدة المحظوظة؟
فقال وعلى شفتيه ابتسامة تحد: مهلبية!
ضحكت ضياء ضحكة عالية دون أن توضح نظرتها البريئة سعادتها بالخبر أو أساها، أما رضوان فتمتم بذهول: مهلبية!
فقال سماحة بهدوء: كريمة كودية الزار صباح!
عبس خضر واحتقن وجهه. ضربت ضياء بيديها دفا مجهولا وهي تغرق في الضحك. تساءل خضر: ماذا وراء تنكيلك بنا؟!
فقال سماحة بهدوئه: عمي إني أحبك وأحب مهلبية!
6
رآها لأول مرة في موسم القرافة بصحبة أمها فوق كارو. من موقفه أمام حوش شمس الدين رآها وهي تثب من العربة. سمراء غامقة السمرة، ضاربة للسواد، ممشوقة القد، واضحة القسمات، مفصلة الأعضاء، باسمة الوجه، فائضة الحيوية والأنوثة مثل نافورة، فاضطرم بالرغبة والاندماج. تلاقت الأعين في حب استطلاع متبادل، واستجابة عامة مثل أرض خصبة. انصهر بأسرارهما الهواء المطهو بأشعة الشمس، والأنفاس الحارة، والأحزان، وشذا الخوص والريحان والفطائر. مال نحو منعطفها مثل عباد الشمس. واستحثه الموت المحيط بأن يسرع وألا يتردد.
لم يكن في الأمر مفاجأة. كان يعلم من نوازع نفسه أنها ميالة بنهم إلى السود. وكافة مغامراته البدائية وقعت في أحضانهن، في ظلام القبو أو الخرابة وراء البوظة.
7
اعتمد على نفسه وحدها. اختار للتحري أسوأ الناس طرا أول ما اختار. سأل صديق أبو طاقية عن مهلبية وأمها. وقال الرجل: إني لا أبرح البوظة ولكن الأخبار تجيئني متطوعة ساعة بعد ساعة.
وجعل الرجل يتذكر، ثم قال: للبنت معجبون، ولكني لم أسمع عنها كلمة سوء.
ارتاح سماحة وعد شهادة أسوأ الناس خير شهادة. ولم يقنع بذلك فسأل الشيخ إسماعيل القليوبي شيخ الزاوية فقال له: حرفة أمها ملعونة. - إني أسأل عن البنت؟
فتساءل الشيخ باستياء. - لم تختار زوجتك من مسكن تستقر بأركانه العفاريت؟
أما محمد توكل شيخ الحارة فكان واضحا وهو يقول: سمعة البنت لا غبار عليها.
وقال سماحة لنفسه: إنها أنقى سمعة من جدتي سنية هانم السمري.
8
مضى سماحة إلى مسكن صباح كودية الزار المطل على حوض الدواب. اعتقدت بادئ الأمر أنه يقصدها كزبون، وجرى خاطرها إلى ضياء هانم الشوبكشي. قالت له: أهلا بسليل المجد.
وجعل ينظر إليها بهدوء، وشذا البخور السوداني يفعم أنفه ويخدره، وعيناه تتابعان دفوفا مختلفة الأحجام، وسياطا وسيوفا ودراعات من الخرز الملون مبعثرات بين الكنبة والرفوف، ثم تعودان إلى الجسد البدين مثل زكيبة الفحم. قالت صباح: في الخدمة يا سيد الكل.
فتمتم: ليس كما تتوقعين. - في الخدمة على أي حال.
فقال وهو يغرز عينيه في الحصيرة المزركشة: طالب القرب في بنتك مهلبية.
دهشت المرأة أول الأمر. تغير جوها بغتة. أشرق الوجه بابتسامة كاشفا عن أسنان نضيدة بيضاء، وتمتمت: زين!
فرفع رأسه باسما وقال: الله أسأل التوفيق.
فقالت بنبرة ذات معنى: لا أحد من الأسرة معك؟
فقال بغموض: قلت أبدأ بنفسي. - حقا؟! ما أسعدني بالرجل الحر!
فابتسم متشجعا فتمتمت: زين!
وتلاقت يداهما فقرآ الفاتحة.
9
ولم يفرط خضر في أنسية كريمة محمد البسيوني العطار فتزوج منها رضوان، وأقام بنيانه على أساس متين.
وسأل سماحة عمه: هل تشهدون زفافي؟
فأجابه خضر بلا تردد: نحن أهل، والظفر لا يقتلع من لحمه.
فارتاح سماحة وطرح السؤال نفسه على رضوان فقال بحماس: ستجدني دائما إلى جوارك.
أما الحزن الدفين فلم يكن ثمة سبيل إلى محقه.
10 - أهلا بالناجي سيد الكل!
هكذا رحب به الفللي وهو متربع وسط أقوى أعوانه في غرزة ترباسة، وهكذا يرحب به دائما. وهو ليس غرا. قلبه يهمس له دائما بالحذر. يشعر بأنه ثمة من يحصي عليه الحركات ويستقرئ النظرات واللفتات. يشعر بأنه يتحرك وسط دائرة من التوجس والترصد. ولكنه كان يمثل دوره كما ينبغي. هرع نحو المعلم الأكبر ولثم كتفه في خشوع، واتخذ مكانه المتواضع بين الأعوان فوق الحصيرة.
قال سماحة في بشاشة: جئت أدعو المعلم والإخوان إلى حفل زفافي.
فقهقه الفللي في انشراح وقال مخاطبا حمودة قواده الخاص: زغرد يا ابن الفنجرية!
فزغرد حمودة زغرودة لا تتأتى لامرأة قارحة. وقال الفللي: مبارك عليك، متى؟ - الخميس القادم بمشيئة الله. - من السعيدة المولودة في ليلة القدر؟ - كريمة صباح كودية الزار.
وجم الرجال. تطلعوا في ذهول نحو الفتوة. لاحوا في ضوء المصباح الواني أشباحا شائهة الوجوه. وقال الفللي: ليس لصباح إلا بنت وحيدة! - هي المقصودة يا معلم.
في الصمت لم تسمع إلا القرقرة، وسعلات متناثرة، وتلوت أسرار مبهمة في الدخان المنتشر.
وهتف الفللي: يا حسين يا سيد الشهداء!
ونظر إلى رجاله متسائلا: ما رأيكم في لعب هذه الدنيا العجيبة يا جدعان؟!
مصمصت الشفاه من وطأة العبرة، وتتابعت الأصوات: يا لها من دنيا! - يا للعجب! - يا هوه!
وصفع الفللي حمودة صفعة ودية وقال له: عليك أنت أن تبلغ السر سليل المجد والشرف.
فقال حمودة مخاطبا سماحة: منذ ساعة واحدة تصور! منذ ساعة قرر المعلم الأكبر اختيارك لتكون رسوله إلى صباح لتطلب يد كريمتها له!
ذهل سماحة. مادت به الأرض، رأى الجب فاغرا فاه ينتظر جثته. لم يستطع أن ينبس بكلمة.
قال الفللي: إنه القدر. لم يستقر اختياري إلا أمس فقط. منذ ساعة قررت اختيارك رسولا لي.
ها هي الحقيقة تنجلي. لقد قبله عضوا بلا امتحان. كان يتربص به، وينتظر الفرصة المواتية. وها هي قد جاءت بأبعادها القاسية، وها هو في مفرق الطرق بين الحياة والموت. إما الهلاك وإما الضياع.
ونظر الفللي إلى رجاله وتساءل: ما العمل؟
فتتابعت الأصوات: من ينكر الشمس في السماء؟ - هل تعلو العين على الحاجب؟ - يا بخت من اختاره المعلم رسولا.
وسأله حمودة: متى تتكلم يا سماحة؟
عليه أن يتكلم. الشرر يملأ الغرزة. عليه أن يغوص في الأرض، ويرحب بالعدم. عليه أن يتجرع السم الزعاف.
قال سماحة سليمان الناجي: السمع والطاعة يا معلم.
11
انضم إلى مجلس الأسرة قبيل منتصف الليل بساعة. قال له عمه خضر: كانت ضياء تقص علينا حلما رأته عنك.
لم يسمع. قالت له أنسية زوجة رضوان: رأتك تمتطي بغلا، تلهبه بسوط ولكنه يتشبث بالأرض.
وقال له رضوان: أحلام امرأة عمنا تستحق التأويل كما تعلم.
فقالت ضياء: إنه عريس، لا تزعجوا العريس.
وزفر سماحة بصوت مسموع فتفحصه رضوان باهتمام وتمتم بقلق: أنت شخص آخر يا سماحة!
فقال خضر: ذلك ما لاحظته وتجاهلته إلى حين.
فقص عليهم القصة بحذافيرها. سقطت على السامعين كتل من الرمال. حتى ضياء ارتسم الذعر في وجهها الجميل. وتمتم خضر: طالما حذرتك.
وقال رضوان: وجود مثلك في العصابة مثار للمخاوف، وحتى إذا لم تمس المخاوف الفللي نفسه فإنها خليقة بأن تجتاح الأتباع الطموحين المتربصين بالمستقبل، ولا شك أن دأبهم كان الإيقاع بينك وبين الفتوة.
صدق خضر على قوله وقال: ها هو يدفع بك إلى مأزق لا مخرج منه إلا بضياع الكرامة أو فقدان الحياة نفسها.
وقال رضوان: ضاعف من حذرك فإن عينه ترى حتى ما يكمن في شقوق الجدران!
وقالت ضياء بحزن: البغل متشبث بالأرض!
فسألته أنسية: علام نويت؟
ولكن سماحة لاذ بالصمت، وبدا تعيسا.
وقال خضر بحزم ووضوح: احذر أن تفكر في أي نوع من المقاومة!
12
ذهب سماحة إلى مسكن الكودية في الصباح الباكر. شعر في طريقه بوقع الأعين مثل لسعات الجمر. لثمت صباح جبينه وهي تقول: لم يبق إلا يومان، ثم يجيء الخميس السعيد.
فابتسم ابتسامة فاترة وتمتم: وقعت أمور!
فحدجته بنظرة متوجسة، فقال باقتضاب وصراحة حادة: ما أنا إلا رسول الفللي لأطلب يد كريمتك مهلبية!
انزلقت الكلمات فوق وعيها دون أن تترك أثرا. كرر القول. طالب بحضور مهلبية فحضرت. راح يقص عليهما القصة وهما يتابعانه في وجوم، ثم هبط الصمت بكل ثقله.
وكان سماحة أول من خرج من الصمت فقال: إنها محنتي أولا.
استنزلت صباح اللعنات وقنعت بذلك، فقال سماحة: علينا أن نتدبر الأمر.
فقالت صباح: إنه الرعب!
وسألته مهلبية: ماذا نويت؟
رغم كآبة الموقف انبعث منها إليه إثارة حادة. قال: يهمني أن أعرف رأيكما.
إذا بصباح تقول: يا بني من ذا يفكر في معاندة الفللي؟ - نستسلم؟! - هو عين العقل ولا رأي غيره.
ومال ببصره نحو مهلبية فقالت: رأيك أولا؟
فقال بوضوح: لا يمكن أن أتخلى عنك!
فهتفت صباح بذعر: هو الهلاك وخراب بيتي.
فقالت مهلبية: إني معك.
فخفق قلبه واشتعلت في حواسه لذة عنيفة، أما صباح فقالت: هو الجنون.
فقالت مهلبية: نهرب.
فهز رأسه موافقا، فتساءلت صباح: وأنا؟ - لا شأن لك في الأمر. - هل للانتقام عقل؟ - اهربي معنا! - رزقي هنا. - الرزق في كل مكان.
فقالت مهلبية: سيكون لدينا نقود.
فهتفت صباح: آه من الجنون إذا استحكم.
ومضى سماحة يخطط لتدبير محكم.
13
ومن فوره ذهب إلى الفللي بمجلسه في القهوة. لثم كتفه وقال بسرور: مبارك عليك يا معلم.
فرنا إليه مليا، ثم قال: عفارم يا ابن الأصول.
14
ها هو يلبد في ظلمة الممر بين السور العتيق وسور التكية. هنا، منذ أجيال، ألقي بعاشور، بلا اسم ولا شكل، في لفافة. هنا انهمرت فوقه الأناشيد بلا وعي منه. هنا امتدت إليه يد الرحمة تنتشله من الضياع. ها هي الأناشيد تتسلق أمواج الظلام:
درين زمانه رفيقي كه خالي أز خللست
صراحي مي ناب وسفينه عز لست
ستجيء مهلبية متلفعة بالظلام، يضيء قلبها في الظلمة بما ينبض به من ابتهال للحب والحياة. سوف يتلامسان في الممر، ممر الأبدية المترعة بالآمال الملتهبة، والآمال المتجددة.
حق إنه مضطرب. أكثر من مرة طوى جلبابه وبال. تصنت يحلم بالنجاة ويقارع التحديات والظنون. نذر لآل البيت خروفا. استحضر مثال عمه خضر الذي فر ضائعا ثم رجع وجيها، لعله يرجع ذات يوم ليعيد عهد الناجي إلى عرشه.
الفللي الآن يغط في نومه. يحلم بالزفاف غدا. خدرته الزغاريد والعهود والبسمات. الآن أيضا تزحف مهلبية لصق الجدار نحو القبو. لعلها في هذه اللحظة تشق الساحة والأناشيد. جسمها الحار يسوقها، وقلبها الخافق يرشدها. الأناشيد تنتظم دقات قلبها، تباركها، تبدد وحشة الظلمة.
15
من مكان ما في مملكة الظلام انطلقت صرخة. صرخة ممزقة بالفزع واليأس. سرعان ما تجسدت في صورة فريسة موءودة الفرحة. تتطلع بعينين محتجتين نحو النجم اللامع. متلاطمة مع تموجات الأنغام. مسلمة في النهاية إلى قبضة الصمت القاسي الساخر.
16
وثب سماحة من مكمنه كالمحترق. مهلبية ولا أحد سواها. اندفع نحو الساحة بلا حذر. ترامى إليه وقع أقدام من ناحية الساحة. قادمة منذرة بنواياها الدموية. افتضح السر بطريقة ما. بينه وبين الضحية عشرات النبابيت والخناجر. لا جدوى من الإقدام. توقف. تقهقر والأقدام تتقدم. عند منتصف الممر ترامى إليه وقع أقدام من ناحية القرافة. إنه محاصر. إنه الموت. السور العتيق مرتفع جدا. سور التكية مدجج سطحه بقطع الزجاج المدبب المغروس. وثب بكل قوته متعلقا بطرف السور. انبطح فوق سطحه متلقيا نارا تسري في البطن والصدر والأطراف. فوق ما يتحمل البشر.
تلاقى الجمعان وتجاوبت الأصوات: أين الثعبان؟ - مؤكد أنه تسلل إلى الساحة. - لا أثر له في الساحة. - ولا في الممر.
الألم يمزق الجسد وينداح في الروح. يخمد الأمل ويستعذب الموت.
17
السحب تهبط. تتهادى في المكان مثل الضباب. تومض في ثناياها نجوم. الأرواح ترقص مثل الأطياف. السقاء يوزع قربة مليئة بالدموع. عاشور الناجي يتفقد الحارة الخالية. يقطع الحزن قلبه على الشهداء. يعنف الشرطة ويأخذ بتلابيبها، ثم يرقص رقصة النصر. يتلاقى مع سيدنا الخضر في الساحة. إني قادم لأقودك إلى السدرة. يسيران مشتبكي الذراعين فوق شعاع كوكب مضيء.
وشمس الدين يرفض استقبال الشيخوخة. يتركها متسولة عند الباب. يحمل السبيل فوق عاتقه ويمضي به نحو القبو. المتسول لا يبرح موقفه. شمس الدين يرقص رقصة النصر. ولكن أين سيدنا الخضر؟ المتسول لا يبرح موقفه. يا له من متسول عنيد! لا يرق لشلل سليمان، ولا لدموعه. يتركه يهوي درجة بعد درجة. أين المعجزات؟ أين الأحلام؟ ثمة دم يملأ حوض الدواب، ويملأ صهاريج السبيل، ويجف في العروق، غير أن المتسول تحرك حركة عفوية. ولأول مرة يتكلم فيقول: عاشور لم يمت! عاشور سيرجع قبل بزوغ الهلال!
18
يشعر أول ما يشعر بحركة في الجفون، بوجود مجرد، بنفحة من وعي. يرى شابورة. تنجلي عن نقوش لا نهائية في سقف المخدع. يا ألطاف الله! أين تسمع هذه الهمسات، هذه الألوان؟ أما زالت الدنيا على قيد الحياة؟ هذا الكائن امرأة. ضياء زوجة عمه خضر. تميل فوقه في براءة وتتمتم: ما أكثر الأحلام!
دار خضر. ها هو صوت عمه الطيب يردد: نحمد الله.
ها هي الذكريات تدهمه في طوفان. كيف تسلل إلى داره سائل الدم، وسور التكية المسلح؟ ما أقسى قلوب الحناجر الذهبية! وصرخة مهلبية في جوف الليل طارت بكل الآمال الحية فألقتها وراء السور العتيق. بقي القلب المعذب الدامي وحده. تأوه من الأعماق. همس عمه في أذنه: إنك هنا سر من الأسرار الخفية.
وقال رضوان: لا ضمان لحياة أحدنا لو ذاع السر!
ها هي الحقيقة مخضبة الوجه بالخجل والعار. ولكن كيف هتك سر هربه؟!
19
تمضي صحته في التحسن يوما بعد يوم. وتستعاد الحكاية بتفاصيلها الوحشية. مهلبية قتلت. شهد عشرات بأنه - سماحة - استدرجها بحيلة إلى الساحة، ثم قتلها انتقاما منها لإيثارها الفللي عليه. شهدت بذلك أمها أيضا. آثرت المرأة الحياة على الموت فشهدت لصالح القتلة؛ وإذن فقد قتل، ثم لاذ بالفرار. وقال سماحة: صباح المسكينة هي التي اضطرت إلى البوح بسرنا!
وما العمل الآن؟
لا مفر من الهرب. كما هرب أبوه بكر وجدته سنية، كما اختفى عاشور. فليودع التكية والقبوة والزاوية والسبيل والحوض والوجوه الحميمة، كما ودع السعادة.
وسأل عمه: كيف تعاملون؟
فقال خضر بأسى: بالازدراء والغلظة.
فتأوه. غير أن عمه قال له: يجب أن يكون هربك هذه المرة سرا لا يفشى!
20
وجاءت أخبار مؤكدة بأنه قد صدر عليه حكم غيابي بالإعدام. وقال له خضر: بات الهرب واجبا لأكثر من سبب.
إنه يختنق تحت ضغط الظلم والحنق. عاد خضر يقول: يجب أن تمر خمسة عشر عاما قبل أن يعثر عليك أحد.
وقال له رضوان: الحكومة تجد في أثرك، وأعداؤك يجدون. احذر بصفة خاصة حمودة ودجلة وعنتر وفريد فقد كانوا على رأس الشهود.
آه! متى يقف على قدميه؟ متى تخف آلامه؟ متى ينسى أنه نكص عن نجدة مهلبية؟ متى ينزل انتقامه بأعدائه؟ ومتى كيف يفلت من حبل المشنقة؟
وعانى آل الناجي شر معاملة، حتى الفقراء والحرافيش منهم لم يسلموا من الأذى. ثمة غلمان قذفوا خضر بالطين. نهبت عربة له محملة بالغلال. كانوا يأوون إلى بيوتهم مع المساء، غير أن خضر لم يغال في التشاؤم، وقال: سوف يذعنون في آخر الأمر لسحر النقود.
21
بتماثله إلى الشفاء الكامل نبض قلبه بدم جديد. جعل يفكر في المستقبل ويرسم الخطط. لا مسرة في الطرق حقا ولكنه لم ينهزم. ودب من جديد في أعماقه حب الحياة. اجتاحته رغبة ملهمة. تحفز للعناد والإصرار والبقاء.
22
عندما عدى النيل آمن بأنه انتقل إلى وطن جديد. كاد وجهه أن يختفي وراء لحية مسترسلة ولاثة تطوق الرأس فوق الحاجبين. أصبح اسمه بدر الصعيدي، وحرفته بيع التمر والحلبة والعدس. أقام في بدروم ببولاق وعرف بسلوك عذب.
ونصب أمام مخيلته حبل المشنقة كأنه الميزان الذي لا يفارقه. أدرك أن الموت يرصده، أن الشياطين تقتفي أثره، وراح يسجل في دفتر خاص الأيام في مرورها كما يسجل في الدفتر الآخر معاملاته التجارية. وغاب العالم القديم، كما غاب أهله وأهل حارته. طموحه في الفتونة، حبه، الآمال الحارة. لم يبق معه إلا المنفى والعمل والتقوى.
ووجد بادئ الأمر وحشة في بولاق. أجل إن المعالم متشابهة؛ فثمة السبيل وحوض الدواب والكتاب والزاوية وشيخ الحارة، طموحه في الفتونة، حبه الآمال الحارة، لم يبق معه إلا المنفي الناجي العظيم؟ ولم يثر في الناس فضولا ذا خطر؛ فبولاق ميناء نهري يلتقي عندها العديد من المراكب الشرعية كل يوم، ويؤمها الأغراب عبورا وإقامة؛ لذلك لا يلوذ بها الفارون من وجه القانون، ولا تضيق بالغريب، وهي ممتدة ومتفرعة، بخلاف حارته المكنونة، فتكاثف في أعماقه الغربة والضياع، ولكنها غربة مسربلة بالأمان على أي حال. ثمة وقت غير محدود لتأمل حياته، ودراسة مشاريعه، واحتضان نوازعه الثابتة للانتقام وفرض سيادة العدل. هكذا قبع الحالم الكبير في دكانه الصغير، يتعامل باللطف، ويدرع بالأمانة، ويقنع بالرزق الحلال، ويتحدى المجهول.
وقال له شيخ الحارة: الطيبون أمثالك نادرون.
فقال بأدب: من بعض ما عندكم. - ترى ما سبب هجرتك من الصعيد؟
فأجاب بدهاء وقلبه يخفق: كيف يسأل صعيدي عن ذلك!
فضحك الرجل، وواصل بدر الصعيدي قائلا: وأجدادي الأوائل من بولاق!
فقال الرجل وهو يتناول منه لفافة بدينة حافلة بالمتنوعات: جميل أن يحن الإنسان إلى أصله.
23
ثمة فتاة في الجانب الآخر من العطفة. ملمح من ملامح الحارة الثابتة. تدعى محاسن بياعة الكبدة. دكانها متحرك يمكن حمله بجهد قليل. طبلية موضوعة فوق قائم أسطواني من الجريد، منسوج الفراغات بالخوص المجدول، ترص على سطحها كبد العجول والضأن، يتوسطهما ميزان وساطور. والفتاة طويلة القامة، ثرية الأعضاء، ذات نظرة عسلية، فيها من الجاذبية بقدر ما فيها من حدة الطبع وطول اللسان.
يتوق الغريب إلى ما يؤنس وحدته ويبدد وحشة قلبه القلق. يتابع نشاطها باهتمام، يلاحظ عنفها بشغف. إنها مطمع كل شاب، وسرعان ما تشهر أسلحة الدفاع من لسان سام وأظافر حادة. إنه خير من الاستسلام، ولكن لم لم يطلبها ابن الحلال؟
انفتحت شهيته للكبد. أدرك أنه ينساق في طريق مجهول العواقب، وأنه يمضي مدفوعا بقوة في داخله قبل أن تكون في الجانب الآخر من الحارة. وزنت محاسن له رطلا ولفته في ورقة، ثم قالت ببساطة: خذ يا سنى!
سر بدعابتها واعتبرها تحية. إنها تذكره - برشاقتها وثراء أعضائها وغمقة سمرتها - بفقيدته التعيسة مهلبية، وتذكره بالتالي بنكوصه المزري عن نجدتها وبآلام الماضي الحزين. ولكنه ما زال يكابد الحياة، وربما كابدها طويلا تحت المطرقة. وكما طرح الموت ظله عليه تشبث أكثر بأهداب الحياة.
ومن ناحيتها كانت محاسن تبتاع منه العدس والفول والحلبة. خذ يا سنى هات يا سنى. خذي يا ست محاسن. خذي يا ست الكل. لم يجاوز الاحتشام في تعامله معها. لعلها قرأت في عينيه أكثر مما يقول أو يفعل. لعلها عجبت أيضا لما ينفرد به من سلوك طيب.
وعلى جانبي الحارة، وبعيدا عن أي شبهة، نضجت عاطفة قوية.
24
عقب صلاة العصر تعمد أن يشير إلى سيرتها في حديث له مع إمام الزاوية: أهي وحيدة يا مولانا؟ - كلا، إنها تعيش مع أم عجوز ضريرة. - ولا أهل لها سوى ذلك؟ - قتل أبوها في خناقة، ولها أخ في الليمان. - أظنها في العشرين، فلم لم تتزوج؟
فاستغفر الإمام وقال: كانت أمها سيئة السمعة! - ولكن هل البنت؟
فقاطعه الشيخ بصدق: لا غبار عليها والله أعلم!
زكاها عنده زهد الآخرين فيها. ليس الغريب المطارد بالصالح للمنافسة، الزواج يؤصله في المكان ويجلب له الثقة. وهي خير من أخرى ذات أهل يهمهم أن يعرفوا الأصل والفصل. وأهم من ذلك كله لم لا يعترف بأنه يرغب فيها بكل شبابه؟
25
انتهز فرصة وجودها بدكانه لشراء حوائجها، مشجعا بدلالها ومرحها، فسألها: ماذا ترين يا محاسن إذا طلبك رجل على سنة الله ورسوله؟
فرمقته باهتمام، اهتمام غطته بنظرة ساخرة وضاءة، وتساءلت: أيوجد مثل هذا المجنون؟ - أجل، إنسان من لحم ودم، ومستور برعاية الله.
وتبادلا النظر مليا في رضا وسلام، ثم غلبها المرح فتساءلت: أله لحية مثل فروة الخروف؟ - هو ذلك. - وماذا أفعل بلحيته؟
فقال ضاحكا: لحية مستأنسة ولا ضرر منها على الإطلاق.
نم وجهها على الرضا، ولكنها ذهبت دون أن تنبس.
ومضى يتذكر مهلبية بأسى عميق.
26
أعلنت الخطبة، وبعد أشهر تم الزفاف.
رغم أن العروسين كانا بلا أهل فقد اكتظ الفرح بالمدعوين من الجيران والزبائن. أنفق بدر الصعيدي عن سعة. جالت زفته بالحي في حمى الفتوة فمرت بسلام.
وجهزت شقة مكونة من حجرة وصالة، حجرة للنوم وصالة للجلوس والمائدة، وأسهمت محاسن وأمها في الجهاز بما يرفع الرأس.
وسعد سماحة بعروسه ولكن تنغص صفوه بعض الشيء بإقامة حماته معهما، واحتلالها الصالة ليل نهار. كانت عجوزا ضريرة، تشهد قسماتها العتيقة بجمال دابر، وكانت وقحة سليطة اللسان، قدت كلماتها من رصاص، فلم تعرف المجاملة حتى في شهر العسل والمجاملات. ولكن الحب اكتسح كل شيء في فصله الوردي.
27
تفرغت محاسن للبيت. أحبت زوجها. اكتشفت أنه ميسور الحال أكثر مما يعلن، وأنه في الداخل أجمل منه في الطريق.
قالت له مرة: لو حلقت لحيتك لكنت من أحسن الناس صورة.
فقال متهربا: إنها سر نجاحي في الحياة.
وإذا بحماته تبغته قائلة وهي تقهقه بصوت داعر: استعمليها بدل المقشة!
ولم يكن يستخف لها ظلا ولا يغفر لها ماضيا، فحنق عيها وقال بحدة: أوافق بشرط أن نكنسك بها!
فاشتعلت العجوز بالغضب وهتفت: احترسي من هذا الرجل فإن قلبه أسود!
رماها بنظرة حاقدة وعدها ضمن سوءات الحظ التي تطارده.
28
حتى محاسن لم تنج من سهام العجوز. كانت فاسدة الطبع مشاكسة سيئة الظن بكل شيء، كثيرا ما تقول لابنتها: تضنون علي بأطايب الطعام، وترمون إلي بأسوئه.
فتقول لها محاسن: تأكلين مما نأكل.
فتقول بإصرار: كذابة لا تخفى علي حقيقة رائحة، كذابة مثل زوجك!
فيغضب سماحة ويقول: ما دخلي أنا؟! - أنت رأس البلوى. - الصبر، الصبر، حتى يجيء الفرج!
فتصرخ العجوز: الفرج! ستسبقني إلى القبر! - طريقنا مختلف على أي حال.
فتقهقه قائلا: أراهن على أنك قتلت أباك في الصعيد وجئتنا هربا من حبل المشنقة!
ارتعد حنقا وحقدا، وتمنى لو يحطم رأسها.
29
لكنه سعد بمحاسن حقا، ولاذ بحضنها من همومه الراسخة. هي أيضا تستجيب له وتسعد به. أجل آمن منذ الشهر الأول بأنها ليست الزوجة الطيبة المطيعة. إنها جريئة، حادة، واثقة من نفسها، مداعباتها تخشن أحيانا لحد القسوة، وهي تبالغ في عنايتها بنفسها، تكثر من الاستحمام والتعطر بالقرنفل، ولكنها تتزين لحد البهرج. وعد ذلك من مزاياها، ولكنه كره أن يطلع عليها غريب. ومن جراء ذلك نشب بينهما أول خلاف جدي. قال لها مرة: لا تطلي من النافذة وأنت على هذه الصورة.
فقالت باستياء: طالما عملت في الطريق. - كنت تظهرين كما خلقك الله.
فقالت بحدة: وكنت ترى كيف أؤدب السفلة!
وتدخلت العجوز وقالت: ألم أقل لك إن قلبه أسود؟!
فنهرها قائلا: اقطعي لسانك القذر.
فولولت العجوز: فليحمك الله من قاتل أبيه!
فأعرض عنها وهو ينتفض غضبا، وقال لمحاسن: تشجعك على الفساد.
فاشتد بها الاستياء وقالت: لست عرضة للفساد. - في هذا الأمر أطالبك بالطاعة التامة. - لست طفلة ولا خادمة!
فانهارت فرامله وصاح: سأقذف بك من النافذة!
فجنت محاسن وهتفت: سأقذف بك في المرحاض.
فصاحت العجوز: عفارم!
فصرخ سماحة: أتحدى أن تتجاهلي أمري!
وقف الخصام عند ذاك الحد. وسرعان ما تصافيا في اليوم التالي. وفي مساء ذلك اليوم بشرته بأنها في طريقها إلى الأمومة.
30
ماتت حماته العجوز الضريرة ميتة غريبة.
سقطت من نافذة الصالة المطلة على المنور فتهشم رأسها. لعله من حسن حظ بدر الصعيدي أنه كان وقت ذاك في دكانه. وجرت الإجراءات سراعا وبلا عرقلة حتى شيعت القتيلة إلى قبرها. احتفل بدر بالجنازة والمأتم إكراما لمحاسن ولمركزه في الحارة. ووجد رغم ذلك حرجا لسابقة العداء المستحكم بينه وبين الراحلة.
وبكت محاسن بكاء مرا حتى قال لها: لا تبكي فأنت حبلى.
فسألته بعتاب قاس: ألا تهمك المرحومة؟
ولما لاذ بالصمت اتهمته قائلة: لا تدار فرحتك!
فقال محتجا: الموت يفرض احترامه.
وعددت محاسن مزايا أمها التي لا يجوز أن تنسى. كانت تحبها رغم مشاكستها السطحية، ومن قبل أحبت أباها لدرجة العبادة. وشد ما تحطمت عند مصرعه في عز شبابه. وشد ما تحطمت عندما قضي على أخيها بالتأبيدة. وأدمنت الأفيون فاضطرب سلوكها واتهمت بكل سوء. هكذا فقد بصرها فزادت تعاستها. وتكالبت عليها الأحزان وهي مهملة في بيت رجل لم يرحب بوجودها قط!
وقالت أيضا إنها كانت في شبابها من أجمل بنات بولاق، وأنها آثرت الزواج من أبيها على الاقتران بقصاب غني، فلم تكن تافهة أبدا.
تابع سماحة سيرة العجوز وهو يتذكر جدته سنية هانم السمري التي هربت مع سقاء في سن ابنها، وتساءل بحزن ترى أين تقيم؟ وماذا فعل الزمان بها؟ وماذا فعل بأبيه بكر؟ وكم ينطوي الماضي على مخاز وأحزان!
31
وجاء الصيف زافرا أنفاسه الحارة. إنه يحب ضياءه، لا يضيق بلفحاته، ويستعذب أماسيه الرقيقة، ويعشق الملوخية والبامية والبطيخ والشمام، ويستبشر بالاستحمام كل شروق.
وأنجبت محاسن ذكرا. وسر الرجل به سرورا فخورا. ود لو يسميه شمس الدين، ولكنه خاف الاسم كأنما سيزيح عنه الأمان، فوافق على الاسم الذي اختارته محاسن، رمانة، اسم أبيها.
وتضاعف نجاحه وثراؤه، وحول ساعدي محاسن تكاثرت الأساور الذهبية، وبدا وجه الحياة بساما. ويوما بعد يوم سجل في دفتره السري جريان الزمان البطيء. وعند كل مرة يتذكر حبل المشنقة، ويتساءل هل تكتب له النجاة حقا؟ ويتذكر أهله، وأهل حارته، ترى ماذا فعل الزمان بهم؟ ويتذكر أعداءه، الفللي ودجلة وعنتر وحمودة القواد، هل يقف فوق رءوسهم يوما وقفة المنتصر؟ هل يعيد إلى حارته عهد الناجي؟ هل يرجع إلى سماع الأناشيد؟
32
وبعد رمانة أنجبت محاسن قرة ووحيد. استوى بدر وجيها من وجهاء الحارة ومحسنا من رجالها الطيبين. أصبحت له منزلة خاصة عند المساكين.
ولم تتخل محاسن عن عنايتها التقليدية بجمالها ونظافتها. لم تشغلها الأمومة عن الأنوثة وحب الحب. وإلى ذلك ولعت بالحشيش حتى صار مزاجا ملازما. جربته أول الأمر على سبيل المشاركة العابثة مع زوجها الذي يدخنه في بيته كل ليلة. خرت بعد ذلك بين أنامله الناعمة الشرهة وهامت به.
ومرت الأيام وتعاقبت الأعوام حتى أمن الرجل إلى مصيره، وانجلت عنه المخاوف أو كادت.
33
وسرى إلى بولاق خبر عجيب.
ثمة صداقة تتوطد أركانها بين فتوة بولاق والفللي!
صعقه الخبر. انفتحت بغتة تحت قدميه فوهة جب. زلزلت أركان دنياه الأربعة.
وسأل شيخ الحارة عما يقال فقال الرجل: أبشر، إنه يعني مضاعفة لقوة الفتوتين!
تظاهر بدر بالسرور، فقال شيخ الحارة: ستكثر الأفراح والليالي الملاح. - هذا هو المأمول. - ثق من ذلك، سوف تتبادل الزيارات، وهذا يعني الغناء والرقص والسكر.
فتمتم بدر بريق جاف: ما أطيب ذلك وأجمله!
تسلل ثعبان إلى المسكن المطمئن. لم يخطر له ذلك على بال. طالما ظن أن النيل حاجز لا يعبر. هكذا سيجيء الفللي وعصابته. سيمرحون في الحي، سيدعى إلى الأفراح. لم يزل نصف المدة قائما، قابضا على حبل المشنقة. لن تخفى حقيقته من الأعين الثاقبة. ورسم خطة.
ادعى المرض قبيل الزيارة بأيام. حتى محاسن صدقته وحلت في الدكان محله.
34
في الليلة الموعودة قبع وراء خصاص النافذة.
غيرت الدنيا سحنتها. كل شيء ينطق بالغرابة. السخرية متجسدة حول الكلوبات مثل وجه ساحرة. نفايات الأمان مكومة في المزابل، أما الحارة فتتموج برقص الراقصات والراقصين، ورائحة السمك تملأ الهواء. إنه الشتاء فلم لا تمطر السماء؟ أين الرعد والبرق؟ أين قسوة الرياح؟ وعلا الطبل والزمر، وضج المكان بالهتاف والزغاريد. ها هو موكب الأصدقاء يقترب، تتقدمه جياد راقصة مجلجلة بأهلتها الفضية. ها هو أبغض خلق الله، الفللي القبيح اللئيم الطاغية، شابكا ذراعيه بذراع فتوتنا. يبتسم عن أسنان ذهبية. ها هو دجلة، عنتر، فريد، أين حمودة؟ قتل، سجن، مات. الأوغاد مجتمعون. أين القضاء والقدر؟ ما جدواك أيها الحقد؟ إنهم يبتعدون ولكن الضوضاء تتفشى. ليلة صاخبة، معربدة، مضمرة للعذابات المبهمة، متوعدة بكل شر. عزرائيل يباركها. حبل المشنقة يطوقها. الأحلام تختنق فيها. الأحبة - محاسن ورمانة وقرة ووحيد - يتحولون إلى أطياف، قد تتلاشى في أي لحظة، ويحل ظلام دامس، ويحل يأس قاتل، ويحل فراغ شامل.
35
رجع إلى دكانه مستقبلا التهاني. القبوع في البيت مفسدة للروح، مثير للمخاوف، مهول للأحزان. أما الحركة فبركة. المعاملة تجديد للدماء وبعث للشجاعة. اختفى الأعداء. توارى عزرائيل. رحيق الحياة يجري في ريقه. التوكل على الله ينعش روحه. الأمل يخطر من جديد. الإلهام يفعم وجدانه. اطمئن يا بدر ولا تخف، تحصن وراء لحيتك واعتمد على رب العدل.
واشتدت ارتباطاته الوجدانية بمحاسن ورمانة وقرة ووحيد، بالطعام والشراب والعبادة والحياة، حتى الشتاء وجد في سحبه شغفا. طرب لكل شيء حتى أصوات الشتائم المتبادلة. أسف على أنه لا يستطيع أن يلقن الأبناء حكايات عاشور وشمس الدين، أن ينشئوا جاهلين لأصلهم المبارك، لبركة الحلم، وصداقة سيدنا الخضر. متى يعرف رمانة أنه رمانة سماحة الناجي؟
وقال لنفسه: افرح عند كل شروق شمس ولا تحزن عند غروبها!
36
كان يسجل مرور يوم جديد بدفتره السري عندما أمره شعور داخلي بأن يرفع عينيه . رفع عينيه فرأى محمد توكل شيخ حارته الأصلية على بعد متر من دكانه. رآه يمر وهو يلقي نظرة عابرة.
انخلع قلبه. اخترقه الفزع مثل بلطة. تلاشى كل شيء.
هل رآه الرجل؟! هل تذكره؟!
ولمحه عن بعد جالسا في دكان شيخ الحارة. يتحدثان ويتضاحكان. وتنظر عيناه كيفما اتفق. إنه الموت. شد ما يسعده أن يقدم خدمة للداخلية. شد ما يسعده أن يهنئ الفللي بالقبض عليه. لو عمي الرجل ما عرف - هو - الأمان بعد الساعة. أصبحت بولاق مباحة للأعداء.
وها هو خبر ينتشر أن محمد توكل يسعى إلى مصاهرة تاجر الخردة. لعله جاء في صحبة الفللي فقادته عيناه إلى زوجة جديدة. سوف يمسي من أهل بولاق بقدر ما هو من أهل الحسين. لم تعد بولاق بالمأوى الآمن.
أجل، لم تعد بولاق بالمأوى الآمن.
37
قالت له محاسن وهي تتفرس في وجهه: في قلبك شيء.
كان الأبناء قد ناموا، وكانت تحوم حوله في زينتها الحلوة، فآنست منه ما خيب حلمها. قال: في قلبي أشياء.
سلمت للخيبة وتساءلت: التجارة؟
فتمتم بحزن: التجارة رابحة، ولكن أمامي رحلة طويلة ... - الصعيد؟ - ربما. - ولكن ما السبب؟
فتجاهل سؤالها قائلا: سوف تطول أعواما. - أعوام؟! خذنا معك. - أتمنى ذلك ولكنه مستحيل.
فقطبت في ريبة، فقال: رحلة مطارد لا رحلة تاجر! - مطارد؟!
فتنهد قائلا بأسى: إليك قصة المطارد المظلوم يا محاسن!
38
ودع الرجل زوجته وأولاده وغادر داره متسللا قبيل الفجر.
مع الصباح الباكر وقفت محاسن في الدكان تمارس حياتها الجديدة. كانت كئيبة حزينة ضائقة بسرها، وكانت تقف بين الشك واليقين مما حكاه زوجها. لقد خدعها أعواما، وربما له عذره، ولكنه خدعها، فهل صدقها أخيرا أم تمادى في خداعه؟
ومر بها شيخ الحارة فسألها عن زوجها، ماذا أقعده في البيت، فقالت بوجوم: سافر إلى الصعيد.
فدهش الرجل وقال: أمس قابلته فلم يخبرني بشيء.
فقالت باستسلام: سافر! - صاحب همة عالية، ولكنك لست كعادتك يا ست محاسن. - بخير يا ريس. - متى يرجع؟
فلاذت بصمت واجم، فتساءل الرجل بحذر: امرأة أخرى؟
فقالت بحدة: كلا. - هل تطول غيبته؟ - ستطول أعواما يا ريس! - يا للخبر! - قسمتي. - ولكنك تخفين أشياء.
فقالت بفتور: كلا.
فمضى الرجل وهو يقول: لا أمان للصعايدة!
39
ونشر شيخ الحارة الخبر حتى علم به محمد توكل وكان ينزل ضيفا عليه.
وبخلاف ما توقع اهتم الضيف بالخبر وتساءل: أهو الصعيدي ذو اللحية؟
فأجاب شيخ حارة بولاق بالإيجاب.
عند ذاك أغمض محمد توكل عينيه متفكرا.
40
عقب ساعة اهتزت الحارة على كبسة عسكرية.
اقتحمت قوة منها مسكن بدر الصعيدي بقيادة ضابط، وقد اقتحمت دكانه بقيادة المخبر حلمي عبد الباسط.
زحف الأهالي نحو المواقع كالنمل.
سأل حلمي عبد الباسط محاسن بخشونة: أين سماحة سليمان الناجي؟
فأجابت بثبات: لا أعرف أحدا بهذا الاسم. - حقا؟! أين بدر الصعيدي؟ - لا أدري. - كذابة! - لا تسب يا مخبر، ماذا تريدون من رجل شريف؟ - شريف؟! أنت تعلمين أنه هارب من حبل المشنقة! - أعوذ بالله! الحارة كلها تعرفه.
فصاح: أمامي إلى القسم.
فهتفت: لي أبناء ثلاثة لا أحد يرعاهم. ماذا تريدون مني؟
41
فتش الدكان كما فتش البيت. جرى تحقيق دقيق مع محاسن. أفرج عنها، وطار الخبر في الحارة مثل النار. ذهل الناس ذهولا. - بدر الصعيدي! - صاحب اللحية! - المحسن! - قاتل هارب من المشنقة! - لم يكشفه إلا حماته وإن تكن امرأة سوء مثله!
42
مضت العادة تستل من العجائب روحها وجدتها. أدخلت محاسن أبناءها الكتاب، وكانت تجيء بهم عقب الكتاب إلى الدكان أو تتركهم يلعبون أمام عينيها. شد ما حزنت على زوجها، وشد ما حزنت لحظها الأسود. ورغم نوبات الحنق لم تنس أنه تركها مستورة، بل غنية بتجارة رابحة.
ومنذ يوم الكبسة لم يتخلف المخبر حلمي عبد الباسط عن المرور بالحارة أو الجلوس أحيانا بدكان شيخ الحارة. ترى أما زال يراقبها؟ إنها تشعر بنظراته وتضيق بحركاته ولكنها تتجاهله. رجل فظ غليظ، طويل القامة، كبير الوجه، ذو عينين صغيرتين وأنف غليظ، وشارب مثل مخرطة الملوخية. يا له من منظر شؤم! وشؤم ما اقترن به من ذكريات. إنه يراقبها بلا أدنى شك، فماذا يظن؟ يمر بالدكان فيرمي بنظرة غريبة مثيرة للتساؤل، أو يجلس بدكان شيخ الحارة فيسدد بصره بلا هوادة. ماذا يظن وماذا يريد؟ تساءل عقلها وتساءلت غريزتها. توثبت للنضال كما توثبت للاستطلاع.
ومرة توقف أمام الدكان. اقترب خطوة فانحشر في أفكارها. تبسم متسائلا: أتؤمنين حقا ببراءة زوجك؟
فأجابت دون أن ترفع عينيها إليه: إني أصدقه.
فقال بنبرة الوعظ وهو يمضي: حتى يلتف الحبل بعنق القاتل يظل مصرا على براءته!
43
ورأت يوما محمد توكل شيخ الحارة فدعته إلى دكانها. أكرمته وقالت له: لعلك تدرك ما أعانيه من متاعب.
فقال الرجل مجاملا: كان الله في عونك. - ولكنك وحدك من يعرف الحقيقة. - الحقيقة؟! - حقيقة التهمة.
فقال توكل بلباقة: لا أعرف إلا ما أسفر عنه التحقيق. - ولكنه أقسم لي بأنه بريء. - ثبت أنه قتل البنت، ثم هرب.
تنهدت محاسن يائسة، ثم قالت: حدثني عن أهل زوجي وأبنائي.
فقال محمد توكل باسما: إنهم من صلب فتوات قدامى يروون عن سيرهم ما يشبه المعجزات، ولكني لا أصدق خيال أهل حارتنا؛ فهم يؤمنون بأن الخير بدأ وانتهى في ماض غامض، ولا يفرقون بين الحقيقة والحلم. يفكرون بعواطفهم، ويحكمون على الأشياء بتعاستهم، ويصدقون أن الملائكة هجرت سمواتها ذات يوم لتحمي هذا أو ذاك من أجدادهم. - هل الفللي منهم؟ - كلا، انتهى زمان فتونتهم، لم يعد أحد منهم يفكر فيها، أكثرهم اليوم فقراء أو من أهل الحرف، ولكن زوجك ينتمي إلى الأسرة الغنية الوحيدة فيهم؛ فعمه المعلم خضر من كبار التجار، وكذلك شقيقه رضوان، هل تنوين تسليمهم الأبناء؟
فبادرت تقول: كلا، لن أتخلى عن أبنائي، ولست في حاجة إلى أحد، وما سألتك إلا لأعرف ما ينبغي معرفته. - قد يطالبون بهم ذات يوم؟
فقالت محاسن بحرارة: سأحتفظ بهم ما وجدت إلى ذلك سبيلا.
فقام شيخ الحارة وهو يقول: كان الله في عونك.
44
مع الأيام أصبح حلمي عبد الباسط من زبائن الدكان. أكان ذلك ضمن خطته في المراقبة؟ ولكن كفى خداعا للنفس. هذه النظرات الجائعة لا تصدر عن تجسس، وليس في حياتها ما يستحق المراقبة. إنه يحوم حولها بنظرات مشغوفة، وابتسامة متوددة، وارتباك ينم عن نواياه الدفينة. إنها تعرف ذلك بغريزتها ولكنها تتجاهله، وهي تشعر بنفور ولكنها تتجنب الحزم، وقلقها من المستقبل يتزايد يوما بعد يوم.
ومرة قال لها: سامحه الله.
فنظرت إليه مستطلعة رغم أنها عرفت من يقصد فقال: يتركك وحيدة مع ثلاثة أبناء.
فلم تنبس، فقال: وحتى إذا كتبت له النجاة فعليك أن تنتظري ثمانية أعوام.
فقطبت، فقال بيقين: ولن تكتب له النجاة!
فقالت بحزن: الله مع المظلومين!
فقال بإصرار: طيلة حياتي لم أسمع أن قاتلا أفلت حقا من حبل المشنقة!
45
ومرت الأيام ثقيلة متشابهة. أرهقها الجهد المتواصل والضجر، وأرهقها الحرمان من الذي كان يملأ حياتها. ووجدت مشقة في تموين دكانها بالسلع؛ فهبط الدخل رغم أنه ما زال فوق الكفاية. وراحت تحاكم سماحة وتدينه لما نزل بها، وتشتد في محاسبته كلما أثقلها الضجر أو عذبتها الوحدة. وأكثر الوقت ضاع رمانة وقرة ووحيد في الطريق بلا رعاية، حتى قال لها شيخ الزاوية: الأولاد معرضون للشر يا ست محاسن.
فقالت بأسى: ما العمل؟ لم يبلغوا بعد السن التي يعدون فيها للعمل في الدكان. - أليس الأفضل أن يلقنوا حرفة ولو على سبيل حفظهم من الطريق؟
فقالت مقطبة: لن أتركهم تحت رحمة أناس لا ثقة لي فيهم!
وتضاعف سخطها وقلقها.
46
ولم يكف حلمي عبد الباسط عن الحومان حولها. ومرة قال لها بحنان: إني أرثي لك يا ست محاسن.
فقالت بإصرار: إني قوية وناجحة. - ولكنك لست حرة. - ماذا تعني؟ - ما زلت مرتبطة بحبل المشنقة.
فقطبت قائلة: إني راضية. - بل عليك أن تتحرري لخيرك وخير الأولاد.
ماذا يريد أن يقول؟ - في مثل ظروفك تطالب المرأة بالطلاق!
فضحكت ساخرة، فقال: سيطلبك ابن الحلال فإنك في الحق جوهرة.
وغادر الدكان متجنبا سماع جواب لا يرضيه.
47
عقب اختفائه بدقائق سمعت صرخة عصفت بجذور قلبها. اندفعت من الدكان مجنونة، فرأت وحيد يتمرغ في التراب مخضب الوجه بالدماء. وعن بعد ثمة غلمان يجرون فزعين. تجاهلت مضطرة الجناة، ورفعت ابنها بين يديها وهي تصوت، ولما تفحصت وجهه صرخت بأعلى صوتها: ضاعت عين الولد !
48
سحب الهموم تراكمت. أمطرت قلقا وكآبة، وحلت بالأركان الضجر. تجلت همسات الإغراء مثل قوس قزح.
49
أمام الدكان وقف دوكار. نهضت محاسن مستطلعة. غادر الدوكار كهل ثم شاب، يرفلان في عباءتين من وبر الجمل. أقبلا عليها والكهل يقول متسائلا: ست محاسن؟
أجابت بالإيجاب، فقال الكهل: أنا خضر سليمان الناجي عم زوجك سماحة، وهذا شقيقه رضوان.
خفق قلبها بعنف. قدمت لهما مقعدين وقلبها يخفق. وتمتمت: أهلا بكما، وشرفتما.
فقال خضر: كان ينبغي أن نتعارف من قبل ولكن الأخبار لم تتسلل إلينا إلا أمس! - أفهم ذلك جيدا.
همت أن تقول إنها عرفت عنهما الكثير، ولكنها سرعان ما عدلت عن ذلك.
وقال خضر: شرفنا أن نعرفك، نحن أهل زوجك، وأهل أبنائه، ويسرنا أن نكون في خدمتك! - تستحق الشكر يا معلم خضر.
فقال رضوان: ثقتنا في الله كبيرة، وسوف ينكشف الظلم عن المظلوم. - حدثني سماحة بكل شيء، ولكن ألا تستطيعون إثبات براءته؟
فقال خضر بأسف: نخاطر بأرواحنا في سبيل قضية خاسرة.
وتساءل رضوان: أين الأولاد؟ - في الكتاب.
وانخطف لونها وهي تقول: فقد أصغرهم عينه في مشاجرة مع الأولاد.
تجلى التأثر في وجهي خضر ورضوان، وقال خضر: حملك ثقيل يا ست محاسن.
فقالت بحذر: لست ضعيفة ولكنه سوء الحظ.
فقرأ خضر أفكارها، ولكنه تساءل: كيف تتصورين المستقبل؟ - أن يعملوا في الدكان.
أجال خضر عينيه في الدكان، فقالت: الرزق موفور والحمد لله.
فقال برقة: لعله توجد فرصة أطيب عندنا!
فقالت بلهفة: لا أحب أن أتخلى عنهم.
فقال بوضوح: ولن نحملك على ما تكرهين، ولكن أليس من الظلم أن يحرموا من حياة أفضل؟
فراحت تقضم أظافرها وهي لا تدري، فعاد الرجل يقول: لن نحملك على ما تكرهين.
وقال رضوان: اعتبري زيارتنا للتعارف والمودة.
وقال خضر: واعلمي أنك لست وحيدة، نحن أهلك أيضا، فكري على مهل فيما أعرضه عليك، تعالي معهم إذا شئت، زريهم في أي وقت، أو أبقيهم في كنفك، الأمر بيدك على أي حال.
50
ما إن غاب رنين جرس الدوكار حتى كان حلمي عبد الباسط في الدكان . سألها باهتمام: ماذا يريد السادة؟
لم يعد غريبا أن تباسطه في الحديث. كفت من زمن عن صده وتحديه. أصبح عادة يومية في حياتها، حتى قبحه لم يعد منفرا أو مزعجا. هكذا وافته بما لديها. وبادرها قائلا: عين الصواب. - أهجر أبنائي؟ - بل ترسليهم إلى حظهم السعيد. - ماذا تعرف عن قلب الأم؟ - الأمومة الحقة تضحية!
فقالت بمكر: ربما كان الأصوب أن أذهب معهم.
فهتف: معاذ الله! - إنهم أهلي أيضا. - ولكنك غريبة! أنت من بولاق وهم من الحسين، هنا عزتك وكرامتك.
وحدق في وجهها بعينيه الصغيرتين النهمتين وتمتم: وهنا من يحبك أكثر من نور عينيه.
51
لا دائم إلا الحركة، هي الألم والسرور. عندما تخضر من جديد الورقة، عندما تنبت الزهرة، عندما تنضج الثمرة؛ تمحى من الذاكرة سفعة البرد وجلجلة الشتاء.
52
كل ما يحدث مألوف لا ينكره عرف ولا دين. والقشرة الصلبة تنطوي على سائل الرحمة العذب مثل جوزة الهند. هكذا انتقل رمانة وقرة ووحيد من بولاق إلى دار خضر الناجي. لم يدرك الغلمان ما يراد بهم. أجهشوا في البكاء فبكت محاسن بحرارة. بررت قرارها بزعم أن آل الناجي هددوها بالالتجاء إلى القضاء. اعتذرت عن سلوكها ولكنها حزنت بصدق ومن الأعماق. نبض قلبها بالعواطف المتناقضة مثل مشمشة حلوة النسيج مرة النواة. ثمة إيثار الأبناء بالنعمة والتضحية بهم في آن. ثمة صراع بين الوفاء لسماحة ومحاسبته الدائمة على خداعها، ثم تركها وحيدة، وثمة صراع أعنف بين الصبر والحرمان من ناحية، وبين الاستسلام لتيار الحياة المتدفق من ناحية أخرى. بين الزلل والفتنة، وبين الحق الشرعي لغريزة نهمة. أقنعت نفسها بأنها امرأة ضعيفة وأن عليها أن تتصرف من منطلق الضعف والمحافظة على السلوك السوي. وأيدها في تفكيرها شيخ الزاوية وشيخ الحارة وكثرة من الجيران. - لا خير في الوفاء لقاتل. - ولا خير في بقاء شابة جميلة بلا زوج.
وهل يمكن أن تنسى ما التصق بالمرحومة أمها من سوء السمعة؟ إلى ذلك كله فإن زواج امرأة من مخبر أمر مرغوب فيه من غالبية أهل الحارة.
هكذا سلمت محاسن أبناءها إلى أهل سماحة، وهكذا حصلت على الطلاق من سماحة القاتل الهارب.
53
وتم زواجها من المخبر حلمي عبد الباسط في جو من الترحيب والمرح. جددت جهازها ولكنها لبثت في شقتها، وظلت تعمل في دكانها لتحافظ على استقلالها وكرامتها كثالث زوجة في حياة الرجل. ووجدت عناء في الانتقال من معاشرة سماحة إلى معاشرة عبد الباسط، ولكن الجديد يطمس القديم عادة ويغطي على ذكرياته، وبخاصة إذا تمتع بجدارة ذات شأن؛ لذلك ألفته مع الأيام، وأحبته، وأنجبته له. ودأبت على زيارة رمانة وقرة ووحيد في دار خضر. تستقبل بالترحاب والاحترام من أهل الدار، وبالحب الشديد من الأولاد. ووجدت أنهم يتأقلمون بسرعة، ويتبدون في صورة مختلفة، ولكنهم لا ينسون أمهم ولا ملاعبهم ولا أقرانهم، ولا حتى أباهم الذي طال غيابه. ولكن بمرور الأيام وكثرة الإنجاب تباعدت الفترة بين الزيارة والزيارة، وطالت أكثر مما يتوقع حتى ندرت، وذهب الأولاد لزيارة أمهم في الدوكار ولكن عبد الباسط استقبلهم استقبالا جافا جعلهم لا يفكرون مرة أخرى في تكرير الزيارة. وأخذت العلاقات تفتر حتى أنذرت بالقطيعة، حتى حصون القلوب يغزوها الزمن بانسيابه بين النعومة والصرامة.
54
لم ينفق عبد الباسط من نقوده إلا في أيام شهر العسل، ثم قال لها بصراحة حادة: أنت غنية وأنا فقير، والتعاون مشروع بين الزوجين.
واحتجت على موقفه، واعتبرته استهانة بحبها، ولكن لم يجد الاحتجاج شيئا. كلاهما يتسم بالعنف والعناد، وهي لا تفكر في التضحية بحياتها الزوجية الجديدة بعد أن عانت في سبيلها ما عانت.
ولم يقنع عبد الباسط بذلك فكان يقترض منها عند الضرورة، وتراكمت القروض دون أن يلوح أمل في السداد، ونشبت بسبب ذلك خصومات وتبودلت لعنات. الضرب أيضا تبودل، والعنف احتدم أيما احتدام، ولكن تيار الحياة لم ينقطع. وحملت أمواجه المتتابعة الملاطفات والتنهدات والرغبات مع السباب واللطمات. وجاء الوليد في أعقاب وليد حتى اكتمل لها ستة. الشيء الوحيد الذي لم يمسه التغيير كان حرصها الأبدي على أنوثتها وجمالها.
55
وتمر الأيام، وتنمو الحياة وتتفرع، وتتجمع المصائر في الأفق.
56
وكان سماحة بكر الناجي يعاني الحياة وهو يسمع صلصلة عجلة الزمن تجد وراءه. إن الإنسان يشقى بساعة انتظار، فكيف إذا صارت الحياة كلها مفرغة إلا من انتظار متواصل؟ ومن أول الأمر صمم على ألا يقيم في مكان واحد. عمل بائعا سريحا يجول بين القرى، مرسلا لحيته وشاربه، مخفيا عينه اليسرى بزعم العور. وظل يسجل مرور الأيام في دفتره السري، ويسجل أيضا أعمار أولاده رمانة وقرة ووحيد. وتركزت أوقات فراغه في تذكر أسرته، محاسن وأولادها. وفي أعقاب الجهد والعناء، قبيل النوم، يتعزى بالأحلام. الحلم باليوم الموعود، يوم النجاة من المشنقة والعودة إلى الأهل، يوم يرجع إلى حارته مشهرا عصا التأديب، باعثا من ظلمات الحاضر عهد الناجي بعدله المرموق. وتحدثه نفسه أحيانا إذا اشتد خفقان قلبه بالحنين أن يزور أهله متخفيا في ثياب امرأة، ولكنه يكظم أشواقه، وينثني عن عزمته، متقهقرا أمام العواقب الوخيمة الجديرة بإهدار صبر الأعوام.
وعاش وحيدا، بل عاش في ظل أطياف متجسدة لا تبرحه. أطياف الظلم والحنان والحرمان والخوف المستمر من انكشاف أمره. واعتاد محاورة نفسه وأطيافه. يحاورها من خلال الصمت، أو بصوت يسمعه الخلاء والشجر والنيل. وجن مرة إذ خيل إليه أنه يرى محاسن. وحلم مرة بأنه التقى بمحمد توكل في سوق الدومة. وخير أحلامه ما رأى فيه سيدنا الخضر، ومن عجب أنه لم يبق من الحلم شيئا سوى ثقل في القلب وحزن في الوجدان، وأمل غامض، وقال لنفسه: إنه لا يجيء إلا لخير.
وقال أيضا: لا يوجد ألم بلا معنى، وسوف يجيء الضياء ذات يوم. الحق أنه كان قد فقد كل شيء؛ فإن شجاعته لم تنضب وقوته لم تهن. لعله يزداد بالإصرار شجاعة وقوة، ويزداد بالشجاعة والقوة إصرارا، ولكن ماذا صنعت الدنيا بمحاسن ورمانة وقرة ووحيد؟ سيرجع ذات يوم فيجدهم رجالا في الدكان. سينظرون إليه بذهول أول الأمر، ولكنه لا يمكن أن يمحق من ذاكرتهم.
وكلما مر عام تنهد قائلا: ها هو الجبل يتزحزح!
57
وكان العام الأخير أشد الأعوام عذابا، وكلما مر منه يوم اشتد العذاب. إنه يستمسك بالصبر ويلاطفه ويتوسل إليه أن يثبت حتى الدقيقة الأخيرة. إنه يصارع الألم بعنف لا هوادة فيه، يغرق أفكاره في هموم الحياة اليومية ولكنها تأبى إلا أن تغرق في مجرى الزمن، أن تتابعه لحظة بعد أخرى، أن تندس في اللحظة حتى تتضخم فتصير دهرا، حتى تنغرز في أساس التجمد وتنعدم الحركة تماما.
58
ولم يبق إلا يوم واحد. صباح الغد وينتهي كل شيء. سينطلق إلى العمل لكي ينسى، ولكنه عجز عن العمل، عجز عن أي شيء إلا معانقة الزمن. عزيمته تتبدد وتتبخر. ويقول بصوت مرتفع كأنما يستمد من ارتفاع الصوت قوة ويجعل منه تعهدا أمام الكون: سأبيت ليلتي هنا، ثم أذهب مع الصباح إلى البيت.
ولكن تمردت أعصابه على حيلته. هزئت بتعهده. أرسلت أوامرها إلى أعضائه فكفت عن العمل، فلا طعام ولا شراب ولا حلم. راقب قرص الشمس المدقوق في السماء. جفت آخر قطرة للصبر.
سيبيت الليلة في حضن أسرته. وقذف بنفسه صوب الأمل.
59
سمعت محاسن طرقا خفيفا على الباب.
كان الأولاد قد ناموا على الشلت في الصالة، وكانت قد تزينت وتأهبت للنوم.
من الطارق والليل يكاد أن ينتصف؟
فتحت الباب عن زيق فرأت شبحا فسألته: من؟
دفع الباب فانقض عليها. هكذا خيل إليها. قبل أن تصرخ أطبق على فيها. صارا كائنا واحدا تحت ضوء المصباح المشتعل في الكوة. رفع فاه مطبقا براحته على فيها وهو يقول: أنا سماحة يا محاسن، سماحة رجع!
عند ذاك سحب راحته فراحت تحملق في وجهه المغطى بالشعر بذهول. - ليطمئن قلبك، سماحة رجع، انتهى العذاب!
لم تخرج من ذهولها، فقال: انقضت المدة، لم يبق إلا ساعات، خانني الصبر.
هنا ظهر حلمي عبد الباسط في باب الحجرة وبيده جندرة وهو يقول: جئت لقضائك، سلم نفسك.
تلقى سماحة ظهوره كضربة فوق يافوخه. تمتم: من هذا؟ رجل في حجرتك! ما معنى هذا يا محاسن.
لاذت محاسن بزوجها. ازدردت ريقها وقالت: إنه زوجي.
وأشارت إلى الأولاد الذين رآهم لأول مرة وقالت: أبو هؤلاء.
ارتفعت يسراه، ثم انحطت فوق رأسه والأرض تميد به، وراح يقول : حقا؟ زوجك! ما تصورت شيئا كهذا!
ولوح عبد الباسط بالجندرة قائلا: سلم نفسك، أنا مخبر النقطة! - حقا؟!
وتشنج بنوبة من الضحك، فصاح عبد الباسط: إذا قاومت حطمت رأسك.
فهمست محاسن: دعه يذهب.
فقال لها بلهجة آمرة: صوتي في النافذة.
وبسرعة انقض سماحة على طفل فرفعه بيد وأطبق بالأخرى حول عنقه، وقال والطفل يصرخ: حذار، لا حركة ولا صوت وإلا هلك الطفل.
صرخت محاسن: دع ابني يا مجرم! - لا حركة ولا صوت، لا تهاجم ثعبانا جريحا. - اترك الولد. - هو بخير ما دمت بخير.
قالت محاسن: رمانة وقرة ووحيد في كفالة عمك.
فهز رأسه وهو يقول: طيب، ولكن الويل لمن تحدثه نفسه بتسليمي إلى المشنقة.
فتوسلت محاسن إلى زوجها قائلة: دعه يذهب.
فقال عبد الباسط بنبرة تسليم: فليذهب إلى الجحيم. - ارم الجندرة أولا.
رمى عبد الباسط الجندرة. هرعت محاسن إلى سماحة فأخذت الطفل. وبسرعة التقط عبد الباسط الجندرة ورمى سماحة بها فمست قمة رأسه. لم يكن التسديد محكما، وقد أصاب اللاثة، فالتقط سماحة بدوره الجندرة وانقض على الرجل وضربه ضربة صادقة على عنقه فتهاوى على الأرض فاقد الوعي.
غادر البيت وثبا وصوات محاسن يلاحقه. عندما بلغ الطريق كان بعض الساهرين يتجهون نحو مصدر الاستغاثة. اندفع بكل قوته نحو الطريق الموصل إلى النيل، وسرعان ما بدأت مطاردة من نوع جديد، ولكنه وثب إلى قارب وراح يجدف مبتعدا عن الشاطئ.
وعند منتصف النهر جاءه صوت غير غريب، صوت شيخ الحارة وهو يصيح به: سلم نفسك يا سماحة، قتلت حلمي عبد الباسط مخبر الحكومة.
60
صاح خضر سليمان الناجي وهو يرنو إلى سماحة: سماحة أخيرا!
تعانقا عناقا حارا، ثم هتف خضر: طالما حلمت بيوم النجاة فالحمد لله رب العالمين، دعني أوقظ رضوان.
ولكن سماحة أمسك بيده وتمتم: الأولاد؟ - انتظر حتى الصباح. عليك أن تحلق لحيتك أولا.
فهمس سماحة بإصرار: الأولاد.
61
اقترب من الأسرة المتجاورة وهو يرنو إلى الوجوه الهائمة في وادي النوم المجهول. ثغور مفترة، وأقنعة متحررة من حركة الزمن، وملامح صبا واشية بحرارة المراهقة، وبذور ناضجة يكمن في نواتها مستقبل غني بالمتناقضات.
أطل الحنان من عينيه مبللا بالدمع، وتدفق الشوق في حناياه ينبوعا ساخنا، واهتزت جوارحه حتى شهق.
ضغط على شاربه ولحيته ليحرر شفتيه، فهمس خضر في أذنه: أخاف عليهم الفزع.
ولكنه لثم الخدود بخفة ورشاقة وهو يراقب حركات صغيرة سريعة غامضة، ثم تراجع بهدوء وحذر وأسى.
62
وقال له خضر: عليك أن تنام.
فقال وهو يهز رأسه: لا وقت للنوم. - ولكنك متعب جدا يا سماحة. - وأمامي تعب بلا نهاية.
فراح يحدثه عن موت الفللي منذ عامين وحلول الفسخاني محله، عن موت دجلة أيضا وحمودة، وسجن عنتر وفريد، وسماحة يتابعه بلا اكتراث.
ووضع يده على منكبه وقال: ما زلت مطاردا يا عمي.
فتساءل خضر بانزعاج: ألم تنقض المدة؟
فقال وهو يتنهد: اضطررت إلى قتل وغد منذ ساعة!
63
في طريقه إلى الاختفاء وقف في الساحة أمام التكية. ها هو يمتلئ برائحة الحارة وأنفاسها، ولكن أين النشوة؟ كم حلم بهذه الوقفة كمنطلق لدفقة جديدة من الحياة، تؤدب الأوغاد وتبعث روح العهد! ما هي الليلة إلا بدء رحلة طويلة جديدة في دنيا العذاب والمطاردة. سيرجع إذا رجع شيخا بلا حول.
ومضى نحو الممر والأصوات تترنم في جلال الليل:
درد مارا نيست درمان الغياث
هجر مارا نيست بابان الغياث
قرة عيني
الحكاية الخامسة من ملحمة الحرافيش
1
كان لعودة سماحة بكر الناجي المباغتة واختفائه الخاطف زلزلة عنيفة في نفوس آل الناجي والحرافيش. ولعل أبناءه كانوا أقل الناس تأثرا إذ إنه جاء وذهب وهم نيام، فضلا عن أنه لم يعد بالقياس إليهم إلا ذكرى باهتة مثل ذكرى أمهم محاسن البولاقية. ورويت مأساته بالطول والعرض فأصبحت أسطورة وموعظة.
2
وانتظم رمانة وقرة ووحيد في العمل بمحل الغلال مع عمهم رضوان وعم أبيهم خضر. وترامى إلى الحارة خبر عجيب يقول إن المخبر حلمي عبد الباسط لم يمت كما توهم المتوهمون. وإنه شفي من ضربة الجندرة، وواصل حياته في خدمة الحكومة والبلطجة على محاسن. عند ذاك تجلى العبث في هرب سماحة، واشتد الحزن عليه، فهب خضر للبحث عنه. من أجل ذلك سعى سعيه لدى مأمور قسم الجمالية، من أجل ذلك فاوض فتوة الحارة «الفسخاني»، مضاعفا له الإتاوة وواعدا إياه بمكافأة مغرية، ومن أجل ذلك أيضا رصد مكافأة كبيرة لمن يعثر عليه.
وأثار نشاطه ريبة الفسخاني. وذكره رجال من أعوانه بتطلع سماحة إلى الفتونة، فقلق الرجل وقلق معه وجهاء الحارة وأعيانها.
وما تدري الحارة إلا والرجل الطيب خضر يعثر عليه مثخنا بالجراح في عطفة الكبابجي حيث كان في سهرة أخرته لما بعد منتصف الليل. ولم يجد الإسعاف في إنقاذ الرجل، فقضى نحبه عقب يومين من الحادث. ورغم إجماع القلوب على معرفة المجرمين فقد قيد الحادث كالعادة ضد مجهول، وضاع خضر مثل ذرة من رمال.
3
زلزل آل الناجي لمصرع عميدهم، وعدوا ذلك نهاية من نهايات الهوان المقدر عليهم. رغم ذلك استسلموا لقدرهم وأقروا بعجزهم، غير أن وحيد - ابن سماحة الأصغر - غضب غضبة مجنونة أنذرت بوخيم العواقب.
قال بحنق: قاتل عمنا يمرح ويدعى الفسخاني!
وتساءل بمرارة: أكان عاشور الناجي يتصور هذه النهاية لذريته؟
ومثله في الانفعال كانت ضياء أرملة خضر، ولكنها انفعلت بأسلوبها الموائم. دفعتها الجريمة فتهاوت في أحضان المجهول، جفلت من عالم الإنس، لقنت لغة الجماد والطير، واحتمت من نصال الألم بكهف الأشباح. صارت شيخة، الحلم رؤيتها، والفنجان نافذتها، والنبوءة الغامضة ترجمانها. وعشقت الجلباب الأبيض والخمار الأخضر والمبخرة النحاسية، تتهادى عند الأصيل بين الساحة والميدان، تنفث الدخان العطر، تلوذ بالصمت، تتبعها جارية، تحدق بها الأعين.
ويسخر رجال من رجال الفتوة فيقول قائلهم: ذلك آمن من الطمع في الفتونة.
وآلم سلوكها الشبان، كما آلم رضوان وزوجته أنسية وشقيقته صفية، ولكنهم عجزوا عن ترويضها. حتى وحيد الغاضب قال لها: دارك يا امرأة عمي. الزمي دارك إكراما لذكرى عمنا خضر.
فنظرت إليه ببلاهة وقالت: رأيتك في نومي متمطيا جرادة خضراء.
فيئس وحيد من مناقشتها، ولكنها سألته: ألا تدري معنى ذلك؟
فلم يكترث، ولكنها قالت تجيب نفسها: إنك خلقت للهواء!
4
وبقوة الغضب اخترق وحيد جدار الحذر. ما أضجره بمحل الغلال! ما أبعده عن رمانة وقرة! تقول الشيخة إنه خلق للهواء. ترى هل يصلح للتحدي؟
كان متوسط القامة وسيما رغم عوره، قويا ولكنه بالقياس إلى الفسخاني مثل هرة بالقياس إلى خروف. لم يندفع في مغامرة، ولكنه يضطرب كثيرا بحركة غامضة وقلق معذب. طالما قال له عمه رضوان: احذر الخيال وأقبل على العمل.
وطالما قالت له عمته صفية: لا تؤول أحلام ست ضياء على هواك.
وانحرف عن خط الأسرة فصادق شيخ الحارة محمد توكل رغم فارق السن، وسهر معه كثيرا في غرزة الصناديقي. وأنشأ علاقة طيبة مع صديق أبو طاقية الخمار من خلال تردده بين حين وآخر على البوظة. له صبوات في العربدة، ولكن لم تفته أبدا صلاة الجمعة، حتى قال له مرة الشيخ إسماعيل القليوبي: هل يجمع الله في قلب واحد بين الخمارة والزاوية؟
فتساءل وحيد بمرارة: ألا ترى قاتلا يمرح وبريئا يتعذب في الغربة؟!
5
وفي أعقاب ليلة معربدة رأى حلما طويلا. رأى نفسه في الساحة أمام التكية ولم يكن من المولعين بالساحة. وجاءه درويش فقال له: الشيخ الأكبر يخبرك بأن العالم قد خلق فجر الأمس.
فصدقه وحيد ثملا بسعادة تفوق التصور. وحمل على هودج فراح يشق الحارة بين صفين من الرجال والنساء. ورأى أمه محاسن البولاقية وهي تشير إليه وتقول: اصعد.
فارتفع به الهودج، فحملته الريح إلى خلاء يحدق به جبل أحمر. ووجد نفسه يتساءل: أين الرجل؟
فانحدر عملاق من سفح الجبل وقال له: اثبت في مركز النجاة.
فقال له بيقين: إنك أنت عاشور.
فتناول ساعده ودلكه بدهان قائلا: هذا هو السحر!
6
عندما استيقظ وحيد وجد نفسه مفعما بإلهام. أذعنت له القوة والتفاؤل والنصر. لم يشك في أنه قادر على المعجزة، وأنه يستطيع أن يقفز من سطح الدار إلى الأرض دون خوف من الكسر.
أطاع الريح الهوجاء فارتدى ملابسه ومضى من توه إلى مجلس الفسخاني بالقهوة. رماه بنظرة قاسية وقال له: إني أتحداك أيها المجرم!
رفع الفتوة جفنيه الثقيلين. تصوره مجنونا. رحب على أي حال بالبطش بأحد أشبال الناجي. سأله: مسطول يا ابن القديمة.
فبصق على وجهه.
ووثب الفسخاني قائما. تجمع خلق للمشاهدة.
لم يتردد وحيد. انقض على الفتوة، وبكل قوته ضربه بيده المسحورة في عنقه فتقهقر الرجل حتى وقع على ظهره وهو يشهق. خطف وحيد نبوته وضربه على ركبتيه فشله. والتحم مع نفر من أتباعه فجندلهم بقوة وسرعة مذهلتين.
لم ينقض النهار حتى كان وحيد سماحة الناجي فتوة للحارة!
7
عصفت الدهشة بالحارة.
خفقت قلوب الحرافيش بالأمل. اضطربت خواطر الوجهاء بالخوف. حلمت أسرة الناجي بالعرش المضيء. ومضى وحيد ينوه بالحلم الذي رآه، والمعجزة التي أحدثتها يده المسحورة، والثقة الخارقة في النصر التي هونت عليه مجابهة الموت. وسرعان ما أحس حرارة الأمل المتطلعة إليه، وبرودة الخوف المتوجسة منه، ولكنه آثر التمهل والتدبر، فترك الأمور تسير في طريقها المعهود عدا نفحات جاد بها على المعسرين من الحرافيش.
وسأله عمه رضوان: متى تحقق حلم أبيك الغائب؟
فأجابه بحذر: خطوة خطوة، وإلا أفلت زمام العصابة من يدي. - هذه سياسة لا بطولة يا ابن أخي.
فقال بغموض: رحم الله امرأ عرف قدر نفسه.
ولم يفقد رضوان الأمل، على حين طال بوحيد التأمل. وكلما مضى يوم تذوق جلال الفتونة، ونعمة الثروة، ومداهنة الوجهاء، وأخذ يستسلم لتيار الإغراء، فتقوى في نفسه نوازع الأنانية، وتضعف أحلام البطولة والعهد. وإذا به يشرع في إنشاء دار خاصة به، ويتمتع بكل جميل وطيب في الحياة، ويولع أكثر بالبوظة والمخدرات، ويتمادى في ممارسة شذوذه حتى خرج به من السر إلى العلانية، حتى قال رضوان لزوجته أنسية: أليس الأفضل أن يكون الوغد من غيرنا!
وتذكر الحرافيش تدهور سليمان الناجي، فقالوا إن الشر وحده هو ما يورث في آل الناجي. وتألم لذلك قرة كما تألم عمه رضوان، أما رمانة فقال: حسبنا العزة التي عادت إلى الناجي.
وكان رمانة يشبه أخاه وحيد في تكالبه على المسرات واستهانته بعهد الناجي القديم. وأطلق وحيد على نفسه «صاحب الرؤيا»، ولكن الحرافيش دعوه سرا بالأعور. وعرف بشذوذه فلم يتزوج، وأحاط نفسه بفتية مثل المماليك؛ هكذا استقرت فتونة وحيد الأعور.
8
تعب قلب رضوان. غدا العمل يرهقه رغم أنه كان دون الأربعين. ما أسرع أن يتصبب عرقا باردا وتظلم الدنيا في عينيه! وتراكمت فوقه الأحزان بسبب مأساة أخيه سماحة وسلوك وحيد؛ لذلك عزفت نفسه عن التجارة والحياة، ومال إلى العزلة والعبادة. هكذا هجر المحل تاركا إدارته لرمانة وقرة.
9
احتل رمانة وقرة حجرة الإدارة، يشتركان في عمل واحد وقلباهما مفترقان. كان قرة وسيما، تشع من عينيه جاذبية، ورث من أمه محاسن دقة قسماتها ورشاقتها، فضلا عما عرف به من تهذيب واستقامة، كأنه شمس الدين في جماله وعذوبته دون قوته. أما رمانة فكان قصيرا بدينا مثل برميل، غامق اللون غليظ القسمات، به استهتار وخشونة. وكان قرة أقدر منه في الإدارة والتجارة، وأنقى منه في المعاملة، وقد أحبه العمال لسماحته وجوده. وكان رمانة يخالط أخاه وحيد في الغرزة، ويتورط في المغامرات بنهم، وينتقد - إذا سكر - شقيقه قرة حاسدا وساخرا.
قال مرة لقرة: إنك تبدد مالك لتشتري به حب العمال، أي حكمة في هذا؟!
فقال له قرة: العطف ليس تجارة. - ماذا هو إذن؟ - جربه يا رمانة!
فضحك ساخرا وهو يقول: ما أنت إلا ماكر.
ورغم أن قرة كان يصغر رمانة بعام إلا أنه كان يشعر بأنه مسئول عنه، حتى عن وحيد كان يشعر بمسئوليته أيضا. وضاق رمانة ووحيد بمثاليته. وغضب وحيد مرة فقال له: صرتم سادة الحارة بعد أن كنتم أذلاءها، ألا تقر لي بهذا الجميل؟
فقال له قرة بحدة: وما فقدنا سمعتنا القديمة إلا بك.
فقال بحنق أفقده ضبط النفس: لا أصدق الخرافات!
فتساءل قرة ساخرا: ألست «صاحب الرؤيا»؟
فغادره ساخطا محتدما.
كذلك ساءته مغامرات رمانة، فقال له يوما: تزوج، أكرمنا بزواجك.
فقال له رمانة بحنق: أنت أخي، أصغر مني بعام، لا تسع للتسلط على حريتي.
وقلق رضوان مما لاحظ بين الشقيقين من منافرة، فقال لقرة: يهمني أن يستقر الوئام بينك وبين أخيك.
وقالت له عمته صفية: بنا من الجروح ما يكفي، ولن تغير الكون.
هذا وما زالت الشيخة ضياء تتهادى بمبخرتها في الحارة كل أصيل ، تناجي المجهول، دامعة العينين.
10
وكان قرة عائدا إلى الدار ليلا عندما اعترضته في الظلمة عجوز وهي تقول: مساء الخير يا معلم قرة.
فرد تحيتها متعجبا، فقالت له: ثمة من ينتظرك الآن في ساحة التكية.
فثار في نفسه حب الاستطلاع وتساءل: من؟ - ستي عزيزة كريمة المعلم إسماعيل البنان!
11
تبع العجوز يشقان الظلمة الكثيفة تحت القبو حتى خرجا إلى ظلمة الساحة المشعشعة بأضواء النجوم. كان الزمان صيفا والنسمة لطيفة وانية، وعذوبة الأناشيد تملأ الجو. قادته العجوز إلى شبح واقف تحت السور العتيق. لم يتبين منها شيئا، ولم يكن رآها أو سمع عنها من قبل. ولما طال السكوت همس مشجعا: إني في خدمة الهانم.
فجاءه صوت ناعم مضطرب النبرة يقول: أشكرك.
ثم مستدركة في توسل: لا تسئ بي الظن! - معاذ الله.
وحجز السكوت بينهما كالأول، فأدرك أنها تنادي شجاعة مفتقدة، وذهبت به الظنون كل مذهب، حتى اضطر إلى أن يقول: إني مصغ إليك.
فقالت وهي تزداد اضطرابا: سمعتك كالورد، وما هي إلا كلمة واحدة، فليعني الله على قولها. - إني أصغي إليك بكل اهتمام. - أخوك رمانة.
وانقطع الصوت كأنه اختنق فخنق قلبه. تبددت ظنون، حل محلها الظلام، تمتم: أخي رمانة؟
بدت عاجزة عن مواصلة الحديث، وتخايلت الحقيقة مثل حشرة تزحف في الظلام. عند ذاك همست العجوز: كان قد وعدها بالزواج. - هكذا!
فقالت العجوز: إن لم يف بوعده في الحال حق علينا الهلاك!
وابتعد الشبحان. وصوت نحيب مكتوم يتكلس حول طبلة أذنه.
12
وتناول عشاءه مع عمه رضوان وزوجه أنسية. ضياء لا تبارح جناحها، ورمانة دائما في سهرة خارج الدار. وقال له عمه: لست كعادتك.
فتمتم: إني بخير.
فقالت أنسية: لست كعادتك ورأس الحسين!
كيف يبدأ الكلام؟ رأى أن يفاتحهما بالأمر. هكذا تصور وهو عائد من الساحة. إنه الآن يتراجع، قوة تمنعه وتحذره. لقد أودعته الفتاة سرا وعليه أن يصونه. يجب أن يبدأ برمانة رغم كراهيته لذلك.
13
نامت الدار ولكنه لم ينم. رجع رمانة قبل الفجر بساعة واحدة.
رأى عينيه محمرتين ثقيلتين بالخمار. أدرك في الحال صعوبة مهمته، ولكن كيف يتصرف وهو يعلم أنه يستيقظ في الضحى، وأنه - قرة - يفتح المحل في الصباح الباكر، وأن حجرة الإدارة لا تتسع لمثل هذا الحديث؟ - ماذا أيقظك؟
فمضى به إلى حجرته. ارتمى على ديوان وهو يقول في حذر: موعظة الفجر؟
فتجاهل سخريته وقال برقة: عندي حديث هام أرجو أن يتسع له صدرك يا رمانة. - حقا؟! - هذا مؤكد!
فقال بتربص: تحت شرط ألا يكون له علاقة بالأخلاق! - لا شيء مقطوع الصلة بالأخلاق.
فقال بعناد: أرفض الاستماع. - صبرك. ليس كما تتصور. إنه أمر يهمك أكثر مما يهمني، ولا يمكن إهماله. - أثرت فضولي؟
فوضع راحته على منكبه برقة وهمس: إنه يتعلق بعزيزة!
تراجع رأس رمانة كأنما ضرب بحجر وتمتم: عزيزة؟! - كريمة إسماعيل البنان. - لا أفهم شيئا، ماذا تريد أن تقول؟!
فقال بهدوء ناعم وقوي في آن: عليك أن تتزوج منها، وفي الحال!
أزاح اللاثة عن رأسه. تخلص من راحة أخيه بهزة من منكبه وقال بحدة: لا حياء! أين الحياء؟! كيف اتصلت بك؟! - لا يهم، المهم أن نمنع وقوع مأساة.
فقال بسخرية: لا مأساة إلا في خيالك! - أعتقد أنها مأساة حقيقية.
فقال رمانة وهو ينفخ: كلا، لا رغبة لي في ذلك! - لم لا؟ لا شك أنها أعجبتك مرة، ثم إن أباها وجيه حسن السمعة!
فقال ببرود: لا ثقة لي فيمن تستسلم! - أيا ما كان الرأي فثمة أحكام للشهامة أيضا. - أي شهامة؟! ... إني أحتقر ذلك.
فقال برجاء: المطلوب الستر، ثم افعل بعد ذلك ما بدا لك.
فهز رأسه في حيرة وقال: ثمة عقبة في الطريق. - ما هي؟ - حب بيني وبين شقيقتها رئيفة!
فقال قرة بجزع: لا يمكن أن تذبح واحدة ثم تتزوج من الأخرى.
فغمغم بكلام غامض، فقال قرة: وربما علمت رئيفة بالمأساة ذات يوم. - إنها تعلم بالفعل! - وتوافقك على ما تريد؟
فهز رأسه بالإيجاب، فقال قرة: إنها لشريرة يا أخي. - بل هي مثلي تحتقر من تستسلم! - ولكنها شقيقتها!
فقال بحنق: لا توجد الكراهية الحقة إلا بين الإخوة والأخوات!
فجفل قرة، ثم غضب وهتف : عليك أن تتزوجها في الحال.
فصاح به: لا أسمح لك!
ونهض متحديا، مضى وهو يقول: إن تكن رحيما حقا فتزوجها أنت!
14
تسقط الأمطار فوق الأرض ولا تتلاشى في الفضاء. وتومض الشهب ثانية ثم تتهاوى. والأشجار تستقر في منابتها ولا تطير في الجو. والطيور تدوم كيف شاءت ثم تأوي إلى أعشاشها بين الغصون. ثمة قوة تغري الجميع بالرقص في منظومة واحدة. لا يدري أحد ما تعانيه الأشياء في سبيل ذلك من أشواق وعناء، مثلما تتلاطم السحب فتنفجر السماء بالرعود.
وقد فكر قرة في همه طويلا، وقال لنفسه إنه ما عليه من بأس إن هو مضى في سبيله وقد بذل ما في وسعه من جهد. ماذا في وسعه أن يفعل أكثر مما فعل؟ ولكنه لم يستطع أن يمضي على هواه. استغاثة عزيزة تتردد مع الأناشيد، راسخة مثل السور العتيق. نحيبها متكلس حول طبلة أذنه. إنه مسئول، وآل الناجي أيضا، حتى عاشور المعجزة، لا يستطيع أن يهز منكبيه ويمضي. تشده القوة الجاذبة. لن يكون أكثر حرية من الطير والشهاب والمطر. إلى مركز العذاب والمعاناة، إلى جحيم القوى المتخاصمة المتعادلة. - إن تكن رحيما حقا فتزوجها أنت!
الوغد يتحداه. الوغد يمتحنه. الوغد ينتقم منه؟ أهذا هو حظه من الزواج؟ كلا وألف مرة كلا. ولكن أين المفر؟! إنه يحتقر الاستسلام، ولكنه أيضا يقدس العذاب. كأنه قدر لا يتزحزح. ولكن ألم يقل للوغد: المطلوب الستر ثم افعل ما بدا لك.
أجل إنه الستر أولا، ثم يفعل ما بدا له.
15
قال لعمه رضوان: قررت أن أكمل نصف ديني!
فضحك الرجل وقال: رمانة سبقك في ذلك بساعة واحدة!
فخفق قلبه مؤملا أن يكون الله قد هداه، فسأل عمه: من يا عمي؟ - رئيفة كريمة إسماعيل البنان.
فخاب أمله وصمت، فسأله رضوان: وأنت؟
فرسم ابتسامة على شفتيه متظاهرا بالدهشة وقال: يا للمصادفة العجيبة! تصور يا عمي أني أريد شقيقتها عزيزة!
فضحك رضوان ضحكة عالية وقال: فليبارك الله لكما. إني سعيد، وإسماعيل البنان جار نبيل وتاجر أمين.
16
لم يتطهر بالقرار من هواجسه . الغبطة مازجها قلق وجفاء، كما يغرق المطر النقي في الوحل. وضاعف من أساه اطلاع رمانة ورئيفة على سره. وإلى ذلك فقد خاف أن تأبى عزيزة يده المجللة بالإحسان وتدهمهم بكارثة، ولكن جاء البشير بالرضا. وانغرز النصل الطاهر الحامي في اللحم حتى النخاع.
وتعجل الأمر بصورة أذهلت الجميع وأثارت الدعابة.
17
زفت عزيزة ورئيفة إلى قرة ورمانة في عرس واحد. عرس ابتهجت له الحارة كلها. وفي حفل الزفاف رأى قرة الشقيقتين لأول مرة في حياته. هاله تماثلهما كأنهما توءمتان. توسط في الطول والامتلاء، لون خمري نقي البشرة، سواد عميق في العينين، تناسق بديع في القسمات. وفتش عن فروق بين الاثنتين حتى ظفر به في ثغرة في ذقن عزيزة وهي الكبرى، وامتلاء أشد في الشفتين. هذا كله لا وزن له، ولكنه عثر على فارق ملموس في نظرة العينين المتماثلتين؛ نظرة عزيزة ثابتة وهادئة موحية بالطمأنينة، أما نظرة رئيفة فقلقة خاطفة البريق كأنما تستقرئ أعين الآخرين بلا توقف، ويلوح فيهما ذكاء أسود، فسرعان ما توكد في قلبه النفور منها. ولم تحاول إخفاء فوزها، ولعله الوحيد الذي أدرك ذلك، أما عزيزة فكانت تنظر طول الوقت إلى حذائها الأبيض المزين بالأطلس والترتر. وقال لنفسه إنها عروس غير سعيدة، وهو أيضا عريس غير سعيد، وسوف يهون ذلك عليهما اتخاذ القرار المتوقع. ومضى بها إلى الجناح المخصص لهما على دق الدفوف وغناء العالمة وهو يتساءل ترى ماذا فعل بنفسه؟!
18
ولما خلا إليها وجدها متعثرة في الارتباك حتى قمة رأسها. لا تجرؤ على النظر إليه ولا على إتيان أي حركة، بلا حول ولا كرامة، فريسة إحسانه. رق لها بقوة، وضاعف من رقته تأثره بجمالها الفتان الحزين. ولكنه لم ينس أن قلبها مغلق، وأنها غريبة تماما، وأن فستان الزفاف بمثابة بدلة السجين. ما هي إلا فترة عبور لا دوام لها. وفي هذه اللحظة تستكن رئيفة في حضن رمانة مفعمة بالرغبة والفوز. ترى ماذا عليه أن يقول؟ وأعفته من ذلك فجاءه الصوت الناعم قائلا: الشكر لك.
فرق أكثر وقال: إني آسف وحزين. - إني أشعر بفداحة الظلم الذي تتحمله.
فقال مجاملا: ولكنك تتحملين ما هو أفدح. - إنه خطئي على أي حال! - يا له من حديث في ليلة الدخلة. لم تند عن أحدهما حركة، حتى طرحة الزفاف بقيت في موضعها فوق الرأس، غير أنه تفرس في وجهها بحرية في غيبة من عينيها المنكستين، وتأثر أكثر بجمالها وجاذبيتها حتى اعترف فيما بينه وبين نفسه بأنه لولا شذوذ الظرف لالتهمها. وقال بهدوء: لن ترغمي تحت سقفي على شيء ترفضينه.
فقالت بحرارة: إني واثقة من شهامتك ولكني ..
وأمسكت لحظة، ثم قالت: ولكني أؤكد لك أنه لم يبق من الماضي إلا ذكراه المؤلمة.
ترى ماذا تعني؟ فيم تفكر؟ ألم تدرك أبعاد إقدامه على ما فعل؟ متى يصارحها بكل شيء؟ ومتى يتحرر من تأثير أنوثتها الطاغية؟ وتجاهل قولها، وقال متهربا ربما: إني أعجب لشقيقتك فهي لا تقل عن أخي سوءا!
فقالت بازدراء: ما أليقهما ببعضهما! - ماذا بينكما؟ - شر ولا شيء إلا الشر. - ولكن ما سببه؟ - تريد أن تستأثر بكل شيء؛ بالتفوق والحب، ولكني تفوقت، وتوهمت أن والدي يحبانني أكثر فأضمرت لي الحقد والكراهية. إنها فظيعة. - أخي أيضا فظيع.
ثم مستطردا: ولكنك ..
وصمت فقالت بحرارة: انتهى، أبصرت بعد عمى!
رباه. واضح أنها تعيش في حلم. وهي صادقة. حقا؟ أجل صادقة. ما قيمة ذلك؟ المهمة شاقة. وأي خوف من تأثير جمالها وجاذبيتها؟! الضعف في أعماقه أقوى من القوة في أنوثتها. ها هي ترفع عينيها لأول مرة فتلتقي العينان، ويواصل الشمع ذوبانه في الشمعدان الفضي.
سألته باستسلام: أود أن أعرف ما يجول بخاطرك!
يا لها من ليلة صيف دافئة! ولم ينبس. قالت: تراني غير لائقة بك؟!
فقال باندفاع: إنك صادقة وأصيلة ومحترمة! - أشكرك وأقدر عطفك، ولكن العطف لا يصلح أساسا للحياة!
إنه يناقش، يتعذب، ويقاوم الإغراء. سألها: ماذا يجول في خاطرك أنت؟
فقالت بحرارة وشجاعة استمدتها من الحديث: إني حرة، حرة تماما، ولكن كل شيء يتوقف عليك.
بصراحة قال: لا أنسى أنك طالبت بالزواج منه!
فبادرته: كان الخوف ورائي لا الرغبة ، صدقني.
فقال مخدرا: إني أصدقك!
فقالت بتسليم: ولكن لك الحق كل الحق في التصرف بما تراه لائقا.
أي هاوية؟ أي إغراء؟ أي جنون يعربد في قلبه؟ أي قلق؟ أي رغبة في دفن القلق؟ عند الأرق المعذب، يسف المؤرق الخشخاش، فينحسر الجبين عن ثغرة تسلل منها أنامل النوم الناعمة.
19
ومضت الأيام المتأججة بالصيف. استسلم قرة تماما وعشق عزيزة. آمن بأن الحب إذا شاء قهر التراث. ومثلت عزيزة ورئيفة دورهما بإتقان كشقيقتين، فلم تلاحظ أنسية شيئا يكدر البال. وفي حجرة الإدارة بمحل الغلال واصل قرة ورمانة عملهما، ولم يتبادل بينهما حديث إلا في شئون العمل. هكذا تجاور الحب والمقت.
وسرعان ما حبلت عزيزة. وشمل الفرح آل البنان وآل الناجي. قرة وحده تمنى لو تأخر الحبل. وتساءل متى بدأ؟ تسللت حشرة إلى قلب الزهرة النابض بالنضارة. أظلم المعبد المنير بروح شريرة. إبر الشك المحماة المسمومة. ولكنها لا تقرأ أفكاره. إنها تمرح في البراءة والحب الصادق. ولم يعد للتراجع موضع. إنه رجل حر وصادق وعاشق، وهو مؤمن أيضا وثقته بالله عظيمة. وأصبح رفيقا للسرور والألم.
20
لم لم تحبل رئيفة؟
تردد السؤال بقلق في دار آل البنان وآل الناجي. وانطحنت به رئيفة وعيناها تطفحان بالحنق. لا يؤخر الحبل إلا علة، فالطبيعة لا تعرف التأجيل. وحامت الشبهة كالعادة حول رئيفة. ولم يهدأ لأمها بال. واستفتيت الداية فأفتت بالمشورة تلو المشورة. وبمضي الأيام رسخ الخوف وتوكد الجزع فتجمعت سحب الأحزان.
وقال رمانة وهو ثمل في مخدعه: يا لها من ضجة!
فقالت رئيفة بحدة: لا يرحمون، إنه الجحيم.
قال رمانة ممتعضا: إنكما متماثلتان، فما النقص بك؟
فتملكها غضب شديد وتساءلت: ألهمك الله أن النقص بي وليس بك؟!
فقال غاضبا: إني رجل كامل! - ما من رجل إلا ويتصور ذلك!
فجن جنون غضبه المخمور وصاح: أجرب نفسي مع زوجة أخرى؟
ارتفع رأسها والتوى عنقها إلى الوراء مثل حية وتمتمت بازدراء: سكران!
فتمادى في غضبه قائلا: لعل لي جنينا ينمو في بطن أخرى.
فصاحت: مجنون! - احفظي لسانك القذر. - أنت أنت القذر .
فنهض مهددا فتراجعت متوثبة للدفاع، فلم يتحرك، ولكنه قال بحقد: شيطانة وعقيم!
كانت أول مشاجرة زوجية وقد دهش لعنفها.
ولكن رغبتيهما المتلاحمتين كانتا أقوى من الأعاصير الطارئة.
21
كان محمد توكل شيخ الحارة يجالس صديق أبو طاقية الخمار عندما مرت الشيخة ضياء بمبخرتها. فضحك الخمار وهمس: رجعت الفتونة إلى آل الناجي فلم تواصل المرأة المجنونة البكاء؟
22
في أوائل الربيع ونداءات الباعة تتردد بالملانة والعجور وضعت عزيزة طفلا أسموه عزيز. وطوقت الشواغل قرة حتى هدأ كل شيء، فرقدت عزيزة في فراشها وراح هو يحنو على الوليد متأملا. تأمله بقلب مضطرب بشتى الانفعالات المتضاربة. ورنت عزيزة إليه برقة وإعياء وفخار وتمتمت: ما أشبهه بك!
لم توكد ذلك؟ إنه لا يجد له شكلا ولكنها تتكلم ببراءة. لقد نسيت الماضي تماما وهي غريقة البراءة والحب. عاد الرفيقان - السرور والألم - يتجاذبانه. ولكنه كان مصمما على الحياة والسعادة.
23
ومحافظة على المظاهر زار جناحه رمانة ورئيفة. أهديا الوليد مصحفا مذهب الغلاف. وقال له رمانة: يتربى في عزك.
ورنت رئيفة إلى الوليد طويلا وهي تقول: ما أجمله!
وتقلص قلب عزيزة وهي ترى نظرة رئيفة فوق وجه عزيز. وتصرف قرة التصرف الطبيعي المرح. وطيلة الوقت سأل ربه أن يلهمه الصواب، أن يضيئه بالحقيقة، ألا يعرض حبه لمحنة مضللة، أن يعبر به الوساوس والظلمات، أن يرفعه إلى براءة عزيزة وصدقها، ألا يتردى في الجحيم بإرادته.
24
وحمل الطفل في لفافته ومضى به ليلا إلى ساحة التكية. استقبل فيض الأناشيد في أوله. دعا الله أن يجعل من الصغير غصنا في دوحة البطولة والخير، أن تتجسد فيه الأحلام المقدسة لا الأهواء الجامحة الشريرة. وسرح فكره إلى الممر الضيق حيث ترك عاشور في مثل سن ابنه. وكما تعبر سحابة وجه القمر فتحجب نوره اقتحمه خاطر مظلم. تذكر ما يتقول به الأعداء عن عاشور وأصله. غشيته كآبة عفنة. لاذ بالأناشيد ليغتسل من عرقها الحامض. وغمغم: «اللهم هبني القوة.»
انغمس في الأنغام تماما وهي تردد:
نقدها را بود آياكه عياري كيرند
تاهمه صومعه داران بي كاري كيرند
25
لما خرج من القبو عائدا سمع صوتا غليظا يتساءل: من القادم؟
عرف صوت أخيه وحيد الفتوة، فأجاب باسما: قرة سماحة الناجي.
فقهقه الفتوة. وقفا شبحين في الظلام. تساءل وحيد: كنت في الساحة مثل الأجداد الطيبين؟ - بل ذهبت بالوليد، ها هو بين يدي. - مبارك عليك. نويت أن أزورك غدا في المحل مهنئا. - لم لا تزورني في البيت؟ - أنت تعلم أني أتجنبه!
فقال قرة برقة: إنه بيتك والله الهادي.
فقال وحيد مغيرا نبرته: وكان في نيتي أن أفاتحك بأمر آخر؟ - خير؟ - أخونا رمانة.
تنهد قرة ولاذ بالصمت، فقال وحيد: إنه يعبث بماله بسفاهة. لست واعظا، ولكني أعلم أنه لا يقدر على السفاهة إلا فتوة! - أنا عارف، النصيحة غير مجدية، ولا ينجم عنها إلا الغضب!
فقال وحيد بحنق: إنه ينتحر.
26
كأن ما يربط رمانة برئيفة شيء أقوى من الخير والشر والنزاع. لا يفرط أحدهما في الآخر مهما نشب بينهما من خلاف. النقار متواصل والحب متواصل. يختلط العنف بالدلال، الزجر بالتنهدات، سوء الظن بالقبل. هي في اعتقاده عقيم وهو في حدسها عقيم، هو رجلها الوحيد، وهو أيضا لا يخطر له أن يتزوج عليها. ويقول وهو ثمل: إنها قدر!
27
وتوفي رضوان بكر الناجي عقب مرض قصير. كان قد اعتزل الحارة حتى نسي تماما، فتذكره الناس بالموت بضعة أيام. وزعت تركته بالاتفاق حتى يخلص المحل لرمانة وقرة، ووزعت بقية التركة بين أنسية زوجته وصفية أخته.
28
ولم يعد رمانة يقنع بالبوظة والمخدرات، فانزلق إلى القمار يدفن فيه ضجره. وتصبر قرة ما تصبر حتى فاض به الكأس، فقال له يوما وهما في حجرة الإدارة: إنك تبعثر مالك بلا حساب.
فقال بجفاء: إنه مالي! - تضطر أحيانا إلى الاقتراض مني! - هل أكلت عليك قرضا؟
فقال قرة باستياء: ولكن ذلك ضار بعملنا المشترك، ثم إنك لا تكاد تبذل فيه أي جهد!
فقال رمانة بامتعاض: إنك لا توليني ثقتك.
فصمت قرة مليا، ثم قال: من الخير لكلينا أن ننفصل، فليستقل كل بتجارته قبل أن نغرق معا.
29
عرف الخصام فاضطربت له أفئدة الأسرة .
أما وحيد فقد زار قرة وقال له بكل صراحة: افعل ما تراه في صالحك.
وقال له أيضا: ابنك يكبر يوما عن يوم.
ثم قال عن رمانة بازدراء: إنه خنزير مثل زوج أمه!
واجتمعت صفية بقرة ورمانة وقدمت اقتراحها قائلة: ليستقل قرة بالإدارة، وليأخذ رمانة نصيبه من الربح وهو حر فيه.
فقال رمانة: لست طفلا يا عمتي.
فدمعت عيناها وقالت: سمعة الناجي أمانة بين يديكما.
فقال قرة بحزن: سمعة الناجي! لنا الفتونة وما هي بالفتونة. أبونا ضائع بلا ذنب. أخي إما في البوظة وإما في الغرزة، ثم يمضي إلى القمار!
فتوسلت إليه قائلة: أنت أنت الأمل يا قرة.
فقال بشدة: لذلك أريد أن أستقل بتجارتي!
30
انذعرت رئيفة لفكرة الانفصال وأعلنت عن مخاوفها، حتى قال لها رمانة: أنت أيضا لا تثقين في!
فقالت بلين ومداهنة: إنك أهل للثقة إذا أقلعت عن عاداتك السيئة. - سأقلع عنها حتما إذا اضطررت لتحمل مسئوليتي! - وهل تعرف العمل حقا؟
فقطب متسائلا فقالت: يلزمك وقت للتدريب يا رمانة، احذر العناد والغرور، كان الرأي دائما رأي أخيك، هو عاقد الصفقات، هو الرحالة، هو كل شيء، وأنت متربع وراء مكتبك لا شيء!
فتلظى بالحقد مليا، ثم قال: وما العمل إذا صمم على تحقيق فكرته؟
فقالت والشر يتراقص في عينيها: يجب منعه بأي ثمن. - بالقوة؟ - بأي ثمن! أتدري ما معنى أن تستقل الآن؟ أن تفلس في أيام أو أسابيع، أخ وجيه وأخ فتوة وأخ شحاذ! - والعمل؟ - بادر بالملاينة، في الوقت نفسه غير حياتك، اشترك في العمل، ثم نفكر في كل شيء.
صمت متجهما، فرجعت تقول: خسائرك فادحة، ماذا يبقى لك لو وقع الانفصال الآن؟ تذكر ذلك، وتذكر أيضا.
وسكتت قليلا، ثم واصلت: وتذكر أيضا أنه لا يوجد مستحيل.
31
مضى قرة يستعد لسفر عاجل. اقترح رمانة عليه أن يؤجل فكرة الانفصال لحين عودته، وقال له برقة غير معهودة: ربما وجدتني لدى عودتك شخصا آخر.
32
وفي الليل تطرق الحديث بين قرة وعزيزة إلى الموضوع، ولم تخف عزيزة مشاعرها فقالت: إنه لا يستحق الثقة .
فقال قرة: بلى، ولكن الوقت لا يتسع الآن لإجراءات الانفصال. - ليكن، ولكن لا تتردد. إنه لا يحبك، هو وزوجته يتمنيان لنا الهلاك! وتابعت عزيز وهو يلاعب قطة بيضاء، فرقت عيناها وهي تقول: تلقيت من السماء هدية جديدة لك.
فرمق بطنها بحنان وبهجة. وأشارت عزيزة إلى عزيز وتمتمت: أهلك يحلمون له بالفتونة.
فابتسم قائلا: هكذا آل الناجي!
فقالت عزيزة: أما أنا فأومن بأن أبواب الخير كثيرة. - وعاشور؟ - دائما عاشور! أتحن إلى أحلامهم؟ - سأنشئه كما أنشأني المرحوم خضر، وليفعل بنفسه بعد ذلك ما يشاء. - كم تريحون أنفسكم لو تتناسون أنكم ذرية عاشور الناجي! - سنظل ذريته على أي حال.
ورنا إلى عزيز طويلا، ثم تساءل: متى أجلسه أمامي في حجرة الإدارة؟!
33
اتخذ السائق مجلسه بالدوكار. وقف قرة بين مودعيه. وحيد ورمانة والشيخ إسماعيل القليوبي شيخ الزاوية ومحمد توكل شيخ الحارة وآخرين. وأمسك محمد توكل بيد رمانة وتساءل بلهجة ذات معنى: من يحل محلك يا معلم عند السفر إذا استقل كل منكما بتجارته؟
فتجاهل قرة الملاحظة مواصلا حديثا جانبيا مع الشيخ إسماعيل. وفي تلك اللحظة مرت الشيخة ضياء بمبخرتها وعينيها الدامعتين. لم يعد منظرها يثير استياء أحد من آل الناجي، وقال وحيد: الشيخة تبارك سفرك!
وصافحهم واحدا بعد واحد، واستقل الدوكار ورمانة يقول: بالسلامة في الذهاب وفي الإياب.
ورن الجرس وتهادى الدوكار نحو الميدان.
34
كانت الرحلة عادة تستغرق أسبوعا. مضى الأسبوع ولكن قرة لم يرجع.
تبودلت الأفكار في الدار مساء، فقال رمانة: عذر الغائب معه.
وتمتمت أنسية: لا يحسب الوقت في رحلته بالساعة والدقيقة.
وقالت رئيفة: مرة تأخر يومين عن ميعاد عودته.
ولاذت عزيزة بالصمت.
35
مر اليوم التالي كما مر الأول. ترددت الكلمات الملتمسة للطمأنينة. قالت عزيزة لنفسها: ما أبغض قلقا لا مبرر له!
36
يذهب الدوكار مع الصباح إلى ميناء بولاق، ثم يرجع مع الليل خاليا. ويعذب السهاد عزيزة حتى الفجر.
37
باتت الحارة تتساءل عن غياب قرة. دعت عزيزة وحيد وسألته: ماذا ترى يا معلم وحيد؟
فقال الفتوة: اعتزمت السفر بنفسي.
38
غاب وحيد أياما ثلاثة، ثم رجع في مساء الرابع. رأت عزيزة وجهه فغاص قلبها في صدرها وهتفت: ليس وراءك خير!
فقال وحيد بوجوم: قرر عملاؤه أنه لم يصل إليهم.
فتساءلت عزيزة بوجه شاحب: ما معنى ذلك؟
فقالت أنسية وهي تداري اضطرابها: قلبي يحدثني بالسلامة.
فقالت عزيزة: قلبي لا يحدثني بذلك.
فقال رمانة: لا تستسلموا للتشاؤم.
فهتفت عزيزة: الغائبون في أسرتكم أكثر من الحاضرين.
فقالت أنسية: فليخيب الله الظنون السيئة.
فتمتمت رئيفة: آمين.
عند ذاك ولولت عزيزة: ما العمل وأنا امرأة لا حول لي؟!
فقال وحيد: لقد قمت بالخطوة الأولى وتوجد بعد ذلك خطوات.
وقالت أنسية: إنه لا أعداء له.
فقال رمانة: هذا حق، ولكن للطريق أخطاره.
فتأوهت عزيزة، وقال وحيد: سأفعل المستحيل.
39
مضى أسبوع في إثر أسبوع. تتابعت الأيام بلا مبالاة. شغل الناس بالشمس والليل والنهار والطعام. أيقنوا أن المعلم قرة لن يرجع إلى حارته.
40
أصرت عزيزة على مصارعة النسيان واللامبالاة. غياب قرة كارثة يتجدد وقوعها في قلبها كل صباح. وهي تتمزق بالحزن والغضب. تأبى أن تصدق أن سنن الكون يمكن أن تتبدل بغتة في لحظة من الزمان. ومن شدة الانفعال أجهضت فرقدت مريضة أسبوعا. واستدعت وحيد وقالت له: لن أسكت، لن أهمد، ولو مضى العمر كله على ذلك!
فقال وحيد: إنك لا تدركين حزني يا ست عزيزة، إنه لعار أن يقع ذلك لشقيق فتوة! - لن أسكت ولن أهمد. - لم يعد لأحد من رجالي من مهمة مقدمة على البحث والتحري، استعنت أيضا بأصدقاء من الفتوات.
وتمهل قليلا، ثم قال: ذهبت إلى أمي في بولاق، إنها اليوم ضريرة، وذهبت معي إلى فتوة بولاق، الدنيا كلها تبحث عن قرة!
41
من ناحية أخرى زار أبوها إسماعيل البنان مأمور القسم فوعده الرجل بتقديم كل مساعدة ممكنة. وجعل أبوها يشجعها ويواسيها، ولكنها قالت له: كأن قلبي يعرف السر.
وقرأ أبوها خواطرها فقلق وقال: إياك وسوء الظن بالأبرياء! - الأبرياء! - أصغي إلي، اضبطي لسانك. - لا أعداء لنا سواهما. - قطاع الطريق أعداء كل إنسان. - لا أعداء لنا سواهما. - لا دليل لديك إلا سوء ظنك القديم.
فقالت بإصرار: لن أهمد ولو مضى العمر كله على ذلك.
42
اقتحمت جناح الشيخة ضياء وهو ما لا يجرؤ عليه أحد. وجدتها متربعة على شلتة مستغرقة في تهاويل السجادة. ركعت إلى جانبها. لم تلتفت المرأة إليها، لم تشعر بها. همست: يا شيخة ضياء، ما رأيك؟
فلم يطرق الصوت باب دنياها المسحورة، فهمست بحرارة: قولي شيئا يا شيخة ضياء!
ولكن ضياء لم تسمع، لم تحس، لم تولد.
شعرت عزيزة بأنها تصارع مجهولا لا سبيل إليه، وأنها تتحدى المستحيل.
43
وعاشت شبه منعزلة في جناحها منفردة بعزيز. حتى الطعام كان يحمل إليها. وزارها في الجناح رمانة ورئيفة. وكان حزنهما على الغائب جليا مشهودا، وقالت لها رئيفة: عزلتك تضاعف من أحزاننا.
فقالت وهي تتجنب النظر إليهما: لم أعد صالحة لمعاشرة الآخرين.
فتمتم رمانة: نحن الأهل الأقربون.
فقالت بضيق: الحزن كالوباء يوجب العزلة.
فقال رمانة: بل المعاشرة تعالجه، واعلمي أنني لا أكف عن البحث.
فقالت بإصرار: أجل، علينا أن نعرف القاتل!
فهتفت رئيفة: لا أصدق أنه قتل.
فقاومت عزيزة دموعها بكبرياء، ولم تهش لكلمة من الكلمات الطيبة، فلم يسفر اللقاء عن خير. ولم تنقطع عزيزة عن وحيد أو أبيها، لم يتسلل اليأس إلى إرادتها، وجعلت الأيام تمضي، والمعلم قرة يذوب في المجهول.
44
فسر اختفاء المعلم قرة في الحارة باعتباره نتيجة لعدوان قطاع الطريق. هكذا يقال جهرا كلما جاء للحادث ذكر. أما همسات الاتهام في البوظة والغرزة فكانت تحوم حول رمانة، لقد قضى على شقيقه بالقتل قبل أن يقضي عليه بالفصل والإفلاس. وها هو يستقل بإدارة المحل، متصرفا في ماله ومال ابن أخيه اليتيم، وقد أقلع عن العربدة والقمار حتى لا يقال بأنه يبدد مال اليتيم، وعمل ألف حساب لوحيد فتوة الحارة. رغم ذلك فقد تضاءلت عملقة المحل، واختصرت معاملاته، واعتذر رمانة عن ذلك بقلة درايته ومهارته التجارية.
وقال لشقيقه وحيد: ليس في وسعي أفضل من ذلك، وإني أرحب بأن تعمل معي إذا شئت.
ولكن وحيد قال له ببرود: أنت تعلم ألا خبرة لي بهذه الشئون.
45
ولم تكترث عزيزة كثيرا لما يطرأ على المحل من تحول أو ضمور. كانت تحلم باليوم الذي يحل فيه عزيز في مكان أبيه، فيستقل عن عمه ويعيد إلى المحل سيرته الأولى. في سبيل ذلك وقفت نفسها على تربية وحيدها. أرسلته إلى الكتاب في سن مبكرة، وزودته بمعلم خاص ليزيده علما بالحساب والمعاملة. ولم تأل في تذكيره بسير أجداده من آل البنان، بل دفعها إخلاصها لقرة إلى التنويه له ببطولات الناجي ومثله العليا وأمجاده الأسطورية. وبثت فيه - بلا وعي وبوعي أحيانا - الحذر من عمه وزوجته، والنفور منهما، وشحنت قلبه بأنباء العداوة التي اضطرمت بين أبيه وعمه، واختفاء أبيه الغريب المريب.
وكان قرة قد نسي. لم يبق حيا إلا في قلب عزيزة، ولدرجة ما في خيال عزيز. وثمة حلم يقظة كان متعة تأملاتها، أن تجوب البلدان بحثا عنه، أن تعثر عليه، أو أن تكتشف بالبينة قاتليه، أن تنتقم، أن تعيد ميزان العدل إلى استوائه الأبدي، أن يستعيد القلب صفاءه.
46
وما إن جاوز عزيز العاشرة حتى طالبت عزيزة بأن يتدرب في محل أبيه. وسرعان ما وافق رمانة وهو يقول: أهلا بالعزيز ابن العزيز.
وعقب ذلك توفي إسماعيل البنان أبو عزيزة، فورثت عنه قدرا من المال لا بأس به، فقررت أن تكنزه ليستثمره عزيز في التجارة عندما يستقل عن عمه! وماتت أنسية عقب وفاة أبيها بعام ونصف، فخلت الدار من الأحباب. لم يبق إلا رمانة ورئيفة، والشيخة ضياء إن عد وجودها وجودا. وقد عجزت الشيخة عن مواصلة مسيرتها اليومية في الحارة فاعتزلت تماما في جناحها، وعند الأصيل من كل يوم كانت تدلي بالمبخرة من مشربية حجرتها، وحتى الدموع لم تعد تسعفها.
47
وينظر رمانة متأملا كلما وجد الفراغ.
ها هو عزيز يجلس في مكان أبيه بحجرة الإدارة. إنه يتقدم بخطوات ثابتة تنبئ عن رجاحة عقل. يطرق بلا شك باب المراهقة. صبي جميل مفعم حيوية. قامة طويلة رشيقة، عذب الملامح، يلوح القلق في عينيه كما يلوح التفكير. وبينهما مجاملة محسوسة ولكن بلا ألفة حقيقية . وثمة نفور أيضا يتوارى وراء الكلمة المهذبة والابتسامة الحلوة. حلوى كذبة أبريل المرة. مشحون بنفثات أمه السامة، وقد يستوي يوما عدوا ذا خطر! يتصور أحيانا أنه ابنه! ولا يتخلى عن تصوره رغم أن وجه الصبي مزيج متعادل من وجهي عزيزة وقرة، ولكن ما الفائدة؟ العبرة بالروح لا بالدم. إنه ابن أخيه، بل إنه عدوه، وهو لا يستطيع أن يحبه مهما تصور، وقد لا يقوم تصوره على أساس، ولعله لو علم بخواطره لازداد له كرها.
وقال له: إنك منطو على نفسك يا عزيز، لماذا؟
حدق فيه الصبي بحيرة كأنه لم يفهم، فقال: أين أصدقاؤك؟ لم لا تخالطهم في الحارة؟
فتمتم: أحيانا أستقبلهم في الدار. - هذا لا يكفي.
وضحك رمانة، ثم قال: لم أسمعك تخاطبني مرة بقولك يا عمي.
فارتبك عزيز، فقال رمانة: إني عمك، صديقك أيضا.
فابتسم عزيز وقال: طبعا.
وكف عن مضايقته بلباقة. وقال لنفسه إن عليه أن يحاول مستقبلا أن يصطحبه إلى مجالس الرجال، أن يخرجه من قوقعة النفور، أن يسرقه من قبضة أمه.
ونظر في دفتره ولكن سرعان ما اشتعل خياله بالصور الجامحة. رأى عزيز وهو يحتضر، إثر حادث أو مرض.
48
وكان يكاشف رئيفة بهواجسه، وكانت تقول له: طالما حذرتك بما تعده الأفعى.
فقال بضيق: لم أكن بحاجة إلى تحذير! - ولا أنت في حاجة إلى من يرشدك إلى ما ينبغي عمله.
ما أكثر ما تردد ذلك بينهما! ها هو الشيطان يطل من عينيها الجميلتين.
قال بحنق: ما كل مرة تسلم الجرة.
فقالت ساخرة: فلننتظر المصير. - أصبح الآن يتعامل معي فثمة أمل! - تتصور أن تخطفه من حضن أمه المغلي بالحقد! - إنه لم يعرف بعد أن في الدنيا طربا وسرورا! - الأفعى مغروسة في أعماقه.
فنفخ متجهما. وساد الصمت إلا من هسيس الخواطر الدامية. وترامى من الحارة صياح غلمان، وتتابع نقر فوق خصاص المشربية فتمتمت رئيفة: رجع المطر.
تسلى بفحص الجمرات في المدفأة بعود من الحديد، قال: يا له من برد!
فقالت مارقة من أفكاره: إنه لحلم. - ما هو؟ - ليس مستحيلا أن يغرى مثله بأمجاد الناجي! - عزيز؟! - أجل، إنه سن الأحلام، مثل أبيك المطارد!
رنا إليها بذهول. خافها بقدر ما أعجب بها. ولكنه قال بخمول: لا ثقة له في! - ولكنه يشحن إذا لم ير اليد التي تشحنه.
وتنهدت بعمق وهي تقول: ثم يحذر وحيد في الوقت المناسب!
ما جدوى ذلك كله؟ إنه يشعر أحيانا بالضجر، ولكن طاب له أن يتسلى بحلم يقظته الدامي.
49
اصطحبه معه إلى مجالس الرجال بحجة تقديمه إلى العملاء، فلم تستطع عزيزة أن تمانع. ودارت الجوزة ولكنه لم يدعه إليها قط. وقال له: إنها ضرورة في مجالس الرجال، ولكن تجنبها فهي لا تليق بك.
وتعرف عزيز بكثيرين. أسعده أنهم يحفظون لأبيه خالص الود وجميل الذكرى. وتتلاحق الأقوال: لم نعرف له نظيرا في أمانته ودقته. - الأخلاق في المرتبة الأولى، ثم تجيء التجارة. - كان في التجارة كما كان جده في الفتونة! - وا حسرتاه على عهد الناجي وأمجاده! - سيجيء يوما من يعيد العهد إلى عرشه.
دائما تتردد تلك الأقوال في كل لقاء. وفي طريق العودة إلى الدار يقول له رمانة: هؤلاء الناس لا يكفون عن الأحلام.
ويقول له أيضا: لولا عمك وحيد ما كان لنا قيمة في هذه الحارة.
ومرة قال عزيز: ولكن وحيد ليس مثل عاشور. - لا أحد مثل عاشور، لقد انتهى عصر المعجزات، حسبنا أن رجعت الفتونة إلى آل الناجي.
تمنى أن ينفذ إلى أعماقه. وكان - في الاجتماعات - يسترق النظر إليه فينشرح صدره بضوء الحماس المشع من عينيه.
50
وذات مساء قالت عزيزة لعزيز: جاء اليوم الموعود.
أدرك ما ترمي إليه، ولكنه انتظر فقالت: تستطيع الآن أن تضطلع بشئونك، لم تعد صبيا، استقل بتجارتك، عندي من المال ما يضمن لك نجاحا مثل نجاح أبيك.
فهز رأسه موافقا، ولكنها لم تلمس الحماس الذي توقعته فقالت: أبعد عنك عدو أبيك، وحسبه ما نهب من مالك. - هذا متفق عليه! - ولكنك لا تبدي الحماس الواجب. - الحماس متوفر، طالما انتظرت هذا اليوم. - ستنفذه فورا؟ - أجل. - ولكنك مشغول البال، أكثر من مرة لاحظت ذلك فعللته بمتاعب العمل. - هو ذلك!
فقالت بارتياب: كلا يا عزيز، عيناك تحدثانني بأن هناك شيئا آخر.
فضحك قائلا: لا تجعلي من الحبة قبة.
سره حقيق بأن يخفيه عنها بقدر ما هو حقيق بأن يخفيه عن وحيد نفسه. إنه يعرف تماما موقفها ومشاعرها، غير أنها قالت بقلق: لا تخف عني شيئا يا عزيز، نحن محوطون بالأعداء، عليك أن تطلعني على كل شيء.
فقال متظاهرا بالمرح: سأنفذ ما اتفقنا عليه، ما عدا ذلك فهو وهم.
فقالت بمزيد من القلق: أي وهم؟! ما أكثر الأوهام القاتلة!
ارتعد لنفاذ بصيرتها المستلهمة من غريزة الأم وحبها وخوفها معا. غمغم متهربا: لا شيء!
فهتفت بحرارة: لا تسلمني للجنون! أمك حزينة أبدية، تحملت ما لم تتحمله زوجة مخلصة. أنت أملها الوحيد، عزاء صبرها وتصبرها، استيقاظها من كابوس طويل، وقد قضي علينا أن نعيش في غشاء من المكر السيئ، ولن يقدم لنا السم إلا في قطعة من الحلوى. لا خوف عليك من العداء السافر، ولكن الخوف واجب من البسمة الحلوة والكلمة العذبة والدواء الشافي وأقنعة الإخلاص التي لا حصر لها.
فتمتم وهو يتلوى في الحصار: لست غرا يا أماه. - ولكنك بريء والبراءة فريسة الأوغاد.
وانزلق إلى أن يقول وهو لا يدري: إنه خارج الموضوع! - رمانة؟! - أجل. - حدثني عن الموضوع. وا حزناه! هل أصبحت غريبة عن قلبي وروحي فلا أعلم شيئا عن أخطر الأمور إلا ما تلقيه إلي المصادفة العمياء؟! - لم أضمر إخفاء شيء عنك، ولكني أعلم بهواجسك؟ - صارحني فإن قلبي يوشك أن يتوقف.
فنهض. راح يتمشى في الحجرة، ثم وقف أمامها وتساءل: ألا يحق لي أن أفكر بنبل؟
فدهمتها أفكار مفزعة وقالت: ما العواقب يا عزيز؟! هذا ما يهم. سبق أن فكر جدك سماحة بنبل وها هو طريد كالمتسول لا يدري أحد عنه شيئا. حدثني عن أفكارك النبيلة يا عزيز!
مضى بنبرة اعترافية يحدثها عما دار في اللقاءات مع العملاء، تابعته بوجه شاحب حتى خضبته في النهاية صفرة الموت.
وقالت بصوت متهدج: إنه تحريض واضح على عمك وحيد! - لست غرا . - إني أرى رمانة في نسيج المؤامرة.
فبادرها: لم ينبس بكلمة، وهو دائما في صف وحيد، ودائما يحذرني. - لا تصدقه! إنهم يرددون ما يشحنهم به. هل صارحتهم بأفكارك النبيلة؟
فقال بصدق: كلا، لست غرا، قلت لهم إني لا أخون عمي وحيد. - هذا حسن، هل قلت لعمك قولا آخر؟ - كلا، تظاهرت بالميل لقوله.
تنهدت بعمق، اغرورقت عيناها، غمغمت: حمدا لله.
ثم بحدة: لقد أعطياني الحبل، ما عليك إلا أن تتوفر لعملك. استقل عن عدو أبيك، بل عن قاتله. توفر لعملك، لقد أعطياني الحبل.
51
ثمة صمت ينذر بهبوب عاصفة. نظرات عزيز لا تبشر بخير. منذ شارف بلوغ الرشد وهو يتوقع منه ضربة قاسية. لم يفلح في كسب ثقته. بادله ملاينة بملاينة. لم تزل قدمه رغم دهنه الأرض تحت قدميه بالزيت، وها هو يتحفز للانتقام.
وخاطبه ذات صباح بقوله: عماه!
لأول مرة ينطق بها فأيقن أنها مقدمة لشر. - ماذا يا ابن أخي؟
فقال بهدوء كريه ذكره ببعض أحوال أبيه قرة: أرى أن أستقل بتجارتي!
رغم أنه توقع ذلك، توقعه منذ طويل، إلا أن قلبه غاص في صدره، وتمتم: حقا؟! طبعا أنت حر، ولكن لماذا؟ لماذا نفتت قوتنا؟ - أمي ترغب في مشاركتي! - هذا ممكن مع المحافظة على الوضع الراهن. - كان أبي يرغب في ذلك كما تعلم! - قال ذلك يوما ما ولكنه لم يصمم عليه وإلا ما منعه مانع. فقال عزيز ببرود: منعه اختفاؤه الغريب.
فانقبض قلب رمانة، ولكنه تجاهل الطعنة وقال: كان بوسعه أن يؤجل السفر حتى يفعل ما يشاء.
ثم باستياء واضح: لا تصدق كل ما يقال.
فقال بجرأة لم يبدها من قبل: إني أصدق ما يستحق التصديق.
فقال رمانة بيأس: أكرر أنك حر، ولكنه ضار بكلينا. - ليس هو كذلك بالنسبة إلي.
تلقى طعنة ثانية وهو يتلظى بالحقد الدفين. وقال لنفسه إن يكن ابني حقا فلكيف ألفته إلى الدور الساخر الأليم الذي يلعبه؟! كيف أكبح الشيطان الذي يتمطى في قلبه الأسود لينتقم مني؟ قال: تعبير لا يجدر بك، ألا تفكر في الأمر مليا؟
فقال برقة ما استطاع: إنه أمر متفق عليه.
فقال بيأس: حتى إذا رجوتك أن تعدل عنه؟ - يؤسفني أنني لا أستطيع تحقيق الرجاء. - لعلها أمك؟ - تريد أن تشاركني كما قلت. - إنه سوء الظن الذي يخلق الكراهية على أساس من الأوهام.
فتردد قليلا، ثم قال: ليست أوهاما. الحسابات غير مقنعة، والشركة لم تكن في صالحي. - من الآن ستلعب دورك كاملا.
فتمتم عزيز بضيق: لا فائدة يا سيدي.
فاجتاحه الغضب وهتف: إنها الكراهية، إنه الحقد الأسود، إنها اللعنة التي تطارد آل الناجي!
52
رجع رمانة إلى رئيفة محطما. وسرعان ما أخبرها بكل شيء، ثم قال: بذرة الكراهية تلفظ ثمرتها السامة.
فقالت رئيفة بوجه مخطوف من الحقد: الأمل معقود بوحيد. - ولكن الماكر الصغير لم يقع بعد في الشرك. - لا تنتظر حتى يقع. - ليس الأمر باليسر الذي تحلمين به.
ثم بهدوء: الأمل معقود بميراثك! - ميراثي؟! - عزيزة ستمده بميراثها. - لأنها كانت تعده لساعة الانتقام. - بميراثك أستطيع أن أبدأ من جديد!
فتساءلت بذهول: ومالك أنت؟
فقال بقنوط: لم يبق منه ما يصلح لإقامة محل كريم.
فهتفت: التهمه القمار! - ماذا؟ أهذا وقت الزجر؟ - لم أكنز ميراثي مثلما فعلت الأفعى، وتريد أن تبدد ما بقي منه لنتسول معا!
فقال محتدا: سأبدأ بسلوك جديد!
فضحكت ساخرة، فاشتعل غضبه وقال: لم يبق إلا أن أكاشفه بأنه ابني!
فانتقل اللهب إليها وصاحت: أفق! ألم تقتنع بعد بأنك عقيم؟!
فصاح بحنق: بل أنت العقيم! - ما وجدت الداية بي من عيب!
هم بأن يلطمها، ولكنها تحفزت للرد مثل لبؤة غاضبة. لم تقنع بتراجعه فتمادت في الحنق وهي تقول: أشمت بنا الأعداء، لعل وهم الأبوة الفارغ هو ما صدك عن التخلص منه طيلة الأعوام الماضية!
فتمتم وهو يهز رأسه دهشة: تحسبين القتل لهوا!
عند ذاك أقبلت جارية لتستأذن في حضور محمد توكل شيخ الحارة!
53
استقبله في بهو الاستقبال بالدور الأول. جاء الرجل في هالة من العجلة والاهتمام والقلق حتى انقبض قلب رمانة، وجلس وهو يتساءل بلا أي تمهيد: هل أغضبت أخاك وحيد؟
فذهل رمانة وقال: ما بيني وبينه إلا كل خير! - رأيته الساعة في البوظة هائجا ثملا، يلعن ويسب، متهما إياك بأنك تحرض عزيزا عليه!
فانتثر منفزعا وهو يصيح: افتراء وكذب!
فبادره محمد توكل: لا تتوان عن إقناعه، عجل.
فتساءل رمانة محتدا: ماذا تعني؟ - إن لم تسرع فسيصيبك أذى لا تتصوره. - ولكنه أخي!
فقال توكل وهو لا يفطن إلى أبعاد قوله: ليس نادرا أن يقتل الأخ أخاه في حارتنا!
فازدرد رمانة ريقه بامتعاض وغمغم: هكذا!
فقال شيخ الحارة: لقد أعذر من أنذر، فتحرك وحق الحسين.
54
لم يجرؤ رمانة على مقابلة وحيد وهو سكران، فقرر أن ينتظر حتى الصباح. غير أن الشيخ إسماعيل القليوبي شيخ الزاوية اقتحم عليه داره عند منتصف الليل حاملا إنذارا من وحيد بأنه إذا غادر داره فقد عرض نفسه للهلاك.
وأدرك رمانة أن عزيز هو الذي أوقع بينه وبين وحيد فتهجم على جناحه وانهال عليه سبا حتى أوشك أن يلتحم الاثنان في عراك عنيف. عند ذاك اعترفت عزيزة بأنها هي التي فطنت إلى المؤامرة التي دبرها لابنها، وأنها أفضت بظنونها إلى وحيد. وصب رمانة عليها غضبه حتى صرخت في وجهه: ابعد عن وجهي يا قاتل قرة!
هكذا اشتعلت الدار بالغضب والكراهية على مشهد من الخدم.
وفي الحال انتقلت عزيزة وعزيز إلى دار البنان، ولم يبق في الدار إلا رمانة ورئيفة والشيخة ضياء.
واستقل عزيز بمحل الغلال، فجدده، وأعاده إلى أيام ازدهاره كما كان أيام قرة، ولم يساور وحيدا ارتياب فيه، ووجد في تنبيه عزيزة له ما طمأنه من ناحية عزيز فزاره مهنئا ومضفيا عليه أمام الحارة رضاه وحمايته. وأقلع عزيز عن أحلامه. أقلع عنها وهو حزين، غير مبرأ من ازدراء نفسه. وقنع بممارسة الخير في محله، مع عماله وعملائه وزبائنه ومن يتيسر له مساعدتهم من الحرافيش.
55
قبع رمانة في داره. قضى على نفسه بالسجن بلا حكم. يحيط به الخوف ويستكن في قلبه الخزي. ينفق من ماله غير المستثمر ومن مال رئيفة. يقتله الضجر. يهرب من الضجر في الخمر والمخدرات. يمارس غضبه على الخدم والجدران والأثاث والمجهول.
ومضت العلاقة تتوتر بينه وبين رئيفة، وتسوء يوما بعد يوم. اشمأزت من جبنه وبطالته وغيبوبته وصراخه. وسرعان ما اشتد الخلاف والنقار، وحل النفور محل الوئام. وكلما نشبت بينهما مشاجرة طالبته بالطلاق حتى فقد وعيه ذات مرة فطلقها. كان القرار أهوج؛ إذ كان كل منهما لا يستغني عن حب الآخر، ولكن الغضب مجنون، والكبرياء عربيدة، والتمادي مرض. وكأنما أراد كل شريك أن يثبت للآخر أنه هو العقيم، فسرعان ما تزوجت رئيفة من قريب لها، على حين تزوج رمانة من جارية في داره. وثبت لهما باليقين تقريبا أنهما عقيمان. وتزوج رمانة من ثانية وثالثة ورابعة حتى تجرع كأس اليأس لآخر نقطة فيه.
عاش رمانة كما عاشت رئيفة في الجحيم، في دنيا الضجر بلا حب.
56
ذات صباح جاء الحارة رجل غريب. معتم بعمامة سوداء، متلفع بعباءة أرجوانية، ضرير يسترشد في مسيره بطرف عصاه، ذو لحية بيضاء وجبين نبيل. مرت فوقه الأعين بلا اكتراث، ترك وشأنه، تساءل البعض عما جاء به.
عندما ابتعد عن مدخل الحارة بأذرع هتف: يا أهل الله!
فسأله الخمار صديق أبو طاقية: ماذا تريد؟
فقال بنبرة حزينة: دلوني على دار خضر سليمان الناجي.
تفرس صديق أبو طاقية في وجهه مليا. سرعان ما رأى حلما. سرعان ما دهمه الماضي. صاح بذهول: يا ألطاف الله! المعلم سماحة بكر الناجي!
فقال الضرير بامتنان: نور الله قلبك!
على عجل جاء كثيرون في مقدمتهم وحيد وعزيز ومحمد توكل وإسماعيل القليوبي. وحمي العناق والتبريك والدعاء. - يوم السعد يا أبي! - يوم العدل يا جدي! - يوم النور يا معلم!
وكرر سماحة مرارا ووجهه يضيء بالإشراق: بارك الله فيكم، بارك الله فيكم.
وكل دعاه إلى بيته ولكنه قال بإصرار: داري دار خضر!
وانتشر الخبر فدعا الرجال من الدكاكين وجمع الحرافيش من الجحور والخرابات، وتعالى التهليل والدعاء، ثم زغردت النساء في النوافذ والمشربيات.
وقال صديق أبو طاقية: سبحان الله العظيم، لا غيبة تخلد ولا ظلم يدوم.
57
تربع سماحة فوق ديوان، وجلس أمامه على الشلت وحيد ورمانة وعزيز. هكذا اجتمع وحيد ورمانة وعزيز. هكذا اجتمع وحيد ورمانة وعزيز في سلام كظيم. كما يتجاور البلسم والسم في محل العطار. امحت الخصومات في حضرة الأب المعذب شهيد النقاء.
وقال له وحيد: أعددنا لك الحمام والطعام.
فتمتم في هدوء: مهلا، لقلبي أن يطمئن أولا.
وحرك رأسه، ثم تساءل: أين خضر؟
فقال وحيد: سبحان من له الدوام!
فوجم قليلا، ثم تساءل: وزوجته ضياء؟ - في جناحها، شيخة غائبة في ملكوت الله.
وتردد سماحة في إشفاق، ثم تساءل: وقرة؟!
فساد الصمت، فتأوه الرجل وقال: قبل الأوان! طالما حلمت بأن ضرسي انخلع.
وبسط راحته وهو يقول: يدك يا عزيز.
قبض على يده بحنو وسأله: تذكره ولا شك؟
فقال عزيز: اختاره الله وأنا طفل. - يا رحمة الله! ومن أمك يا بني؟ - كريمة إسماعيل البنان ... - أنعم وأكرم، وأين هي؟ - هي وعمتي صفية في الطريق إلينا.
وسأل الرجل: وأنت يا رمانة؟
تبادل وحيد ورمانة نظرة سريعة، وقال رمانة: لي أكثر من زوجة هن من سيقمن بخدمتك. - أولادك؟ - لم أرزق بذرية بعد!
فشهق بعمق متمتما: إرادة الله وحكمته، وأنت يا وحيد؟
فساد الصمت حتى تحرك رأس الرجل بقلق فعاد يتساءل: وأنت يا وحيد؟
فقال وحيد مقطبا: لم أتزوج بعد! - أعجب ما سمعت، لم تكن الكوابيس التي أراها بلا سبب. ورضوان؟ - البقية في حياتك. - حقا؟! لم تبق إلا الأسماء.
وسكت مليا ليهضم أنباء الزمان بلا انتباه للتوتر المستحوذ على الجالسين، ثم سأل: من الفتوة اليوم؟
فقال وحيد بشجاعة لأول مرة: ابنك وحيد!
فانتفض الرجل من التأثر وقال: حقا؟! - ابنك وحيد يا أبي.
وقص قصة الرؤيا والوثوب إلى الفتونة، فتهلل وجه سماحة وهتف: أول نبأ من السماء.
وشبك ذراعيه فوق صدره ممتنا وقال: إذن قد رجع عهد عاشور!
ركبهم الارتباك والحرج، ولكن وحيد قال بجرأة: عهد عاشور رجع!
فهتف الضرير: يا بركة السموات السبع!
وتجلى الرضا في وجهه وفي حركاته المرحة، وقال: ليهنأ عاشور في غيبته الملائكية! وليسعد شمس الدين في جنات النعيم.
لم يفكر أحدهم لحظة واحدة في إيقاظه من الحلم أو الاستهانة بسعادته. وبدا هو كأنما قد نسي الغربة والمطاردة ونعم بحسن الختام. وقال بهدوء: إلي بالحمام والطعام، ولتحل بركة الله بالأرض.
58
نام سماحة بقية النهار كله، وسهر الليل في ساحة التكية. عرفها هذه المرة عن طريق الأذن والأنف واللمس. ودعا بقوة الخيال صورة التكية والتوت والسور العتيق. وراح يملأ قلبه بالأنغام في ارتياح وغبطة.
وبسط راحتيه وقال: حمدا لله الذي شاءت إرادته أن أدفن إلى جوار شمس الدين. حمدا لله الذي أذنت رحمته للعدل أن يظل في حارتنا. حمدا لله الذي أورث ابني خير إرث للإنسان؛ الخير والقوة.
وجرى شكره في ظل نشيد يترنم:
هو آنكه جانب أهل خدا نكهدرد
خداش در همه حال أزبلانكه دارد
شهد الملكة
الحكاية السادسة من ملحمة الحرافيش
1
تدهورت صحة سماحة فاضمحل سريعا، وما لبث أن أسلم الروح وهو يتأهب للنوم عقب صلاة الفجر، وكأنه لم يرجع من منفاه إلا ليدفن في جوار شمس الدين. غير أنه مات سعيدا، مات وهو يتوهم أنه إنما يهجر فردوسا إلى فردوس. وقال عزيز: لقد أنكرنا حقيقة حياتنا أمامه فاعترفنا بذلك - بما فينا وحيد نفسه - إن حياتنا منكر لا يجوز إفشاؤه على مسمع من الطيبين.
2
ونجح محل الغلال نجاحا عظيما، وأثرى عزيز ثراء واسعا. وقنع من البطولة بإيمان القلب، وحب الخير وممارسته في نطاق محدود. أقلع عن أحلام النبل مؤثرا السلامة، ومعتذرا عن تقصيره أمام ضميره أنه لم يعد للبطولة ولم يملك وسائلها.
وخطبت له عزيزة ألفت الدهشوري كريمة عامر الدهشوري صاحب وكالة الحديد، فرضي باختيار أمه ملهمة حياته وراعية أمنه ونجاحه. وزفت إليه بعد مرور عام على وفاة جده سماحة. وأقام معها في دار البنان التي اشتراها وجددها فأصبحت دار عزيز. وكانت العروس حسناء فارعة بدينة مثقفة في فنون البيت وآدابه، فوجد فيها بغية قلبه، وسرعان ما ربطهما الحب برباط متين. واستقبلا حياة مترعة بالسعادة والذرية.
3
ولبث رمانة حبيس داره حتى بعد زوال الأسباب الداعية إلى ذلك؛ فقد تراجع وحيد عن وعيده بمجرد عودة سماحة، ولكن رمانة كره الخارج، وغاب عن الوعي والكرامة، وكان يعيش في شبه عزلة عن زوجاته الأربع، ولم يسل قط عن رئيفة، ودأب على السكر والمخدر.
وذات مساء اشتد به السكر فمضى مترنحا إلى جناح الشيخة ضياء، فدار حول مجلسها وهو يقهقه، وراح يقول لها ساخرا: إنك أصل البلاهة والبلاء.
وظلت المرأة غائبة فقال: إني في حاجة إلى نقودك فأين تكنزينها يا معتوهة؟!
وقبض على يدها وأنهضها بعنف ففزعت المرأة وضربته بالمبخرة في وجهه. عند ذاك جن غضبه فقبض على عنقها وشد بعنف فلم يتركها إلا جثة هامدة.
4
ارتجت الدار بالفزع. انقض الخبر على الحارة. أبلغ شيخ الحارة الجديد جبريل الفص القسم. قبض على رمانة. حوكم وقضي عليه بتأبيدة. ودعا عزيز إليه قبيل حمله إلى الليمان وقال له: أعترف لك بأنني مدبر قتل أبيك.
فقال عزيز بأسى: أعرف ذلك.
فقال بحزن: إنه مدفون بملابسه في قبر وحيد لصق مقام الشيخ يونس.
5
واستخرج عزيز جثة أبيه قرة بحضور شيخ الحارة ومخبر، فضلا عن وحيد وعزيزة. هكذا ظهر قرة وهو هيكل عظمي فجدد الأحزان. وكفن ثم شيع في جنازة مهيبة، ثم أعيد دفنه في قبر شمس الدين.
وقالت عزيزة: ليرتح اليوم قلبي. كان ذلك بعض حلمي، وقد ضمنت به أن أرقد إلى جواره إذا حان الأجل.
6
وناوش الألم من جديد ضمير عزيز. وكلما ساءت سمعة وحيد اشتد ضغط الألم عليه. لقد غدا الفتوة مضرب الأمثال بشذوذه وشراهته في الحي كله لا في الحارة وحدها. وقد عاش بضعة أعوام بعد وفاة أبيه، ومات إثر هبوط في القلب نتيجة الإفراط في البلبعة.
وفي أثناء ذلك كله كان عزيز يتحرى عمن يصلح للفتونة من آل الناجي الكثيرين لعله يبعث عهد عاشور بعد موات، ولكنه وجد آل الناجي قد ذابوا في الحرافيش، فهصرهم الفقر والبؤس، واستل من أرواحهم خير ما فيها. هكذا فوجئ بموت وحيد دون أن يعد له خليفة لائقا. وسرعان ما واجهته مشكلة غاية في الحساسية؛ هل يدفن إلى جوار شمس الدين؟ لقد أبى قلبه ذلك. قالت له ألفت الدهشوري: إنه عمك على أي حال.
ولكنه ظل على إبائه، ودفنه في قبر من قبور الصدقة بحوش الناجي. ومن عجب أن ذلك التصرف لم يقابل بارتياح في الحارة. وقال سنقر الشمام الخمار الجديد: جامله حيا وانتقم منه ميتا.
7
ووثب إلى الفتونة نوح الغراب. كان فظا غليظا نهما. هادن فتوات الحارات واستثمر قوته في الاستبداد بالحارة حتى صار من كبار الأثرياء في عام واحد. وتحمل الناس وطأته بلا مبالاة، ولم يعد أحد يتحسر على فتونة الناجي بعد أن تلاشت أحلامها العذبة على يد وحيد. وابتهج الوجهاء، وانحشر الحرافيش في طور جديد من أطوار الصعلكة والبؤس.
8
ودارت الشمس دورتها. تطل حينا من سماء صافية، وحينا تتوارى وراء الغيوم. وقد جدد عزيز الزاوية واختار لها شيخا جديدا هو الشيخ خليل الدهشان عقب وفاة إسماعيل القليوبي. وجدد أيضا السبيل وحوض الدواب والكتاب القديم.
وترملت رئيفة فعاشت وحيدة في دارها مع الخدم. وورثت عن زوجها الجديد ثروة غير قليلة، ولكن انقطع ما بينها وبين شقيقتها عزيزة تماما كأنهما غريبتان، بل عدوتان. ومن عجب أنها كانت تتهمها بأنها سبب كل شر حاق بها، وأنها نفخت فيها روح التعاسة مذ كانتا في المهد.
وخرقت مألوف التقاليد في الحارة عندما مضت تزور رمانة في سجنه، فأعلنت بذلك حبها له رغم كل ما حصل.
هكذا مضت السنون بخير لا يذكر، وشر لا يحصى.
9
وذات يوم علم عزيز قرة الناجي أن أحد عماله لقي حتفه وهو ينقل حمولة من الغلال. كان يدعى عاشور وينسب نفسه بصدق إلى آل الناجي لانحداره من فتحية أم البنات زوجة سليمان الناجي الأول. امتلأ قلب عزيز الرقيق بالحزن، فدفن الرجل ورتب لزوجته معاشا شهريا. وبالتحري عن أسرته عرف أن بناته تزوجن، عدا بنت صغيرة في السادسة تدعى زهيرة ما زالت في حاجة إلى الرعاية. اقترح عزيز على الأم أن يضم الصغيرة إلى داره لتكون في خدمة أمه عزيزة هانم فرحبت بذلك أيما ترحيب. وانتقلت زهيرة إلى جناح عزيزة وكأنما انتقلت إلى الفردوس؛ تجلى لونها الحقيقي لأول مرة، نعمت بالغذاء والكساء، مارست واجبات الدار. واستحقت عطف عزيزة فخصتها بمعاملة رقيقة دون الجواري والخدم، بل أرسلتها فترة إلى الكتاب. ولم يهتم عزيز برؤية البنت، ولكنها أوصى أمه بها وهو يقول في دعابة: لا تنسي أنها من آل الناجي.
10
وزارت أم زهيرة المعلم عزيز في حجرة الإدارة وقد نسيها تماما. ذكرته بنفسها، وبالعامل عاشور الذي مضت عشرة أعوام على مصرعه، ودعت له طويلا، ثم قالت: يدوم عزك، عبد ربه يرغب في الزواج من زهيرة.
وتذكر المعلم عزيز البنت وكان قد نسيها أيضا، فسأل المرأة: هل ترينه كفئا لها؟
فقالت باعتزاز: شاب كامل، رزقه كاف.
فتمتم عزيز بلا اكتراث: على خيرة الله.
11
على مائدة العشاء أنهى عزيز إلى عزيزة هانم وألفت هانم قراره. وسرعان ما قالت ألفت ضاحكة: عبده الفران! إنه بغل.
وقالت عزيزة محتجة: البنت ممتازة وتستحق من هو خير من عبده الفران!
فتساءل عزيز ضاحكا: هل تتوقعين أن يتقدم لها تاجر؟ - جمالها يؤهلها لذلك.
فقال عزيز بلا مبالاة: الولد كفء لها. أمها راضية، لا يصح أن نفرط في واقع ملموس من أجل خيال قد لا يتحقق أبدا.
ثم مواصلا بنبرة من قرر أن ينهي الموضوع: لقد وعدتها بالموافقة فضلا عن أنها صاحبة الحق الأول في ذلك.
12
جهزتها عزيزة هانم بالفراش والثياب والنحاس. دائما كانت تردد: يا للخسارة!
وكان عزيز يحتسي قهوة الصباح قبيل ذهابه إلى المحل عندما جاءته عزيزة بزهيرة لتودعه شاكرة ضيافته لها قبل مغادرتها الدار. دخلت الأم وهي تنادي: تعالي يا زهيرة لتقبلي يد سيدك.
وهمس عزيز معترضا: ما ضرورة ذلك يا أمي؟!
دخلت الفتاة مسربلة بالحياء والارتباك، ثم وقفت عند الباب. نظر نحوها مشجعا. ثبت بصره عليها ثواني، ثم سرعان ما استرده. فر ببصره. حافظ على وقاره الظاهر تحت عيني أمه وزوجته. كتم الدهشة في أعماقه. دهشة عنيفة جامحة. كيف دفن هذا الكنز في جناح أمه؟ كيف أخفي سره عنه؟ إنها قوام رشيق لا يتأتى لراقصة، وصفاء بشرة لا يحظى به بشر ، وفتنة عينين مسكرة مخدرة. إنها روح الجمال الفتاك. لحظ ألفت هانم فوجدها منهمكة في إرضاع طفل، فتمالك نفسه وقال متشبثا بالنجاة: مبارك عليك يا زهيرة.
فقالت عزيزة: قبلي يد سيدك.
مد يده. اقتربت حتى اجتاحته رائحة القرنفل المتطايرة من شعرها الفاحم المسترسل. شعر بانطباع شفتيها فوق ظاهر يده. خطف منها نظرة أخرى وهي راجعة، وسرعان ما دهمه إلهام بأنه سيرى ذات يوم معجزة.
13
من عادته صباحا أن يمضي بالدوكار إلى الحسين فيقرأ الفاتحة، ثم يميل إلى السكة الجديدة فالصاغة فالنحاسين، ثم ينتهي إلى المحل. فقد نفسه طيلة الطريق. روحه تهيم في سموات ويبقى جسده في الدوكار بلا روح. هل عرف أخيرا لم تشرق الشمس؟ لم تتألق النجوم في الليل؟ عم تفصح أناشيد التكية؟ لم يتعذب المجانين بالسعادة؟ لم نحزن للموت؟ وتمر عشرة أعوام وهذا الجمال يتنفس في كنفه! كيف غاب السحر عن أمه وزوجته؟ هل تفطن البنت إلى ثرائها؟ أهي مثل الريح تزعزع الأركان بلا تيه؟ هل جنت الأم لترحب بعبده الفران ذلك الترحيب الأعمى؟ هل بوسعه أن يحول بين المطر وبين أن ينهمر؟ يا لتعاسة القلوب الغافلة!
في عشية الزفاف زارته أم زهيرة لتشكره. تفرس في وجهها بحب استطلاع. عجوز تشي مخلفاتها بجمال دابر. رمقها بحنق خفي. قال: كل شيء على ما يرام؟ - بفضل الله وفضلك. - ألم تتعجلي؟
فقالت بتسليم: فاتحتها مقروءة منذ مولدها.
ومضت وهو يلعنها في سره. وتساءل محزونا لم لا نفعل ما نشاء؟!
14
زفت زهيرة إلى عبد ربه الفران في حفل متواضع. لم يرها مذ كانت في السادسة، ولكنه اعتاد أن يعتبرها حليلته. ولما رآها ليلة الدخلة صعقه جمالها، ولكنه كان مشحونا بتعاليم وتقاليد أوجبت عليه التظاهر بالثبات والسيادة. كان فوق العشرين بعام، طويلا مفتول العضلات، ذا سحنة شعبية صميمة بنتوء خديه وفطس أنفه وغلظ شاربه. حليق الرأس مثل زلطة عدا ذؤابة نافرة في المقدمة. صلى ركعتين، واتخذ من الخشونة إهابا يخفي به عذوبة الأعماق.
أعجبت برجولته، استنامت إلى حرارته، سلمت به مثل قدر.
وجدت نفسها في بدروم مكون من حجرة ودهليز يستعمل مطبخا وحماما. وتذكرت الفردوس المفقود، ولكن غريزتها همست بأنه كان فندقا للعبور لا للإقامة، وأنها كانت به ضيفة، أما هذا البدروم فهو بيتها ومصيرها، فيه ملكت رجلا، وحققت حلما، واطمأن القلب.
15
وتمكن الحب من قلبه فكاد يهتك ستره، ولكنه غلا في إظهار الرجولة.
وحتى قبل أن ينتهي الشهر الأول سألها: هل تقبعين في البيت كما تفعل الهوانم؟
فتساءلت بدورها: ماذا تريدني أن أفعل؟
فقال بحزم: اليد البطالة نجسة!
16
هكذا سرحت زهيرة بالملبن وبراغيث الست. ارتدت جلباب العمل الأزرق يغطيها من العنق حتى الكاحل، وخطرت وهي تنادي: الملبن يا أولاد!
بانطلاقها إلى الطريق اكتشفت ذاتها. تنبهت إلى سحرها وقوتها. الأعين تلتهمها، الألسنة تتغنى بالثناء عليها، منظرها يبعث السحر ويخلق الحركة. إنها قوية مدللة بالطبيعة والناس. وهي تقابل الغزل بالترفع والكبرياء، وتزداد تيها وثقة بالنفس.
17
وتوثقت العلاقة بينها وبين عبد ربه. في الأعماق هو رجلها وهي معبودته. يعاملها بتقاليد الرجولة ولكنه يجدها صلبة بقدر ما هي محبة، غضوبة أحيانا بقدر ما هي مخلصة. وأنجبت له «جلال» فسرى رحيق الأمومة في أعطافها وتلقت سعادة جديدة.
18
وكان عبد ربه الفران يحمل الخبز إلى دار رئيفة هانم، فسألته ذات يوم: لماذا تترك زوجتك تسرح في الطريق؟
فقال الرجل بتسليم: الرزق يا ست هانم. - الرزق متعدد السبل، إني امرأة وحيدة وفي حاجة إلى وصيفة، وخدمتي توفر رزقا أكثر، وتقي من شر الطريق.
فأخذ عبد ربه وتساءل في حيرة: وجلال الصغير؟
فقالت بإغراء: لن أفرق بين الأم وابنها.
فغزا الطموح قلبه وقال: الأم والأب والابن في خدمتك يا ست هانم.
19
تمتمت زهيرة بقلق: رئيفة هانم!
فقال عبد ربه: هانم واسعة الثراء ووحيدة. - ولكنها عدوة عزيزة هانم اللدود! - لا شأن لنا بذلك، وخدمتها أيسر وأغنى من التسول في الحارة، وأنت حاملة القفة بذراع والطفل بذراع. - الأفضل أن أعمل في خدمة عزيزة هانم.
فقال عبد ربه باستياء: ولكنها لم تطلبك، وهذا يعني أنها لا تريدك.
وصمتت زهيرة ولكن حلمها بالفردوس نشط من جديد.
20
استشاطت عزيزة هانم غضبا عندما علمت بالخبر وهتفت: يا لها من بنت متعجلة!
فقالت ألفت هانم: لم تقصدك بسوء ولكنها تسعى للرزق. - نحن أولى بها!
فقالت ألفت هانم معترضة: إنها ذات وليد لا تستطيع فراقه في هذه السن، وصحبته مدعاة للقذارة.
تابع عزيز الحوار باهتمام. شعر بأن زوجته لا ترتاح لرجوع زهيرة إلى الدار فاشتعل وجدانه بالتوجس وكأن أصبعا يشير نحوه بالاتهام، فقال بحزم: رأي ألفت عين الصواب!
21
كانت زهيرة تمشط شعر رئيفة في قاعة الجلوس عندما دخلت خادمة لتستأذن لقادم قائلة: المعلم محمد أنور.
من تعليق رئيفة عرفت زهيرة أن القادم هو ابن المرحوم زوج رئيفة، وأنه ظل على ولائه لها حتى من بعد ما ذاع عن زيارتها لرمانة في سجنه. وسرعان ما جاء القادم فسلم وقدم لفافة أنيقة لأرملة أبيه وهو يقول: البطارخ!
فتهلل وجهها وشكرته. كان شابا متوسط الحال مقبول الملامح، جميل الجبة والقفطان. قالت له: فيك الخير يا محمد.
فقال بانشراح: يهمني أن تذوقي البطارخ قبل أي زبون من زبائن دكاني.
فسألته بدعابة: متى تدعني أدفع الثمن مثل بقية عشاق البطارخ؟
فقال وهو يتناول قدح قرفة محشوة باللوز والجوز والبندق: عندما تشرق الشمس من الغرب!
فضحكت رئيفة وقالت: فيك الخير يا محمد.
وهو يحتسي القرفة وقعت عيناه على زهيرة وهي منهمكة في تمشيط سيدتها. ذهل. لم يصدق عينيه. ركز عينيه في القدح وكأنه يهرب. قال في سره: «الغياث بالله من صنع الله!»
وسألته رئيفة: كيف حال تجارتك؟
فاسترد نفسه من عالم الافتتان وقال: عال ولله الحمد.
ولاحظت زهيرة نظرة منه إليها متسولة تبرق بالانبهار فافتر باطنها عن بسمة.
22
كان محمد أنور يتردد على دار رئيفة في كل مناسبة تسنح. غدا بالقياس إلى زهيرة عادة، كما غدت نظراته الملتاعة عادة أخرى. وكان يحاذر من إثارة أدنى شبهة عند رئيفة، ويهب دارها ما تستحقه من الولاء والاحترام. ما من رجل رآها إلا وجن بها. أصبحت تؤمن تماما بأنها أجمل من جميع هوانم الحارة. وهي أيضا من آل الناجي مثل المعلم العظيم عزيز. ولكن كم أنها عجيبة الحظوظ في هذه الدنيا! توفر لامرأة دارا ولأخرى بدروما. تعطي واحدة تاجرا ثريا وتعطي أخرى فرانا. لقد تقرر مصيرها وهي عمياء. حتى ميلها الفطري لزوجها لا يقنعها بالرضا. ليست الحياة شهوة وأمومة. ليست فقرا وكدحا ونعيما كاذبا مستعارا من خدمة هانم غنية. ليست أن تملك قوة مذهلة، ثم تبددها في الخنوع. باطنها يتغير ببطء ولكن بثبات وإصرار. يتمخض كل يوم عن حركة، كل أسبوع عن وثبة، كل شهر عن طفرة. إنها تكتشف ذاتها طية وراء طية. تنبثق من جوفها أنواع شتى من المخلوقات المتحفزة الصارمة. وتحاكم في الخيال أمها وزوجها ومسكنها وحظها. تحقد على كل ما يطالبها بالرضا، على حكمة الأمثال وعطف الهانم وفحولة زوجها. وتتلقى من المجهول شرابا ملتهبا به يستفحل الخيال ويثمل القلب ويطلع الفجر الأحمر.
وقال محمد أنور لرئيفة هانم ذات يوم: أما سمعت بالخبر؟ لقد وثبت إلى الفتونة في برجوان امرأة!
فضحكت رئيفة هانم وقالت: أود أن أرى امرأة وهي تصرع الرجال.
ودارت زهيرة ابتسامة إعجاب واشتعلت في قلبها نيران غامضة. ورماها محمد أنور بنظرة متلهفة متوسلة، فتساءلت: ترى أيكون حلمها رجلا مثل محمد أنور؟ لم تجد من قلبها أي خفقة تنبئ عن جواب. وتأمله عقلها بلا حماس وبلا فتور. ودهمتها فكرة متحدية تقول إن قلب المرأة هو ضعفها، وإن علاقتها بالرجل يجب أن تتحدد بعيدا عن الغريزة والقلب. الحياة غالية مترامية الأبعاد لا حد لآفاقها، وما الحب إلا متسول ضرير يزحف في أركان الأزقة. وتنهدت وقالت لنفسها: ليس أتعس من الحظ السيئ إلا الرضا به.
23
وكانت زهيرة ترضع جلال في قاعة الجلوس عندما رأت فجأة محمد أنور يقتحم المكان. بسرعة دست ثديها في ثوبها وحبكت الخمار حول رأسها مرتبكة بالحياء. رنا إليها مضطرب النظرة، ثم تساءل: أين رئيفة هانم؟
أيقنت بكذبه، لم تشك في أنه رأى الهانم في الدوكار وهو ماض بها إلى الميدان، ولكنها أجابت بأدب: خرجت في مشوار.
فتردد مليا، ثم قال: أنتظر؟ كلا ، يجب أن أرجع الآن إلى الدكان، أليس كذلك؟
فقالت بحسم ودون مبالاة بالمجاملة: مع السلامة يا سيدي!
ولكنه لم يكن ينوي الذهاب. تسمر تحت وطأة قوة طاغية، واقترب ببصر زائغ يشي برغبة جنونية جامحة. تراجعت مقطبة، اقترب أكثر، فقالت بحدة: لا!
فتمتم في هلوسة: زهيرة!
فهتفت: سأذهب إن لم تذهب أنت! - حلمك ... إني ... إني أحبك!
فقالت بحزم: لست ساقطة! - معاذ الله ... إني أحبك ...
واضطر إلى التراجع خوفا من شبح رئيفة، فقال وهو يمضي: كيف أتزوج من امرأة متزوجة؟!
24
عاشت في دوامة من التمرد والتحفز. على الحياة أن تغير وجهها. القوة كفيلة بأن تغير أبعاد الكون. كل دقيقة تمر بلا تغيير انتصار للذل والتعاسة.
ولكن كيف تخوض المعركة؟ وانتهزت فرصة صداع ألم برئيفة هانم فتطوعت قائلة: سأبيت معك يا ست هانم.
فتساءلت رئيفة: وزوجك؟ - لن يقتله الرعب إذا بات وحده!
وعندما مضت ساعتان على موعد رجوعها جاء عبد ربه مستطلعا فقابلته وقالت له: الهانم مريضة.
فسكت الرجل لا يدري ماذا يقول، ثم تساءل بمرارة: أما كان يجب أن تخبريني؟
فقالت بعجلة وضيق: الهانم مريضة، ألا تريد أن تفهم؟!
25
لدى رجوعها إلى البدروم في مساء اليوم التالي أدرك عبد ربه أن الهانم كانت متوعكة توعكا خفيفا لا يقتضي البيات خارج المسكن. واجتاحه الغضب فقال: الهانم ليست في حاجة إليك فالدار ملأى بالجواري.
فغضبت أيضا إذ كانت تتمنى الغضب بأي سبيل وتساءلت: أهذا جزاء الإحسان؟!
فقال بحزم: أخلاقك تسوء يوما بعد يوم، وقد قررت ألا تعودي إلى الدار. - يا للعار!
فصاح: ملعونة الدار وصاحبتها!
فصاحت بدورها: أنا لا أنكر الجميل!
فلطمها على وجهها وغادر البدروم.
جنت زهيرة بالغضب. انفجر الحنق المكتوم. صكت الحجرة بنظرة رفض نهائية. استغرقتها اللطمة فتضخمت واستفحلت وانداحت في وجدانها حتى قتلت حواسها. وانهالت بقبضتها على الفراش دون مبالاة بصراخ جلال.
وغادرت البدروم قاذفة بالماضي في أحضان الفناء.
26
عجبت رئيفة هانم لعودة زهيرة السريعة عقب ذهابها بساعة واحدة، ولكن الفتاة سألتها: هل تتسع دارك يا ست هانم لإيوائي؟ - لم كفى الله الشر؟!
فقالت بمسكنة: لن تطيب الحياة بعد الآن مع الرجل.
وهزت الهانم رأسها مستطلعة، فقالت زهيرة: يريد أن يمنعني من خدمتك!
فقالت رئيفة بامتعاض: الناكر للجميل. - وانهال علي ضربا. - يا له من وحش لا يدري أي كنز يحوز!
وتفكرت الهانم قليلا، ثم قالت: ولكني لا أحب تخريب البيوت.
فقالت زهيرة بإصرار: إني راضية عما أفعل.
فقالت رئيفة باسمة: الدار دارك يا زهيرة!
27
تلعثم عبد ربه الفران بالخجل تحت نظرات رئيفة هانم. غمغم مستغفرا ولكنه ركز على هدفه بإصرار ورجولة. قال: ماذا تعني لطمة؟ ليست بعاهة مستديمة!
فقالت الهانم باستياء: إنك مخطئ وجهول.
فتمتم بأدب وتصميم: عليها أن ترجع معي الآن.
فقالت رئيفة بحدة: عندما تعرف قيمتها لا قبل ذلك.
وانتزع قدميه من موقفه وقد احمرت الدنيا في عينيه.
28
جلس عبد ربه في الخمارة يعب من القرعة ويجفف شاربه بكم جلبابه الأزرق. لا حديث له إلا زهيرة. قال: هربت ومعها الولد.
فقال أحد السكارى: أنت خرع.
فهتف محتجا: رئيفة هانم تشجعها!
فقال له الخمار سنقر الشمام: تصرف كرجل. - ماذا تعني؟ - طلقها!
فتقلص وجهه وقال: أحقر شعرة في جسدي تستطيع أن تقتل امرأة.
فقهقه نوح الغراب الفتوة وصفعه على قفاه مداعبا وهو يقول: يا عنترة!
فباخ غضبه وقال بخشوع: من معلمي الأكبر تجيء المشورة.
فقال نوح الغراب وقد احمرت عيناه بالخمر والسطل: دسها بقدمك حتى تصير خرقة بالية.
أما جبريل الفقي شيخ الحارة فقال: في الطلاق راحة للبال.
فقال نوح الغراب: الطلاق في مثل هذه الحال عجز.
وراح عبد ربه الفران يتساءل: من قال إن الزواج نصف الدين؟ ألا إنه نصف الكفر!
29
مضى عبد ربه مترنحا في الظلام حتى وقف تحت دار رئيفة هانم. جاش صدره بالخمار والغضب. تصارعت في قلبه المحتقن تقاليد الرجولة وهمسات الحب المستبدة. وبصوت غليظ متحشرج صاح: انزلي يا بنت يا زهيرة.
وجعل يخور وهو يترنح، ثم يعاود الصياح: معي نار الفرن وشياطين القبو.
وفتحت نافذة فأطل منها الشيخ خليل الدهشان شيخ الزاوية وتساءل بغضب: من المجنون ؟ - أنا عبد ربه الفران. - انجر يا سكران يا رجيم. - أريد زوجتي والشرع معي! - كفاك عربدة وتهجما على دار الطيبين! - من ينصفني إذن إلا إبليس؟
فصاح به: عليك اللعنة.
انقض على باب الدار وجعل يضربها بقبضته حتى لحق به جبريل الفص شيخ الحارة، فشده من ذراعيه وهو يقول: اخرس يا مجنون، سر معي، سأكون شفيعك لدى الهانم!
30
وجد جبريل الفص رئيفة هانم غاضبة ثائرة. أصبحت المعركة بينها وبين عبده الفران بعد أن كانت بين زهيرة وبينه. قالت بحدة: الفران الحقير!
فقال شيخ الحارة: ما هو إلا خادمك. - ألم تشهد وقاحته؟ أأسلمها له لينتقم منها؟ - أعتقد أنه يحبها يا ست هانم! - الحيوان لا يعرف الحب.
فتساءل جبريل الفص: وإذا طلبها لبيت الطاعة؟
فقالت بإصرار: لن تضيق بي الحيل!
31
استدعى نوح الغراب عبد ربه الفران إلى مجلسه بالمقهى. نظر إليه مليا، ثم قال بنبرة آمرة: طلق المرأة!
فذهل عبده الفران. اجتاحه اليأس. أدرك أن رئيفة هانم عرفت كيف تنتقم. واستثقل الفتوة صمته فهتف: فقدت النطق؟!
فقال بخشوع: ألم تقل يا سيد الناس إن الطلاق في مثل حالتي عجز؟
فقال بسخرية: وإنك لعاجز! - الشرع معي يا سيد الناس!
فقال الفتوة بنبرة قاطعة: طلق يا عبد ربه.
32
وقع الطلاق. سيق عبد ربه إليه كما يساق المحكوم عليه إلى المشنقة. انتهى الحلم وضاعت الجوهرة. وثملت زهيرة بنشوة الانتصار وبهجة الحرية. في الوقت نفسه وجدت نبضة أسى في الأعماق أسفا على حرارة ستفقدها إلى الأبد. وضمت جلال إلى صدرها فتبدى لها ثمرة لحب لا يستهان به. وسرعان ما طالبها طموحها بالتعويض الكامل. وتجلت لها شخصيتها في صورة واضحة قاسية مجللة بالسمو والألم.
وقالت لها رئيفة هانم بمباهاة: هذه إرادتي إذا صممت!
أجل. إنها امرأة قوية رفيعة الشأن، غير أنها لم تنفذ مشيئتها إلا باللجوء إلى الفتوة. الفتونة حلم الخيال الأبدي، حسرة آل الناجي المهلكة، ذروة الحياة المتلفعة بأضواء النجوم.
33
وابتسمت مشجعة!
ها هو محمد أنور تاجر البطارخ يقول لها: مباركة عليك الحرية والكرامة.
وينتهز فرصة ذهاب رئيفة هانم لشأن من شئونها فيهمس: إني وقلبي في الانتظار.
وتشع عيناه ببريق الرغبة فيواصل ابتهاله: على سنة الله ورسوله!
ترى بأي عين ينظر إليها؟ عين تاجر إلى خادمة؟ الحق أنه لم يملأ عينيها قط. طالما رأته هشا وذليلا، ولكنه قادر على أن يجعل منها هانما من نوع ما. هل يمكن أن تطمع في خير منه؟
وابتسمت له مشجعة.
34
سكر عبد ربه تماما حتى مادت به أرض البوظة الثابتة. وسأل سنقر الشمام: هل يعيب الرجل أن يبكي؟
فضحك الخمار قائلا: إذا كان في حجم البغل مثلك.
فحمل عبد ربه القرعة بين يديه وجعل يميل بها يمنة ويسرة كأنما يرقص، وراح يقول: تلاش يا عبد ربه، اندفن في الظلام، حتى تراب الحارة أقوى منك. هل جربت قوتك إلا مع العجين وأنت تدفع به داخل الفرن؟ الله يرحمك يا عبد ربه! - ماذا جرى لعقلك؟ - طلق، طلقت، بكلمة انتهيت، حتى القملة تقاوم، يا فرحة العدا فيك يا عبد ربه!
فقال له سنقر محذرا: إطاعة الفتوة شرف!
فانذعر عبد ربه رغم سكره وتمتم: الحمد لله.
ثم وهو يتنهد: وقوة أخرى تطحنني! - ما هي؟ - حب الملعونة بنت الملعونة!
فضحك سنقر وقال: هذا ما يعيب الرجل حقا!
فغنى عبد ربه بصوت مثل النهيق:
عجايب والله عجايب
فقال له سنقر الشمام: اشتغل بالغناء فالمغنون فيما يبدو خائبون مثلك في الحب.
35
رجع عبد ربه يحمل الأرغفة إلى دار رئيفة هانم بعد أن تشفع له أكثر من رجل طيب. وذات مرة سألها بخشوع: لعلك عني راضية؟
فقالت له ببرود: ما فات مات!
فتردد قليلا، ثم قال بضراعة: دعيني أنفرد بها دقيقة.
فرمقته بحذر، ثم قالت: كلا. - أكلمها إذا أذنت لي حضرتك.
فتفكرت قليلا، ثم نادت زهيرة فجاءت في جلباب كحلي كوردة نضرة. ترامقا مليا فلم ترمش أو تغض بصرها. بدت غريبة بعيدة باردة. صورة متناقضة تماما مع صراع ناشب في الأعماق. قال عبد ربه: قلبي أبيض، لننس ما فات.
فلم تنبس بكلمة، فقال: ندمت على ما كان مني.
فواصلت الصمت حتى قالت رئيفة هانم: تكلمي يا زهيرة.
فقال عبد ربه متشجعا: رغبتي أن أردك، والعشرة لا تهون.
فتمتمت زهيرة: لا. - العشرة لا تهون ولا تنسى، وكانت لنا أيامنا الحلوة!
فغضت بصرها لأول مرة وقالت بحزم: لا أنت لي ولا أنا لك!
36
تسلل محمد أنور إلى الدار في غيبة الهانم. قابل زهيرة بلهفة وهو يقول: ليس من حقي الحضور، ولكني أجازف من أجلك بكل شيء. اتبعيني في الحال لنعقد زواجنا!
فتساءلت في كبرياء: من ضمن لك موافقتي؟
فقال بذل: إني أحبك يا زهيرة. - ولم تدعوني إلى الهرب كأني لصة؟
فتنهد وهو يقول: لا فائدة، لا تريد الهانم أن توافق أبدا!
فسألته بدهشة: فاتحتها في الموضوع؟
فحنى رأسه في غم وقال: عنيدة ومتكبرة!
تلقت طعنة في صميمها فقالت بزهو: إني من آل الناجي! - عنيدة ومتكبرة، أمرتني أن أنقطع عن زيارتها أنا الذي ولدت في هذه الدار.
واجتاحها الغضب فقالت له: سأتبعك في الحال.
37
زفت زهيرة إلى المعلم محمد أنور تاجر البطارخ. غضبت رئيفة ورمتها بالخيانة والخبث. دهشت الحارة وجعلت من الزيجة حديثها، فتردد كثيرا ذكر الحظ السعيد وليلة القدر وعجائب الحب. وحملت معها جلال فرحب به الرجل، وعد نفسه أسعد خلق الله.
وجدت زهيرة نفسها - لأول مرة - ست بيت. ها هي تملك شقة متعددة الغرف، ثمينة الأثاث، فيها الحمام والمطبخ، وبها خزان يملؤه السقاء كل يوم. وملكت أيضا الفساتين والملاءات القريشة وعرائس البراقع الذهبية. وباتت في عنقها قلادة، في أذنيها قرط، في ساعديها أساور ذهبية، في ساقها خلخال من فضة.
وحفلت سفرتها بالأطعمة اللذيذة، لا تكاد تقل نفاسة عن أطعمة دار عزيز أو دار رئيفة، وهي صاحبته كما هي طاهيته.
وما إن مضى الشهر الأول حتى قررت أن تحطم القضبان فهي تخرج لزيارة أمها أو جارة أو زيارة الحسين. ورآها الناس في زيها الجديد فهتفت أعماقهم سبحان الله الخلاق العظيم.
38
سعد محمد أنور بزهيرة سعادة تفوق الخيال. لم يقتصد في إعلان حبه وإعجابه وتعلقه الجنوني بها، وتدليله غير المحدود لها. ومن بادئ الأمر لم يرتح لخروجها وعرضها فتنتها الباهرة على الأعين. وأفضى إليها بملاحظاته في رقة بالغة ولكنه كدر صفوها، فسرعان ما تراجع وهو يبالغ في ملاطفتها. اكتشف أنه يتحمل أي مكروه إلا أن يغضبها أو يحرم من رضاها ومرحها.
وأدرك أنه ضعيف حيالها، مستهتر بالوصايا التقليدية، ولكنه استسلم لتيار لا قبل لقلبه بمقاومته. عرف نفسه تماما، عرف أنه أسير الحب ولعبته.
وثمة شعور عميق وضح له مثل صورة حيوان خرافي، وهو أنه لم يملك معبودته بعد، لعله لا يستطيع أن يملكها؟ لعلها تستعصي على أن تمتلك، إنه شعور مهزوم ذو وجه أصفر، يتعلل بالعلل، ويستنجد بالأوهام، ويغطي مرارته بالعطايا وحلو الكلام. إنه عبد الحب لا نده ولا سيده، وزنه في يده لا في قلبه أو جسده، تستوي لديه حمرة الشروق وحمرة الشفق. إذن فليتوار وراء الرقة والعذوبة ليحظى ببسمة الثغر الوردي، ونظرة العين الساجية، ورشاقة الجيد وهو يتمايل في رضا.
39
وزارت يوما ولية نعمتها عزيزة هانم فقبلت يدها وقالت: دفعت بي ظروف إلى دار أخرى ولكن قلبي لم يتحول.
وصفا قلب عزيزة بالكلمة الطيبة. لثمت خدها وأجلستها إلى جانبها فعاملتها كند لها. امتلأت بنفحة سعادة وخيلاء. شربا القرفة وأكلت طبق علي لوز بالمكسرات. وسألتها عزيزة عن حالها وزوجها وجلال ابنها. وجاءت ألفت هانم فرحبت بها. وقالت لها عزيزة: هذا ما يستحقه جمالك والجمال سيد الأكوان.
فقالت زهيرة: بل دعاؤك وعطفك يا سيدة النساء.
40
وعقب محمد أنور على الزيارة متسائلا: ورئيفة هانم ألا تزورينها أيضا؟
فقالت بغصة: المتكبرة! عليها اللعنة. - سيجن جنونها! - فليجن جنونها.
فساوره القلق وتمتم: لا حد لشرها!
فتساءلت وهي تسبل جفنها على نظرة ماكرة: ألست رجلا؟
فتقلص قلبه وصمت.
41
وذات أصيل شهدت الحارة منظرا لا ينسى.
كانت زهيرة سائرة تخطر في ملاءتها الفاخرة عندما وقف دوكار رئيفة هانم على كثب منها. وأطل رأس الهانم، وسمع صوتها وهي تقول بنبرة عتاب لا تخلو من مسحة من مودة: زهيرة!
فالتفتت زهيرة مرتبكة، فقالت الأخرى: يا خائنة!
لم تملك إلا أن تقترب مادة يدها على مرأى ومسمع من كثيرين، بينهم جبريل الفص وخليل الدهشان وعبد ربه الفران. وقالت رئيفة: متى تزورينني؟
فأجابت زهيرة وهي تزداد ارتباكا: في أقرب فرصة يا هانم، ما منعني إلا ...
وغمغمت في حيرة، فقالت رئيفة بنبرة عدوانية قاسية متحدية مباغتة: يسعدني أن أرحب بخادمتي المخلصة.
وسرعان ما اشتعل الغضب بقلب زهيرة فهتفت: إني هانم مثلك!
واندفعت في طريقها وقد أعماها الانفعال.
42
وكان عبد ربه الفران يسكر في البوظة ورياح أمشير تزمجر في الخارج. وإذا به يقول: حلمت أمس حلما عجيبا.
ولما لم يسأله أحد عما رأى واصل حديثه: رأيت الخماسين تهب في غير أوانها.
فقال الخمار سنقر الشمام ضاحكا: حلم من صنع الشيطان. - اقتلعت الأبواب، أمطرت التراب، طيرت عربات اليد، أطاحت بالعمم واللاثات. - وماذا صنعت بك أنت؟ - تركتني أرقص فوق جواد أصيل.
فقال له سنقر: أحكم الغطاء فوق دبرك قبل النوم!
43
شعر محمد أنور بالخوف يزحف نحوه. أشباح الأخطار تتراقص في أركان دنياه الضيقة. هل يحيق به مصير مثل الذي حاق بعبد ربه الفران؟ وجعل يختلس النظرات من وجه زهيرة ويستجمع همته. قال لها: إنك حبلى يا زهيرة في الشهر الرابع فيحسن بك أن تستقري في بيتك. فقالت باستهانة: لم أشعر بالعجز بعد!
فراح يداعب جلال بحنو ليخفف من وقع كلامه وقال: لقد تحديت قوة لا يستهان بها، فمن الحكمة أن ننطوي على أنفسنا.
فقالت ببرود: كأنك خائف!
فقال مداريا استياءه: بل أرغب في توفير السعادة لبيتنا! - إني أمارس حرية مشروعة.
فقال بوضوح أكثر: الحق أني غير مرتاح لذلك.
ففكرت قليلا، ثم قالت: الحق أني لا أطيق ما تدعونني إليه.
فقال بإشفاق: ولكني زوجك. - أيعني هذا أن تدوسني بقدمك؟ - معاذ الله، ولكني ذو حق غير منكور.
فعبس وجهها حتى اكفهر جماله، وقالت بحدة: لا!
فتردد بين الصمت والعناد، ثم آنس منها ازدراء أثاره، فقال بغضب: إني ذو حق.
فقالت باستهانة: لا توجع رأسي بحقك.
فغلبه الغضب أكثر وقال بحدة غير معهودة: لي حق الطاعة.
فحدجته بدهشة ضاعفت من غضبه فعاد يقول: حق الطاعة الكاملة!
فطفح وجهها بالرفض والصلابة وفسد الجو أيما فساد.
44
استمد محمد أنور من يأسه شجاعة. وكان في صميمه مشفقا من فقدها؛ لذلك ما كاد يراها - من دكانه - خارجة إلى طريقها حتى فقد رصانته فاعترض سبيلها وقال لها بحزم: ارجعي إلى البيت!
فذهلت وهمست له: لا تثر فضيحة.
فقال بعناد: ارجعي إلى البيت.
ولمحت الأعين تزحف نحوها مثل الأفاعي، فاضطرت إلى الرجوع وهي تغلي.
45
في المساء، وعند ذهابه إلى بيته، وجد محمد أنور عاصفة في انتظاره. كان يتوقعها تماما. وكان أبغض شيء إلى قلبه أن يتمادى في الغضب، أن يفسد الجو، أن يطمس الجمال المعبود بالسخط. وأبدى استعداده لأي تنازلات تحت شرط الإذعان لرغبته المشروعة. قال لها: لا تتصوري أنى أسعد بإهانتك، ما أريد إلا المحافظة على سعادتنا. ولكنها بدت مثل هبة من غبار. اصفر الوجه وانقلبت السحنة وتطاير من العينين شرر. تجسد الغيظ مقتا أسود، وطفرت الكبرياء حية متوثبة. وقال لنفسه أعوذ بالله من هذا الشر، أعوذ بالله من هذا القلب، ألا يشفع لي ما صنعت معك؟
46
ووجدت زهيرة نفسها في سعير. إنها تأبى أن تنهزم، ولا تنسى موقفها الأليم بين يديه في الحارة. وهي لا تحبه ولم تحبه قط. ولكن كيف تتصرف وأين تذهب؟ في مثل حالها تذهب الزوجة إلى أهلها وهي لا أهل لها. فإما سيدة في ذلة، وإما هائمة على وجهها. تتربص بها الشماتة في أكثر من دار، وفي بدروم عبد ربه أيضا.
وتذكرت سيدها الأول المعلم عزيز سماحة الناجي، وجيه الحارة، وصديق زوجها. سيعلم الزوج أنها ليست مقطوعة من شجرة على الأقل. وتسللت إلى محل الغلال ورذاذ يتساقط فبل ملاءتها ووجنتيها. اقتحمت عليه حجرة الإدارة. وجدته وحده، مجللا بوقاره الجميل وقد وخط المشيب - متعجلا بعض الشيء - شاربه. عرفها من أول نظرة. عرفها رغم البرقع. لم يكن في حاجة إلى تذكر هاتين العينين الساحرتين المطلتين حول العروس الذهبية. خيل إليه أنه القدر يقتحم حصنه.
تهادت إلى أذنيه نبرتها الناعمة وهي تقول: لم أجد سواك ملجأ لحيرتي.
فتساءل وهو يضبط عواطفه المتضاربة: ما الحيرة كفى الله الشر؟ - زوجي! - إنه رجل طيب فيما أعلم. - ولكن معاملته ساءت جدا في الأيام الأخيرة. - بلا سبب؟ - يرغب في إذلالي.
وقصت عليه موقفه في الحارة، فتفكر عزيز قليلا، ثم قال: التصرف بعيد عن الحكمة، ولكن حقه المشروع لا جدال فيه.
فقالت بحرارة: لا يفرض السجن على امرأة في حارتنا.
فتبسم المعلم عزيز وقال لها: سأتحدث عنك باعتبارك من آل الناجي، ولكن عليك أن ترضي بالمعقول.
47
شفاعة المعلم عزيز لم تحقق لها إلا ما هو دون القليل. لم يعد أمامها إلا الإذعان ولو إلى حين. إنها تذعن وتضمر السوء معا. غير أن لقاء المعلم عزيز أسفر عن أشياء لم تجر لها في خاطر من قبل. أشياء مثيرة جنونية رائعة الجمال. أشياء قذفت بها إلى دنيا مغمورة بالأحلام. قالت لنفسها إن المعلم عزيز معجب بها. بل أكثر من ذلك. لقد أدلت عيناه باعترافات فاتنة فمتى بدأ ذلك؟ حقا ما من رجل رآها إلا وفتن، ولكن هل المعلم عزيز مثل سائر الرجال؟ ثم إنه متزوج وهي متزوجة. وهو كهل أيضا ومثال للنبل وحسن السمعة. مثله لا يمد الطرف إلى امرأة متزوجة، متزوجة من صديق.
وما أزهدها هي في علاقة غير مشروعة! ما فائدتها؟ إنها تطمح إلى اكتساب حق. في سبيل ذلك وطئت قلبها بلا رحمة، في سبيل ذلك تحس أحيانا بجيشان.
الجنون السامي في قدح من الخمر المقدسة. وتراءى لها عزيز سماحة الناجي في هالة حلم وردي لم تدر كيف يمكن أن يتجسد لها في عالم الحقيقة. هل يمكن ذات يوم سحري أن تصبح ضرة لألفت هانم، وشبه ابنة شرعية لعزيزة هانم؟
هل يمكن أن تتسلطن يوما في دار فاخرة، وتستقل بالدوكار ذي الجرس الرنان؟
وتضاءل محمد أنور حتى انقلب ذرة من سخام متطايرة فوق أديم طريق طويل ليس له نهاية.
48
وعندما وفدت الفلاحات يبشرن بالفيضان ويبعن البلح، كانت زهيرة تعاني ولادة عسيرة أنجبت في أعقابها راضي الابن الثاني لها.
وسعد به محمد أنور سعادة خففت عنه ويلات الهموم والقلق، وأمل أن يكون فاتحة عهد جديد من زيجة حكيمة موفقة.
وكانت أم هشام الداية تعودها يوما بعد يوم حتى اجتازت العناء بالسلامة.
وفي آخر زيارة همست في أذنها: عندي لك رسالة.
فرمقتها زهيرة بنظرة متسائلة، فقالت العجوز: رسالة من السماء!
فجرى خاطرها إلى عزيز وتساءلت: ماذا عندك يا أم هشام؟
فقالت ووجهها يكتسي بقناع الإثم الشاحب: رسالة من نوح الغراب فتوة حارتنا.
دق قلبها بالمفاجأة. توقعت شهابا من الشرق فمرق شهاب من الغرب. تمالكت أعصابها وقالت: ألا ترين أني زوجة وأم؟!
فقالت العجوز: ما يمر يوم إلا ونرى الشمس وهي تشرق، ثم نراها وهي تغرب، وما على الرسول إلا البلاغ.
49
سرعان ما تقهقر محمد أنور. تخلى عن صلابته الطارئة الزائفة فآوى إلى ضعفه الفطري. لشد ما آمن بأن زهيرة جوهرة، بلا قلب، وأنها تفلت من قبضته مثل الهواء. غير أنه لم يتصور الحياة بدونها. هي روح الحياة وعادتها المسيطرة، وهي شديدة الخطورة لا يؤمن لها جانب. وهل ينسى ما حاق بعبد ربه الفران؟ لا ثقة له فيها، وكلما تزعزعت ثقته نزع أكثر إلى الالتصاق بها والاستحواذ عليها بأي ثمن. وفشله في ذلك يعني فشله في الحياة كلها، في الدنيا والآخرة معا. وسوف يظل الخصام بينها وبين رئيفة مصدر إزعاج له على طول المدى. إنه يعي تماما أنه أتعس الناس، وأن عليه ألا يضن بتضحية.
ها هو مجلس المساء يضمهما معا. هي ترضع راضي فوق ديوان، هو يدخن البوري، جلال يلاعب قطة. الحق أنه لم يعد يطيق جلال. طالما عطف عليه وأحبه في الماضي، ولكن ما إن جاء راضي حتى مقته وتمنى زواله من الوجود، غير أن معاملته له لم تتغير، ظل يغمره بأبوة باسمة كاذبة، يضيف بها إلى أشجانه عناء جديدا.
وقال لزهيرة وهو يعتقد أنه يفعل المستحيل لاسترضائها وامتلاكها: عندي لك مفاجأة سارة.
فنظرت نحوه بفتور فقال: هدية السلامة!
فابتسمت، فواصل: عقد شراء صوري تصبحين به مالكة لبيتي!
تورد وجهها وقالت بحبور: يا لك من رجل كريم!
إنه بيت من ثلاثة طوابق، وأسفله دكان الفول. وسعد الرجل بفرحتها فاسترد بعض طمأنينته. وأسعدها حقا أن تصبح مالكة. ومن أعماقها شكرته. وشكرته أيضا لاعترافه الضمني بقوتها وندمه على تحديها. ولم يخل وجدانها من ازدراء له، ولم يوقف ذلك انشغالها الدائم بعزيز ونوح الغراب.
عزيز الغني، ونوح القوي. وعزيز ذو قوة أيضا، كما أن نوح ذو ثروة تتزايد مع الأيام. عزيز له زوجة، ونوح له أربعة وقطيع من العيال. لا غنى عن القوة، ولا غنى عن المال. المال يخلق القوة، والقوة تخلق المال. ترى كيف تسير الأمور؟ إنها تؤمن بأنها لم تكد تبدأ بعد. وهي تفكر في ذلك كله وهي قريبة من أنفاس محمد المترددة.
50
قرر محمد أنور أن يحصن سعادته بنوح الغراب. زاره في داره وجلس بين يديه في بهو الضيوف كما يجلس الغلام بين يدي شيخ الكتاب. ودون أن ينبس قدم له صرة موحية. تناولها الفتوة. مضى يعد ما فيها، ثم قال: لقد أديت الإتاوة، فلم هذا القدر الجسيم؟
فقال محمد أنور: أريد أن أستظل بحمايتك. - لك أعداء؟ - وقاية من القدر!
فأعاد إليه الصرة بلا اكتراث وابتسم. خفق قلب محمد بانزعاج غير متوقع، فاتسعت عيناه في ارتياب وجزع. وتمتم نوح الغراب: سبق القدر!
يا للويل! هل لعبت رئيفة لعبتها؟ هكذا تصور؛ لأنه لم يخطر له ببال أن نوح الغراب يعمل لحسابه الشخصي. وقال نوح الغراب: كنت على وشك أن أرسل في طلبك.
فقال محمد أنور بريق جاف: ما الخبر يا معلم؟!
فقال بهدوء مقيت: لأنصحك بتطليق زوجتك!
غاص قلبه في صدره وشعر بالموت. تساءل مذهولا: أطلق؟ لا يوجد في حياتي ما يتطلب ذلك!
فقال له بنبرة قاطعة: طلق زوجتك!
51
غادر محمد أنور دار نوح الغراب وهو فاقد لحواسه الخمس. هل جاء دوره ليعامل كما عومل عبد ربه الفران؟ هل كابد تاجر محترم معاملة مثل هذه من قبل؟ هل تهون عليه حياته وسعادته وكرامته كأنها لا شيء؟!
واجتاحه غضب يائس عصف بتردده ونثره في الهواء.
جن محمد أنور تماما: أقدم على ما لم يقدم عليه أحد من قبل في الحارة.
52
ذهب جبريل الفص شيخ الحارة إلى الفتوة نوح الغراب في مجلسه بالقهوة فحياه وقال: حضرة فؤاد عبد التواب مأمور القسم يطلب مقابلتك.
عجب الفتوة وتساءل مقطبا: لماذا؟ - لا علم لي يا معلم، وما على الرسول إلا البلاغ.
فتساءل بتحد: وإذا رفضت؟
فقال شيخ الحارة بملاينة: لعله يريدك لتقديم خدمة للأمن العام يا معلم، ولا موجب للتحدي بلا ضرورة!
فهز الفتوة منكبيه استهانة وصمت.
53
استقبل المأمور فؤاد عبد التواب الفتوة نوح الغراب بترحيب. جلس الفتوة أمام مكتب المأمور متحليا بابتسامة لطيفة وروائح الجلد تفعم أنفه. قال: يسعدني ورب الحسين أن أقابل المأمور.
ابتسم المأمور. كان بدينا متوسط القامة، كث الشارب، حسن الملامح.
قال: يسرني أن أقابلك يا معلم. الفتوة في الواقع من رجال الأمن! - تشكر يا حضرة المأمور. - والفتوة هو فارس الحارة وحاميها أيضا، هو المروءة والشهامة، يد الشرطة وعينها في مجاله، هكذا تقدركم الداخلية.
فكرر وقلقه يتكاثف: تشكر يا حضرة المأمور.
فقال بحزم يتناقض مع مجاملاته: لذلك أتوقع أن يجد المعلم محمد أنور الأمن في كنفك.
فاحمر وجه الرجل وتساءل: هل شكاني إليك؟ - لي وسائلي في معرفة الأخبار، وهبه لجأ إلي فهذا من حقه، ومن واجبي أن أوفر له الأمن، ولكني أقنع بمطالبتك بذلك!
وفصل بينهما صمت. أدرك أن المأمور يحذره وينذره بأسلوب لطيف.
ولما طال الصمت سأله المأمور: ما قولك؟
فقال نوح الغراب بهدوء مريب: نحن أول من يحترم القانون.
فقال المأمور بحزم: أعتبرك مسئولا عنه!
54
لم يحدث شيء كهذا من قبل في الحارة. لم يكن يدخلها شرطي إلا عند الضرورة القصوى، وكافة جرائم الفتوة تنسب عادة إلى مجهول حيال تصميم شهود الزور. فهل يفعل المأمور فؤاد عبد التواب ما لم يفعله غيره إذا عثر على جثة محمد أنور تحت القبو أو في الممر؟ وكيف واتت الجرأة محمد أنور على الاستغاثة بالمأمور؟ وكيف قبل المأمور أن يتحدى نوح الغراب بأسلوبه اللزج ؟ وبدا لأول مرة أن مأمورا يضع نفسه في كفة ميزان واحد مع فتوة، مخاطرا بهيبته المزركشة!
ولكن ثمة جانبا مجهولا خفي على الناس هو شخصية فؤاد عبد التواب. كان رجلا شجاعا وعنيدا. وقد عرف في ريف الصعيد قبل نقله إلى القاهرة بالسفاح! ولولا تقاليد الداخلية نفسها في سياستها المرسومة مع الفتوات لأقدم بدافع ذاته الجريئة على تصفية الفتونة من الحارات كلها.
لذلك ما كاد يبلغه أن محمد أنور لم يستشعر الأمان المنشود حتى قام بمظاهرة حاسمة ألجمت الألسنة وهزت جذور القلوب. ما تدري الحارة ذات يوم إلا والمأمور يغزوها على رأس قوة مسلحة! ترامت نداءات عسكرية جاذبة للأسماع والأنظار، ثم تراءى جبريل الفص وهو يتقدم بين ثلة من المخبرين، يتبعه ضابط القسم، فالمأمور في حلته الرسمية، وأخيرا طابور ضخم من الجنود المدججين بالسلاح. سار الموكب في تؤدة وحزم حتى اخترق القبو إلى الساحة، وهناك قام بتكوينات عسكرية مدمدمة، ثم رجع على مهل وقد اصطف الناس على الجانبين كأنهم في يوم المحمل. لم يأبه المأمور بالنظر نحو الناس، ولكن عينيه كانتا تتسللان أحيانا إلى النوافذ المكتظة بوجوه النساء.
وعلى مبعدة يسيرة من السبيل اقترب شيخ الحارة من المأمور، ولفت نظره إلى زهيرة في نافذتها باعتبارها محور المعركة الدائرة. ولبث نوح الغراب في مجلسه بالمقهى، أما محمد أنور فقد انقبض صدره في دكانه وتوقع مزيدا من الشر لا الأمان، على حين راح عبد ربه الفران يتابع الموكب بذهول ويقول لمن حوله: سنشهد قريبا قيام القيامة!
55
وأكثر من مرة لاحظت زهيرة أن المأمور فؤاد عبد التواب «يصادفها» في السكة الجديدة وهي راجعة من زيارة الحسين. وأكثر من مرة لاحظت أنه يثقبها بنظرة حادة جامحة جائعة. وغمغمت لنفسها «حتى المأمور»! وبدا الميدان ساخرا وحافلا بالفتن مثل جراب الحاوي المليء بالفئران والقطط والثعابين. وهزها طرب الخيلاء. وتهيأ لها أنها تمتطي نسرا خرافيا يرف جناحاه بالقوة والإلهام والخلق. عزيز، نوح الغراب، فؤاد عبد التواب، السحر والحب وقمة المجد المكللة بالنجوم. وتتابع نبض قلبها، وعند كل نبض تتشكل صورة براقة تخرق كل مألوف.
56
واستدعى المأمور محمد أنور إلى مقابلة في سرية مطلقة. أجلسه أمامه وقال: لقد رفعت راية القانون بقوة لم تعرفها حارة من قبل، فهل أتاك الأمان؟
فهز محمد أنور رأسه في حيرة وقال: لا أدري.
فقال فؤاد عبد التواب بتسليم: صدقت، أنا مثلك، الحق أني أخاف عليك.
فقال محمد أنور بقلق: لا تساوي الحياة مليما في حارتنا! - صدقت، قد يقتلك أي وغد حقير، ماذا يفيدك بعد ذلك لو سحقنا الفتونة واقتلعنا جذورها؟ - أجل ماذا يفيدني!
فتساءل المأمور: هل تسمع نصيحة وإن بدت غريبة؟ - ما هي؟ - طلق زوجتك!
ذهل محمد أنور وتمتم: أنت تنصحني بذلك؟! - إنه أشق على كرامتي مما هو على كرامتك، ولكني أخاف على حياتك. - أكاد أجن يا حضرة المأمور.
فقال المأمور بدهاء: ما هو إلا إجراء مؤقت حتى أسوي الحساب مع الطاغية. - إجراء مؤقت؟ - ثم يعود كل شيء إلى أصله!
تفكر محمد أنور مليا، ثم قال: سأفكر في الأمر بكل جدية.
57
رجع محمد أنور إلى بيته وهو يتخبط في اليأس. ومن جوف اليأس دهمه إلهام مباغت، فقال لزهيرة: اجمعي ما خف وغلا، سنهرب الليلة بعد أن تنام الحارة.
ذهلت زهيرة وتمتمت: نهرب!
حتى المأمور نصحني بأن أطلقك! - المأمور؟! - اعترف بعجزه عن حمايتي فلم يبق إلا الهرب.
فطنت إلى ما وراء نصيحة المأمور، ولكنها لم تدر كيف تتصرف مع زوجها. تساءلت بارتياع: أين نذهب؟ - بلاد الله واسعة، معي مال لا بأس به، سننشئ عملا جديدا.
يا للشيطان! يريد أن يبدد أحلامها بضربة واحدة؛ كي تصبح طريدة، ولكي ترتبط به إلى الأبد، كي تئد القوة والوجود، كي تذوب في عتمة الشقاء مثل سماحة. ومن يدري فقد تضطر إلى العمل بيدها من جديد مثل المتسولات؟ ألا فليهرب الجبان وحده! فليختف من حياتها إلى الأبد! - لا تضيعي الوقت.
فقالت بفتور: بل فكر في الأمر مرتين. - فكرت مائة مرة فلم يبق إلا الهرب. - كلا. - كلا! - إنه مستحيل. - إنه ممكن، ستعرفين ذلك قبل طلوع الفجر.
فقالت بعناد: كلا.
فرمقها بذهول فقالت: إنه التشرد والضياع.
فقال بارتياب: لدي ما يكفينا. - كلا. - ألا ترين أني ها هنا مهدد بالقتل؟ - لقد أخطأت وأنت تعرف ذلك! - ما من حيلة أخرى كانت بوسعي! - وما ذنبي أنا؟
فقال بنبرة جنونية: على الزوجة أن تتبع زوجها!
فتبدت صلبة نافرة متحفزة للتملص والمقت، ثم قالت: ليس في وسعك أن تحميني!
فضرب صدره بقبضته وهتف: أيتها الأفعى!
وبحركة غريزية تراجعت إلى النافذة، فهتف: تريدين أن تلعبي لعبتك القديمة!
وقرأت الموت في صفرة نظرته اليائسة وتكور قبضته وتصلب عوده، فصرخت بأعلى صوتها مستغيثة من النافذة، على حين وثب نحوها كالنمر.
58
كسر الباب. تدفق إلى الداخل نوح الغراب، المعلم عزيز، وجبريل الفص شيخ الحارة. تراجع محمد أنور. سقطت زهيرة مغمى عليها. دوى صوتا جلال وراضي.
شغل الرجال بإعادتها إلى الوعي. أفاقت. اختفى محمد أنور تماما. نظر نوح الغراب إلى جبريل الفص نظرة ذات معنى، فقال شيخ الحارة بنبرة رسمية: جريمة شروع في القتل وهرب!
فتمتم عزيز: يكفي أنه هرب.
فتساءل نوح الغراب: والجريمة؟
وقال جبريل الفص: الجريمة واضحة مثل الشمس ونحن شهودها!
وقال عزيز مخاطبا زهيرة: أدعوك إلى البيات عند أمي هذه الليلة!
59
اختفى محمد أنور دون أن يطلقها. سرعان ما رجعت إلى شقتها. ثملت بادئ الأمر بشعور الحرية، ثم آمنت بأنها ما زالت مشدودة إلى زوجها برباط الزوجية. رغبت بشدة في الانطلاق، واجتاحتها نفثات الأحلام الذهبية.
صممت على ألا تضيع دقيقة من حياتها. وزارت المعلم عزير سماحة الناجي وقالت له: هرب وهو الآن يمارس انتقامه من بعيد.
أدرك عزيز ما تعنيه. وجد فيه عذوبة وسحرا. ثمل بالغبطة والأمل.
سألها: كيف تتيسر لك الحياة؟ - إيراد البيت يوفر لي عيشة الكفاف.
فقال برقة: لست وحيدة فثقي من ذلك.
فحنت رأسها امتنانا وقالت: الشكر لك، ولكني أريد أن أؤمن حياة الطفلين.
فتساءل وقلبه يخفق: ماذا عندك من رأي؟
فقالت بجرأة: أطالب بالطلاق باعتباره مجرما هاربا.
هكذا انفتح أمامه باب المجهول عن مغامرة مزلزلة، فقال: علينا أن نفكر في ذلك.
60
وشغل المعلم عزيز بمتابعة محاكمة محمد أنور غيابيا وتوكيل محام للمطالبة بالطلاق، وظل قلقا معذبا بين رغبته وبين سمعته، بين قلبه وبين احترامه لألفت وصديقه محمد أنور، على حين تتابعت الأحداث من وراء ستار معلنة عن أهوائها الحارة الجنونية.
61
وجاء أول طارق في الليل. فتحت الشراعة فرأت شبحا، وشمت رائحة مثيرة للحنان والتقزز. تساءلت بريبة: من في هذه الساعة من الليل؟
فجاءها الصوت القديم قائلا: عبد ربه الفران.
تحركت أعماقها بالرغبة والغضب معا. هربت من ضعفها متسائلة بحدة: ماذا تريد؟
فقال بنبرة مخمورة متوسلة: لنرجع إلى حياتنا. - مجنون وسكران. - أنا زوجك الوحيد. - اذهب وإلا ناديت الناس.
أغلقت الشراعة وهي تموج بالغضب والمقاومة.
62
تسلل إلى بابها في نفس الليلة جبريل الفص شيخ الحارة. دخل متلفعا بالحذر والخوف، وسرعان ما قال عقب جلوسه مباشرة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولكن لا مفر من إبلاغ الرسالة.
قالت وهي تخمن ما وراءه كما تخمن مخاوفه: هات ما عندك. - حضرة المأمور يطلب يدك!
صدق التخمين. إنه يخشى في الوقت نفسه أن يفطن نوح الغراب إلى دوره. ولكن ما المأمور؟ ماذا يستطيع أن يعطيها إلا اسما ومظهرا فارغين؟
ربما كان عزيز أفضل الثلاثة، ولكن نوح الغراب قوة لا يمكن تجاهلها، وهو أيضا القوة الحقيقية والسيطرة غير المحدودة. - ما قولك يا ست زهيرة؟ - هل يسكت نوح الغراب؟ - المأمور متكفل بأمره!
فقالت بمكر: لي طفلان، دخلي محدود، والمأمور متزوج وأب. - هو أدرى بطاقته.
فترددت قليلا، ثم قالت: وأنا أدرى بما أريد!
فتساءل جبريل الفص: تفضلين أن تكوني خليلة للغراب على أن تكوني حليلة لحضرة المأمور؟!
فهتفت بحدة: إني أشرف هانم في الحارة!
63
قبل أن يذهب جبريل الفص جاءت أم هشام الداية فأخفتها في حجرة أخرى. ولما خلت إليها قالت العجوز: لا شيء يقف في سبيلنا الآن.
فقالت زهيرة: نوح الغراب على العين والرأس، ولكنه متزوج من أربع! - تحلين محل إحداهن!
فقالت بكبرياء حادة: زهيرة لا تكون ضرة لامرأة!
فتساءلت العجوز بدهشة: يطلق الأربع؟!
فقالت بإصرار: هو حر فيما يفعل وما يشاء !
64
وطلق نوح الغراب زوجاته الأربع.
زلزلت الحارة بالخبر، كما زلزلت به أسرات أربع، وتردد اسم زهيرة على الألسنة كأنشودة للجبروت والقسوة. تلقى المأمور الخبر فعض عل شفته، وعلم به عزيز فذهل، ولكنه انطوى على أساه في صمت.
ومن المصادفات أن جاء خبر موت رمانة في سجنه في يوم الزفاف، وفي اليوم نفسه انتحرت رئيفة هانم حزنا على رمانة مشعلة النار في نفسها!
وسارت زفة نوح الغراب في موكب ضخم، وفي أمان من عهود الصداقة بينه وبين فتوات الحارات المجاورة. غير أنه حدثت مفاجأة في الدراسة لم يتوقعها أحد؛ إذ تحرش فتوة العطوف بالزفة خارقا العهد والذمة.
كيف حدث ذلك؟ ولماذا حدث؟
على أي حال نشبت المعركة دامية. وسرعان ما ظهرت قوات من الشرطة كأنما كانت متربصة للحظة مناسبة.
عملت القوات على فض المعركة بلا هوادة.
وإذا برصاصة تصيب العريس فترديه قتيلا.
65
اشتعلت الحارة بالخبر. شيعت فتوتها في جنازة مهيبة. وفزعت زهيرة للخبر أيضا. فزعت أكثر مما حزنت. اغتمت لاقتران زفافها بالفجيعة.
أسفت لأنها لم تستمتع بالفتونة إلا ساعات. تقول الحاسدون - وما أكثرهم - بأن زيجتها الجديدة صادفت مصيبتين وجرت ست مصائب.
صادفت موت رمانة وانتحار رئيفة. وجرت القضاء على محمد أنور، وتطليق أربع نساء، ومصرع نوح الغراب؛ فأي شؤم يسير بين يدي هذه المرأة الجميلة التي لا يقف طموحها عند حد! اكتأبت لذلك، ولكنها صرفته عن بالها بإرادة من حديد. وحسبت الثروة التي ستئول إليها ببهجة عميقة استقرت تحت قشرة الحداد. سرعان ما أفاقت من الصدمة فغمرها الارتياح. ها هي تتمتع ببعض جاه الفتونة دون أن تؤدي ثمنها لرجل لم تشعر نحوه بأي عاطفة طيبة قط.
الأجدر أن تعترف بأنه قتل في اللحظة المناسبة قبل أن ينتهك حرمة جسدها الجميل. وإنه لقي الجزاء الذي يستحقه كل طاغية قذر. وأي امتهان كان يلحق بالناجي العظيم إذا استسلمت حفيدته الرائعة لمجرم فاسد في لباس فتوة؟ وقالت إنه لا ملامة عليها إلا إذا ليمت ريح أبية لاقتلاع شجرة خاوية نخرها السوس.
66
وجرى همس متوتر بأن المأمور فؤاد عبد التواب يكمن وراء التدبير المحكم الذي انتهى بهلاك نوح الغراب، وأنه أزاحه من طريقه لا دفاعا عن الأمن، ولكن طمعا في الاستحواذ على زوجته الفاتنة زهيرة.
وضاعف من سوء الظن به تدخله العجيب لمنع اختيار فتوة جديد للحارة، فمضت الحياة في الحارة بلا فتوة يضبطها لأول مرة في حياتها الطويلة العريقة، وشعر الناس بمذلة لم يشعروا بمثلها من قبل.
وتساءل المتسائلون متى يحسر المأمور القناع ويتقدم للزواج من زهيرة؟!
67
واستأذن شيخ الحارة في مقابلتها. أدركت في الحال ما وراء المقابلة. بدت فاترة حيال المأمور. إنها اليوم أغنى من المأمور وقسمه جميعا. عزيز سماحة الناجي لؤلؤة ثمينة صالحة لتتويج أحلامها. عيبه أنه سيد محترم نبيل ورث عن جده نبله دون قوته وجرأته. لقد عشق الجد ذات يوم امرأة يتنافس فيها ابناه، فأدب الابنين وتزوج المرأة! أما عزيز فعاشق يكتم الحب، ينطوي عليه، يتجنب الخطأ، ويتوغل في العمر. ربما كان بوسعها أن تسحره وتملكه، ولكن ما جدوى ذلك وثمة رجل عنيد مجرم - المأمور- لا يتورع عن أن يدبر لعزيز مثلما دبر لنوح الغراب؟!
آه يا نسمة الأمل المضيء الهائمة فوق السحاب!
68
وقالت لجبريل الفص: ليكن معلوما أني لا أرضى بضرة!
فقال شيخ الحارة: معروف أن زوجة المأمور تكبره مثل أم، وهي غنية، فهل تسدين الفراغ؟ - ماذا يوجب علي ذلك؟
فقال شيخ الحارة محذرا: إنه مصيبة من مصائب الزمان.
غضبت. كتمت غضبها تماما. نشط خيالها وتصلبت إرادتها. تظاهرت بالاستسلام وهي تقول: لينتظر العدة وعند الله التوفيق.
فتهلل وجه شيخ الحارة وتمتم: الحمد لله رب العالمين!
69
لم تفرط في دقيقة بلا عمل. اقتحمت حجرة المعلم عزيز مثل نسمة ثملة بالندى والعطر. أنيقة حزينة المظهر، ذات نظرة فاتنة مبتهلة. لمحت تورد وجهه، واختلاج عينيه، وجيشانه بالانفعال، فقالت بنعومة مستغيثة مؤثرة: ما حيلتي وليس لي في الضيق سواك؟!
ها هو يعترف بالحب كل شيء فيه إلا لسانه. قال: أهلا بك يا زهيرة هانم! - فانتشت بالأدب وتساءلت: ماذا أفعل؟ هل أستسلم للمأمور السفاح ؟
فتساءل عزيز مستنكرا: طلب يدك؟ - بلا حياء.
قطب الرجل، فقالت: أي خاتمة لامرأة سيئة الحظ لم تحظ مرة واحدة بحرية اختيار شريك حياتها.
فقال بتأثر واضح: لا ترضي بما تكرهين. - أعترف لك بأني أخشاه!
فقال بحدة: كلا! - إنه مجرم كما يعلم الجميع، هو الذي قتل نوح الغراب. - مجرم قتل مجرما!
فقالت بهدوء: أجل، لو استجوبت الداخلية رجال العطوف لوقفت على الحقيقة.
ونظرت إليه مليا، ثم قالت: القضية تتطلب رجلا محترما يمكن أن تسمع كلمته في الداخلية!
وانجابت سحابة الصيف عن وجه الشمس المنير.
70
صدر أمر مفاجئ بنقل المأمور فؤاد عبد التواب إلى الصعيد. خلت السماء من نذر العواصف المهلكة. وتربع صيف مزدهر بالبطيخ والشمام والعنب. سرعان ما وثب إلى الفتونة سمكة العلاج. أما زهيرة فقد أسكرتها الخيلاء، فآمنت بأنها الفتوة الحقيقي وراء الأحداث. قالت أنا العقل، أنا الإرادة، أنا الجمال، أنا الفوز. رمقت جلال وراضي بحنان وهمست: ليكن مجدكما فوق كل مجد!
71
وبادرت إلى زيارة المعلم عزيز الناجي لتشكره، فقالت منشرحة الصدر: هكذا يكون الرجال وإلا فلا.
فابتسم الرجل المفتون وتمتم: يسعدني أنك سعيدة.
فقالت بدلال: نجوت من الوباء مثل جدنا العظيم.
ثم بحزن: أما السعادة ..
فرنا إليها مستطلعا، فقالت: ما هي السعادة حتى يحق لنا أن ندعيها؟ - لعلها تعرف بالفطرة! - متى يمكن أن تصف امرأة مثلي بأنها سعيدة؟
فقال مخفيا اضطرابه: لا ينقصك اليوم شيء.
فقامت في رشاقة. نظرت إليه طويلا حتى ذابت إرادته أو كادت. قالت وهي تمضي: ينقصني أهم شيء في حياة الإنسان!
72
استسلم المعلم عزيز لقدره، أقر لضعفه بالقوة الخارقة، كأنه السور العتيق، كأنه بوابة التكية. كما وقع لجده ذات ليلة في الخمارة. وأغرب الجنون ما يصيب المرء في كهولته. استرق النظر طويلا إلى أمه عزيزة طويلا وهو منفرد بها في جناحها. تمتم: أمي.
قالت وهي تشعر بغرابة الجو: هات ما عندك.
فقال بهدوء: تشاء إرادة الله أن أتزوج مرة أخرى.
ذهلت الهانم. رنت إليه طويلا. تساءلت: حقا؟! - أجل. - من؟
قال بعد تردد: زهيرة!
هتفت عزيزة محتجة: كلا! - هي الحقيقة.
فهتفت: الأفعى!
فقال بتوسل: أمي لا تتسرعي في الحكم! - الأفعى! - طالما أحببتها يا أمي. - وطالما أحبتها ألفت، ولكنها أفعى! - إنها امرأة سيئة الحظ.
فابتسمت عزيزة في حزن وتمتمت: رئيفة أخرى.
فقال بتوسل: لا تأخذي بالظواهر. - كيف سحرتك يا سيد العقلاء؟ - أمي، إني أدري ما أفعل تماما.
فتأوهت الأم وتساءلت: وألفت الأصيلة؟
فقال بتصميم: ستظل سيدة الدار وأم الأبناء. - ترى ألا زلت تحترم أمك؟ - كل الاحترام يا أمي. - إذن فاعدل عن رأيك!
فقال بأسى: لا أستطيع. - سحرتك يا بني. - من حقي عليك أن تسعدي لسعادتي. - أنسيت ما حصل لعبد ربه ومحمد أنور ونوح الغراب؟
فقال باستياء: ظلموها جميعا! - كانت هي الظالمة، وإنك تهب نفسك للشقاء.
فتمتم بهدوء: إنما الأعمال بالنيات.
فقالت عزيزة بحنق: هذه الوضيعة الخسيسة.
فقال محتجا: أصلنا واحد يا أماه! - أصلكم الذي تفخرون به هو الخير لا الدم! ما حصل لعبد ربه ومحمد من أصلكم. ألم يكن رمانة قاتل أبيك من أصلكم؟! ألم يكن وحيد من أصلكم؟
قال بهدوء: ما قدر كان.
73
زفت زهيرة إلى عزيز قرة الناجي. قاطعت عزيزة هانم الفرح. لم تعترف به، وعاشت في الدار مع ألفت والأبناء في كدر أبدي. وابتاع عزيز دار نوح الغراب من ورثته فأهداها إلى زهيرة. جدد أثاثها ورياشها وتحفها جاعلا منها عش حبه الخالد. وقد احترم حقوق ألفت هانم كاملة، لم يضن عليها وعلى أولادها بالرعاية المثالية والحب الوقور، غير أنه لم يعرف الحب الحقيقي إلا في مغيب كهولته.
74
ونعمت زهيرة بشعور رهيف خيالي مثل الإلهام المشرق، هو الفوز في جلاله والحلم في أبهته وكماله. الدار والثروة والجاه وسيد الوجهاء. لم تبتئس بغضب عزيزة ولا حزن ألفت، وإن كان ثمة كبرياء فهي سيدة الكبرياء وأحق الناس بها بما وهبها الله من جمال وذكاء. آمنت بأنها فتوة في إهاب امرأة، وأن الحياة المقدسة لا تمتثل إلا للأقوياء. ولأول مرة تجد بين يديها زوجا تحترمه وتعجب به ولا تفرط فيه، أما الحب فطالما قهرته في سبيل ما هو أعظم وأجل، وطالما قالت لنفسها: «لست امرأة ضعيفة مثل غيري من النساء.»
واستمتعت بجاهها بكل سبيل؛ فعند الأصيل تتوسط الدوكار مجلسة جلال وراضي في المقعدين أمامها، ويمضي الدوكار على مهل مجلجلا برنين جرسه الفضي، وهي متسلطنة كملكة، تومض عيناها الساحرتان من وراء الياشمك. والناس يتطلعون إليها في إعجاب وحقد وذهول. تتذوق جمال اللحظة في أناة واستيعاب، منتشية بإلهام سام مجنح يجعل من الدنيا ماسة في أصبعها، تعكس صورتها المليحة الفاتنة.
وتزور الحسين، وتسر بتجمهر الشحاذين حولها، وتهب العطايا والصدقات.
75
وأنجبت لعزيز ذكرا أسماه شمس الدين، فازدادت الدنيا جمالا وكرما. وعلى حين مضت هي تتألق جمالا وشبابا، مضى المعلم عزيز ينحدر نحو شيخوخة مبكرة. وعاملت أسرتها بكرم فاق كل تصور، فعاشت أمها وأخواتها حياة رغدة. وحيرها سؤال لحوح؛ ماذا عليها أن تفعل كي تخلق لنفسها سيرة فذة لم تحظ بها امرأة من قبل؟!
76
وذات مرة غادرت جامع الحسين كالعادة وسط مظاهرة من الشحاذين والمجاذيب. أجلست جلال وراضي على مقعديهما، وهمت بالصعود عندما سمعت صوتا قريبا يهمس: زهيرة.
نظرت نحو الصوت فرأت محمد أنور يطالعها بوجه الموت. انذعرت مندفعة نحو الدوكار، ولكن الرجل رفع عصا غليظة وهوى بها بكل قوته على رأسها النبيل الجميل فتهاوت على الأرض صارخة. وظل يضرب الرأس بوحشية حتى هشمه تماما غير مبال ببكاء جلال وراضي.
لم يبق من وجه البهاء والجمال إلا عظام محطمة غارقة في بركة من الدم.
جلال صاحب الجلالة
الحكاية السابعة من ملحمة الحرافيش
1
أصاب مصرع زهيرة المعلم عزيز بطعنة وحشية لا دواء لها. تراءى في الجنازة والمأتم كشبح فقد النعمة والأمل، ونبذ تماما من جسد الحياة. تضاعف ألمه بقدر ما تماسك أمام الناس. تبدت له الدنيا عجوزا ماكرة قاسية لا حد لمكرها ولا لقسوتها، فأضمر نحو كافة وعودها الرفض والمقت.
وزارته أمه عزيزة هانم، فاستقبلها بفتور وعتاب صامت، ولكنها بكت وضمته إلى صدرها وهمست في أذنه: لا يجوز أن نتخاصم تحت ضربات القدر!
ولثمت جبينه، ثم واصلت متنهدة: كأني ما خلقت إلا للحزن والأسى.
وانزلقت فوق قلبه كلمات العزاء فلم تترك أثرا.
2
وعقب الوفاة بأشهر أصيب المعلم عزيز بالفالج. لم يمهله المرض إلا أسابيع، ثم فاضت روحه، وحزنت عزيزة حزنا مهلكا. لم يجر لها في خاطر أنها ستدفن وحيدها النبيل، وأنها ستبقى بعده يوما واحدا تتنفس. عاودها الحزن كأشد ما كان على فقد قرة، وكأنها مخلوق مهيب لا يتجلى جلاله إلا في رحاب الحزن الكبير. عزيزة الجميلة النبيلة التي قطعت حياة معاندة تبذر الصبر وتحصد الألم.
واحتراما لوصية عزيز ضمت راضي إلى دارها مع شمس الدين، ورغم العناية البالغة بشمس الدين فإنه مات في شهره الثامن، أما جلال فأخذه أبوه عبد ربه الفران.
3
اهتزت الحارة لمصرع زهيرة. هزها صراع الحظ مع القدر. التمست العبرة في ثنايا الأحداث وتقلبها. تساءلت لم يضحك الإنسان؟ لم يرقص بالفوز؟ لم يطمئن سادرا فوق العرش؟ ولم ينسى دوره الحقيقي في اللعبة؟ ولم ينسى نهايته المحتومة؟ ولم تخل الحنايا من أسى، ولكن سرعان ما غرق الأسى في خضم الحقد والغضب. وانصبت اللعنات، وقيل هذا جزاء الظالمين. وعزيز النبيل لم يحترم أحد حزنه، واتهم بخطف زهيرة من عبد ربه الفران، ولم يحزن أحد لموته الحزن الذي يستحقه. وقال الحرافيش إن أسرة الناجي أصبحت مسرح الحزن وأمثولة العبر جزاء خيانتها لعهد جدها العظيم صاحب الكرامات والبركات.
وفي ذلك الوقت تنكر الجو في برمودة، فتلبدت السماء بالغيوم على غير ميعاد، وانهل مطر غريب، ثم تساقط وابل من البرد، فذهل الناس وعجبوا. وجفت قلوبهم، ولكنهم غمغموا حيارى: «لعله خير يا رب العالمين!»
4
لم يكتب على طفل ما كتب على جبين جلال بن زهيرة بن عبد ربه الفران من المعاناة والألم. منظر تهشيم رأس أمه الجميلة انغرز في أعماقه. كابوس دام يعذب يقظته ويكدر أحلامه. كيف تأتى لهذه القسوة أن توجد؟ كيف أمكن أن يلقى جمال نبيل تلك النهاية البشعة؟ لماذا وقع ذلك؟ لماذا صمتت أمه؟ لماذا اختفت؟ وماذا جنى حتى يحرم من جمالها وحنانها وأبهة الحياة النابعة منها؟ لم لا ترجع الأيام إلى الوراء كما تتقدم إلى الأمام؟ لم نخسر ما نحب ونعاني ما نكره؟ لماذا تذعن الأشياء لأوامر صارمة؟ لماذا ينقل من الدار الفاخرة إلى مسكن عبد ربه الفران؟ ومن هو عبد ربه الفران؟ ولم يطالب بالاعتراف به أبا له؟ إنه ابن أمه بلا شريك. هي أمه ومبدعه ومهده وحبه. إنها روحه ودمه، صورتها مطبوعة على وجهه، صوتها يشدو في أذنه، وأمل استرجاعها ذات يوم لا يخبو في قلبه.
إن العظام المحطمة الغارقة في بركة الدم لا تنسى إلى الأبد.
5
تغيرت دنيا عبد ربه الفران أيضا. بفضل الثروة التي ورثها جلال انتقل من البدروم إلى شقة محترمة. ابتاع الفرن من صاحبه باسم ابنه، وراح يديره إدارة سيئة لإدمانه الخمر. ارتدى الجلباب الأبيض والعباءة الملونة، توج رأسه باللاثة المزركشة، واختفت قدماه الغليظتان لأول مرة في مركوب أحمر. وقال لنفسه بتشنج: «تمتع يا عبد ربه بجاه زهيرة.» ولم يجد من يحاسبه على العبث بمال جلال الصغير. ورغم الخمر والأسى تعلق قلبه بجلال. رنا مبهورا إلى جمال زهيرة المطبوع على محياه. إنه يذكره بأسعد أيامه وأشقاها. ولا يألو جهدا في استئناسه وطمأنته وكسب مودته، ذلك الصغير الجميل النافر.
6
واستيقظ جلال ذات ليلة قبيل الفجر وهو يبكي، فأيقظ أباه المخمور. انزعج عبد ربه ومسح على شعره الأسود الناعم متسائلا: حلمت يا جلال؟
فسأله وهو يجهش: متى ترجع أمي؟
وضاق به من ثقل رأسه، فقال له: ستذهب إليها بعد عمر طويل فلا تتعجل.
7
وجاءت سيرة زهيرة ذات ليلة في البوظة، فقال سمكة العلاج الفتوة: أول امرأة يقتل بسببها فتوة عظيم.
فتظاهر عبد ربه بالرجولة وقال: نالت جزاءها!
فقال جبريل الفص شيخ الحارة: لا تدع الشفاء من الحب.
فقال عبد ربه متحديا: أخاف أن يكفر مصرعها عن شرها فتقسم لها الجنة!
فقال سنقر الشمام الخمار ضاحكا: إنك تتمنى لها النار لتضمن لنفسك لقاءها!
فتأوه وقال متخليا عن تظاهره: يا للأسف! هل بات الجمال الفتان حقا طعاما للدود!
ثم قال بصوت هادر: صدقوني، أحبتني لدرجة العبادة، ولكنها كانت مجنونة .
وراح يغني بصوت كالنهيق:
يا بو الطاقية الشبيكة قل لي مين شغلها لك؟
شبكت قلبي إلهي ينشغل بالك
8
ودخل جلال الكتاب. ولد مليح ذكي فائق الحيوية قوي المبنى. ويوم طولب أن يحفظ
كل نفس ذائقة الموت
سأل سيدنا: لماذا الموت؟
فأجابه الشيخ: حكمة الله خالق كل شيء.
فتساءل جلال بعناد: ولكن لماذا؟
فغضب الشيخ. مده على الفلقة، ثم ألهب ظهره بالجريدة. صرخ باكيا. لم يسكن غضبه طيلة اليوم. ما كان يقع له شيء من ذلك لو أن أمه ما زالت تتألق بالحياة، والحياة تتألق بها.
9
وتعرض جلال في الكتاب والحارة لحملة صفراء قاسية. كل ولد يعيره هاتفا «ابن زهيرة». دائما ابن زهيرة. أهي سبة يا أشقياء! ويرجمونه بشظايا من سيرتها المجهولة له: الغادرة، الخائنة، المزواجة، المتكبرة، القاسية، الخادمة، الهانم المزيفة.
ويهرع إلى أبيه فيسأله: لماذا يسبون أمي؟
فيلاطفه مواسيا فيقول: كانت أجمل من الملائكة.
فينصحه أبوه قائلا: أخرسهم بالصبر.
فيتوارى جماله خلف عبوسة ناقمة، ويتساءل محتجا: الصبر؟!
فيرمقه أبوه بانزعاج.
10
وتتسلل إليه سيرة أمه؛ كلمة من هنا وكلمة من هناك. إنه يرفض أن يصدق. وإذا أرغم على التصديق رفض أن يعتبر الأمر مخزيا. ستظل أمه ملاكا مهما فعلت. وما العيب في أن يتطلع الإنسان إلى هلال المئذنة؟ ولكن هل يجدي منطق مع أولاد شياطين؟!
هكذا اضطر جلال إلى أن يخوض معركة بعد معركة. الحق أنه كان يتمنى غير ذلك. طالما أحب الود والتمس حسن العلاقة والصداقة. الأولاد يستهينون بذلك ويرومون المشاكسة، وهو صلب عند التحدي، عنيد حيال المستحيل، ادرع بخشونة ليست من طبعه، رد على الكلمة بضربة، تكاثرت مشاجراته وتوكدت انتصاراته، انقلب غلاما مخيفا وعرف بالشيطنة، رفعته القوة وأخرست خصومه فثمل بها وعبدها.
11
وفي الكتاب التقى من جديد بأخيه راضي. إنه ابن القاتل، ولكنه ضحيته أيضا، وهو غلام رقيق مهذب وضعيف، ومثله يعير بابن زهيرة فيجهش في البكاء. وتصدى للدفاع عنه حتى أسكت خصومه. وتعلق به الغلام وقال له: إنك أخي وإني بك لفخور!
كان راضي دونه قوة وجمالا، ولكنه كان بالغ التهذيب. وقال له مرة: أدعوك للغداء معي.
12
وذهب جلال إلى دار المرحوم عزيز الناجي. رأى عزيزة هانم العجوز النبيلة، كما رأى ألفت هانم. قبل يديهما، فرحبا به، ودهشا لجماله وصحته. ورأى أيضا قمر صغرى بنات المعلم عزيز. بنت جميلة خفيفة الروح تصغره بعامين.
بهره جمالها. نظر إليها طويلا في أثناء الغداء وبعده، ولما انفرد براضي قال له: ألا ترى أن قمر جميلة مثلما كانت أمنا؟
فهز راضي رأسه بلا اكتراث، فقال جلال: يا لك من سعيد بمشاركتها دارا واحدة!
فقال راضي: لا يعجبني إلا صوتها!
13
ناهز جلال المراهقة. أدرك أبعاد حياته؛ خيرها وشرها. آمن بعناد أن أمه كانت أعظم امرأة عرفتها الحارة، وبأنه سليل الناجي العظيم الذي لم يعرف سر اختفائه حتى اليوم. لم يكن فتوة مثل سمكة العلاج، ولكنه كان وليا وصديقا للخضر. وحطم جلال في الخيال رءوسا مليئة بالعناد والشر، وصادق ملائكة ذوات أجنحة ذهبية، وطرق باب التكية ففتح له على مصراعيه، وطارده قلق متلفع بظلمة الليل، وظلت قمر تومئ إليه من نافذة المشربية.
وتساءل بزهو: ما عيب أمي؟ كانت تبحث عن رجل مثلي فلم يسعدها به الحظ في حياتها التعيسة القصيرة!
14
وأشركه عبد ربه الفران في إدارة الفرن. وأثبت جدارة وذكاء وهمة عالية. وأعجب به الأب أيما إعجاب، ومضى يتخلى له عن مسئولياته، مسلما بكليته لقرعة البوظة. تدهور عبد ربه، وزاده توفر النقود بين يديه تدهورا. وبفخار وإعجاب مضى ينظر إلى ابنه جلال. يراه وهو يسيطر بقوة شخصيته على العمال، ويستحق احترام العملاء رغم سمعة أمه السيئة. ويراه وهو يصلب عوده، وتشتد أطرافه، ويتعملق هيكله، وتتدفق الحيوية في بنيانه، ويتألق بالجمال الفريد وجهه.
ولم يبق لجلال من ثروته إلا الفرن، ومن الماضي إلا ذكريات أليمة، حتى بسمات المجاملة فوق الشفاه لا تخدعه؛ فهو على يقين من أن وراءها تتلاطم همسات السوء عن أمه الجميلة، ولكن المستقبل يعد بخير كثير لمن كان في مثل قوته وجماله، وصورة قمر بنت عزيز تعد أيضا بأعذب الآمال.
15
كان يجلس في العصاري أمام الفرن يراهن على ديكه في مصارعات الديوك، تلك كانت هوايته المفضلة. ويرنو أحيانا بهيام إلى قمر وهي جالسة إلى جانب ألفت هانم في الدوكار، ويتذكر عهد صباه، وتردده على دار عزيزة هانم، وملاعبته لراضي وقمر، تلك الأيام السعيدة. ولكنها انقطعت بسرعة عندما أنس من عزيزة وألفت فتورا في استقباله. لماذا احتضنتا راضي ونفرتا منه، على حين أنهما معا ابنا زهيرة؟ لا سبب إلا احترام وصية المعلم عزيز من ناحية، والشبه الملموس بين وجهه ووجه المرحومة أمه، فهو يذكر المرأتين بالراحلة المقيتة.
وتبقى بعد ذلك الهوة الفاصلة بين فران سيئ السمعة مثله، وبين كريمة المعلم عزيز ذات الأصل والأبهة. ولكنه يحبها حبا ملك عليه حواسه وعقله، ويلمس في نظرة عينيها المتألقتين استعدادا طيبا وميلا واضحا، فهل يتهيب حظه السعيد كالجبناء؟!
16
وأدرك ما فعله أبوه بثروته فعاتبه على ذلك معاتبة ساخنة. ومنعه من التدخل في العمل وهو يقول: ستعيش راضيا مكرما.
ولكن أباه كان مصدر إزعاج لا ينتهي. إدمانه الخمر مهلك للصحة والكرامة. يسهر كل ليلة في البوظة، ويتسلى ببث شكاته من ابنه، يقول: يعاملني كما لو كنت أنا الابن وهو الأب، يحاسبني حساب الملكين.
أو يتساءل وهو يقهقه: هل سمعتم عن ابن يزجر أباه لأنه يروح عن نفسه بقرعة أو قرعتين؟
وكان يتكلم بحب لا عن حقد، ويمضي في التساؤل: هل نسي وصية ربنا بالوالدين؟
وعجز جلال عن أن يجعل من أبيه رجلا محترما. وقد أراد ذلك عن حب من ناحية، ورغبة في محق عقبة من العقبات التي تعترض طريق حبه من ناحية أخرى. وحزن عبد ربه لإساءته غير المقصودة لابنه الجميل. قال له مرة كالمعتذر: أمك كانت السبب. انظر إلى نهايات من أحبوها من الرجال.
وقطب جلال محتجا، فقال عبد ربه: محمد أنور شنق، نوح الغراب قتل، المأمور نفي، عزيز مات غما، أما أنا فأسعدهم حظا.
فقال جلال متوسلا: تجنب ذكر أمي بسوء يا أبي.
فتمتم: لا تحزن ولكن فكر. تريد أن تتزوج من قمر، لا تظنني عقبة يا بني، ذكرى المرحومة هي العقبة، كيف تصورت أن ألفت هانم تعطي كريمتها لابن زهيرة؟!
فهتف جلال: لا تعبث بجراحي.
فقال له الرجل بحنان: أنصحك ألا تتزوج من امرأة تحبها، وألا تحب امرأة إذا تزوجتها. اقنع بالمعاشرة والمودة، واحذر الحب فإنه مكيدة.
17
وعلم جلال ذات ليلة أن أباه يعربد في ساحة التكية. هرع إليه من فوره فوجده يحاكي الأناشيد بصوت منكر، فساقه إلى البيت من ذراعه وهو يقول له: الحارة تغفر أي شيء إلا هذا.
ولما نام الرجل وجد جلال من نفسه رغبة حارة للعودة إلى الساحة. لم يخل إلى نفسه أمام التكية من قبل. وكانت الليلة حالكة السواد. تتوارى النجوم فوق سحب شتوية كثيفة، وكان البرد قارسا فحبك العباءة حوله وطوق وجهه باللاثة. وغمرته الأناشيد مثل أمواج دافئة. تذكر رواد المكان من آل الناجي؛ الجد الأول الذي ذاب فيه مثل سر مكنون. وهمس له صوت: إنما يمتاز الرجال بتحدي الصعاب. وسرعان ما ملأ أعطافه إلهام سخي بالبشر والفوز.
عقد صداقة مع الظلمة، مع الصوت، مع البرد، مع الدنيا كلها. صمم على الطيران فوق العقبات مثل طائر خرافي.
18
وفي أثناء ذلك اشترى راضي محل الغلال بماله الموروث عن أمه، وتزوج من نعيمة حفيدة نوح الغراب. تشجع جلال فقابل عزيزة هانم، وقال لها بثبات: يا ستنا النبيلة، أريد يد قمر حفيدتك.
فنظرت إليه طويلا بعينيها الذابلتين، وقالت بصراحة العجائز: اقترحت يوما أن يتزوجها راضي ولكن ألفت رفضت!
فقال جلال بثقة: إنه جلال من يطلبها هذه المرة. - ألا تعلم لم رفضت؟
فسكت مقطبا، فقالت بصراحتها السافرة: علما بأن راضي ذو مزايا ليست لك!
فقال بحدة: لست فقيرا، ثم إنني من آل الناجي.
فقالت بضجر: قد قلت ما عندي.
فقال بإصرار وعناد: أبلغيها الطلب. - لك هذا.
وغادرها وهو يغص بخيبة ترابية.
19
ولكن ثمة مفاجأة مزلزلة كانت تتربص بدار المرحوم عزيز؛ فقد رفضت ألفت هانم الدهشوري يد جلال، غير أن قمر انطوت على نفسها كالمتوعكة.
وسألتها جدتها عزيزة هانم: تريدينه زوجا لك؟
فأجابتها بشجاعة نادرة: نعم.
فهاجت ألفت هاتفة: إنه ابن زهيرة!
فهزت منكبيها استهانة، غير أن الأم تجاهلت رغبة ابنتها بعناد وحشي.
ورحبت بخاطب من آل الدهشوري، ولكن قمر أعلنت رفضها له بلا تردد.
وانهالت ألفت على ابنتها باللوم والتقريع، ولكنها أصرت على رأيها حتى قالت: فلأبق بلا زواج!
فصاحت أمها: حلت بك روح زهيرة الشريرة. - فبكت قمر ولكن ألفت لم ترق لها وقالت بعناد: ابقي بلا زواج فهو عندي أفضل.
20
وتدهورت صحة عزيزة هانم فجأة بحكم الشيخوخة والأحزان. ذبلت ذبولا شديدا، وتغير لونها، وسرعان ما عجزت عن الحركة فلزمت الفراش. لم تفارقها ألفت. جزعت للوحدة التي تتهددها في الدار الكبيرة، غير أن عزيزة قالت لها: لا تخافي، سيمن الله علي بالشفاء.
وصدقتها كما اعتادت أن تصدقها دائما، ولكن العجوز تمتمت بصوت كأنه صوت شخص آخر: إنها النهاية يا ألفت.
وضعف بصرها حتى لم تعد ترى. ورغم ذلك تطلعت إلى لا شيء، وراحت تنادي قرة وعزيز، فارتعدت ألفت وشعرت بأن الموت اقتحم المخدع، وأنه ينتظر في ركن، وأنه أقوى الثلاثة حضورا. وتمتمت بنبرة باكية: ليرحمنا الله.
فقالت عزيزة: إني المعذبة أم المعذبين. أملي الأخير في ذي الجلال.
فهتفت ألفت: اللهم خفف عنها!
فقالت: أوصيك باثنتين!
فحملقت فيها باهتمام، فقالت العجوز: لا تعذبي حفيدة قرة.
وتنهدت بعمق، ثم قالت: لا تعذبي ابنة عزيز.
وجاءها الاحتضار، ثم فاضت روحها مجللة بالحب والنبل.
21
مضت ستة أشهر من عام الحداد. تمنت ألفت الدهشوري ألا ينتهي هذا العام أبدا، ولكنها أضمرت لوصية عزيزة كل إجلال. داعبها أمل في أن تتغير قمر نفسها، ولكنه أمل لم يتحقق.
واستدعى المعلم راضي أخاه جلال وقال له: أهنئك بالقبول.
فاجتاحه تيار سماوي من الأفراح أخرسه.
واقترح راضي أن تعلن الخطوبة فورا على أن تؤجل الدخلة لما بعد الحداد.
ولم يعد في الإمكان أن تقتلع هذه اللحظة من ذاكرة جلال إلى الأبد.
22
وما كاد يمر شهران على الخطبة حتى طالب جلال بإلحاح بعقد القران بلا حفل، على أن تؤجل الدخلة والحفل حتى ينتهي عام الحداد. وتم له ما أراد.
كأنما أراد أن يستحوذ على الطمأنينة ويمحق الأوهام، وأن يبتدر حظه مغلقا الأبواب في وجه القوى المجهولة. صار بذلك «الرجل السعيد». وشهدت الأيام أقصى درجة من الثراء في سجاياه الحميدة. حتى أبوه السكير لم يعد يحاسبه. ودلل عماله وذويهم. وترنم بالغناء، وهو يعمل وهو يتابع مصارعة الديوك. ازدهر جماله وتضخمت قوته. وسهر الليالي بالساحة يستمع الغناء ويبتهل الدعاء.
وتردد على عروسه محملا بالهدايا، ومنها تلقى مسبحة من القهرمان ينتظمها سلك من الذهب هدية معطرة. غدت حياته وأمله وسعادته ورؤيته الذهبية.
رآها أجمل خلق الله رغم أن كثيرين نوهوا بتفوق جماله الباهر، ولكن عذوبتها فاقت كل الحدود.
وتراجعت ألفت هانم عن فتورها فأبدت الرضا والألفة، ونعتته بالابن الطيب، وشرعت ترسم للمستقبل صورة جديدة، مقترحة عليه مشاركة راضي في محل الغلال مستعينا بمال قمر.
ومرة قال جلال لقمر: لقد تجلت عظمة آل الناجي في أشياء وأشياء، ها هي تتجلى اليوم في الحب.
فابتسمت في دلال، فقال: الحب يصنع المعجزات.
فقالت بعذوبة: لا تنس دوري في صنع المعجزة!
فضمها إلى صدره وهو يهيم من الوجد.
23
وجاء بأبيه ليزور ألفت هانم وقمر. جاء الرجل مفيقا ولكنه بدا كالسكران بنظرته الثقيلة الغائمة، ونبرته المترنحة ورأسه المتقلقل. أدرك أنه يمثل دور الوجيه، وأنه غريب عن ذاته وأحواله. ونظر إلى ألفت هانم بتهيب، وشعر بأنه يتحول من شخص إلى مخلوق آخر، وعجب كيف أنه ملك ذات يوم جمالا يزري بهذا الجمال كله. وقال لألفت هانم: إني كما تعلمين يا هانم، ولكن ابني جوهرة.
فتمتمت ملاطفة: أنت رجل طيب يا معلم عبد ربه.
واهتز لذلك الاحترام الذي لم يحظ بمثله أبدا، وقال مشيرا إلى جلال: إنه يستحق السعادة جزاء بره بوالده.
وضحك ضحكة عالية بلا سبب، وسرعان ما ارتد إلى الوقار مرتبكا.
وعندما غادر الدار هو وجلال، سأله ابنه: لم لم تقدم الهدية للعروس؟
تذكر الهدية التي أعطاه جلال إياها ليقدمها للعروس بيده فلم ينبس، فسأله جلال بضيق: نسيت؟
فقال برقة : إنها جوهرة ليست عروسك في حاجة إليها، على حين أنني في أشد الحاجة إليها.
فقال جلال بعتاب: هل قصرت في حقك؟
فربت على ظهره قائلا: أبدا ولكن مطالب الحياة كثيرة.
24
وجاءت الأيام الأخيرة من عام الحداد في خريف أبيض يتنفس في عذوبة فائقة. وامتلأت السحب الشفافة بالأحلام. وألمت وعكة برد بقمر، غير أنها لم تعطل الاستعدادات المتوثبة للزفاف. واندفعت الوعكة في طريق مجهول فارتفعت الحرارة واضطربت الأنفاس واشتدت الآلام وتسلل الذبول إلى الوردة الناضرة مثل عدو ماكر خسيس خائن. ولزمت الفراش بلا حول فخبت نظرتها واصفر لونها ووهن صوتها. توارت تحت الأغطية الثقيلة، متأوهة، تتغذى بالكراوية والليمون، وتعصب بمكمدات الخل. وسهدت ألفت هانم متشنجة الأفكار، وقلق جلال فنفد صبره في انتظار ساعة الشفاء.
وخيم على الدار شعور غامض لا يريد أن يفصح عن ذاته، وطافت بخيال ألفت اللحظات الأخيرة من حياة عزيز وعزيزة، وخيل إليها وهي تكاد تجن أن كائنا مهولا قد حل بالدار، وأنه يكمن في ركن من أركانها لا يريد أن يبرح.
وذات ليلة حلم جلال بأن والده يغني بطريقته الهمجية الساخرة في ساحة التكية. واستيقظ ثقيل القلب فتبين له أنه إنما استيقظ حقا على صوت يدوي في الخارج، صوت من نوع خاص لا علاقة له بالغناء ولا بالتكية. صوات في جوف الليل يعلن صعود روح إلى مستقرها!
25
شعر جلال بأن كائنا خرافيا يحل في جسده. إنه يملك حواس جديدة، ويرى عالما غريبا. عقله يفكر بقوانين غير مألوفة، وها هي الحقيقة تكشف له عن وجهها.
رنا إلى الجثة المسجاة طويلا. طوى الغطاء عن الوجه. إنه ذكرى لا حقيقة، موجود وغير موجود، ساكن بعيد منفصل عنه ببعد لا يمكن أن يقطع. غريب كل الغرابة، ينكر ببرود أي معرفة له. متعال متعلق بالغيب. غائص في المجهول. مستحيل غامض مندفع في السفر. خائن، ساخر، قاس، معذب، محير مخيف، لا نهائي، وحيد. وغمغم بذهول وتحد: كلا!
يد غطت الوجه فأغلقت باب الأبدية. تهدمت الأركان تماما. لسان يلعب له هازئا. ثمة عدو يتحرك وسوف ينازله. لن يتأوه. لم يذرف دمعة واحدة. لم يقل شيئا. تحرك لسانه مرة أخرى مغمغما: كلا!
رأى رأس أمه المهشم. خيال تراءى واختفى قبل أن تطبع صورته في وعيه. رأى الديك وهو يفقأ بمنقاره الوردي عين خصمه. رأى السماء تشتعل بالنيران. رأى بركة الدم الأحمر. ووعده المجهول بإدراك كل شيء إذا كشف الغطاء عن الوجه مرة أخرى. مد يده ولكن يدا أمسكت بيده وصوت قال: وحد الله!
رباه أيوجد معه آخرون؟ أيوجد آخرون في الدنيا؟ من قال إذن إن الدنيا خالية. خالية من الحركة واللون والصوت. خالية من الحقيقة. خالية من الحزن والأسى والندم. إنه في الواقع متحرر. لا حب ولا حزن. ذهب العذاب إلى الأبد. حل السلام، وثمة صداقة متوحشة مطروحة على القوى العاتية. هنيئا لمن يروم أن تكون النجوم خلانه، والسحب أقرانه، والهواء نديمه، والليل رفيقه.
وللمرة الثالثة يغمغم: كلا!
26
تخلى جلال عن العمل لوكيله. وجد الراحة في المشي. يتمشى في الحارة، وفي الحي، بين البوابات والقلاع. يجلس في القهوة وحده يدخن البوري.
وفي الليل وقف قبالة التكية. مرت به الأنغام. باستهانة طرق الباب. لم يتوقع ردا. عرف لم لا يردون. إنهم الموت الخالد الذي يتعالى عن الرد.
تساءل: أليس للجار حق؟
وأنصت للغناء فانساب الصوت في عذوبة:
صبحدم مرغ جمن باكل نوخاسته كفت
نازكم كن كه درين باغ بي جون نو شكفت
27
واعترض مسيرته ذات يوم الشيخ خليل الدهشان شيخ الزاوية، فابتسم إليه برقة وقال: لا بأس من كلمة تقال.
فنظر إليه ببرود، فقال الشيخ: إن الله يمتحن من عباده الصديقين.
فقال بازدراء: لا جديد؛ فهذا ما يقوله الديك عندما يصيح في الفجر.
فقال الرجل: كلنا أموات أولاد أموات.
فقال بيقين: لا أحد يموت.
28
وكان يمر أمام البوظة في جوف الليل عندما رأى شبحا مترنحا عرف فيه أباه عبد ربه. تأبط ذراعه فتساءل الرجل: من؟ - جلال يا أبي.
وصمت السكران قليلا، ثم قال: إني خجلان يا بني. - لماذا؟ - كان الأجدر أن أذهب أنا لا هي. - لماذا ؟ - هو العدل يا بني.
فقال باستخفاف: يوجد شيء حقيقي واحد يا أبي هو الموت.
فقال عبد ربه معتذرا: ما كان يليق أن أشرب في هذه الأيام، ولكني عاجز.
فقال له وهو يسنده: تمتع بحياتك يا أبي.
29
ومضى الخريف يولي، ويقبل الشتاء بقسوته القاهرة. وراح الهواء البارد يسفع الجدران ويلسع العظام. وتطلع جلال إلى سحابة مظلمة فهام بالمستحيل. ورأى ذات مرة ألفت هانم وهي راجعة من القرافة، فكرهها من صميم فؤاده، وبصق في خياله على صورتها المتورمة. قبلته كارهة، ثم تخلصت منه بالموت. والموت عندها طقوس وفطائر. كلهم يقدسون الموت ويعبدونه، فيشجعونه حتى صار حقيقة خالدة. لا شك أنها اغتاظت عندما تسلم نصيبه من تركة قمر؛ لذلك أخذه كاملا، ثم وزعه على الفقراء خفية. وقال لنفسه إن علامة الشفاء عنده أن يحطم رأس الهانم المتعجرفة.
30
وصادف في طريقه جبريل الفص شيخ الحارة فحياه الرجل وقال: لا ترى يا معلم جلال إلا ذاهبا أو آيبا، عم تبحث؟
فأجابه بازدراء: أجد ما لا أبحث عنه، وأبحث عما لا أجد.
31
وانفرد بنفسه تلك الليلة في ساحة التكية، لا التماسا للبركة، ولكن تحديا للظلمة والبرد. هنا خلوة عاشور، هنا اللاشيء. وقال إنه يعترف بأنه ليس عاشقا. لا حزن على حب ضائع. أنا لا أحب. أنا أكره. الكراهية والكراهية فقط. أكره قمر. هذه هي الحقيقة. هي الألم والجنون. هي الوهم. لو عاشت لانقلبت على مثال أمها. تحكم بالغباء وتضاحك التافه وتقلد الأمراء وهي حفنة من تراب. كيف هي الآن في قبرها؟ قربة منتفخة تفوح منها روائح عفنة، وتسبح في سوائل سامة ترقص فيها الديدان. لا تحزن على مخلوق سرعان ما انهزم. لم يحفظ العهد، لم يحترم الحب، لم يتمسك بالحياة، فتح صدره للموت. إننا نعيش ونموت بإرادتنا. ما أقبح الضحايا! دعاة الهزيمة، الهاتفون بأن الموت نهاية كل حي، وبأنه الحق. إنه من صنع ضعفهم وأوهامهم. نحن خالدون ولا نموت إلا بالخيانة والضعف. عاشور حي. أشفق على الناس من مواجهة خلوده فاختفى. أنا خالد. وجدت ما أبحث عنه. وما يغلق الدراويش الأبواب إلا لأنهم خالدون. من شهد جنازة لهم؟
إنهم خالدون. يتغنون بالخلود، ولكن لم يفهمهم أحد.
وثمل بشراب الليل المثلج.
مضى نحو القبو وهو يغمغم: آه يا قمر.
32
وتجسدت الأفكار المحمومة في صورة نسر محلق ذي صرير يدك الأبنية.
وسأله أبوه ذات صباح وهو يتثاءب: لم تأخرت عن تسليم الإتاوة لسمكة العلاج؟
فأجابه ببساطة وثقة: لا يفعل ذلك إلا الضعفاء الجبناء.
حملق الأب في وجهه برعب وسأله: تتحدى الفتوة؟
فقال ببرود: أنا الفتوة يا أبي.
33
وتعمد أن يمر أمام مجلس الفتوة بمجلسه في المقهى، فسرعان ما جاء صبي القهوة قائلا: المعلم سمكة يسأل عن الصحة؟
فقال بنبرة عالية: أخبره بأن الصحة طيبة تتحدى الجهلاء.
اقتحم الجواب الفتوة مثل لفحة نار. وسرعان ما اندفع معاونه خرطوشة - الوحيد من رجاله الذي تصادف وجوده معه - وبسرعة خاطفة رفع جلال مقعدا خشبيا وضربه به ضربة صادقة فانطرح على ظهره فاقد الوعى. وأخذ جلال نبوته ووقف ينتظر سمكة العلاج الذي أقبل مثل وحش ضار. وتدفق سيل المتفرجين، وتنادى رجال الفتوة من الأركان. وتبادل الرجلان ضربتين، ولكن حسمت المعركة في ثوان؛ كان جلال قوة خارقة حقا. تهاوى سمكة العلاج مثل ثور ذبيح.
34
وقف جلال بجسمه العملاق في هالة من لهيب التحدي والغضب. وغزا الخوف قلوب الرجال فلم يكن في العصابة من هو جدير بخلافة سمكة إلا خرطوشة المنطرح إلى جانبه. وبعض الرجال ممن يضمرون الحقد للعصابة انهال على أفرادها بالطوب منضمين إلى جلال. وسرعان ما تقررت السيادة لمن يستحقها.
هكذا وثب جلال عبد ربه ابن زهيرة إلى الفتونة بكل جدارة، وهكذا رجعت الفتونة إلى آل الناجي.
35
قال له أبوه ووجهه يومض بالفرح: ما تصورت أن تكون فتوة رغم قوتك الهائلة.
فقال جلال باسما: وما تصورت ذلك ولا جرى لي في بال.
فقال عبد ربه بفخار: كنت مثلك في القوة، ولكن الفتونة قلب وطموح! - صدقت يا أبي. كنت أعد نفسي للوجاهة، ثم جاءني ذلك في جوف خاطر مباغت.
فضحك الأب وقال: كأنك عاشور نفسه في قوته فأسعد نفسك، وأسعد أهل حارتك.
فقال بتؤدة: فلنؤجل الحديث عن السعادة يا أبي.
36
أصبح يتحرك بإلهام القوة والخلود. رسم لنفسه طريقا. تحدى فتوات الحارات ليستثمر فائض قوته. تغلب على العطوف والدراسة وكفر الزغاوي والحسينية وبولاق. كل يوم كان المزمار يزف للحارة بشرى نصر جديد. غدا فتوة الفتوات وتاج القوة والسيادة كما كان عاشور وكما كان شمس الدين.
وسعد الحرافيش مؤملين فيما عرف عنه من كرم وسجايا حميدة، كما انزعج الوجهاء وتوقعوا حياة موسومة بالكبح والعناء.
37
وتاه عبد ربه عزة وكرامة، وراح يبشر في البوظة بالعهد الجديد. إنه يستقبل الآن بالإجلال والإكبار، ويلتف حوله السكارى يتنسمون منه الأخبار، فيقول: رجع عاشور الناجي.
ويفرغ القرعة في جوفه ويواصل: فليسعد الحرافيش، ليسعد كل محب للعدل، سيتوفر الرزق لكل مسكين، سيعرف الوجهاء أن الله حق!
فيسأل سنقر الشمام الخمار: وعد بذلك المعلم جلال؟
فيقول بثقة وثبات: ما طمح إلى الفتونة إلا من أجل ذلك!
38
دان له الأصدقاء والأعداء. ليس ثمة قوة تتحداه، ولا مشكلة تشغل باله.
يتمتع طيلة الوقت بالسيادة والجاه والمال. اكتنفه الفراغ وتسلل إليه التثاؤب.
تركز تفكيره في ذاته. تجسدت له حياته في صورة بارزة واضحة المعالم والألوان حتى النهاية الحادة العابثة، بدءا من رأس أمه المهشم، ومعاناة الحارة المهينة، وموت قمر الساخر، وقوته المهيمنة بلا حدود، وقبر شمس الدين الذي ينتظر الركب راحلا في إثر راحل. ما جدوى الحزن؟ ما فائدة السرور؟ ما مغزى القوة؟ ما معنى الموت؟ لماذا يوجد المستحيل؟
39
وسأله أبوه ذات صباح: الناس يتساءلون متى يتحقق العدل؟
فابتسم جلال بامتعاض وتمتم متسائلا: ما أهمية ذلك؟
فقال عبد ربه بدهشة: إنه كل شيء يا بني!
فقال بازدراء: إنهم يموتون كل يوم وهم مع ذلك راضون! - الموت علينا حق، أما الفقر والذل فبيدك محقهما!
فصاح جلال: اللعنة على الغباء.
فتساءل عبد ربه بأسى: ألا تريد أن تحتذي مثال عاشور الناجي؟ - أين عاشور الناجي؟ - في أعلى عليين يا بني.
فقال بازدراء: لا أهمية لذلك. - أعوذ بالله من الكفر !
فقال بوحشية: أعوذ بالله من اللاشيء! - لا أتصور أن يمضي ابني كما مضى سمكة العلاج. - لقد انتهى سمكة العلاج كما انتهى عاشور. - كلا، جاء كل من طريق مختلف وذهب إلى طريق مختلف.
فنهض محتدا وقال: لا تزد من همي يا أبي، لا تطالبني بشيء، لا يغرنك ما بلغت واعلم أن ابنك رجل غير سعيد.
40
يئس عبد ربه وكف عن الحديث عن الفردوس المعهود. وقال وهو في غاية من السكر: إرادة الله فوق كل إرادة، وما علينا إلا الرضا.
ويئس الحرافيش وتساءلوا: لم لا نشك في الماضي ليرتاح بالنا؟!
واستنام الوجهاء إلى الطمأنينة، أدوا الإتاوات، وقدموا الهدايا بلا حساب.
ومضى جلال بقلب أجوف تتلاطم فيه رياح الكآبة والقلق، وبظاهر متألق ينضج بالقوة والسيادة والنهم. بدا أول ما بدا أنه وقع أسيرا لعشق المال والتملك. شارك أخاه راضي في محل الغلال، كما شارك الخشاب والبنان والعطار وغيرهم. لا شبع من ناحيته. وترحيب حار من ناحيتهم ليثبتوه في أرض الوجاهة والسؤدد. غدا أكبر تاجر وأغنى غني، وفي الوقت نفسه لم يتهاون في جمع الإتاوات وتقبل الهدايا، ولم ينعم بخيره إلا رجال عصابته حتى عبدوه عبادة. وشيد عمارات كثيرة، كما شيد إلى يمين السبيل دارا خيالية، سميت بحق بالقلعة لجلالها وكبرها، وفرشها بفاخر الأثاث، وحلاها بالتحف، كأنه حلم الخالدين. ورفل في الثياب الغالية، وتنقل بالدوكار والكارتة، وتوهج الذهب في أسنانه وأصابعه.
ولم يكترث لحال الحرافيش ولا عهد الناجي، لا عن أنانية أو ضعف أمام مغريات الحياة، ولكن ازدراء لهمومهم، واستهانة بمشكلاتهم. والعجيب أنه كان بطبعه أميل إلى الزهد، واحتقار مطالب البدن، وكان ما يدفعه إلى الجاه والمال والتملك قوة عمياء مجهولة، جوهرها القلق والخوف، كأنما كان يتحصن ضد الموت، أو يوثق علاقته بالأرض حذرا من غدره. لقد غرق في خضم الدنيا ولكنه لم يغفل قط عن خداعها، لم تخدره ابتسامتها، لم يطربه عذب حديثها، كان حاد الشعور بلعبتها المرسومة، وغايتها المقصودة. لم يأنس للخمر ولا المخدر ولا الهوى ولا التكية، وكان إذا خلا إلى نفسه تأوه قائلا: ما أشد عذابك أيها القلب!
41
ويوما ما سأله أخوه راضي ولعله كان صديقه الوحيد: لم لا تتزوج يا أخي؟
فضحك جلال ولم يجب، فراح راضي يقول: الأعزب موضع تساؤل دائما.
فسأله ساخرا: لم الزواج يا راضي؟ - إنه المتعة والأبوة والخلد.
فضحك جلال عاليا وقال: ما أكثر الأكاذيب يا أخي!
فتساءل راضي: لمن تجمع هذه الأموال؟
يا له من سؤال! أليس الأجدر بمثله أن يحيا حياة الدراويش؟ ها هو الموت يطارده دائما. ها هو رأس زهيرة ووجه قمر يتجسدان من جديد. لن تنفعه القلعة والنبوت. سيذوي بهاء هذا الجمال المتألق، ستقوض أعمدة هذه القوة الشامخة، سيرث المال قوم آخرون وهم يغمزونه بالسخريات، ستعقب الانتصارات الباهرة هزيمة أبدية.
42
على أريكة الفتونة يتربع في المقهى. تمثال من الجمال والقوة يبهر الأنظار ويهز القلوب. تتكاثف الظلمات في جمجمته لا يدري بها أحد. يتسلل شعاع إلى الظلمات في صورة بسمة متألقة بالتحية والإغراء. بسمة تترك أثرا في الظلام. من هذه المرأة؟ امرأة من بنات الهوى، تقيم في شقة صغيرة فوق بنك الرهونات، يعشقها الوجهاء. تحييه كلما مرت التحية اللائقة بسيد الأحياء.
لا يرفض التحية ولا يستجيب لها، ولا ينكر أثرها الملطف لعذاباته. متوسطة التكوين، ريانة الجسد، جذابة الملامح. زينات. ولأنها تصبغ شعرها بلون الذهب دعيت بزينات الشقراء. لا ينكر أثرها الملطف لعذاباته، ولكنه لا يريد أن يستجيب لها. طالما كبحت شهواته تحت ضغط انهماكه في القتال، والبناء، وجمع المال، ومعانقة الملل.
43
وذات مساء استأذنت زينات الشقراء في مقابلته. استقبلها في بهو الضيوف. تركها تنبهر بالأثاث، بالتحف، بالقناديل المزركشة. تجردت من ملاءتها وبرقعها. جلست على ديوان قطعة من الفتنة المسلحة. وتساءلت برشاقة: ترى كيف أعلل حضوري؟ أأقول مثلا إنني أريد تأجير شقة في عمارتك الجديدة؟
فوجد نفسه يجاملها قائلا: لن يطالبك أحد بتعليل.
فضحكت راضية وقالت بصراحة: قلت لنفسي فلنزره ما دام يبخل علينا بالزيارة.
شعر بأنه هبط أولى درجات الإغراء، ولكنه لم يحفل بذلك وقال: حللت أهلا وسهلا! - شجعني لطفك الذي تقابلني به كل أصيل.
ابتسم. وتردد سؤال خلف الابتسامة: إلام آل حال قمر في قبرها اليوم؟
وسألته بجرأة عجيبة: ألم أعجبك؟
فقال بصدق: إنك تحفة. - وهل مثلك يشعر ولا يفعل؟!
فتمتم في حيرة: غابت عنك أشياء. - إنك أقوى الرجال فكيف تنام كما ينام الفقراء؟
فقال ساخرا: الفقراء ينامون نوما عميقا! - وكيف تنام أنت؟ - لعلي لا أنام!
فضحكت بعذوبة وقالت: سمعت من أهل العلم أنك ما شربت في حياتك قرعة، ولا دخنت نفسا، ولا مسست امرأة، أهذا صحيح؟
لم يدر بماذا يجيب، ولكنه شعر بأنها ستحقق ما تريد. أما زينات فواصلت: أقول لك إن الحياة ليست إلا الحب والطرب.
فتساءل متظاهرا بالدهشة: حقا؟ - ماعدا ذلك فإننا نتركه وراءنا للغير!
فقال بامتعاض: ونترك أيضا الحب والطرب! - كلا، إنهما يمتصان بالجسد والروح ولا يرثهما أحد! - يا لها من لعبة سخيفة!
فقالت بحرارة: لا عشت يوما بلا حب أو طرب. - إنك امرأة مدهشة. - امرأة وكفى! - لا يهمك الموت؟! - إنه علينا حق، ولكني لا أحب سيرته.
حق؟ حق! وسألها: أتعرفين شيئا من سيرة شمس الدين الناجي؟
فقالت بفخار: طبعا، من حارب متحديا الكبر. - تحدى الكبر بعناد.
فقالت بنعومة: السعداء حقا من ينعمون بشيخوخة هادئة!
فقال بتحد: السعداء حقا من لا يعرفون الشيخوخة!
فانقبضت لتغيره، وقالت بإغراء: أنت لا تملك إلا هذه الساعة.
فقال ضاحكا: موعظة مناسبة لمقدم الليل.
فأغمضت عينيها مرهفة السمع حتى وضح زفيف الريح، وسمع هطول الأمطار فوق النوافذ المغلقة.
44
سرعان ما صارت زينات الشقراء عشيقة لجلال عبد ربه الناجي. دهش الناس ولكنهم قالوا هو خير على أي حال من سيئ الذكر وحيد. وتجنبها عشاقها القدامى فأصبحت له وحده. علمته كل شيء. انضمت إلى تحف الدار قرعة مذهبة وجوزة مدندشة. لم يأسف على شيء، وقال إن للحياة مذاقا لا بأس به. وأحبته زينات حبا ملك عليها نفسها، وداعبها حلم غريب أن تصبح حليلة له ذات يوم. ومن عجب أن حبه القديم لقمر بعث أيضا كذكرى خالدة مفعمة بالعذوبة. أدرك أنه لم يهجره أبدا. لا شيء يزول، ولا حب أمه، سيظل مدينا لرأس أمه ووجه قمر بمعرفة مأساة الحياة، ولحن الحزن الخافت التردد تحت سطح الأنوار الباهرة والانتصارات المتألقة. ولم يعرف لزينات عمرا، لعلها تماثله في عمره أو تكبره، وسيظل ذلك سرا. وقد تعلق بها، أهو حب جديد؟ وتعلق بالقرعة والجوزة. إنه مدين لها أيضا بمفاتن جوهرية مثيرة للفرح والقلق، ولا يرى بأسا من التسليم للتيار.
45
ورأى أباه «المعلم» عبد ربه يخلو إليه باهتمام، ويسأله: لم لا تتزوج؟ أليس الحلال أفضل من الحرام؟
فلم يحر جوابا، فقال عبد ربه: ولتكن زينات كما فعل عاشور.
فهز رأسه منكرا، فقال الأب: على أي حال لقد صدقت عزيمتي أنا على الزواج!
فقال جلال بذهول: إنك يا أبي في الستين! - لم لا؟!
وضحك عبد ربه، ثم قال: صحتي حسنة بالرغم من كل شيء، واعتمادي بعد الله على المعلم عبد الخالق العطار. - ومن العروس؟
فقال بمباهاة: بنت زويلة الفسخاني، بنت حلال في العشرين من عمرها.
فسأله باسما: أليس الأفضل أن تختار سيدة تقاربك في السن؟ - كلا، لا يرجع الشباب إلا الشباب.
فتمتم جلال: فليسعدك الله يا أبي.
وجعل عبد ربه ينوه بالعطار وسحره، وقدرته على رد الإنسان إلى شبابه.
46
زفت فريدة الفسخاني إلى المعلم عبد ربه، وأقاما في جناح بالقلعة؛ دار جلال الفخيمة. وطيلة الوقت كان جلال يفكر في سحر المعلم عبد الخالق العطار.
ودعاه ذات ليلة إلى داره فانسطلا معا، وتسليا بتناول الفاكهة والحلوى. وقال له جلال بجدية: ما يدور بيننا فهو سر.
فوعد المعلم عبد الخالق بذلك سعيدا بالمنزلة الجديدة التي أنزله الفتوة فيها.
وسأله جلال: علمت أنك ترد الكهول إلى الشباب؟
وبابتسامة ثقة أجاب العطار: بعون الله تعالى.
فقال جلال باهتمام: لعله أيسر لك أن تحافظ على الشباب؟ - هذا مسلم به.
فتنور وجه جلال بالارتياح وتمتم: لعلك أدركت ما تعنيه دعوتي لك يا معلم عبد الخالق.
فتفكر العطار مليا متهيبا ثقل الأمانة وقال: ولكن العطارة ليست بكل شيء، لا بد أن تسبقها وتسايرها إرادة عاقلة. - ماذا تعني ؟
فقال عبد الخالق بحذر: لا بد من المصارحة، فهل تشعر بأي ضعف من أي نوع كان؟ - إني في تمام العافية! - عظيم، عليك أن تتبع نظاما دقيقا لحد التقديس. - تكلم ولا تلغز! - الطعام ضروري ولكن المغالاة ضارة.
فقال جلال بارتياح: هذا ما تتطلبه تقاليد الفتونة الرشيدة. - الشرب قليله منشط وكثيره ضار. - معقول. - الجنس يجب أن تتم ممارسته في نطاق الطاقة بلا تحمل. - لا بأس. - الإيمان عظيم الفائدة. - جميل.
فقال المعلم عبد الخالق: عندما يتوفر ذلك كله تجيء وصفة العطار بالمعجزات. - أهي مجربة؟ - بشهادة كثيرين من الوجهاء! بعضهم يحافظ على شبابه حتى يرعب من حوله!
فلمعت عينا جلال بضوء بهيج، فقال عبد الخالق: بنصيحتي وبإذن الله يجب أن يعمر الإنسان حتى المائة، وليس ما يمنع من أن يعيش بعد ذلك حتى يتمنى قدوم الأجل!
فابتسم جلال بشيء من الوجوم، ثم تساءل: وبعد ذلك؟
فقال العطار باستسلام: الموت علينا حق.
ولعن جلال في سره الشيطان، وقال إنهم متفقون أجمعون على تقديس الموت.
47
وذات ليلة سألته زينات الشقراء وهما في غاية من الانسجام والانبساط: لم لا تحقق آمال الحرافيش؟
فرمقها بدهشة وسألها: ماذا يهمك من ذلك؟
فقبلته وقالت بإخلاص: كي تطارد الحسد فالحسد قتال!
فهز منكبيه استهانة وقال: أصارحك بأنني أحتقر الناس. - ولكنهم مساكين! - لذلك أحتقرهم!
وتقلص وجهه الجميل تقززا، ثم قال: لا تشغلهم إلا لقمة العيش.
فقالت بإشفاق: أفكارك تخيفني. - لم لا يسلمون للجوع كما يسلمون للموت؟!
اجتاحتها ذكريات صباها مثل عاصفة ترابية خانقة، فقالت: الجوع أفظع من الموت!
ابتسم مسبلا جفنيه على نظرة احتقار باردة.
48
مضت الأيام وجلال يزداد قوة وجمالا وبهاء. يمشي الزمن على أديمه غير تارك أثرا كأنه الماء يمشي على مرآة مصقولة. زينات نفسها تتغير كما يتغير كل شيء من حولها، رغم عنايتها الكبيرة بجمالها. وأدرك جلال أنه يخوض بعناد المعركة المصيرية الحقيقية المقدسة. وقال لنفسه إنه من المؤسف حقا أن الختام حتم، قد يؤجل بعض الوقت، ولكن أين منه المفر؟
49
وتوثقت الصداقة بينه وبين المعلم عبد الخالق العطار . وكان من رأي المعلم عبد الخالق أنه لولا فداحة تكاليف الوصفة لصارت حارتهم حارة المعمرين.
وفكر جلال أكثر من مرة في أن يشرك زينات في الوصفة السحرية، ولكنه كان يتراجع عن فكره دائما. لعله بدأ يخشى سيطرتها وسحرها فكره تحصينها ضد الزمن الجبار. كان يحبها أكثر الوقت، ولكن تمر لحظات يود أن ينتقم منها ويبصقها في أقرب مزبلة. لم تكن علاقته بها بسيطة وواضحة. كانت تنداح في شبكة معقدة من العلاقات فتتداخل مع ذكرى أمه، ذكرى قمر، عداوته للموت، كرامته، وتعلقه الآسر بها. وكان ما يحنقه أكثر من سواه ما يبدو عليها أحيانا من طمأنينة راسخة وثقة بالنفس لا حدود لها، ها هي ترهق بالشراب والسهر، ويلتهب جلدها بالمساحيق، فهل تلاحظه خفية بالحسد؟
50
وسأل مرة المعلم عبد الخالق: سمعت ولا شك عن حكاية عاشور الناجي؟ - حكاية محفوظة يا معلم.
فقال جلال بعد تردد: إني أعتقد أنه ما زال حيا!
فذهل عبد الخالق ولم يدر بماذا يجيب. كان يعلم أن عاشور ولي عند قوم، ولص لقيط عند آخرين، ولكنهم يسلمون جميعا بموته. وواصل جلال قائلا: وأنه لم يمت!
وقال عبد الخالق: كان عاشور رجلا صالحا والموت لا يخطئ الصالحين.
فتساءل جلال محتجا: أينبغي أن يكون الإنسان شريرا كي يخلد؟ - الموت حق، ولكن لا يتطلع إلى الخلود مؤمن! - أعلى يقين أنت من ذلك؟
فخاف عبد الخالق وقال: هكذا يقولون والله أعلم. - لم؟ - أعتقد أن الخلود لا يتاح لإنسان إلا بمؤاخاة الجن.
فاشتعل جلال باهتمام داهم حاد وقال: حدثني عن ذلك. - مؤاخاة الجان، الخلود واللعنة الأبدية، التحام الإنسان بالشيطان إلى الأبد.
فتساءل جلال وهو يتمادى في الاهتمام: حقيقة هذا أم هذيان؟
فتردد عبد الخالق، ثم قال: لعله حقيقة! - زدنا تفسيرا. - لماذا؟ أتفكر حقا في تلك المغامرة؟
فضحك جلال ضحكة عصبية وقال: ليس إلا أني أحب أن أعرف كل شيء.
فقال عبد الخالق ببطء: يقال .. إن .. شاور ..
فتساءل جلال: ذلك الشيخ المجهول الذي يدعي قراءة المستقبل؟ - ذلك عمله الظاهر، ولكنه ينطوي على أسرار مرعبة . - لم أسمع عن شيء من ذلك. - إنه يخاف المؤمنين. - وهل تصدق ذلك؟ - لا أدري يا معلم ولكنه أمر لعين. - الخلود؟ - مؤاخاة الجن! - إنك تخاف الخلود! - يحق لي ذلك، تصور أن أبقى حتى أشهد زوال دنياي، يذهب الناس رجالا ونساء، وأبقى غريبا وسط غرباء، أفر من مكان إلى مكان، أبيت مطاردا أبديا، أجن، أتمنى الموت. - وتحافظ على شبابك إلى الأبد؟ - وتنجب أبناء وتفر منهم، وكل جيل تعد نفسك لحياة جديدة، وكل جيل تبكي الزوجة والأبناء، وتتجنس بجنسية الغربة الأبدية، لا يربطك بأحد اهتمام أو فكر أو عاطفة.
وهتف جلال: كفى!
وضحك الرجلان طويلا، وتمتم جلال: يا له من حلم!
51
كان شاور يقيم في بدروم كبير يقع أمام حوض الدواب مباشرة. متعدد الحجرات، وبه للنساء قاعة استقبال، وللرجال قاعة. وهو شخصية خفية لم تقع عليها عين. يستقبل مريديه في حجرة مظلمة في الليل، فيسمع صوته ولا يرى له أثر. أكثر زبائنه من النساء، ولكن الملمات قد تدفع ببعض الرجال إلى حجرته المظلمة. يسأل ويجيب، ويقدم الحلوان عادة إلى جارية حبشية تدعى حواء.
أرسل جلال في طلبه ولكن طلبه قوبل بالرفض، وقيل له إنه يفقد خواصه الساحرة خارج حجرته. كان على جلال إذن أن يتستر، يتسلل بليل إلى مقامه، متأخرا حتى يضمن خلو المكان.
مضت به حواء إلى الحجرة. أجلسته على شلتة طرية وذهبت. وجد نفسه في ظلام حالك. حملق فلم ير شيئا كأنما فقد الزمان والمكان والبصر. وقد نبه عليه أن يلوذ بالصمت، ألا يبدأ بالكلام، أن يجيب على قدر السؤال. مضى الوقت ثقيلا خانقا. كأنه نسي تماما أي سخرية. لم يلق مهانة كهذه منذ تبوأ عرش الفتونة. أين جلال الجبار؟ حتام يصبر وينتظر؟ الويل للإنس والجن إذا تمخضت مغامرته عن لا شيء.
52
انطلق من الظلام صوت عميق مؤثر هادئ. يسأل: اسمك؟
تنهد في ارتياح وأجاب: جلال الفتوة. - أجب على قدر السؤال، اسمك؟
فوسع صدره وأجاب: جلال عبد ربه الناجي. - على قدر السؤال اسمك؟
فأجاب بحدة: جلال. - اسم أمك؟
غلى دمه بسرعة مخيفة. رأى رغم الظلمة ألوانا جهنمية. سأل الصوت بآلية وتحد: اسم أمك؟
أجاب كاظما: زهيرة. - ماذا تريد؟
تردد قليلا، ولكن الصوت لم يمهله فتساءل: ماذا تريد؟ - أن أعرف ما يقال عن مؤاخاة الجن. - ماذا تريد؟ - لقد قلت. - ماذا تريد؟
فاجتاحه الغضب وتساءل منذرا: ألم تعرف من أكون؟! - جلال بن زهيرة. - أستطيع أن أطحنك بضربة واحدة. - كلا.
قيلت بكل ثقة وطمأنينة، فهتف جلال: تريد أن تجرب؟
فتساءل الصوت ببرود ولا مبالاة: ماذا تريد؟
لم يجب. لم يقدم على فعل. عاد الصوت: ماذا تريد؟
أجاب متنازلا عن كل شيء: الخلود. - لماذا؟ - هذا شأني. - المؤمن لا يتحدى إرادة الله. - أريد ذلك وأنا مؤمن. - إن ما تطلب خطير. - فليكن. - ستتمنى الموت ولم تناله. - فقال بقلب خفاق: ليكن.
سكت الصوت. هل ذهب؟ وقع مرة أخرى في الضياع. تلهف عليه بأعصاب ممزقة. حملق بقوة ولكنه لم ير شيئا.
53
ورجع الصوت بعد عذاب. تساءل: أأنت على استعداد لتقديم ما يطلب منك؟
أجاب بلا تردد: أجل. - أن توقف على جاريتي حواء كبرى عماراتك للتكفير بريعها عن ذنبي.
تفكر قليلا، ثم قال: أوافق. - أن تشيد مئذنة ارتفاعها عشرة طوابق. - في الزاوية؟ - كلا. - زاوية جديدة؟ - كلا، مئذنة مستقلة. - ولكن! - دون مناقشة. - أوافق. - عش عاما كاملا في جناحك، لا ترى أحدا، لا يراك إلا خادمك، تجنب ما يذهلك عن نفسك.
فانقبض قلبه ولكنه قال: أوافق. - في اليوم الأخير يتم الالتحام بينك وبين الجني، ثم لا تذوق الموت أبدا.
54
أوقف جلال عبد ربه الناجي كبرى عماراته على حواء الجارية الحبشية.
اتفق مع مقاول على تشييد المئذنة العملاقة في إحدى الخرابات، وقد امتثل الرجل لما يطلب منه طمعا في المال وخوفا من البطش. وعهد بالعصابة إلى وكيله مؤنس العال، مزودا إياه بكافة الإرشادات. أعلن عن عام اعتزاله معتلا بأنه يوفي بنذر نذره. وقبع في جناحه يسجل الأيام كما فعل سماحة في مهجره، متجنبا القرعة والجوزة وزينات الشقراء. ومنى نفسه بالفوز في أكبر معركة خاضها بشر.
55
تلقت زينات الشقراء قراره كأنه ضربة قاتلة. قطيعة أليمة غير مسبوقة بتمهيد، وبلا سبب مقنع. إنها المرارة والخوف واليأس. ألم يكونا كالزبدة والعسل حلاوة وامتزاجا؟ وآمنت بأنها ملكته إلى الأبد. ها هو يغلق الباب مثل دراويش التكية هاجرا أحبابه في الحيرة والعذاب. بكت طويلا والخدم يصدونها عن الجناح. زارت أخاه المعلم راضي فوجدته في حيرة مماثلة.
جالست أباه عبد ربه في جناحه. لقد تغير العجوز فلم يعد يزور البوظة إلا فيما ندر، استقام وخشع، وهو مثلها في حيرة من أمر ابنه. قال: لا أستطيع رؤيته رغم أننا في دار واحدة.
عانت زينات حياة معذبة. لم يكن المال ينقصها ولكنها فقدت تاج الحياة، تزعزعت ثقتها بنفسها، وتجهمها المستقبل الغامض.
56
وجزعت العصابة واضطربت. لم يملأ مؤنس العال عين أحد، ولكنهم التزموا بطاعته. وتساءلوا أي نذر نذره، ولم يعهد بالفتونة لآخر، وتجارته وأملاكه لأخيه راضي؟
وتسرب النبأ الخطير إلى الحوارى المتنافسة، وبمرور الزمن أعلن الفتوات التحدي من جديد. وتلقى مؤنس العال أولى هزائمه على يد فتوة العطوف، ثم تتابعت الهزائم أمام كفر الزغاري والحسينية وغيرهم، حتى اضطر مؤنس العال لشراء أمن الحارة وسلامتها بالإتاوات. وأراد رجاله إبلاغه بما آل الحال إليه، ولكن حيل بينهم وبين ذلك، وكأنه الموت قد انتزع فتوتهم منهم ودفنه في جناح محكم الإغلاق.
57
وتابع الناس بذهول بناء المئذنة الغريبة، وتواصل ارتفاعها إلى ما لا نهاية. من أصل ثابت في الأرض بلا جامع أو زاوية، لا يعرف لها هدف أو وظيفة، حتى الذي يقوم بتشييدها لا يعرف شيئا عنها. وتساءل قوم: هل مسه جنون؟
أما الحرافيش فقد قالوا إنها اللعنة حلت به جزاء خيانته لعهد جده العظيم، وتجاهله لرجاله الحقيقيين، وجشعه الذي لا يقنع بشيء.
58
ومرت الأيام وهو مستغرق في عزلته. يقتلع كل يوم من قلبه جذور العالم الخارجي؛ الفتونة والمال والمرأة المحبة الجميلة. يستسلم للصمت والوعي والصبر. يسلبه الأمل والفوز الذي لم يطمح إليه إنسان من قبل. عاشر الزمن وجها لوجه بلا شريك. بلا ملهاة ولا مخدر. واجهه في جموده وتوقفه وثقله.
إنه شيء عنيد ثابت كثيف ، وهو الذي يتحرك في ثناياه كما يتحرك النائم في كابوس. إنه جدار غليظ مرهق متجهم. غير محتمل إذا انفرد بمنعزل عن الناس والعمل. كأننا لا نعمل، ولا نصادق، ولا نحب، ولا نلهو إلا فرارا من الزمن. الشكوى من قصره ومروره أرحم من الشكوى من توقفه. عندما يدركه الخلود سيجرب آلاف الأعمال بلا خوف وبلا كسل. سيخوض المعارك بلا تدبر. سيسخر من الحكمة كما يسخر من الحماقة. سيتقلد ذات يوم عمادة الأسرة البشرية. أما اليوم وهو يزحف فوق الثواني فهو يبسط راحتيه سائلا الرحمة. ويتساءل متى يجيء الجان؟ وكيف يؤاخيه؟ هل يراه رؤية العين؟ هل يسمع صوته، أم إنه يلتحم به مثل الهواء الذي يتنفسه؟ إنه مرهق ضجر، لكنه لن يلين للخور. لن يخسر المعركة. ليتألم وليبك إذا شاء. إنه مؤمن بما يفعل. لن يتراجع، لن يخشى الخلود، لن يعرف الموت. سيظل الكون خاضعا لتقلبات الفصول الأربعة، أما هو فربيع دائم. سيكون طليعة كون جديد، أول مستكشف للحياة بلا موت، أول رافض للراحة الأبدية. القوة الظاهرة الخفية. إنما يخشى الحياة الضعفاء، أما معاشرة الزمن وجها لوجه فعذاب لا يعرفه الخيال.
59
وقف جلال عاريا أمام نافذة مفتوحة في آخر يوم من العام المكتوب. استقبل شعاع شمس مغسولا برطوبة الشتاء، وتلقى نفحات باردة من ريح متأنية. آن للمتصبر أن يجني ثمرة تصبره. آن لليل الضنى والإرهاق والوحدة أن ينتهي. لم يعد جلال عبد ربه الإنسان الفاني. إنه ثمل بروح جديدة تملأ أعطافه، تسكره بالإلهام، تنفحه بالقوة والثقة. بوسعه أن يحدث نفسه فيحدث الآخر في آن، وأن يثق كل الثقة بما يهمس في ضميره. انتصر على الزمن بعد صموده أمامه وجها لوجه بلا رفيق. لا خوف منه بعد اليوم.
فليهدد غيره بجريانه المنحوس. لن يبتلى بالتجاعيد ولا بالشيب ولا بالوهن. لن تخونه الروح، لن يحمله نعش، لن يضمه قبر. لن يتحلل هذا الجسد الصلب، لن يتحول إلى تراب، لن يذوق حسرة الوداع.
تجول عاريا في الحجرة وهو يقول بطمأنينة: مباركة هذه الحياة الأبدية.
60
فتح الباب بعصبية واقتحمت الحجرة زينات الشقراء. طارت نحوه مجنونة بالأشواق، فذابا في عناق حار طويل. انتحبت باكية. سألته بعتاب حار: ماذا فعلت؟
قبل خديها وشفتيها فعادت تتساءل: كيف هنت عليك؟
اجتاحه الحنين إليها. شيء ثمين جميل عابر. يراها شابة جميلة وعجوزا دميمة. كذبة عذبة. كأن الإخلاص أصبح مستحيلا. قال لها: لننس ما فات. - ولكني أريد أن أعرف. - كأنه مرض وانتهى. - يا لك من خائن!
يا لك من امرأة مليحة! - أتدري ماذا حصل للدنيا في غيابك؟ - فلنؤجل الحديث عن ذلك.
فتراجع رأسها وقالت بانبهار: ما أجمل منظرك!
فانقبض قلبه وتمتم وهو يرمقها برثاء: آسف على ما عانيت.
فقالت بعناد: سأسترد صحتي في ساعات، ولكن ما سرك؟
فقال بعد تردد: كنت مريضا وشفيت. - كان ينبغي أن ألزم جانبك. - كان العلاج هو الوحدة!
وضمته إلى صدرها وهي تقول بشغف: دعني أرى إن كان الحب ما زال هو الحب، أما آلامي وأحزاني فسأحدثك عنها فيما بعد.
61
جلس في بهو الضيوف فاستقبل المعلم عبد ربه والمعلم راضي في عناق صادق. وسرعان ما جاء مؤنس العال ورجال العصابة. قبلوه باحترام، وقال له مؤنس محزونا: ضاع كل شيء. لم يكن باليد حيلة.
وفي موكب من رجاله خرج إلى الحارة، ومضى إلى المقهى. اجتمعت الحارة كلها في الطريق تحييه فاختلط المحب بالكاره، والمعجب بالحاسد. ومال نحو مؤنس العال فسأله: ألم يظن أحد بي الجنون؟
فهتف الرجل: أعوذ بالله يا معلم!
فقال له وهو يرمق الجمهور بازدراء: فليذهبوا إلى أعمالهم مشكورين.
ثم غمغم: ما أكثر الكره وما أقل الحب!
62
وزار المئذنة وبصحبته عبد ربه وراضي. رسخت قاعدتها وسط خرابة. أزيل الحصى والقاذورات مما حولها. قاعدة مربعة في مساحة بهو ذات باب خشبي مقوس مصقول، ويواصل جسمها المتين ارتفاعه، لا ترى له قمة، لا يعلوه بناء، ويعلو أضعافا فوق كل شيء، توحي أضلاعه بالقوة، ولونه الأحمر بالغرابة والرعب.
وتساءل عبد ربه: لو سلمنا بأنها مئذنة فأين الجامع؟
فلم يجب، فقال راضي: كلفتنا مبلغا طائلا.
وعاد الأب يسأل: ما معنى هذا يا بني؟
فضحك جلال وقال: الله أعلم. - منذ تم بناؤه ولا حديث للناس سواه.
فقال جلال بازدراء: لا تهتم بالناس، إنه من النذر يا أبي، وقد يرتكب الإنسان حماقات كثيرة ليبلغ في النهاية حكمة فريدة.
وهم الأب بمعاودة السؤال، ولكنه سبقه بنبرة قاطعة: انظر، ها هي المئذنة، سيفنى كل شيء في الحارة وتبقى هي. اطرح عليها أسئلتك وسوف تجيبك إذا شاءت.
63
وانفرد بالمعلم عبد الخالق العطار وسأله بجدية مخيفة: ماذا ظننت باعتزالي؟
فقال الرجل بصدق وقلبه يخفق بالخوف: رددت قولك بلا زيادة. - وماذا ظننت بالمئذنة؟
فقال الرجل بعد تردد: لعلها من النذر يا معلم.
فسأله متجهما: ألست رجلا حكيما يا عبد الخالق؟
فبادر الرجل يقول: إن تفشت همسة واحدة فاعتبرني المذنب!
64
في جوف الليل تسلل إلى المئذنة. رقى سلمها درجة درجة حتى انتهى إلى شرفتها العليا. تحدى جو الشتاء القارس في تسلطه الشامل على الوجود. تطاول رأسه إلى مهرجان النجوم الساهرة المنتشرة فوقه كمظلة. آلاف الأعين تومض فوقه، وكل شيء تحته غارق في الظلام. لعله لم يصعد، ولكن قامته طالت كما ينبغي لها. عليه أن يرتفع، أن يرتفع دائما؛ فلا سبيل إلى النقاء إلا بالارتفاع. وفوق القمة تسمع لغة الكواكب، وهمسات الفضاء، وأماني القوة والخلود، بعيدا عن أنات الشكوى والخور وروائح العفن. الآن تشدو ألحان التكية أغنيات الخلود، وتعرض الحقيقة العشرات من وجوهها الخفية، وينكشف الغيب عن شتى المصائر. من هذه الشرفة يستطيع أن يتابع الأجيال في تعاقبها، وأن يلعب لكل جيل دورا، وأن ينضم بصفة نهائية إلى أسرة الأجرام السماوية.
65
وقاد رجاله ليؤدب أعداءه وليعيد إلى حارته مكانتها السابقة. في فترة قصيرة أحرز انتصارات باهرة على العطوف والحسينية وبولاق وكفر الزغاري والدراسة. كان يرمي بنفسه على خصومه فيتطايرون أمامه تسحقهم الهزيمة والذل. عرف بأنه القوة التي لا تقاوم، التي لا تجدي معها قوة أو شجاعة.
66
وتغير أسلوبه في الحياة؛ أصبح يأكل فيفرط في الأكل، ويشرب فيفرط في الشرب، ويدخن فيفرط في التدخين، وكلما غازلته غانية استجاب لها مستعينا بالسرية والستر، وسرعان ما تحرر من سطوة زينات فلم تعد إلا وردة جميلة في حديقة ملأى بالورود. وترامت أنباء مغامراته إلى المرأة فاشتعل بجوانحها جنون الغيرة والخسران، ورأت وجهها في مرآة المستقبل متلاشيا في ظلمة النسيان والضياع. طالما وجدت فيه الطفل البريء ذا المذاهب الخارقة. وفتحت لها براءته أبواب الأمل البعيد، فضمنت الحب وطمحت إلى الزواج. ولعل السلو عن الحياة نفسها أهون من السلو عنه وقد تجسدت فيه القوة والجمال والشباب والعظمة غير المحدودة. ولكنه خرج من عزلته مخلوقا آخر. مخلوقا يبهر بالقوة والجمال، ويرعب بالتقلب، والجنون والحنكة والاستهانة. وشعرت بأنها تدق وتنحل وتتضاءل، بل وتتلاشى أمام سيادته المرعبة المجهولة. ولم تجد ما تتذرع به حياله إلا الضعف والابتهال والهزيمة، ولكنه اعترضها بنعومة متكبرة، معتزة بشموخها، متعطفة بحنان بارد، متحصنة بتعال لا متناه، وقال لها: اقنعي بمنزلة تحسدين عليها.
ورأت أنها تذبل بقدر ما يزدهر، وأنهما ينطلقان في طريقين متضادين، فاحتقن قلبها بالحب والتعاسة.
67
ورزق عبد ربه الأب بذكر سماه خالد. وسرعان ما تاب وأقلع عن البوظة بصفة نهائية، ووجد سروره في الصلاة، فاتخذ من الشيخ خليل الدهشان نجيه وصديقه.
وداخله قلق مرعب من ناحية جلال، وقلق أشد من ناحية المئذنة المخيفة. خيل إليه أن علاقة الأبوة تتهتك، وأن ابنه أصبح غريبا لا يمت إليه بصلة، بل أصبح غريبا بين الناس غرابة المئذنة بين الأبنية. إنه مثلها قوي وجميل وعقيم وغامض. وقال له: لن يطمئن قلبي حتى تتزوج وتنجب.
فقال جلال: في الوقت متسع يا أبي.
فقال بتوسل: وحتى تبعث عهد الناجي العظيم.
فابتسم ولم يجب، فقال الأب: وحتى تتوب عن المنكر وتتبع سبيل الله.
وتذكر ماضي أبيه القريب والبعيد فقهقه بصوت كالطبل.
68
مرت الأيام لا يخشى من مرورها، وتتابعت الفصول بلا جزع، وارتفعت الإرادة الصلبة فوق قوى الطبيعة المتصارعة، ولم يعد الغيب يضمر ما يخيف.
وفي هاوية اليأس والحزن تلقت زينات الشقراء دعوة للحب. طالما انتظرتها، طالما تلهفت عليها، طالما تهيأ لها قلبها المكلوم.
ها هو يجود بليلة من لياليه ، ها هي تمضي إلى داره ينطق ظاهرها بالرضا والقناعة. وفتحت النوافذ وانجابت الستائر لتوسع لنسائم بشنس. لقيته بالبشر والمرح، وكتمت في الأعماق أحزانها. تعلمت أن تعامله بحذر الخائف، فراحت تعد الشراب والأقداح، وتهمس في أذنه: اشرب يا حبيبي.
فيقول لها وهو يعب من الخمر عبا: ما ألطفك!
وقالت لنفسها إنه فقد قلبه كما فقد براءته، وأنه يتباهى وهو لا يدري بقسوته مثل الشتاء، وقالت لنفسها أيضا إنها تنتحر بوعي وإرادة.
ورمقها وهو يتوغل في السكر، وتمتم: إن صح نظري فلست كالعهد بك.
فقالت بعذوبة: إنه وقار الحب.
فضحك قائلا: لا وقار لشيء.
وعابث خصلة من شعرها الذهبي وقال: ما زلت في أعز مكانة، ولكنك امرأة طموحة.
فاندفعت قائلة: ما أنا إلا امرأة حزينة. - تذكري نصائحك الغالية عن قصر الحياة. - كان ذلك في زمان الحب. - ها أنا أعمل بها فشكرا لك.
وقالت لنفسها: إنه لا يدري ما يعنيه كلامه، وإنها تعلم الغيب أكثر منه بقيراط، وإن الشر يرفع الإنسان على رغمه إلى مرتبة الملائكة. ورنت إليه طويلا بشغف وهي تقاوم رغبة في البكاء. واستنامت إلى نسائم بشنس وقالت لنفسها: إنه شهر غدار، سرعان ما تدهمه الخماسين فينقلب شيطانا مغيرا يفتك بالربيع. واحتواها بين ذراعيه فضمته إلى صدرها بقوة جنونية.
69
تخلص من ذراعيها ومضى ينزع عنه ملابسه حتى بدا كتمثال من نور، ونهض قائما. راح يتمشى في المخدع، وسرعان ما ترنح حتى ضحك. قالت: شربت بحرا. - ما زلت ظمآن.
فغمغمت كأنما تخاطب نفسها: ذهب زمان الحب.
وترنح متطوحا حتى تهاوى فوق ديوان. وضحك عاليا. قالت: إنه السكر.
فقال متجهما: كلا، شيء أثقل، كأنه النوم.
حاول القيام ولكنه استسلم متمتما: إنه النوم يجيء بلا دعوة.
عضت على شفتها. هكذا سينتهي العالم ذات يوم. وأتعس الناس من ينشد النصر في الهزيمة.
وقالت له بصوت مبحوح: حاول أن تنهض.
فقال بتراخ وقور: لا داعي لهذا. - ألا تستطيع يا حبيبي؟ - بلى، إنها نار الجحيم والنوم.
فانتفضت قائمة. تراجعت إلى مركز المخدع وهي تنظر إليه بوحشية حلت محل العذوبة الحزينة. أصبحت قطعة من التحفز المشرب بالمرارة والحزن. نظر نحوها بعينين غائمتين، حول بصره إلى لا شيء، قال بنفس ثقيل: ما بال النوم يزحف!
فقالت بنبرة اعتراف مقدسة: ليس النوم يا حبيبي. - لعله الثور الذي يحمل الدنيا على قرنه؟ - ولا هو الثور يا حبيبي. - إنك مضحكة يا زينات، لماذا؟ - بل إني أنتحر. - هه؟ - إنه الموت يا حبيبي! - الموت؟ - لقد جرعت من السم ما يكفي لقتل فيل. - أنت؟ - أنت يا حبيبي.
وضحك، ولكنه سرعان ما كف عن الضحك في إعياء، فقالت وهي تبكي: قتلتك لأقتل حياة العذاب!
حاول الضحك مرة أخرى وتمتم: جلال لا يموت. - الموت يطل من عينيك الجميلتين. - الموت مات يا جاهلة.
واستجمع كل قوته حتى وقف ممتدا في فضاء الحجرة. تراجعت إلى الوراء في رعب، ثم اندفعت هاربة مجنونة.
70
كأنه يحمل المئذنة المرعبة فوق كاهله. الموت ينطحه كما ينطح أي حيوان أعمى صخرة صلدة. وهتف بلا خوف: ما أشد الألم!
سار مترنحا نحو الخارج وهو عار تماما. تمتم وهو يغادر الدار إلى ظلام الحارة: جلال يتألم ولكنه لا يموت.
تقدم ببطء شديد يخوض الظلمة الحالكة مغمغما بصوت غير مسموع: النار، أريد ماء.
وجعل يتحرك في الظلام ببطء شديد، يغمغم متشكيا وهو يعتقد أنه يملأ الدنيا صياحا. وتساءل أين الناس؟ أين الأتباع؟ أين الماء؟ أين زينات المجرمة؟ وقال إنه الكابوس في ثقله وسماجته، ولكنه ليس الموت، القوى المجهولة تعمل الآن بكل طاقتها لترده إلى الحياة والسخرية، ولكن ما أشد الألم! ما أفظع الظمأ!
وعثر في تخبطه بجسم بارد. آه إنه حوض الدواب. اجتاحته فرحة النجاة. انحنى فوق حافة الحوض، فتهاوى إلى أسفل. مد ذراعيه فغرق في الماء. لامست شفتاه الماء المشبع بالعلف. شرب بنهم، شرب بجنون. صرخ صرخة مدوية ممزقة بوحشية الألم. غاص نصفه الأعلى في الماء العكر، تقوض نصفه الأسفل فوق أرض مغطاة بالروث، كفنته الظلمة الحالكة في تلك الليلة المثيرة المفزعة من ليالي الربيع.
الأشباح
الحكاية الثامنة من ملحمة الحرافيش
1
دهر طويل كان ينبغي أن يمر قبل أن تنسى الحارة منظر جثة جلال المنطرحة على حافة حوض الدواب. جثة عملاقة بيضاء ملقاة بين العلف والروث. هيكلها العظيم يوحي بالخلود، سلبيتها المتهافتة تشهد بالفناء، وفوقها يتشبع الجو على ضوء المشاعل بالسخرية المرعبة.
انتهى القوي الشامخ في عنفوان شبابه. تلاشى ظله ذو المائة عين والألف قبضة. حمله أبوه عبد ربه وأخوه راضي إلى داره العظيمة. شيع في جنازة مهيبة إلى قبر شمس الدين الناجي. خلد ذكراه في سجل الفتوات العظام بالرغم من صفاته الشيطانية.
يذهب الإنسان بخيره وشره، ولكن تبقى الأساطير.
2
تولى الفتونة بعده مؤنس العال. ورغم ما خلفه موت جلال من ارتياح عام إلا أن الحارة فقدت توازنها وداهمتها مخاوف جديدة. وسرعان ما نزلت عن مكانتها المرموقة فمضت في ركب الحي حارة من الحارات، وتلاشت فتونة فتوة الفتوات، وراح مؤنس العال يهادن ويصادق، أو يخوض معارك خاسرة، ويضطر أحيانا لشراء السلامة بالإتاوة والهدايا. أما داخل الحارة فلم يتصور أحد أن يخلص مؤنس العال للعهد الذي خانه جلال حفيد الناجي ومعجزة القوة والنصر.
3
وورث التركة الضخمة رجلان؛ الأب عبد ربه، والأخ راضي. وعلل موت جلال بإفراطه في الخمر والمخدرات. أما انطراحه بين العلف والروث عاريا فاعتبر جزاء إلهيا لصلفه وشموخه وتعاليه على البشر. وبقيت المئذنة بلا وريث، متمادية في الضخامة والارتفاع والعقم، آية على الغطرسة والجنون.
4
وبعد حين فتح المعلم عبد الخالق العطار فاه. همس بالمغامرة العجيبة، بمؤاخاة الجان، بدور الرجل الغامض شاور. هكذا ذاع السر وتناقله الناس، وأكدت زينات الشقراء الظنون بما روت عنه من اعتقاده بأنه لا يموت.
واختفى شاور وجاريته هربا من غضب الخلق. واقترح كثيرون هدم المئذنة، ولكن الأغلبية خافت أن يكون الجني قد سكنها حقا، فيخشى على الحارة من هدمها أن يلحقها من الأذى ما لا يدريه بشر. هكذا تركت، يتجنبها القوم، يلعنها الرائح والغادي، تمتلئ جوانحها بالحيات والخفافيش والعفاريت.
5
وقال الحرافيش إن ما حل بجلال هو الجزاء العادل لمن يخون عهد الناجي العظيم. من ينسى دعاءه الخالد بأن يهبه الله القوة ليجعلها في خدمة الناس. وعندما يخون حفدة الناجي عهده تحل بهم اللعنة ويفتك بهم الجنون. حتى المعلم عبد ربه ناله من ازدراء الحرافيش ما ناله، وكذلك المعلم راضي، ولم يغن عنهما مالهما الغزير.
6
وعاشت زينات الشقراء فترة من الرعب والترقب، ولكن أحدا لم يشر إليها باتهام، حتى من ساوره شك في دورها تغاضى عن ظنونه حامدا لها فعلها المجهول. ولم تنعم المرأة بانتقامها؛ فعاشت وحيدة زاهدة بلا قلب ولا راحة.
واكتشفت عقب موت جلال بفترة من الزمن أن حبهما قد خلق في بطنها ثمرة، فحرصت عليها بقوة حبها الخالد، وملكها شعور بالفخار رغم أنها ثمرة غير مشروعة. وأنجبت ذكرا فسمته جلال بكل جراءة وصراحة متحدية به التقاليد.
7
ووهبته حبين؛ حب الأمومة، وحب العاشقة الخالدة لأبيه الراحل. ونشأ جلال في أحضان أمه حياة متواضعة، آثرتها أمه على العودة إلى حياة الغانيات، ولم تنس قط أنه الوريث الحقيقي لتركة جلال الخيالية. وسعت إلى المعلم عبد ربه، ثم إلى المعلم راضي، لينزلا للصغير عن شيء من ماله، ولكنهما قاطعاها بحدة دلت على أنهما يتهمانها بدور فاصل في مصرع جلال. وقال المعلم راضي: امرأة مثلها كيف تعرف من يكون أبا لابنها؟!
8
وترعرع جلال كابن من أبناء الحارة، مجهول النسب، يشار إليه باعتباره ابن حرام، كما كان يشار إلى أبيه باعتباره ابن زهيرة. ولكن نموه المطرد أثبت لكل ذي عينين أنه ابن جلال دون غيره. أجل، لم يكن له قوته ولا جماله ولا عملقته، ولكن لا يخطئ أحد في ربط الصورة المتواضعة بالأصل البائد.
9
ودخل جلال الكتاب عامين، ثم عمل سواقا عند «الجدع» صاحب العربات الكارو. وكانت زينات قد أنفقت مدخرها فلم تستطع أن توفر لجلال عملا أفضل، وكانت فخورا بابنها، كما كانت فخورا بصبرها واستمساكها بالحياة الشريفة. ورغم تجاوزها للأربعين كانت ما تزال على قدر من الجمال جعل المعلم الجدع يطمع في ضمها إلى حريمه. لم ترحب زينات برغبة المعلم، وخافت في الوقت نفسه أن يسيء معاملة ابنها، ولكن الرجل نبذ رغبته عندما قال له مجاهد إبراهيم شيخ الحارة الذي خلف خليل الفص بعد وفاته، قال: كيف تركن لامرأة قتلت ذات يوم رجلها؟!
وعرف جلال - مع الأيام - أنه ابن جلال صاحب المئذنة وحفيد زهيرة، وأن عبد ربه جده، والوجيه راضي عمه. عرف تاريخه الحزين كما عرف تاريخ الناجي، ولبسه لقب ابن الحرام كقدر لا مفر منه ولا تكذيب له. وقال له المعلم الجدع ذات يوم: إياك أن تعمد إلى العنف. اصبر وما صبرك إلا بالله، وإلا فابحث عن رزقك في مكان آخر.
وقال له الشيخ سيد عثمان شيخ الزاوية (خليفة المرحوم الشيخ خليل الدهشان): مؤنس العال يرقبك باهتمام باعتبارك من حفدة الناجي، حذار أن تستغل قوتك فتهلك.
فصبر جلال مؤثرا السلامة، واستحق باجتهاده وأمانته تقدير الجدع.
10
وتمر الأيام وتنبت من جديد آمال. تشجعت زينات بعطف الجدع على جلال وراحت تخطب له عفيفة ابنة المعلم. وكان الرجل فظا صريحا عندما أجاب قائلا: جلال ولد طيب، ولكني لا أزوج ابنتي من ابن حرام.
وبكت زينات منفعلة، أما جلال فقد تحمل الطعنة صابرا.
11
ومات الجدع عقب تناوله صينية فول بالخلطة وصينية كنافة بالقشدة، وقد تجاوز السبعين من عمره. وانتظرت زينات عام الحداد، ثم طلبت عفيفة من أمها، فوافقت المرأة بناء على ما آنست من ميل ابنتها للفتى.
هكذا زفت عفيفة الجدع إلى جلال عبد الله.
12
وبالزواج ترقى جلال عبد الله من سواق كارو إلى صاحب كارو، وإن لم تكن عفيفة هي المالكة الحقيقية. أحسن الإدارة وتحسنت أحواله المعيشية، ثم توج حظه بالأبوة. وتتابعت أيام مريحة أنجب فيها بنات، ثم رزق بذكر سرعان ما أسماه شمس الدين جلال الناجي. أعلن بالتسمية عن كبريائه الدفينة مثل النار في الصوان. وسلم الجميع بصدق التسمية، غير أن آل الناجي الأكابر - مثل الوجيه راضي - امتعضوا لها، أما الحرافيش وسائر الناس فلم ينسوا أن جلال الاب ابن غير شرعي للمجنون صاحب المئذنة الشيطانية. وقال عنبة الفوال صاحب البوظة وخليفة المرحوم سنقر الشمام: ما أكثر الذين يسمون بعاشور وشمس الدين في حارتنا!
أجل لم يبق من تراث الناجي الخالد إلا الأسماء، أما العهود والأفعال فتعيش في الخيال مع الأساطير والمعجزات المسربلة بالحسرات.
13
وتمر أيام رتيبة ومريحة في حياة جلال عبد الله وأسرته، ويعرف الرجل بالطيبة والأمانة وحسن الخلق والورع. ويتوفر له الرزق، ويعشق العبادة، ويصبح من أقرب المقربين للشيخ سيد عثمان شيخ الزاوية، وتتوثق علاقته بزوجته عفيفة ويقنع بمعاشرتها، ويحسن تنشئة شمس الدين، ويظل الابن البار لأمه زينات رغم ما أورثته من سوء سمعة وألم. وتدل البشائر على أن هذه الأسرة ستشق طريقها في يسر وبلا تاريخ.
14
عندما بلغ المعلم جلال عبد الله الخمسين من عمره انقلب حاله ودهمته العجائب من زوايا المجهول؛ في البدء كانت وفاة أمه. ماتت زينات فجأة عن ثمانين عاما. ومن عجب أن جلال - رغم كهولته ورغم شيخوخة أمه - قد صدم صدمة عنيفة زعزعت توازنه. رئي في الجنازة وهو يبكي وينتحب، ثم غشيته كآبة ثقيلة خنقته ثلاثة أشهر، حتى ظن به التدهور. ولم يفهم حزنه وسخر منه كثيرون. وهو نفسه كان يقول إنه طالما أحبها حبا جما، ولكنه ما كان يتصور أن يفعل به موتها ما فعل. أما الأعجب من ذلك فهو ما حصل له عقب انقشاع الكآبة؛ لقد ولد شخص جديد مجهول الأصل، كأنما قذفه قبو مسكون بالعفاريت. تبدى له حبه لأمه عاطفة غريبة مضللة كأنها سحر أسود. تبخرت في الهواء مخلفة حجرا باردا شديد القسوة. أصبح يثور لذكراها ويلعنها. لم يبق في قلبه أثر حزن أو بر أو وفاء، وثمة صوت يهمس له في ذهوله بأنها كانت ينبوع العداوة والمقت في حياته، وأنه ضحيتها الأبدية.
وتساءل ذات يوم: هل حزنت لموتها حقا؟ يا لها من نزوة جنونية أمام الموت!
ومرة كان يجالس مجاهد إبراهم شيخ الحارة، فقال له: كانت أمي ذات صفات كريهة وسمعة سيئة ونوايا خبيثة.
فدهش شيخ الحارة وقال له: لا أكاد أصدق أذني. - أومن الآن بأنها حقا قتلت أبي، وقد كانت عربيدة مدمنة للمخدرات. إني أتقزز من ذكراها. - اذكروا حسنات موتاكم.
فهتف بحقد لم يعرف عنه: لا حسنة واحدة لها!
ثم بغيظ أشد: لقد تمتعت بعمر طويل مريح لا تستحقه.
15
وتغير سلوكه فيما يشبه الانهيار.
كف عن الصلاة، هجر الزاوية، ماج بانفعالات عنيفة. وإذا به يقتحم البوظة لأول مرة في حياته. كان هناك الفتوة مؤنس العال وبعض رجاله، فلما رآه صاح ساخرا: أخيرا عرف الحمار الضال حظيرته.
وضج الحاضرون بالضحك، أما جلال فابتسم في شيء من الارتباك، ثم رفع القرعة إلى فيه الظمآن.
وسأله مؤنس العال: ماذا أغراك بتقليد الرجال؟
فقال بسرور: الاقتداء بالرجال شرف يا معلم.
ولما انصرف الفتوة راح جلال يغني:
على باب حارتنا حسن القهوجي
وسكر وانبسط وراح يقول: حلمت أمس بأنني تسللت إلى مئذنة أبي، وأن شخصا جميلا صعد بي إلى شرفتها العليا، ثم دعاني إلى ملاعبته الحجلة، فرحت أحجل حتى اختل توازني فسقطت من الفتحة العالية، ولكنني لم أصب بأدنى أذى.
فقال له عنبة الفوال الخمار: خير ما تفعل أن تجرب ذلك في يقظتك.
فراح يغني من جديد:
باسمع نغم بالليل عشق البنات البكاري
هد مني الحيل
16
وجد عفيفة مستيقظة تنتظر. لم يسبق له مثل هذا السهر. وتطايرت إلى أنفها رائحة البوظة، فضربت صدرها براحتها هاتفة: سكران!
فراح يرقص ويقول: أنا جدع يا بنت الجدع.
17
وذاعت أخباره فعجب الناس وقالوا: «مجنون ابن مجنون.» واعترضه الشيخ سيد عثمان ذات يوم وسأله: ماذا قطعك عنا؟
فلم يجبه، فسأله بأسى: أحق ما يقال عنك؟
فهجره ماضيا في سبيله.
18
وكان إذا سكر وفقد الوعي تقتحمه مغريات جديدة كأنما تتفجر عنها غرائز رجل آخر. كان ينجذب إلى البنات المراهقات أو من دونهن بقليل، بقوة غشوم، فيعاكسهن ويغازلهن، وإذا خلا إلى إحداهن انبثق من إهابه وحش نهم؛ لذلك كان يتحاشى السكر في النهار خشية العواقب، ويتسلل ليلا إلى الخرابات مثل ذئب جائع. وقادته قدماه ذات ليلة إلى مسكن «دلال» الغانية، وانفرط منه الزمام.
19
غدا رجل الانحلال والفضائح. أوتي قوة كبيرة على الاستهانة بكل شيء. ولعل ما ربطه بدلال أنها كانت صغيرة السن وذات وجه مطبوع بطابع الطفولة، وأنها كانت تتسامح في نزواته الغريبة فتوفرها له بدلا من أن تقصيه عنها أو تعنفه بسببها. وقالت له مرة بصراحة: إني أحب الجنون فلا يهمك ما يقال!
فهتف جلال: أخيرا عثرت على امرأة عظيمة مثل جدتي زهيرة!
وانطرح على ظهره في تراخ وارتياح وراح يعترف لها قائلا: استيقظت ذات صباح فوجدتني سكران بلا خمر. كان يخفق بصدري قلب جديد. كرهت حاضري وذكرياتي، حتى التجارة والربح، ومشاكل البنات المتزوجات. وكرهت امتثال ابني شمس الدين الذي يعمل سواقا عندي وكأنه حمار يسوق حمارا، وكرهت أمه التي يمضي محصنا ببركاتها، ورأيتها تستنزفني بلا وجه حق، كما استنزفتني أمي من قبل بطريقة أخرى. وثار القلب والعقل والكبد وأعضاء التناسل وهتفت: بشرى للشياطين!
فقالت دلال ضاحكة: إنك ألذ رجل في العالم.
فقال بثقة: سمعت أن الرجال يولدون من جديد في سن الخمسين.
فقالت بيقين: ومرة أخرى في الستين، والسبعين.
فتأوه قائلا: لولا غيرة امرأة شريرة لخلد أبي وحطم كأس المنون.
فقالت له دلال: لولا أنك معجزة ما أحببتك قط.
20
تتابعت الضربات وانهالت بعنف على رأس عفيفة. تقوضت دنياها، تبدد حلمها، تبخرت سعادتها، اعتقدت أن «عملا» عمل لزوجها فطافت بأضرحة الأولياء وقراء الغيب، التزمت بكل نصيحة نصحت بها، ولكن جلال توغل في ضلاله بلا هوادة. لقد أهمل عمله أو كاد، واظب على السكر والعربدة، التصق بدلال، استباح كرامته في مغازلة البنات.
لولا الخوف من العواقب لفكرت في أن تشكوه إلى مؤنس العال. ولم تجد في حزنها ووحدتها إلا ابنها شمس الدين، فبثته حزنها ومأساتها، وقالت له: حدثه يا شمس فربما لان لك.
وكان بين عفيفة وشمس الدين علاقة حميمة فاقت كل تصور، فحزن الفتى لأمه، حزنه على سمعته وكرامته. وتشجع فصارح أباه بأحزانه، ولكن الرجل غضب، وهزه بعنف قائلا: أتريد أن تربيني يا ولد؟
فانطوى الفتى على أحزانه. كان يماثل أباه في قوته وملاحته وأخلاقه المأثورة التي تقوضت فجأة، ولم يدر ماذا يفعل، وراح يعاني ثورة من عواطفه تتحدى بنوته وبره ودماثته. ولم تكف أمه عن شكواها، فتلقى منها نفحات متواصلة من المرارة والحنق. وطالما حذرته: سيبدد كل شيء، سيتركك متسولا.
وبدا له أن أسرته تعاني من لعنة أبدية. تستعين بالجنون والدعارة والموت. وتقلص قلبه فأخذ يجف من الوفاء والحب، ويتحدى المجهول بالقوة والقهر.
وعجب متسائلا: لم قبلت أمي الزواج من مثل هذا الرجل؟
21
وجعلت الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ كعقود نهار الصيف الماضية نحو الظهيرة المتلظية. وأخذ قلب شمس الدين يتلون بالسواد ويتشرب بالرفض والحنق. وترامى إليه وهو جالس في القهوة أن أباه يرقص في البوظة شبه عار. وجن الفتى فانطلق من فوره إلى البوظة بقلب محزون وإرادة مصممة. رأى أباه وهو يرقص وليس عليه إلا سرواله، والسكارى يصفقون ويغنون:
عومي على الميه
لم ينتبه المعلم جلال لمقدم ابنه فواصل الرقص في غاية من الانسجام، ورأى بعض السكارى شمس الدين فكفوا عن التصفيق والغناء، داعين الآخرين إلى ذلك، وقال أحدهم بإغراء شرير: فلنشهد منظرا طريفا!
وبتوقف التصفيق والغناء توقف المعلم جلال عن الرقص محتجا. وعند ذاك انتبه إلى وجود ابنه، كما فطن إلى غضبه وتحديه، فغضب بدوره وصاح به متسائلا: ماذا جاء بك يا غلام؟
فقال شمس بأدب: تفضل يا أبي بارتداء ملابسك.
فصاح المخمور: ماذا جاء بك يا وقح؟
فقال بإصرار: أتوسل إليك أن ترتدي ملابسك.
فانقض عليه مترنحا ولطمه لطمة شديدة صفقت في البوظة الصامتة، وصاح أكثر من صوت في تحريض وسرور: عفارم!
وانهال الرجل على ابنه لطما حتى خارت قواه من شدة السكر فتهاوى على الأرض فاقد الوعي.
وندت ضحكة، ثم ساد الصمت وقال صوت: قتلت أباك يا شمس الدين.
وقال آخر: حتى الشهادة لم ينطق بها!
وانكب شمس الدين على أبيه يلبسه ثيابه، ثم حمله بين يديه، ومضى به مشيعا بقهقهات غليظة ساخرة.
22
أفاق المعلم جلال بعد قليل فوق فراشه بمسكنه الشرعي. جالت عيناه الحمراوان فيما حوله فرأى عفيفة وشمس الدين ومعالم الحجرة الكريهة. سرعان ما تذكر كل شيء. إنه الليل، وكان ينبغي أن يكون في فراش دلال. وهذا الفتى قد جعل منه سخرية السكارى وأعدم هيبة الأبوة. جلس في الفراش وهو ينفخ. وثب إلى الأرض. انقض على شمس الدين وراح يكيل له الضربات. رمت عفيفة نفسها بينهما باكية. تحول جلال إليها فاقد الرشد. قبض على عنقها وشد بوحشية. عبثا حاولت المرأة التخلص من قبضتيه. تجلت في وجهها اليائس معالم الاختناق والموت. صاح شمس الدين: دعها، إنك تقتلها!
لم يحفل به منتشيا بوحشية الجريمة. فزع شمس الدين إلى مقعد خشبي فرفعه وهوى به على رأسه بقوة جنونية.
23
حل هدوء ثقيل محل الصراخ والانفعال الأحمر. استلقى المعلم جلال فوق فراشه مضرجا في دمه. اقتحم المسكن جيران، وجاء أيضا مجاهد إبراهيم شيخ الحارة. وقدم الحلاق لتقديم الإسعافات الضرورية وإيقاف الدم السائل، على حين انزوى شمس الدين في زاوية مستسلما للأقدار.
وغاب الزمن تماما. وانداحت لحظة ساخرة مفعمة بكافة الاحتمالات.
لحظة عشوائية أقوى من كافة وسائل التفكير والتدبير. وأدركت عفيفة كما أدرك شمس الدين أن الحاضر يدفع الماضي ويعدمه ويدفنه. وتمتم مجاهد إبراهيم: أي قدر يعبث بأب ووحيده؟
فولولت عفيفة هاتفة: إنه الشيطان.
وخيم صمت فوق جلال مثل جبل. ما زال صدره يعلو وينخفض. هتف مجاهد إبراهيم: يا معلم جلال!
وهتفت عفيفة: لتشملنا رحمة الله القدير.
وسأل شيخ الحارة الحلاق: ماذا تجد؟
فأجاب الحلاق وهو لا يكف عن عمله: العمر بيد الله وحده. - ولكن لك خبرتك أيضا؟
فاقترب منه وهمس في أذنه: لا نجاة من تلك الضربة.
24
فتح جلال عبد الله عينيه المظلمتين. لم يكد يعرف أحدا. طال صمته حتى حطم أعصاب من حوله، ولكنه أخذ يستعيد قبسات من إدراكه. تمتم: إني راحل!
فتأوهت عفيفة قائلة: بعد الشر عنك!
فعاد يتمتم: إني لا أخشى الظلام. - إنك بخير. - لتكن إرادة الله.
اقترب مجاهد إبراهيم من الفراش وقال: يا معلم جلال، أنا مجاهد إبراهيم، تكلم أمام هؤلاء الشهود.
فتساءل جلال بصوت ضعيف: أين شمس الدين؟
فدعاه مجاهد إبراهيم إلى الاقتراب فاقترب، وقال شيخ الحارة: ها هو ابنك. - إني راحل.
فسأله شيخ الحارة: ماذا حصل ؟ - قضاء الله. - من الذي ضربك؟
وسكت الرجل، فألح مجاهد إبراهيم قائلا: تكلم يا معلم جلال! - إني راحل. - من الذي ضربك؟
فقال متنهدا: أبي! - الأموات لا يضربون، يجب أن تتكلم.
فتنهد مرة أخرى وقال: لا أدري. - كيف؟ - الحارة مظلمة. - هل اعتدي عليك في الحارة؟ - أو في مدخل البيت. - لا شك أنك عرفت الجاني. - كلا، أخفاه الظلام والغدر. - لك أعداء؟ - لا أعرف. - هل تشك في أحد؟ - كلا. - أنت لا تعرف الجاني ولا تشك في أحد؟ - بلى، استغثت بابني فجاء ليحملني، ثم غبت عن الوجود.
سكت مجاهد إبراهيم. حدقت الأعين بجلال وكان يحتضر.
25
ذهل شمس الدين وهو يصغي إلى صوت أبيه قبل أن ينقطع. خانته الشجاعة فلم ينبس بكلمة. تلقى حنان أبيه المحتضر بخشوع وجبن وندم. زاغ من نظرات مجاهد إبراهيم فدفن وجهه في يديه وبكى. وطيلة يوم الجنازة وأيام المأتم لم يغمض له جفن. تحرك بين الناس شبحا تطارده أشباح الجحيم. لقد جن جده وجنت جدة أبيه، وارتكب نفر من السلالة أبشع الانحرافات، ولكنه أول من يقتل أباه من آل الناجي الملعونين.
ولما خلا إلى أمه قالت تشجعه: إنك لم تقتل أباك ولكنك دفعت إلى الدفاع عن أمك.
وأيضا تساءلت: أليس الله بعالم كل شيء؟!
ثم قالت بحرارة: إن الشهادة التي حماك بها خليقة بالتكفير عن ذنوبه جميعا، وسوف يلقى ربه بريئا طاهرا مثل طفل وليد.
وأغرق شمس الدين في البكاء وتمتم: لقد قتلت أبي!
26
ودعاه المعلم عبد ربه للقائه في «القلعة» دار جلال صاحب المئذنة. كان يعلم أنه والد جده جلال، وأنه في المائة من عمره. وجده هرما لا يفارق داره، ولا حجرته، ولكنه كان بالقياس إلى عمره موفور الصحة والنشاط، وقورا، يرى الأشياء ويسمع الأصوات ويعي الأمور. عجب شمس الدين لتعمير الرجل بعد وفاة ابنه وحفيده، ولم يحمل له ذرة من حب أو احترام. ولا ينسى مقاطعته لأبيه.
تفحصه طويلا وهو يقربه من وجهه، ثم قال: البقية في حياتك.
فرد عليه ببرود، فقال عبد ربه: في وجهك شبه من جلال بن زهيرة.
فقال ببروده: لقد قاطعت أبي.
فقال بهدوء: كانت الأمور معقدة.
فقال بتحد: بل الطمع في التركة! - كل تركة عدا عهد عاشور فهي لعنة. - ولكنك تتمتع بها لآخر لحظة في حياتك.
فقال العجوز بنبرة مضطربة: دعوتك لأعزيك، خذ نصيبك من التركة إذا شئت.
فقال شمس الدين وكأنه يكفر عن جريمته: إني أرفض كرمك. - إنك عنيد يا بني. - إني أنكر من أنكر أبي.
عند ذاك أغمض العجوز عينيه، فغادر شمس الدين المكان.
27
لم يجد شمس الدين بدا من مواجهة الحياة. انطبع وجهه بجدية تكبره بنصف قرن. أخذ نفسه بالتقوى والاستقامة. حل محل أبيه في إدارة العربات فهرب من ذاته بالإغراق في العمل. عرف في الحارة بقاتل أبيه. اعتبر لعنة متحركة مقابل المئذنة، تلك اللعنة الثابتة. ويتساءل أناس ماذا تتوقعون من شاب أبوه ابن حرام وجده صاحب المئذنة؟ صمم شمس الدين على تحدي اللعنة بوجهه الصارم وإرادته الصلبة وقلبه المترع بالندم. أخلص لدينه، تصدق على الفقراء، عامل زبائنه بالحسنى، مضى في الحياة منفيا ملعونا. استقرت في عينيه نظرة كئيبة، كره الفاكهة، تجنب الغناء والطرب، حذر من البوظة والغرزة، لفحته مشاعر الناس فكره الناس ولكنه تمسك بالحياة.
28
لم تجد عفيفة الجدع من دواء لحال شمس الدين خيرا من أن تزوجه. أعجبتها صادقة بنت بياع الفول فخطبتها له مزكية إياه بعمله وأصله، ولكن الأسرة أبت أن تزوج ابنتها من قاتل أبيه. ولم يكن شمس الدين يهتم كثيرا بالزواج، ولكن الرفض عمق جراحه فصمم على الزواج بأي ثمن.
وكانت توجد راقصة تدعى نور الصباح العجمي، مجهولة الأصل متهتكة. أعجبه منظرها فزارها متسترا بالظلام، لا ليعاشرها كما توقعت، ولكن ليخطبها! ودهشت البنت، وظنته يرسم لاستغلالها، ولكنه قال لها بصدق: بل أريدك ست بيت بكل معنى الكلمة.
فأضاء وجهها بالفرح وقالت: إنك شاب نبيل وإني أستحق ذلك!
29
وحزنت عفيفة فقالت محتجة: إنها بنت داعرة!
فقال شمس الدين بكآبة: مثل جدتي زينات!
ثم متمتما بسخرية: ما أكثر الداعرات في أسرتنا المجيدة! - لا تيأس بسرعة يا بني.
فقال بامتعاض: إنها الوحيدة التي تقبلني بلا امتعاض.
30
وزفت نور الصباح العجمي إلى شمس الدين جلال الناجي. وهتك شمس الدين ستار الانكماش فأقام حفلا شهده عماله وأهل أمه، وتجاهل من يتجاهلونه. وسخرت الحارة من الزيجة فجرى على الألسنة ذكر زينات وزهيرة، وذكريات الأسرة التي هبطت من السماء لتتمرغ أخيرا في الوحل.
بكل قحة قال عنبة الفوال الخمار: ألم يكن عاشور نفسه لقيطا؟ ألم تكن أم الأسرة الأولى عاملة في هذه البوظة؟!
31
وقيض للزواج أن ينجح. تحولت نور الصباح العجمي إلى ست بيت. سعد بها شمس الدين فاستقر جانب من جوانبه القلقة. ولم ينغص صفو البيت من آن لآن إلا المشاحنات بين عفيفة ونور الصباح. وبقدر ما كانت عفيفة صارمة غير متسامحة، كانت نور الصباح حادة سليطة اللسان. ولكن المعاشرة لم تتحطم، وأنجبت صباح من البنات ثلاثا، وأخيرا جادت بسماحة شمس الدين الناجي.
32
وبتقدم الزمن تناسى شمس الدين همومه وذنبه ما أمكن، ولكن الكآبة كانت قد صارت له طبعا. ونشأ سماحة وليس له جمال أبيه أو جده، ولكنه يبشر ببنيان أشد. وولعت به أمه وجدته، فحافظا عليه ككنز غال. ولم يحقق نجاحا في الكتاب. وتشاجر ذات يوم مع قرين فضربه باللوح فكاد يفقده عينه، وأوقع أباه في مشكلة لم يخلص منها إلا بتعويض لا يستهان به. وقسا عليه فضربه حتى أحزن أمه وجدته. وجره إلى العمل في الحظيرة قبل الأوان وهو يقول له: تعلم أدب الحياة بين الحمير!
ونما سماحة تحت رعاية أبيه الكئيب، وسرعان ما شارف المراهقة.
33
رغم أن الفتى لم يكن يغيب عن عيني أبيه من الصباح حتى النوم إلا أنه لم يطمئن إلى أحواله تماما، فآنس منه جموحا وتوقع منه المتاعب.
وذات يوم جاءه مجاهد إبراهيم شيخ الحارة وقال له: أول ما شطح نطح!
شعر بأنه يعني ابنه سماحة، ولكنه لم يصدق لشدة إحكام قبضته حول الفتى. وتساءل عما هنالك، فقال شيخ الحارة: هل تصدق أن ابنك مرافق كريمة العنابي؟
فذهل شمس الدين. متى يفعل ذلك؟ قال: إنه لا يغيب عن ناظري حتى أودعه فراشه!
فضحك مجاهد إبراهيم وقال: ثم يتسلل من البيت وأنت نائم.
وذهل شمس الدين مرة أخرى لأن كريمة العنابي أرملة تقترب من الستين من عمرها وابنه مراهق ليس إلا. وقال له مجاهد إبراهيم: احذر أن يعتاد الولد البرمجة!
34
وتربص شمس الدين في الظلام أمام باب دار كريمة العنابي. جاء بعد أن تأكد من أن الولد قد غادر فراشه وها هو ينتظر. وقبيل الفجر بساعة فتح الباب وتسلل منه شبح. سقط في يد أبيه، فزع أول الأمر، هم بضربه لولا أن عرف صوته فانقهر. - أيها الخنزير!
وشده بعنف فشم رائحته فصاح: وسكران أيضا!
ولطمه لطمة طيرت الخمر من رأسه. وفي البيت عنفه وضربه حتى استيقظت نور الصباح وعفيفة، ومضت الحقيقة تتكشف لهما من خلال اللطمات والكلمات. وقال سماحة: كفى يا أبي وجهي يتحطم. - إنك تستحق القتل، تخدعني؟ - تبت وأنا في عرضك!
وقالت عفيفة: إنها أكبر مني المجرمة.
فصاح شمس الدين وهو يشير إلى سماحة: هو المذنب ولا أحد سواه!
35
وقال شمس الدين لنفسه إن المقدمات تنذر بأوخم العواقب، وإن من يبدأ بعشق امرأة في سن جدته فكيف ينتهي؟ وقد رأى كريمة هانم العنابي في بعض مشاويرها فهاله تصابيها وزواقها وبدانتها المفرطة، وآمن بأن أسوأ ما ينشأ عليه مراهق أن يألف أن تنفق عليه امرأة.
وفي ذلك الوقت توفي مؤنس العال فخلفه في الفتونة سمعة الكلبشي فازدادت أحوال الحارة حطة وإظلاما. وتلقى الحرافيش البلوى كقدر مكتوب لا مفر منه، فلم تعد الفتونة - بصرف النظر عن هوية الفتوة - إلا بلوى قائمة.
36
وتوفي الجد عبد ربه فشيع في جنازة كبيرة لم يشترك فيها شمس الدين ولا سماحة. وعرف بعد ذلك أنه أوصى للفتى سماحة بخمسمائة جنيه. وطالب سماحة بميراثه ولكن أباه أبى أن يسلمه إياها إلا أن يبلغ رشده. وشدد الرقابة عليه حتى عانى الفتى حياة مريرة. وذات مرة حانت من شمس الدين نظرة إلى الفتى وهما يعملان في الحظيرة، فضبط في عينيه نظرة جدباء انقبض لها صدره، فقال لنفسه: الولد لا يحبني!
وتنهد مغتما وقال: لا يدرك الأحمق أنني أعمل لما فيه خيره.
37
وتدافعت الأحداث مثل زبد النهر الأغبر. ولاحظ شمس الدين ذات صباح وهو يحتسي قهوته في بيته قلقا أسود يلف عفيفة ونور الصباح، فخفق قلبه وتساءل: سماحة؟!
فتلقى صمتا مريبا ضاعف من أحزانه، فسأل بحدة: ما الجديد من متاعبه؟
بكت نور الصباح وقالت عفيفة بنبرة متشنجة: ليس في البيت. - رجع إلى التسلل؟ - بل غادرنا! - هرب؟
ومضى مشحونا بسوء الظن إلى السحارة، فاكتشف اختفاء الميراث فصاح: لص أيضا!
فقالت أمه: حلمك يا بني إنه ماله.
فقال بإصرار: لص هارب!
ونقل عينيه بارتياب بين المرأتين وتساءل: ماذا يحدث وراء ظهري؟!
38
تصور أنه لائذ بدار كريمة العنابي. أفضى بظنونه إلى شيخ الحارة مجاهد إبراهيم. وقام الرجل بتحرياته ثم قال له: لا أثر لسماحة في حارتنا!
وأيقن أن الله يعاقبه على جريمته. عليه أن يكفر عن جريمته كما كفر عن جرائم الآخرين، ولا يبعد أن يقتله الفتى ذات يوم. لم لا؟ إنه لا يحسن بهذه الدنيا ظنا. وألقى على المئذنة نظرة وحشية وتساءل: لم يبقون على هذه اللعنة قائمة؟!
39
لم يعثر على أثر لسماحة رغم أن شمس الدين أوصى جميع السواقين عنده باليقظة والتحري. ها هو الفتى يمضي في أثر المختفين من رجال الأسرة ونسائها. وتتلاحق الأعوام. أما عفيفة فقد ماتت في أعقاب مرض طويل، وأما نور الصباح فقد أمرت الأيام ما كان منها حلوا. ومضى شمس الدين يحمل أثقاله، ويغمغم كلما حزبه ألم: «أمرك يا رب.»
40
ولكن غيبة سماحة لم تدم كما دامت من قبل غيبة عاشور أو قرة. رجع إلى الحارة ذات يوم وقد بلغ رشده، بلغ رشده ولكنه فقد أشياء ثمينة لا تعوض.
امتلأ جسده بالقوة والشراسة. اختفى جماله وراء غلالة من التجهم ونسيج متقطع من الكدمات والعاهات المستديمة. أكان يعاشر قطاع الطرق؟ حتى أبوه لم يعرفه لأول وهلة. ولما اكتشف حقيقته واجتاحته موجة من السرور والأسى، اضطرب بين الشكر والحنق. تمزق بين الحب والسخط. وتبادلا النظر طويلا في الحظيرة بين السواقين والحمير. وتنحى به جانبا وسأله بإشفاق: ماذا فعلت بنفسك؟
وجعل يرددها والآخر صامت مستغنيا بمنظره عن أي بيان. وسأله: بددت النقود؟
فحنى رأسه: آه. البعض يستثمر والبعض يبدد. وتنهد من الأعماق وتمتم: لعل الحياة قد لقنتك درسا مفيدا.
ولما ضاق بصمته قال له: اذهب إلى أمك.
41
وسرعان ما انطفأ الأمل الضعيف الذي ساور شمس الدين. أفاق من عاطفة الأبوة الملتاعة التي اجتاحته. رأى العناد والاعوجاع والسفه في صورة جديدة من قوة شرسة متحجرة. ومع ذلك لم يستسلم لليأس فقال له برقة: إلى العمل يا بني. درب نفسك على إدارة ما ستكون صاحبه غدا.
وشجعته نور الصباح بحنانها وتوسلاتها. أما سماحة فقد أبى العمل كسواق، فأبقاه أبوه معه في الحظيرة مشركا إياه في صميم عمله. غير أنه تململ وغالى في طلب النقود. ولم يعد في وسع الأب أن يعامله كغلام، فراح يسهر في البوظة والغرزة وبيوت الدعارة، متجاهلا صاحبته الأولى كريمة العنابي.
وقال له شمس الدين بحضور أمه: خير ما تفعل أن تتزوج.
فقال ساخرا: لا توجد بنت جديرة حقا بحفيد الناجي العظيم.
فسأله أبوه: هل تدرك ما يعنيه اسم الناجي؟
فقال بقحة ما بعدها قحة: معناه التفرد بالمعجزات مثل بناء مئذنة العفاريت!
فهتف شمس الدين مغيظا محنقا: إنك لمجنون!
ومضى الأب لحاله وهو يقول لنفسه: إنه يكرهني ما في ذلك من شك.
وتهرب من هاجسه حينا غير أنه قال بوجوم: سيقتلني ذات يوم.
42
واكتشف المعلم شمس الدين سرقة قدر من مال العمل لا يستهان به. عرف في الحال ما يعنيه ذلك. وأدرك أنه قد يفلس يوما من جراء حماقة كهذه. ولم يتردد فذهب من توه إلى البوظة. وجد سماحة يجالس سمعة الكلبشي ورجاله كأنه واحد منهم. أشار إليه أن يتبعه ولكن الفتى لم يستجب. تاه في سكره وطالع أباه بنظرة متحدية. وكظم الأب غيظه وقال له: أنت تعلم بما دفعني إليك.
فقال ببرود: إنها نقودي كما هي نقودك، وإني أنفقها على خير وجه.
فقال سمعة الكلبشي: أحسنت.
فقال شمس الدين لسماحة: إنك تعرضني للخراب.
فقال سماحة بلسان ملتو: أنفق ما في الجيب؛ يأتك ما في الغيب.
فقال سمعة الكلبشي: هذا الولد حكيم!
واقترب عنبة الفوال من شمس الدين وهمس في أذنه محذرا: وحد الله!
ولكن الغضب اجتاحه فصاح: اشهدوا جميعا على أنني أطرد هذا الابن العاق من بيتي، وإنني أتبرأ منه إلى يوم القيامة.
43
وتلقت نور الصباح الخبر كمصيبة دهماء فصرخت: لن أفرط في ابني أبدا!
فكرهها شمس الدين في تلك اللحظة بكل قوة حنقه وغيظه وصاح: لن يدخل هذا البيت ما حييت! - ابنى، لن أفرط فيه!
فقال بلا وعي: إنه ينضح بأصلك القذر!
فأجابته فاقدة الوعي أيضا من اليأس والغضب: ليس في أصلي دعارة أو جنون.
فلطمها لطمة أسقطتها على أرض الحجرة، فجنت من الغضب وبصقت على وجهه. عند ذاك صرخ: اذهبي فأنت طالق بالثلاثة!
44
أقامت نور الصباح وسماحة في شقة واحدة. انخرط الفتى في عصابة سمعة الكلبشي ولكنه لشدة إسرافه لم يذق الرضا قط. ولم يخف كراهيته لأبيه عن أحد، وخاض في معايب آل الناجي بكل قحة كأنه أكبر أعدائهم.
وعاش شمس الدين وحيدا. ولم يعد ينعم بالأمان أو الطمأنينة. وتوقع لنفسه نهاية مثل نهاية أبيه أو أفظع. وتوثب للدفاع عن نفسه بكل وسيلة. كان يغدق على عماله ليريح قلوبهم، ويحكم إغلاق شقته بابا ونوافذ، وبذل العطاء لسمعة الكلبشي وتودد إليه ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
45
وزاره يوما شيخ الحارة مجاهد إبراهيم وقال له: أنصحك بالحكمة يا معلم شمس الدين.
فسأله بوجوم: ماذا تعني؟ - خفف من العداوة، أجر عليه بعض المال.
فلاذ شمس الدين بالصمت، فقال شيخ الحارة: سمعته أمس في البوظة يمني الندماء بسهرات خلابة عندما ..
وتوقف الرجل، فقال شمس الدين بكآبة: عندما أموت أو أقتل! - لم يجر للقتل ذكر، ولكن ليس هناك أبشع من أن يتمنى الابن موت أبيه، أو يتمنى الأب موت ابنه. - ولكنني لا أتمنى موته.
فقال مجاهد إبراهيم بوضوح: نحن بشر يا معلم!
46
شعر شمس الدين بطائر الخوف يحلق فوقه. وذات يوم مضى إلى دار سمعة الكلبشي طاويا جوانحه على مغامرة فريدة. حياه بإجلال وقال: أريد أن أتشرف بيد كريمتكم.
فتفحصه الفتوة مليا ثم قال: من ناحية السن فليس ثمة ما يمنع من أن تتزوج بنت السادسة عشرة من رجل في الأربعين.
فحنى شمس الدين رأسه في خشوع، فقال سمعة الكلبشي: أصلك كريم ومالك وفير!
فواصل شمس الدين خشوعه ورضاه، فسأله الفتوة: كم تدفع مهرا؟
فقال شمس الدين بقلق دفين: ما تأمر به يا معلم. - خمسمائة جنيه.
فقال بحكمة: إنه مبلغ جسيم ولكن المطلوب أغلى وأعز.
فمد له يده قائلا: لنقرأ الفاتحة.
47
زفت سنبلة سمعة الكلبشي إلى شمس الدين جلال الناجي. احتفلت الحارة كلها بالزفاف. صار شمس الدين في أعز وآمن مكان. لم تكن سنبلة جميلة ولكنها كانت غضة الشباب، كما كانت ابنة الفتوة.
48
تولى الذعر نور الصباح وابنها سماحة. وقال سماحة: تبدد حلم الميراث.
فقالت عفيفة وهي لا تصدق نفسها: ولكن حقك لا يمس.
فقال سماحة: هل تتصورين أن الكلبشي سيترك الأمور للشرع؟!
فقالت نور الصباح محذرة: الحياة أغلى من المال.
فقال بغضب: إن أعين رجاله ترقبني ليل نهار، كالمتبع مع المخيفين من آل الناجي، وها هو ظرف جديد يدفعه إلى المزيد من الحذر!
فتأوهت نور الصباح وقالت: الحذر يا بني، لعنة الله على أبيك، وليحفظك الله.
49
اقتنع سماحة بأن حياته باتت مهددة ليخلص الميراث لسنبلة وحدها، وليأمن الفتوة جانبه على فتونته بصفة نهائية.
والعجيب أن شمس الدين نفسه لم يستنم طويلا إلى سبات الطمأنينة العذب. ماذا يحول بين سماحة وبين الانتقام منه وهو أدرى الناس بطبعه المستهتر؟ وهل يوجد سيد للموقف اليوم أقوى من سمعة الكلبشي؟ لقد وضعه الخوف من الموت بين فكي الموت نفسه، ولن يستكن الفتوة حتى ينتزع منه ماله إلى آخر مليم. وهو لم يمل حقا لسنبلة، وعاوده حنينه إلى نور الصباح، ولكن كان عليه أن يحمل ثقل تلك المعاشرة مع أثقال حياته الأخرى. وثمة حقيقة تنشب أظافرها في لحمه وهي أن الأمس لا يمكن أن يرجع أبدا.
50
وزاره سمعة الكلبشي ذات ليلة. أشار إلى ابنته فغادرت الحجرة فتوقع أمرا لا يسر. ما معنى زيارة ليلية؟ كره منظر وجهه الشبيه بكرة كثيرة الندوب، كما كره ثقته الموحية بأنه يجلس في بيته وبين أهله. وراح يتكلم عن عجائب المصادفات ونوادر الدهر والقوى الخفية المسيطرة على مصائر البشر، وشمس الدين في حيرة من تأملاته، حتى قال الفتوة: انظر مثلا كيف أن وجود شخص معين غير مريح لكلينا!
أدرك من أول وهلة ما يعنيه. تجسدت لعينيه صورة ابنه سماحة. انذعر لموافقة الرأي لأمانيه الخفية أكثر من انذعاره إشفاقا على وحيده. وتساءل متجاهلا ومتغابيا: أي شخص تعني يا معلم؟
فقال الكلبشي بازدراء: لا، لا! لا تستغفل الكلبشي يا أبا سماحة!
فتساءل بارتياع: تقصد سماحة؟ - هو ما تقصده أنت! - إنه ابني. - كما كنت ابن أبيك!
فقطب متألما وقال: إنك قوة لا يجوز عليها أن تخشى أحدا. - دعك من هذا الكلام الفارغ، ثم إنك لم تفهم غرضي!
قال شمس الدين بامتعاض: زدني إيضاحا! - بع أملاكك بيعا صوريا لزوجتك؛ ييأس سماحة ثم يرحل!
فغاص قلبه في صدره وقال كالمستغيث بأي شيء: أو يحفزه ذلك على الانتقام مني! - لن يمسك سوء ما دمت حيا!
رأى الشرك فاغرا فاه. رأى الصائد مكشرا عن أنيابه. الفقر أو الموت أو الاثنان معا. محال أن يقبل ومحال أن يرفض. قال بتوسل: أعطني مهلة للتفكير.
فعبس الفتوة محنقا وقال: ما سمعت مثل ذلك من قبل.
فقال بضراعة: مهلة قصيرة.
فنهض الرجل وهو يقول: صباح الغد. عندك الليل بطوله.
51
لم يغمض لشمس الدين جفن. ترك سنبلة في زينتها تنتظر حتى غلبها النوم. أطفأ المصباح، تدثر بعباءته اتقاء للبرد. رأى في الظلمة الأشباح، أشباح الماضي كلها. ما هذا التدهور بعد الصمود؟ ألم يحمل أثقاله ويمضي بها؟ ألم يكفر عنها بالصبر والألم؟ ألم يلتزم بالجدية والاستقامة والجلد؟ كيف جاء التدهور ليرث نضاله كله بلا دفاع؟ لقد حدث ذلك بسبب سقوطه في هاوية الخوف. الخوف أصل البلاء. خاف ابنه فطرده ، ثم طلق أمه، ثم مضى بقدميه إلى وكر الشيطان. بلا تفكير سليم مضى. وكيف يتهيأ التفكير السليم لمنذعر؟ عندما صرع الخوف واجه الحياة بكبرياء. لم تقض عليه نوائب السمعة السيئة والجريمة البشعة واحتقار الحارة. واجه الحياة بكبرياء. طوع اليأس لخدمته. بنى على أساس داعر أسرة كريمة. نجح في العمل. حاز القوة والثراء عندما صرع الخوف. اليوم يطالب بالنزول عن ثروته. غدا يقتله سماحة. بعد غد يؤخذ سماحة بجريمته. يفوز الكلبشي بالمال والأمان. يقول شبح في الظلام: لا تقتل ابنك، لا تحمل ابنك على قتلك، لا تذعن للطاغية، لا تستسلم للخوف، طوع اليأس لخدمتك، ابحث في الموت عن عزاء كريم إذا تعذرت الحياة.
وعصفت ريح الشتاء في الخارج كالنواح، فتخيل - مأخوذا بنشوة الخيال - أن عاشور أصغى لها ذات ليلة في بدرومه الخالد.
52
في الصباح سقط رذاذ مشبعا بروح أمشير النقية المتقلبة الثائرة، ونفذت البرودة إلى نخاع العظام. مضى شمس الدين فوق الأرض الزلقة متوكئا على عصاه الغليظة. رحب به سمعة الكلبشي وهو متربع فوق أريكته بالقهوة. - أهلا بالمعلم شمس الدين.
دعاه إلى الجلوس إلى جانبه فجلس، ثم سأله هامسا: نشرع في إجراءات البيع؟
فأجاب شمس الدين بهدوء مريب: كلا. - كلا؟! - لا بيع ولا شراء.
فاصفر وجه الفتوة وتمتم: يا له من قرار جنوني! - بل هو عين الصواب.
ارتسمت في أساريره صورة كالحة للشر وقال: تعتمد على مصاهرتي؟
فقال شمس الدين بهدوئه المصمم: أعتمد بعد الله علي نفسي! - تتحداني؟! - بل أصارحك برأيي ليس إلا.
اجتاح الغضب سمعة فلطمه بقسوة. جن جنون الآخر فرد اللطمة بأشد منها. وثب الرجلان في لحظة واحدة شاهرين نبوتيهما. وسرعان ما التحما في معركة قاسية. كان شمس الدين قويا وأصغر من سمعة بعشر سنوات، ولكنه لم يمارس المعارك. وجاء رجال الفتوة من جميع الأنحاء وبسرعة مذهلة وبينهم سماحة. أحاطوا بالمتعاركين دون تدخل من جانبهم احتراما للتقاليد المرعية. وتمكن سمعة الكلبشي من خصمه واستجمع قوته ليوجه إليه ضربة قاضية. في تلك اللحظة وثب سماحة وثبة مفاجئة فهوى بنبوته على رأس الفتوة فتقوض بنيانه وانطرح أرضا. وقع ذلك بسرعة خاطفة. صرخ الرجال وانقضوا على شمس الدين وسماحة، ولكن ثمة مفاجأة أخرى كانت متربصة، انضم نفر من الرجال إلى سماحة وشمس الدين! هتفت أصوات: خيانة وضيعة!
والتحم الفريقان بضراوة ووحشية. تصادمت النبابيت، تلاطمت الأجساد، فرقعت الصكات، تطايرت اللعنات تحت الرذاذ، سالت الدماء، استحرت الأحقاد، أغلقت الدكاكين، هرولت العربات، تجمع الناس في طرق الحارة، اكتظت النوافذ والمشربيات، علا الصريخ والعويل.
53
حمل شمس الدين إلى بيته محطما. استطاع سماحة أن يرجع إلى مسكنه بجهد شديد، ثم رقد وهو بين الحياة والموت. أما سمعة الكلبشي فقد أصابه العجز وتلاشت أسطورته، وانهزم رجاله.
54
وتكشفت حقائق في اليوم نفسه. عرف أن سماحة طمح إلى الفتونة، وأنه نجح في ضم بعض الرجال إليه سرا، وأنه كان يرسم للقضاء على الفتوة والسيطرة على أبيه، فلما بوغت بالمعركة بين الفتوة وأبيه انقض في اللحظة المناسبة لحماية شمس الدين وإعلان ثورته، ونجح مشروعه ولكنه رقد بين الحياة والوت.
55
تواصل سقوط الرذاذ طيلة النهار. تشرب الجو بظلال كستنائية ونعاس. نقش أديم الأرض الزلقة بحوافر الدواب. أما المعلم شمس الدين فقد انطرح فوق فراشه يحتضر في رعاية جاره بعد أن هجرته سنبلة. لم يفتح عينا، لم ينبس بكلمة، ندت عنه حركات مبهمة، تبدى متخليا عن كل شيء، وعند جثوم الليل أسلم الروح.
سارق النغمة
الحكاية التاسعة من ملحمة الحرافيش
1
كتبت لسماحة شمس الدين جلال الناجي النجاة من الموت. استعاد صحته رويدا، ثم استرد قوته. وأضافت المعركة الأخيرة إلى وجهه تشوهات جديدة، فانقلب ذا وجه قبيح ينذر بالشر والإرهاب. وتبوأ الفتونة دون منازع، فبشرت فتونته بسيطرة غير محدودة. وسرت نور الصباح العجمي أمه بحظها، وبانتصارها الحاسم على ضرتها سنبلة بنت الفتوة السابق سمعة الكلبشي.
ورجعت سنبلة إلى أبيها العاجز حيث أنجبت وليدها ابن شمس الدين الذي أسمته فتح الباب باسم جدها لأمها. واقتسمت ثروة شمس الدين بين ابنيه سماحة وفتح الباب وأرملته سنبلة. وصار سماحة وصيا على أخيه بحكم القرابة، ولم ينازعه أحد في ذلك خوفا من بطشه، هكذا عاد جل ثروة أبيه إلى قبضته الحديدية. وقال سماحة لسنبلة: لقد هجرت أبي، تركته يحتضر وحيدا، وإنه لظلم أن ترثي بعض ماله، فلا تنتظري مليما من مستحقات فتح الباب. اعتبري بعضه إتاوة والبعض الآخر عقوبة لك!
2
وخلق سماحة أسطورة حول ذاته. أذاع أنه ما خاض المعركة ضد الكلبشي إلا دفاعا عن أبيه رغم ما كان بينهما من خلاف وعداوة، وأن انضمام من انضم إليه من رجال العصابة كان بدافع الشهامة وحدها، ولكن ذلك لم يجز على أحد. كان قد عرف ما عرف عن ائتماره على فتوته وإغرائه بعض الرجال للانضمام إليه، وأنه انتهز فرصة نشوب المعركة بين أبيه والكلبشي لينفذ مؤامرته دفاعا عن أبيه. بل لقد اتهم من بعض كارهيه بأنه لم يدافع عن أبيه شمس الدين كما يجب، وأنه سر لوفاته، غير أن شيئا من همساتهم لم يبلغه، وظل مزهوا بالأسطورة التي خلقها. وانداحت فتونته على الحارة كجبل شاهق، ولكنه أدب فتوات الحارات فرفع منزلتها في الحي جميعه، وأرجع إليها الهيبة والجلال. وأنشأ بماله ومال أخيه فتح الباب دارا جميلة أقامت بها نور الصباح العجمي أمه، أما هو فكان يتنقل ما بين البوظة والغرزة وبيوت العاهرات.
3
ومات سمعة الكلبشي فورثت سنبلة عنه ثروة لا بأس بها كان لها من الأخوات عشر. وما لبثت أن تزوجت من كاتب في بنك الرهونات. ولم يلق فتح الباب ترحيبا من زوج أمه، وضاق به أكثر عندما أنجبت له سنبلة بنين وبنات. نشأ الغلام في جو حزين، فكان يلوذ بأمه ويتجنب رب البيت، وضاعفت حساسيته من ألمه ووحدته، ولم يشفع له تفوقه في الكتاب ولا حسن خلقه ووداعته؛ لذلك ما إن بلغ التاسعة حتى مضت به سنبلة إلى الفتوة سماحة وقالت له: هذا أخوك فتح الباب وقد آن له أن يعيش تحت جناحك.
وتفحصه سماحة فوجده جميلا رقيقا حزينا، ولكن قلبه لم يرق له، وقال: ماله يبدو جائعا؟!
فقالت سنبلة: كلا، لكنه غلام رقيق. - لا يصدق من يراه أنه ولد من صلب فتوات من ناحيتي أمه وأبيه! - هكذا هو!
فقال محاولا التخلص منه: لك أن تحتفظي به.
فاغرورقت عيناها وقالت: لا يوفر بيتي له السعادة.
واضطر سماحة إلى احتضانه، ومضى به إلى أمه نور الصباح، ولكنها كرهت إيواءه وقالت لابنها: لم تعد لي طاقة على رعاية الأطفال.
الحق أنها أبت تربية ابن ضرتها سنبلة. وحار سماحة ماذا يفعل، وتجرع الغلام الذل والأسى بصبر. وعند ذاك تطوعت عجوز من صديقات نور الصباح باحتضانه. تلك كانت سحر الداية، أرملة بلا ذرية، ومن سلالة الناجي. وكانت تقيم في بدروم من حجرتين بإحدى عمارات جلال صاحب المئذنة، وكانت طيبة القلب ومعتزة بأصلها، فلقي فتح الباب في رحابها أول حياة دافئة خالية من الكدر، وأعانه ذلك على تحمل فراق أمه سنبلة.
4
ورأى سماحة الفتوة ذات يوم فتاة جميلة وصغيرة فأعجبته. لم تكن في متناول اليد كغيرها من نسائه. رآها في دوكار وعرف الدار. وآنس من وجهها الحسن ألفة تنم عن تقارب روحي خفي ما لبث أن كشف أسبابه. تبين له أنها فردوس حفيدة المرحوم المعلم راضي محمد أنور من زهيرة، أخي جلال صاحب المئذنة. وكان إعجابه شهوة ورغبة في الامتلاك، ولكنهما كانا من القوة بحيث جعلاه يفكر في الزواج جادا لأول مرة في حياته البهيمية. وأغراه بها إلى ذلك ملكيتها لمحل الغلال وانتماؤها مثله لآل الناجي. وقد دهشت أمه عندما طلب إليها أن تخطبها له، ولكنها سرت لذلك سرورا لا مزيد عليه. وقال لها سماحة وهو يقهقه: حسبي وحسبها أننا ننتمي إلى زهيرة الجميلة المجنونة قتالة الرجال!
وكان قبحه وسلوكه جديرين برفضه، ولكن من ذا الذي يرفض يد فتوة؟!
5
زفت فردوس إلى سماحة. التحم ذو الوجه القبيح بذات الوجه العذب. وقد كان جميلا ذات يوم، ولكن النبابيت أعادت خلق وجهه. أما اعتزازه بأصله وفحولته فلا حدود له؛ فرغم كل شيء نجح الزواج وجاد بسعادة ساخنة.
وبفضله أصبح سماحة مديرا لمحل الغلال ومالكه الفعلي. ومن حجرة الإدارة استلت إرادة من صوان تتصرف في شئون المال والمعارك معا. ووهبه الزواج عطايا من العذوبة والنضارة، ورغدا من حياة القصور وأساليب المعيشة الرفيعة، وإطارا ثريا من الرياش، والتحف ومباهج الترف. ولم ينقطع عن العربدة ولكنه وفرها لعشه الشرعي، فانتقلت إلى القائمة المذهبة الجوزة والقرعة. وعلمه محل الغلال وأبهة الإدارة حب المال وجمعه، فقرر أن يعيد سيرة جده جلال صاحب الخوارق المجنونة، وأن يفرض سيطرته - بعد الناس - على الأشياء الثمينة.
6
وأثبتت فردوس أنها ذكية بقدر ما هي حسنة الحظ. لقد أحبت زوجها، ومضت تنجب له ذرية من خلق الحب ودفئه. فلم تأل جهدا في تهذيبه وامتلاكه بتسلل عذب لا تحدي فيه ولا كبرياء. لم تكن تحترم الفتونة، ولكنها لم تنكر مزاياها. وكسائر آل الناجي كانت تنوه بذكريات الفتونة الأسطورية القديمة، بعدالتها ونقائها، ولكنها في الوقت نفسه - بحكم انتمائها إلى الوجاهة - تنفر من تلك الفتونة النقية التي تؤثر الفقر والبطولة، وتشكم السادة والوجهاء.
وإذن فلتبق الذكرى موضعا للتبرك والفخر، ولتبق فتونة اليوم واقعا يحقق القوة والسيادة والثراء. وما من بأس على سماحة أن يفعل ما يشاء تحت شرط أن يفعله في دارها، وفي غشاء من خيوطها الذهبية المحكمة.
وتمر الأيام وهي سعيدة بحياتها، والأغنياء يزدادون غنى، والفقراء يزدادون فقرا.
7
واصل فتح الباب تعلمه في الكتاب وحفظ ما تيسر من القرآن. طابت نفسه بجو الحنان في مقامه الجديد فانزاح غطاء الخوف من نفسه عن كنوز من عواطف غنية وخيال بديع. غلام قمحي اللون، أسود العينين، رائق البشرة، في ذقنه ثغرة، وفي قده رشاقة، ينضح بالعذوبة والفطنة. تناسى أمه كما تناسته، وتعلق بسحر الداية قلبه. أحبها وقدسها، وتلقى منها أنوارا لم تخطر له على بال.
كانت تقول له في ليالي السمر: نحن من أصل واحد مبارك هو عاشور الناجي.
طالما تحدثت بيقين عن ماض غابر كأنما كانت حقا تتنفس فيه.
أنبل الأصول كان أصله، وخاف عليه أبوه من غضب فتوة ظالم، وجاءه في المنام من أمره بأن يترك وليده في الممر في رعاية التكية، وما تردد أن فعل.
ولعن فتح الباب من تقولوا على جده بأنه كان لقيطا، فقالت سحر: من أنبل الأصول كان أصله، وقد ترعرع في أحضان رجل خير، ونما شابا قويا. وذات مرة أمره ملاك في المنام أن يهجر الحارة اتقاء للوباء، ودعا الناس إلى الهجرة ولكنهم سخروا منه، فمضى محزونا بزوجه وولده، ولما رجع أنقذ الحارة من العذاب والذل، كما أنقذه الله من الموت.
وراحت تحكي له قصة عاشور؛ عودته، مقامه في دار البنان، فتونته، عهده، حتى امتلأت عينا الصبي بالوجد والدموع، فقالت سحر: وقد اختفى ذات يوم، وطال اختفاؤه حتى آمن الناس بموته، أما الحقيقة التي لا شك فيها فهي أنه لم يمت.
فسألها فتح الباب بدهشة وأمل: حتى الآن يا جدتي؟ - وحتى الغد! - ولم لا يرجع؟ - علم ذلك عند الله وحده. - قد يرجع فجأة؟ - لم لا؟! - هل علم بما فعل أخي سماحة؟ - طبعا يا بني. - ولم سكت عنه؟ - من يدرى يا بني؟ - هل يرضيه الظلم يا جدتي؟ - كلا يا بني. - لم يسكت عنه؟ - من يدري يا بني؟ ربما لسخطه على تهاون الناس مع الظالم؟
وسكت فتح الباب مليا، ثم عاد يسأل: كل ذلك حقيقي يا جدتي؟ - هل كذبت جدتك قط؟!
8
ويذهب فتح الباب إلى الكتاب ويجيء. يرى جده عاشور في كل مكان. إنه ينبض في قلبه وخياله، ويشتعل في أشواقه وآماله. يراه في الزاوية والسبيل والحوض، يراه في الممر وفي الساحة أمام التكية. طالما نظرت عيناه إلى هذا السور العتيق، إلى هذا الباب المغلق، إلى أشجار التوت الفارغة، كما ينظر هو إليها الآن. ما زال الجو مخضلا بأنفاسه ونجواه، ورغائبه وأحلامه، وسره مطوي في الغيب لا تكشفه هذه الأشعة السائلة. حتما سيجيء ذات يوم. هكذا تكلمت جدته الصادقة. سيلوح بعصاه العجراء فيتلاشى سماحة ذو الوجه القبيح. يتلاشى بظلمه الأسود وجشعه الأحمر وماله المكتنز. ويهلل الحرافيش ليوم الخلاص ويسبحون في بحر النور. وتتقوض مئذنة الجنون فتتراكم أنقاضها فوق الغدر والخيانة والسفه. أم إنه يتجاهلنا لتهاوننا مع الظالم حقا؟ إنه يحب جده، يود أن يحظى برضاه. ولكن من أين له القوة وقد خلق رقيقا كالخيال؟ من أين له القوة؟!
9
ولما ناهز فتح الباب المراهقة فكرت سحر بمستقبله، وشاورت عم مجاهد إبراهيم شيخ الحارة فقال لها: اختاري له حرفة.
فقالت باعتزاز: إنه من خيرة من تعلم في الكتاب.
فسألها الرجل: ألست داية فردوس هانم!
فأجابت بالإيجاب، فقال لها: حدثيها بشأنه، ومن ناحيتي سأمهد له عند المعلم سماحة.
10
وقالت سحر لفردوس هانم: فتح الباب ولد ممتاز، وهو من دمكم، وأولى الناس بالعمل في محل أخيه.
ورحبت الهانم بذلك ووعدت بإقناع زوجها.
11
وتفحص سماحة أخاه فتح الباب بعناية وتمتم بازدراء: رقيق مثل فتاة.
فقالت سحر: هكذا خلق ولكل شيء نفعه.
فتساءل ببرود: وما نفعه؟ - يحفظ القرآن، يكتب ويعرف الحساب.
فتحول نحو الفتى وسأله متهكما: أأمين أنت أم طويل اليد مثل بقية الأسرة المجيدة؟
فقال فتح الباب بحرارة: إني أخاف الله وأحب جدي. - جدك جلال صاحب المئذنة؟ - جدي عاشور الناجي!
قطب سماحة وتغير وجهه، فبادرت سحر تقول: إنه طفل بريء.
فقال سماحة بوحشية: جدك عاشور أول من علمنا السرقة!
ذهل فتح الباب وتألم. خافت سحر أن ينبس بكلمة تسد طريقه فقالت: إني أضمن أمانته وجده والله شهيد.
هكذا ألحق فتح الباب بالمخزن مساعدا لأمينه.
12
تفانى فتح الباب في عمله. كان المخزن يشغل بدروما متراميا يماثل في اتساعه مساحة المحل كله. ترمى فيه أجولة الغلال على الأرفف والأرض، ولكنها تتعرض لحركة يومية بين المجيء والذهاب، فلم يكن الميزان يكف عن العمل ولا يده تكف عن التسجيل. وبحكم عمله كان يحظى بمقابلة أخيه سماحة مرة على الأقل كل صباح ليطلعه على حركة الوارد والصادر. وارتاح الفتوة إلى نشاطه ويقظته، ووجد فيه عينا تلقائية على أمين المخزن، وقال له بأسلوبه: إني أشجع المجتهد وأبطش بالكسول.
13
وعملا بنصيحة سحر زار نور الصباح العجمي أم معلمه ليقدم لها فروض الطاعة. لم يكن قد بقي من جمالها شيء، وقد رحبت به بفتور دل على أنها لا يمكن أن تنسى إساءة. وإذا بها تسأله: كيف حال سنبلة أمك ؟
وأجاب بذل: لم أرها منذ فارقتها لكراهية زوجها لي!
فقالت بحنق: لا عذر لها سوى أنها بلا قلب.
وغادرها مضمرا ألا يراها مرة أخرى.
14
وبتوجيه جدته أيضا زار فردوس هانم. وقد عطفت عليه فبهره جمالها وأناقتها. قالت: سمعت عن نشاطك ما يسر الخاطر.
ولكنه لاحظ أنها لم تعرفه إلى أبنائها. لعلها أبت أن تقدم عاملا بسيطا مثله بصفته عمهم. وآلمه ذلك ولكنه صمم على تجاهله وتناسيه. وغادرها معطرا بشذا جمالها وأناقتها، ومضمرا في الوقت نفسه ألا يزورها مرة أخرى.
15
وبالعمل اكتسب ثقة وعزة. مضى يتشبه بالرجال فربى شاربه، وطوق رأسه باللاثة، وعرف طريقه إلى الزاوية فتوثقت صلته بالشيخ سيد عثمان. وكان يجلس في القهوة ساعة من الليل فيشرب القرفة ويدخن البوري، ثم لا يرجع إلى جدته حتى يطوف بالساحة؛ فقد أدركه عشق الأناشيد.
16
واضطرمت أعصابه بألم مجهول. وفاض قلبه بالحنين، وتلظى بلهب خفي. مناظر النساء سحرته، أصواتهن أرعشت قلبه. ومن أقرانه تلقى سيلا من دعوات الإغراء للتعرف إلى البوظة والغرزة وبيوت الدعارة، ولكن الماضي كان يصرخ في أذنيه محذرا. الماضي المرهق بذكريات المئذنة والانحرافات والشهوات التي قضت على أصالة أسرته. وكأن جدته كانت تقرأ أفكاره فقالت له ذات يوم: آن لك أن تتروج.
وطرب للفكرة ووجد فيها الخلاص المنشود.
ولكن سرعان ما اكفهر الأفق وأنذر بعواصف لا تخطر على البال.
17
جاءت الهمسات من خارج الحارة حاملة نذرا من نوع غريب. قالت إن فيضان ذلك العام شحيح أو أنه لن يأتي. ما معنى ذلك يا ترى؟ قالت إنها الويلات تتلاحق حتى لا تبقي على شيء. حقا؟ سيندر الطعام، وربما اختفى تماما، والعاقل من يخزن اليوم ما يتبلغ به غدا. وعمل بالحكمة القادرون، وترامق الحرافيش وهم يضحكون، ولم يصدقوا أنهم سيحرمون من اللقمة التي ينتزعونها بالعرق، أو يتصدق بها عليهم المتصدقون.
وامتلأ الجو بالطنين، واصطبغ بصفرة منفرة، فزحفت أشباح القلق بالليل والنهار.
18
واندفعت عجلة البلاء بلا تدرج. ارتفعت الأسعار ساعة بعد ساعة. تلبد الأفق بسحب سوداء. عملت حوانيت الغذاء نصف يوم لندرة الأطعمة. تلاطمت الشكاوى والأنات، وتكونت أمام محال الدقيق والفول مظاهرات. لم يعد للناس من حديث إلا الطعام. لهجوا به في البوظة والغرزة والقهوة. اندلع الشرر فاشتعل نارا. حتى الوجهاء جهروا بالشكوى، ولكن لم يصدقهم أحد، وفضحتهم وجوههم الريانة الموردة. وقال عنبة الخمار: إنه الوباء!
وتمادت الأسعار في الارتفاع وبخاصة الغلال، وراح سماحة يصيح: لم يعد يبقى ما يكفي العصافير!
غير أن فتح الباب قال لجدته ليلا: ما أكذبه يا جدتي! المخزن ملآن!
وقال لها أيضا: ما الأسعار التي يفرضها إلا إتاوة جديدة.
فقالت له بإشفاق: احفظ لسانك يا بني.
فقال متألما: إنه وحش لا تعرف الرحمة قلبه.
19
وازداد الجو عبوسة ودمامة. وامتطت الأسعار الجنون. ندر الفول والعدس والشاي والبن، واختفى الأرز والسكر، وتدلل الرغيف. وندت عن الأعصاب المرهقة بوادر استهانة؛ فتعددت السرقات، وتعاقب خطف الدجاج والأرانب، وبعض السائرين ليلا نهبوا أمام بيوتهم، وانبرى رجال العصابة ينذرون ويبددون، ويدعون إلى الأخلاق والتضامن بحناجر قوية وبطون مكتنزة.
وكشفت الأيام عن أنيابها الحادة القاسية، وتضخم شبح الجوع كالمئذنة المجنونة، فشاع أن الناس يأكلون الخيل والحمير والكلاب والقطط، وأنهم عما قليل سيأكل بعضهم بعضا.
20
وفي ذلك الوقت البارد الأصفر تصدى يوم غريب كأنما هبط من كون آخر؛ فقد زفت إحسان بنت الفتوة سماحة إلى ابن صاحب وكالة الخشب. أقيم حفل خيالي لم تشهد له الحارة مثيلا، تحدى الزمن والجوع. وأعلنت فردوس هانم أنها ستطعم جميع الحرافيش. وتجمهر الجياع في ساعة العرس.
وما إن ظهرت الصواني على رأس الخدم حتى هجم الحرافيش كالوحوش الضارية. تخاطفوا الطعام وتخالطوا مثل ذرات الغبار في يوم عاصف. وانتشر الشد والجذب والخطف، ثم التلاحم والشجار، حتى امتزج الدم بالمرق. وثمل الناس بالفوضى والشغب، واندفعت موجة منهم إلى البوظة فاكتسحتها. التهمت المزة وعبت من براميل البوظة، ثم انطلقوا في الحارة مهللين، وقذفوا بالطوب أشباح الخرابات، وخضعت الحارة للعربدة الهوجاء حتى مطلع الفجر.
21
في اليوم التالي تعرضت الحارة لحملة تأديب وإرهاب. انتشر فيها رجال سماحة، ومضى الفتوة يقطعها من القبو حتى مشارف الميدان ذهابا وإيابا. ولم ينج حرفوش من علقة أو إهانة، وتفشى الذعر فخلت الحارة من السابلة، وأغلقت الدكاكين، وهجرت القهوة والغرز، حتى الزاوية لم يقصدها عابد في ذلك النهار.
22
وجلس فتح الباب إلى جدته كئيبا محزونا، وجعل يقول: جدي عاشور لن يرجع!
فرمقته العجوز بنظرة حزينة فقال: ما زال غاضبا علينا!
فتمتمت سحر: أيام أشد من أيام الوباء. - وفي التكية ما زالوا ينشدون للطرب! - لعلها دعوات يا بني!
فتساءل فتح الباب بقلق: ألا يجدر بهم أن يجودوا على الناس ببعض ما عندهم؟
فقالت سحر بحرارة: لا يجوز عتابهم. - عندهم التوت، والأرض مزروعة بالخضر.
فلوحت بيدها محذرة، فقال متنهدا: أما أخي سماحة فهو الشيطان نفسه.
23
في الظلام مرقت ذرة نور. في الصمت اندست همسة حنان. ولم يجاوز السر خرابات الحرافيش. حرصوا على الكتمان ووجدوا في الكتمان حياتهم.
فثمة صرة حاوية لطعام تدس في يد أحدهم، تعقبها همسة تقول «من عاشور الناجي». وسرعان ما يذوب شبح في الظلام. حدث ذلك أول مرة في القبو، ومرة ثانية وقع في الممر، وتكرر في الخرابات. وتهامس به الحرافيش. عرفوا بالفطرة أن السر يسعى وراءهم وأنهم المقصودون بالاتصال. تلقوا من الغيب لقمة. أدركوا أن معجزة تتخلق في ظلام الليل. أن نافذة للرحمة قد فتحت. أن عاشور الناجي أو روحه تضرب فيما بينهم. أن الكون الصلد المصمت تتشقق جدرانه ويطل منها مجهول. وجرت الدماء في عروقهم، ونبضت قلوبهم بالحياة من جديد.
صرة الرحمة وهمسة عاشور الناجي.
24
وبعثت نشوة الفرح حياة في الألسنة فرقصت على أنغام أمانيها. تردد اسم عاشور حتى تجسد. لم يذكر شيء عن الصرة، ولكن انتشر أن عاشور يبعث في ظلام الليل. وسخر رجال سماحة من الخرافة. قالوا إنهم يسهرون الليل فلا يلقون أحدا. ودعا سماحة الشيخ سيد عثمان شيخ الزاوية وقال له: جن الناس من الجوع.
فحنى الشيخ رأسه فسأله: هل بلغك ما يقال عن عودة عاشور؟
فحنى الشيخ رأسه بالإيجاب فسأله: ما رأيك فيه؟ - لا يصدق. - لكنه كفر أيضا!
فقال الشيخ بإشفاق: إنه لكفر.
فقال سماحة بنبرة حاسمة: قم بواجبك.
وراح الشيخ يخطب الناس محذرا إياهم من الخرافة والكفر. وقال الرجل: لو بعث عاشور حقا لجاءكم بالطعام. فسخر منه الحرافيش وازدادوا إيمانا.
25
انقلب الظلام قناة سحرية للاتصال بين الأرواح. ثمل الفضاء بالهمسات السحرية في غفلة من الرقباء. تدفقت النجوى مفعمة بالحرارة. ويتساءل الرجل: أأنت عاشور الناجي؟
ولكن الهامس سرعان ما يذوب في الظلام مثل روح شارد.
همسة تدعو النائم أن يستيقظ. همسة توكد أن المخازن مليئة بالخير. همسة تلعن الجشع، الجشع عدو الإنسان لا القحط. همسة تتساءل: أليست المغامرة أفضل من الموت جوعا؟! وهمسة تنبه إلى أنه توجد ساعة ينام فيها رجل العصابة فتتخلى عنهم قوتهم. وهمسة تسأل ماذا يمكن أن يقف في وجه الكثرة إذا اندفعت؟ وهمسة تتحدى، كيف تترددون ومعكم عاشور الناجي؟!
انقلب الظلام قناة سحرية للاتصال بين الأرواح. ثمل الفضاء بالهمسات السحرية. شحن الغيب بالقوى المجهولة.
26
وكانت ثمة قوة أخرى تعمل بلا هوادة حتى وقفت على سر الطعام والمجهول. وكشف سماحة عن الخزي في صميم محله. وسرعان ما صرخ ضامر الحسني أمين مخزن الفتوة من الرعب وقال بحرارة: إني بريء يا معلم وليشهد الله!
فقال سماحة بوحشية: سرق من المخزن أكثر من نصفه. - إني بريء يا معلم! - إنك مجرم حتى تثبت براءتك. - لا تخسر رجلا وهب لك حياته لخدمتك! - معك أنت المفاتيح. - أسلمها لك كل مساء. - ولكني أجدها مكانها كل صباح وأعيدها إليك. - ممكن أن تؤخذ فيما بين ذلك وتعاد! - وأنا لا أدري؟
فقال ضامر الحسني بابتهال: إذا كان السارق ممن يترددون على حجرتك بلا إذن!
استقرت في عيني سماحة نظرة صلبة محتقنة بالنار كأنما تنادي الشياطين من أوكارها، وتمتم ووجهه ينضح بالدمامة والغل: إن تكن كاذبا فقد هلكت، والويل للمجرم!
27
من وراء السبيل، في ظلمة كثيفة، تسلل فتح الباب إلى باب المخزن. أدار المفتاح بحذر ودفع الباب برقة. ورد الباب وتقدم خطوات مستهديا بنور الذاكرة.
اشتعل مصباح فجأة فألقى على المكان ضوءا فاضحا. انذعر فتح الباب وتسمر في موضعه . برزت من الظلمة على ضوء المصباح وجوه مخيفة قاسية، وجه سماحة، وجه ضامر الحسني، وجوه نفر من أشداء العصابة. تلاطمت النظرات في ارتطام عنيف. انغرز الصمت في النفوس، وأز في الآذان مثل فحيح الأفاعي. احترق الجو بأنفاس حارة منطلقة من غرائز بدائية وحشية. وملأته نظرة أخيه. نفذت إلى أعماقه فاقتلعت أعضاءه من جذورها. شعر بالسم يسري في جوارحه، وبالهزيمة المطلقة، بالضياع في غياهب الفناء. انجلت عنه هموم الأمل فخاص في اليأس، وانتظر كلمة القضاء كأنها تخص شخصا آخر. وجاءه الصوت يسأل باردا ساخرا حانقا: ماذا جاء بك في هذه الساعة من الليل؟
لم يبق له إلا الاعتراف والشجاعة والتوكل على الله. أجاب بهدوء غير متوقع: لقد علمت كل شيء. - ماذا جاء بك في هذه الساعة من الليل؟
فقال بشجاعة أكثر: جئت لأنقذ أرواحا من الموت. - أهذا جزاء من يحسن إليك؟
فقال بهدوء: هذا ما ينبغي فعله. - إذن فأنت عاشور الناجي؟!
فلاذ بالصمت، فقال سماحة بغل: ستعلق من قدميك في السقف يا معلم عاشور حتى تصفى روحك نقطة بعد نقطة.
28
ووقعت الواقعة. رسبت الهمسات في أعماق الحرافيش فتحولت إلى قوة مدمرة. اجتاح الحارة طوفان لم تعرفه من قبل. هكذا قسم الحرافيش أنفسهم إلى جماعات، وتسللت كل جماعة إلى مسكن رجل من رجال العصابة. تم ذلك قبيل الفجر في ساعة النوم العميق. هوجم الرجال في أسرتهم، دهمتهم الكثرة، غلبوا على أمرهم، انهزموا، نهبت دورهم، زالت عنهم غشاوة السحر مخلفة وراءها عاهات مستديمة. ولم يسمع أذان الفجر من صياحهم. خرجوا من دور العصابة كالسيل، غمروا الحارة، اقتحموا المخازن، نهبوا كل مخزون بها، دمروها تدميرا. وأول هدف لهم كان مخزن سماحة الفتوة. بل لم يترك قائم في المحل كله. نهب الغلال حتى آخر حبة. ورئي فتح الباب معلقا في عرق من عروق السقف، مدلى الذراعين، مغمى عليه أو ميتا، ففك وثاقه وطرح على الأرض بين الحياة والموت. سيطروا على الحارة تماما حتى شعشع أول ضوء للنهار. ذعر الناس في النوافذ والمشربيات وارتفع الصراخ، عند ذاك فتح باب الفتوة سماحة، وتجلى الرجل مثل وحش قابضا على نبوته.
29
تطلعت إليه الأبصار. تسمروا في حقد وتصميم ولكن استبقوا إلى السكوت والتوقع. ها هو الوحش المخيف ولكنهم سكارى بالنصر لا يخافون، وفي الوقت نفسه يترددون. لعله انتظر أن ينضم إليه رجاله فلم يعرف بعد ما حاق بهم. لا شك أنه سيفطن إلى ما وقع إن لم يكن قد فطن إليه بالفعل. إنه وحده يواجه الحرافيش، هو وقوته ونبوته وسحره الخرافي. وتساءل بصوت فاجر: ما معنى هذا؟!
فلم يجبه أحد، ومن النوافذ هبطت إليه استغاثات، وأنباء النهب والسلب. تساءل مرة أخرى: ماذا فعلتم يا أولاد الزواني؟!
لم ينبسوا، لم ينخذلوا ولم يتشجعوا، فتساءل بوحشية: ماذا فعلتم يا أبناء الزواني؟!
فانطلق صوت كالحجر صائحا: جدك كان ابن الزانية!
وارتفع هدير من القهقهات فوثب سماحة وثبة قوية ملوحا بنبوته وصاح: اثبتوا إن كان في أسمالكم رجل!
فانحط الصمت عليهم كصخرة ولكن لم يتراجع أحد. وتهيأ سماحة للانقضاض. عند ذاك ظهر فتح الباب شاحبا مخلخل القدمين، وهتف وهو يستند إلى جدار: اقذفوه بالطوب!
سرعان ما انفجر الحرافيش وانهال الطوب على الرجل. توقف هجومه تماما تحت المطر. استبقت الدماء من جراحه حتى تخضب بها وجهه والثياب. ترنح متراجعا وهو يخور. أفلت النبوت من يده. تقوض بنيانه فوق عتبة الدار، وانقض الجميع على الدار. فر عنها أهلها من السطح إلى الأسطح المجاورة.
نهبت ودمرت، ثم تركت خرابة مسورة.
30
سرعان ما عرف دور فتح الباب في المعركة. تجسد أسطورة ونودي به فتوة للحارة. وقد ارتبك الفتى وتحير. لم يغره النصر، ولم يضل في تقدير ذاته؛ فهو لم يقبض في حياته على نبوت، وجسمه الهش لا يصمد لضربة يد. وقال لمحبيه: نختار فتوة ونأخذ عليه عهدا بأن يحكم كما حكم عاشور. - ولكنهم وقعوا في أسر الانفعال فصاحوا: أنت أنت الفتوة ولا فتوة غيرك!
هكذا وجد فتح الباب شمس الدين جلال الناجي نفسه فتوة دون منازع.
31
وبفضل رجلين في العصابة - دنقل وحميدة - حافظت الفتونة على هيبتها سواء في الحارة أم في الحارات المجاورة. وكان دنقل وحميدة من رجال العصابة السابقين، وكذلك كان غالبية رجالهما، ولكن فتح الباب سيطر سيطرة مطلقة بسحره الخاص وقوة الحرافيش المتمثلة في كثرتهم المنتشية بالنصر والثورة.
وفي تلك الأيام ماتت نور الصباح العجمي، وآوت فردوس هانم وأبناؤها إلى دار أسرتها من آل راضي بعد أن فقدت جل ثروتها فهبطت من طبقة إلى طبقة.
32
وتطلع الناس إلى العدل. عمرت قلوب الحرافيش بالأمل، وامتلأت أنفس الوجهاء بالمخاوف، واقتنع فتح الباب بأن العدل لا يجوز أن يتأخر يوما واحدا.
وقال لمعاونيه: علينا أن نحيي عهد عاشور الناجي.
ونشط الرجلان في توزيع الخيرات والوعود والآمال، ومضت الجراح تندمل. ولاحظ فتح الباب أن الرجلين ينوبان عنه في جمع الإتاوات وتوزيعها، كما لاحظ أن رجال العصابة ما زالوا يتمتعون بامتيازاتهم؛ يستولون على أنصبة من الإتاوة، ويعيشون عيشة البطالة والبلطجة. ساورته المخاوف، وأشفق من أن ترجع الأمور رويدا إلى مجراها القديم. واجتمع برجاله وقال لهم: أين العدل؟ أين عهد عاشور؟
فقال له دنقل: تغير الوضع، ولكن علينا أن نسير بعد ذلك خطوة خطوة.
فقال فتح الباب بامتعاض: العدل لا يقبل التأجيل.
عند ذاك قال دنقل بجرأة جديدة: لا يمكن أن يرضى رجالك بحياة بسيطة مثل بقية الناس!
فهتف بحرارة: إذا لم نبدأ بأنفسنا فلن يتحقق خير! - إذا بدأنا بأنفسنا تزعزعت أركان الفتونة. - ألم يكن عاشور يتعيش من عرق جبينه؟
فقال حميدة: تلك الأيام لا يمكن أن ترجع. - لا يمكن؟!
فقال دنقل بفتور: خطوة، خطوة.
ولو كان فتوة حقا لحسم الأمر بكلمة واحدة. وساءل نفسه محزونا: ما الفائدة ما دمت لا أملك قوة جدي عاشور؟
والحرافيش ترى هل نسوا قوتهم المدمرة؟!
33
وفي لحظة يأس وغضب معا صارح فتح الباب دنقل وحميدة بأنه سيعلن تخليه عن الفتونة. وجزع الرجلان واستمهلاه واعدين إياه بتحقيق مطالبه. واجتمع الرجلان بصديقهما مجاهد إبراهيم شيخ الحارة، وقال له دنقل: فتوتنا ناقم، لا وفاق بيننا وبينه، فما رأيك؟
فأجاب العجوز بحنق: يريد أن يرجع عهد الناجي، أليس كذلك ؟ - نعم. - أن يسود الحرافيش ويستذل الوجهاء ويجعلنا أضحوكة بين الحواري!
فقال له دنقل بكآبة: لقد هدد بالتخلي عن الفتونة.
فهتف مجاهد إبراهيم: ليس الآن، ليبق الصورة والأمل حتى نطمئن تماما إلى أن الحرافيش لم يعودوا إلا الحرافيش فقط، وأنهم نسوا تماما هبتهم الجنونية. حققوا له نصف مطالبه.
فقال حميدة ساخطا: الكل أو لا شيء، ذلك مطلبه!
فتفكر مجاهد إبراهيم مكفهرا، ثم قال بإصرار: فليبق فتوة فترة أخرى ولو بالقوة والقهر!
34
وزار دنقل وحميدة فتح الباب في مسكنه المتواضع. انفردا به وقال له دنقل: نحن نبذل الجهد ولكننا نلقى عقبات كالجبال، ورجال العصابة غاضبون، يتوعدون بالشر والدم.
فتمتم فتح الباب بذهول: ولكنكما أقوى الرجال! - هم الكثرة وهم الغدر.
فقال بإصرار: سأتخلى عن الفتونة!
فقال حميدة: لا نضمن لك الحياة إن فعلت.
وقال دنقل: لا تغادر مسكنك، أبدا. ستلقى لدى أول خطوة خارجة مصرعك!
35
أدرك فتح الباب موقفه عاريا. قال لجدته سحر: ما أنا إلا أسير محاصر!
فتأوهت العجوز وقالت: ما باليد حيلة، اقنع بنصف الأمل.
فهتف بأسى عميق: علي اللعنة إن خنت جدي لحظة واحدة! - وكيف تتحدى القوة؟
فتفكر متحيرا وهو يغمغم: الحرافيش!
فقالت بإشفاق: سيقتلونك قبل أن تتصل بأحد منهم!
36
لبث فتح الباب في الأسر، لا يدري أحد ما سر انزوائه، ويؤول بالزهد تارة أو بالمرض. كانت الأعين ترصده نهارا وليلا، وحتى جدته حيل بينها وبين الخروج. وكان يعلم علم اليقين بأن حياته رهن بتحمس الحرافيش، وأنه سيتلاشى يوم تتلاشى أسطورتهم ويركبهم الهوان. واشتد الحذر بالعصابة، ولم يتوانوا عن مراقبة الحرافيش وممارسة الإرهاب والعنف.
وذات يوم وثب حميدة على دنقل فبطش به واستأثر لنفسه بالمركز الأول في العصابة. وعندما اطمأن جانبه من ناحية الحرافيش أعلن نفسه فتوة على الحارة.
وظن فتح الباب أن أسره قد انتهى ولم يعد له مبرر أو معنى. قال للفتوة الجديد: ما مضى قد مضى، دعني أمارس حياتي العادية وأرتزق من عمل مثل بقية خلق الله.
ولكن حميدة رفض مطلبه وقال له: إنك غير مأمون الجانب ، فابق حيث أنت، وسيجيئك رزقك بلا تعب!
37
هكذا انتهت سيرة فتح الباب وجهاده مثل صحوة قصيرة مشرقة في يوم طويل ملبد بالغيوم. وذات صباح عثر عليه جثة مهشمة في أسفل المئذنة المجنونة. خفقت قلوب كثيرة في أسى، وفرحت قلوب. وقيل في تفسير ذلك إنه جن حزنا على ضياع الفتونة من بين يديه، فتسلل ليلا إلى مئذنة جده المجنون، فرقي فيها إلى أعلى شرفة، ثم رمى بنفسه للهلاك والكفر.
هكذا انتهت سيرة فتح الباب وجهاده.
التوت والنبوت
الحكاية العاشرة من ملحمة الحرافيش
1
بموت فتح الباب صحت الحارة من حلمها الوردي، ارتطمت بصخرة الواقع، انطوت على أحزانها، تكاثف ظل حميدة السفاح حتى حجب نور الشمس.
لم يبق من صفوة ذرية الناجي إلا بنات فردوس أرملة سماحة ذي الوجه القبيح وبكريها ربيع سماحة الناجي. أما البنات فقد ذبن في عامة أهل الحارة، وأما ربيع فقد نشأ فقيرا، ولم تكن أمه تملك مالا يذكر، فعمل في محل البنان، ومارس حياة غاية في البساطة. رغم ذلك كان يعد خير آل الناجي. لم يستدر ذلك رحمة أحد؛ فعلى تعلق الحرافيش بسير عاشور وشمس الدين وفتح الباب، فقد أضمروا الاحتقار والمقت لسائر آل الناجي لخيانتهم لعهد جدهم العظيم، ولانخراطهم في سلك المجرمين والبلطجية.
وقد أراد ربيع أن يتزوج من أسرة كريمة، ولكن طلبه رفض، فأدرك أن أصله لا يغني عن فقره وتفاهة عمله، وإن الفقر يفضح معايب يسترها الثراء عادة؛ مثل انتمائه إلى سماحة ذي الوجه القبيح، وجلال المجنون، وزهيرة السفاحة، وزينات الشقراء الداعرة، ونور الصباح العجمي الغانية. سلسلة صدئة من الدعارة والإجرام والجنون؛ لذلك غشيته كآبة ثقيلة ممتدة فقرر أن يمضي حياته أعزب متسربلا بالوحدة والكبرياء. وماتت فردوس هانم بعد أن جاوز الخمسين، فاضطر إلى أن يقيم في شقة صغيرة من حجرتين وحيدا. ولم يطق الوحدة المطلقة، وضاق بإهمال بيته الصغير فبحث عمن يقوم بخدمته، فجاءه أولاد الحلال بأرملة في الثلاثين من آل الناجي تدعى حليمة البركة. وجدها جادة وأمينة مقبولة الصورة، قوية الشخصية رغم فقرها ، فكانت تنظف البيت وتعد الطعام، ثم تذهب للمبيت في بدرومها. ومع الأيام مالت نفسه إليها فرغب أن يتخذ منها خليلة، ولكن المرأة أبت ذلك في حزم وقالت له: سأذهب يا سيدي ولكني لن أعود.
وجد نفسه وحيدا بائسا كما كان أو أشد بأسا، ولم يعد في وسعه أن يتحمل الوحدة والحرمان العاطفي، إلى خوف من المرض والموت، وحنين إلى الذرية، فعرض على المرأة الزواج وسرعان ما قبلت وهي سعيدة. هكذا تزوج ربيع سماحة الناجي من حليمة البركة بعد أن عبر الخمسين بثلاث سنوات. وسعد بحياته الزوجية، ووجد في شريكته سيدة بيت حازمة، ورعة متدينة، فخورا بانتمائها إلى الناجي، مسحورة بأمجاد الأسرة الأصيلة، وأنجب منها ثلاثة؛ فائز وضياء وعاشور. ومات ربيع، وبكريه فائز في العاشرة، وضياء في الثامنة، وعاشور في السادسة. مات دون أن يترك لأسرته مليما واحدا.
2
تركت حليمة البركة لتواجه الحياة وحيدة. كان أهلها من الحرافيش فقررت أن تعتمد على نفسها، مستعينة بالعزيمة لا بالدموع. انتقلت إلى بدروم مكون من حجرة ودهليز. باعت فائض الأثاث البسيط. استغلت مواهبها في بيع المخلل والمفتقة والخدمة كبلانة ودلالة. لم تولع بترديد الشكوى والحسرة على الماضي، وواجهت زبائنها بوجه مشرق كأنه سعيد، ولم تخل من أحلام عذبة عن مستقبل مجهول.
أدخلت أبناءها الكتاب، وعند السن المناسبة عمل فائز سواق كارو، وضياء شيالا في محل النحاس. وهانت شدة الحياة قليلا، ولكن لم تزل تطالب حليمة بالعمل وقد بلغت الخمسين.
وكان فائز أول من واجه الحياة من أسرته. وجدها معادية معاندة، وأنه يؤاخذ فيها على جرائم أجداد وجدات لم يعرفهم. كان طويلا نحيلا، بارز الأنف، ضيق العينين، قوي الشدقين، وكان يزدرد السخريات ويكبت مشاعره ويمضي في عمله. عرف عن أمه جانبا مضيئا من تاريخ الأسرة، ولكنه عرف جانبها المظلم في الحارة بين الناس. في البيت تلقن معاني الزاوية والسبيل والكتاب والحوض، وفي الخارج دهمه مغزى المئذنة العملاقة المجنونة. وهذه الدور الرائعة التي كانت مقاما لأجداده، ثم أصبحت مساكن للتجار والوجهاء الأغراب. كم يتأملها بغرابة ويحلم ! كم يتخيل تلك الأيام الخوالي! ولا يخلو دماغه منها حتى وهو ينخز الحمار لينطلق بالكارو في أرجاء الحي العتيق. إذن فهذه هي الدنيا، ولكن كيف ينبغي أن نتعامل معها؟
3
وأعلن سخطه على مسمع من أمه وأخويه، فقالت له حليمة: كان جدك عاشور وليا!
فقال فائز بحدة: مضى زمن المعجزات، أما الدور فهي في قبضة الآخرين.
فقالت الأم بحرارة: من الحرام جاءت وفي سبيل الحرام هلكت.
فهتف بتذمر كالمحتج: الحرام! - اقنع بنصيبك، ماذا تريد؟ - ما أنا إلا خادم حمار، وما أنت إلا خادمة أوغاد.
فقالت باعتزاز: نحن نعمل ونحن شرفاء.
فقهقه. وكان قد طاف بالبوظة قبل رجوعه وشرب قرعتين.
4
واشتغل عاشور الابن الأصغر صبيا لغنام يدعى أمين الراعي، تعهد إليه الأسر بما تملك من ماعز، فيسرح بها في الخلاء تمرح وتنعم بالشمس والهواء والأعشاب، وذلك نظير أجر معلوم. بذلك ارتاح بال حليمة البركة؛ فقد أصبح أبناؤها الثلاثة عمالا يرزقون، ووهبتها الحياة بسمة صافية. ومضت الحياة بمسراتها الصغيرة وأحزانها المألوفة حتى بلغ فائز العشرين من عمره.
وسألته أمه في ساعة صفاء: متى تكمل دينك يا بني؟
فابتسم ابتسامة غامضة وقال: صبرك يا أمي وما صبرك إلا بالله.
5
ولم يرجع فائز من مشاويره في ميعاده المألوف. مضى أكثر الليل ولم يرجع. ذهب عاشور إلى البوظة يبحث عنه، وتشمم ضياء أخباره في الغرز، ولكن لم يعثر له على أثر. وفي الصباح مضت حليمة البركة إلى المعلم موسى الأعور صاحب الكارو مستطلعة عن خبر ابنها فوجدته قلقا ساخطا، وقال لها: لا خبر عنه.
فانزعجت الأم وقالت: نذهب إلى القسم؟
فقال المعلم: ولا خبر عنه في القسم.
ثم تمتم بحنق: فلننتظر والله المستعان!
ومضى يوم في قفا يوم، القلوب مشتعلة وفائز لا يعود.
وصاح المعلم موسى الأعور: سرقه ورب الكعبة، سرق الكارو واختفى، ولكن له الويل!
وهتفت بركة في جزع: ألم تجرب أمانته طوال تلك الأعوام؟!
فقال بغضب: إنه مؤذ كثعبان.
6
وبكت حليمة طويلا كما بكى ضياء وعاشور. وتعاقبت الأيام والأسابيع والأشهر. لم يعد يشك أحد في الهارب وجريمته. وقال حسونة السبع الفتوة الجديد ساخرا: كانوا يسرقون الدور الفخمية فأصبحوا يسرقون الكارو!
ولجأ موسى الأعور إلى الشيخ جليل العالم شيخ الزاوية وعم يونس السايس شيخ الحارة فأفتيا بأن على ست حليمة وابنيها ضياء وعاشور أن يؤدوا ثمن العربة والحمار إلى موسى الأعور. وأدت الأسرة الثمن مقسطا وهي حزينة وصابرة.
7
وقعت حادثة لا تعتبر غريبة بمقايس ما يقع في الحارة، ولكنها هزت قلوب الأسرة هزا. كانت حليمة تقدم كافة الخدمات لدار الفتوة حسونة السبع بلا مقابل، بلا كلمة شكر. حتى هنا لا غرابة ولا تعجب؛ فقد كان حسونة من أفظع الفتوات الذين سيطروا على الحارة وأذلوها. كان يستغل حتى أفقر الفقراء. وكان يجادل بيده وقدمه لا بلسانه، وينشر الرعب مع الهواء. وكان على شراسته وقوته حذرا كثعلب. هو الذي أوجب على جميع أتباعه بأن يستأثروا لأنفسهم بزقاق لا يقيم فيه أحد غيرهم ليتجنبوا مؤامرة كالتي دبرت للفتوات أيام فتح الباب. وهو نفسه شيد داره في نهاية الزقاق.
وقد حدث أن تأخرت حليمة في صنع صفيحة مفتقة بسبب وعكة طارئة، ولما ذهبت بها إلى الدار لعنها بعنف وصفعها. ورجعت المرأة دامعة العينين، ولكنها أخفت الخبر عن ابنيها ضياء وعاشور. غير أن ضياء كان يتردد أحيانا على البوظة، وفي مرة سأله زين علباية الخمار: ألم تعلم بما حدث للست الوالدة؟
هكذا تلقى ضياء الإهانة، ثم قذف بها دامية في قلب عاشور. وتلظى ضياء بالغضب، ولكن شرره لم يجاوز جدران البدروم، أما عاشور فغاص في الحزن حتى قمة هامته. كان قويا ومهذبا. غطى تهذيبه على قوته فواراها عن الأعين.
وكان نبيل الرأس غليظ القسمات غامق السمرة، وفي وجنتيه بروز وفي فكيه صلابة. ولم يطق البقاء في البدروم مع أحزانه فخرج إلى الظلام، مسوقا بقوة خفية نحو ساحة التكية، نحو خلود جده عاشور. جلس القرفصاء دافنا رأسه بين ركبتيه في جو جامد لا يتنفس، تسبح فيه الأناشيد وحدها. أصغى طويلا وغمغم: ما أشد ألمي يا جدي!
وناجته الأناشيد بلغتها الغامضة:
في مهر رخت روز مرا نور تماندست
وزعمر مرا جز شب ديجور نماندست
8
واستقرت الإهانة في الأعماق؛ فهي لا تهضم ولا إلى الخارج فتقذف. وكان عاشور ينمو نموا فذا كشجرة توت، يذكر هيكله المتمادي في العملقة وملامحه الغليظة الجذابة بما قيل في وصف جده عاشور. أصبح منظر راعي الغنم جديرا بلفت الأنظار. وخافت حليمة أن تثير قوته هواجس الوحش حسونة السبع فحذرته قائلة: تناس قوتك. تظاهر بالجبن فهو أرحم. ليتني ما سميتك بعاشور!
ولكن الفتى كان فطنا، مستغنيا بفطنته عن التحذير. وكان يمضي طيلة نهاره في الخلاء بين الماعز بصحبة معلمه أمين الراعي. لم يظهر قط في البوظة أو الغرزة أو القهوة. لم يستعمل قوته قط إلا في المثابرة والصبر. أجل مزقته الإهانة. غضب حتى تخيل أركان الحارة وهي تهدم ويبعث من في القبور، ولكنه لم يتهور، ضبط نفسه، لم يتجاهل القوة الغشوم المتربصة الحذرة القاسية ونبابيتها المتأهبة، وكلما ضاق صدره مضى إلى ساحة التكية، يؤاخي الظلام، ويذوب في الأناشيد. وتساءل مرة في حيرة: ترى أيدعون لنا أم يصبون علينا اللعنات؟
وتساءل مرة أخرى في أسى: من ذا يحل لنا هذه الألغاز؟
وتنهد طويلا، ثم استطرد: إنهم يغلقون الأبواب لأننا غير أهل لأن تفتح في وجوهنا الأبواب!
وكان يجد ضياء في البدروم صاخبا بالغضب. ومرة قال ضياء: لولا أننا صرنا حرافيش ما تعرضت أمنا للإهانة!
فقال له عاشور: حرافيش أم وجهاء لا يهم، ستدرك الإهانة دائما من يتقبلها! - ماذا علينا أن نفعل؟
فصمت عاشور مليا، ثم تمتم: لا أدري يا أخي!
9
خافت حليمة عواقب الأفكار المحتدمة، فقالت ببساطة وصراحة: ما أصابني لا يعد إهانة في حارتنا!
وصممت على أن تجتاز بهما تلك المحنة ففكرت جادة في تزويجهما. لقد فقدت فائز وها هو الزمن يمضي مسرعا بلا أمل. سيبعث الزواج وثبات جديدة في هذه الحياة الراكدة. سيجعل منهما رجلين أكثر تعقلا، وأشد حذرا، وأبعد عن المغامرات الفاتكة. وسألتهما: ما رأيكما في بنت الحلال؟
ورحبا بارتياح. كانا فقيرين مكبوتين فرحبا. وقالت حليمة: ننتقل إلى بدروم أكبر يسعنا جميعا فهو للمعيشة أوفر.
ووقع اختيار المرأة على فتحية وشكرية ابنتي محمد العجل العلاف بحظيرة المعلم موسى الأعور. ولم يكن أحد منهما قد رأى فتاته، ولكنهما كانا يغليان بوقدة الشباب، ويتوثب خيالهما الجامح لمعانقة أي أنثى.
هكذا قرئت الفاتحة.
10
وجاء إلى الحارة فتى غريب. نطق وجهه بالعافية، رفل في عباءة بنية، انتعل مركوبا أحمر، طوق رأسه بلاثة من الشاهي المنمنم، في يده مسبحة من الكهرمان. أول من رآه كان زين علباية الخمار. لم يعرفه إلا حين ابتسم فهتف الخمار: من؟ فائز بن ربيع الناجي!
وتطلعت إليه الأعين، غير أنه مضى من توه إلى القهوة، إلى أريكة حسونة السبع. انحنى فوق يده فلثمها، ثم وقف ممتثلا. قال حسونة وهو يتفحصه: ما شاء الله ها قد رجع الهارب!
فقال فائز: مصير الحي إلى أصله!
فقال حسونة السبع بلهجة ذات مغزى: آثار الشطارة بادية عليك.
فقال فائز بخشوع: هذا من فضل ربي.
ودخل القهوة عند ذلك موسى الأعور، وفي أعقابه دخل شيخ الحارة يونس السايس، وهتف موسى: في ساحة فتوتنا يتحقق العدل.
فنهره الفتوة قائلا: لا تنهق كالحمار.
فقال الرجل: باع العربة والحمار ثم تاجر بمالي!
فسأل الفتوة فائز: ماذا فعلت بماله؟
فقال فائز: ورأس الحسين لقد سرقت الكارو وأنا نائم؛ لذلك هربت.
فقال موسى: كذاب! من أين لك هذا الجاه؟ - العمل والحظ وفضل ربي.
فتمتم يونس السايس: قضية طريفة حقا.
فقال فائز: إنه مالي، لو كنت لصا ما رجعت، وما أرجعنى إلا حرصي على تسديد ديوني.
وقدم للفتوة صرة وهو يقول: عامان مضيا بلا إتاوة.
تناولها الفتوة. ابتسم لأول مرة. قال فائز: من أجلك يا معلم جئت أولا، ولأرى أهلي أخيرا!
قال حسونة السبع: لص؟ لا يهم، ولكنك فهلوي، إني أصدقك؟
فتساءل موسى الأعور: وأنا يا معلم؟
فقال يونس السايس: لقد قبضت ثمن الكارو والحمار من ست حليمة البركة.
فقال موسى الأعور: ماله في الواقع هو مالي أنا.
فقال حسونة السبع: من حق موسى صرة مثل صرتي.
فلم يتردد فائز فقدم للفتوة صرة أخرى. فطرب الرجال بالحكم العادل فهتفوا معا: اسم الله عليه، اسم الله عليه.
ولكن حسونة السبع أبقى الصرة الجديدة في قبضته، على حين تجلت في عيني موسى الأعور نظرة يائسة. قال الفتوة يخاطب فائز: آن لك أن تذهب إلى أهلك.
11
أمام البدروم وجد حليمة في انتظاره. لدى بلوغ الخبر إليها خرجت إلى الطريق. كأنه حلم أو خرافة أو معجزة، ولكنه على أي حال سعادة تفوق الاحتمال. ضمته إلى صدرها وأجهشت في البكاء وظلت تردد: الشكر لك يا رب! الشكر لك يا رب!
واجتمع شمل الأسرة عقب عودة ضياء وعاشور. امتزجت الدهشة بالسعادة مرة أخرى. لبث فائز بينهم في الحجرة الصغيرة كماسة في كوم من الهشيم. يشع منه نور، ويسيل أمل يتجلى المستقبل على ضوئه في صورة خلابة لم يحلم بها أحد. تغيرت أحاسيس الأسرة، خلقت خلقا جديدا. مضى فائز يقول: الناجح محسود، ستفتعل حولي الأقوال، ولكني بريء والله شهيد.
فقالت حليمة بحرارة: قلبي يصدقك.
ما الحكاية؟ بكل إيجاز لقد سرقت الكارو وأنا نائم. تحيرت، قررت الهرب، لعله كان قرارا خاطئا ولكنه ما حصل.
تركزت عليه الأبصار بقلوب مرحة مستعدة للتصديق. قال: همت على وجهي أياما بلا عمل حتى انتشلني خواجا. الحكاية طويلة. عملت عنده خادما وسواقا، حميته من تحرش بعض الأراذل، تعلمت على يديه سر العمل، ثم جاءني الحظ ببسمته العذبة، لا بد من الحظ، ربحت ورقة نصيب، قررت أن أعمل لحسابي، صادفني نجاح فاق كل تقدير.
وسأله عاشور باهتمام: ما عملك بالضبط يا أخي؟ - ليس من اليسير شرحه، هل سمعت شيئا عن السمسرة والمضاربة؟ حسن، لا دكان لي ولا محل، نعقد الصفقات في الطريق، في المقاهي. إنها أمور معقدة، سنعود إليها بتفصيل أكثر، ولكنني لن أشرككما فيها، لقد رسمت للمستقبل صورة محدودة ومتنوعة ومضمونة.
فتوردت الوجوه من البهجة وعذوبة الحلم، ولاذت بالصمت والابتهال، فمضى يقول: إرادة الله العلي القدير أن يعود آل الناجي إلى مركزهم المرموق!
فتساءل عاشور هامسا: تعني الفتونة يا أخي؟
فضحك قائلا: لا، لا، أعني الوجاهة والأبهة!
فقال ضياء بإشراق: ما أجمل هذا! - يجب أن تتغير هذه الحياة الضحلة، لن نكون بعد اليوم من الحرافيش، لا راعي غنم ولا شيال، هي إرادة الله العلي القدير.
فهتفت أمه: إنك ثمرة حبي ودعائي.
فقال بجدية بالغة: علينا أن نفكر فيما ينبغي عمله بلا تردد؛ فإن نشاطي يتطلب مني رحلات بلا نهاية!
12
وحلت تغيرات حاسمة مثل تغيرات الفصول الأربعة. ما بين يوم وليلة تحولت حليمة البركة إلى ست بيت فلا خدمة ولا بيع. استقال ضياء من محل النحاس، كما استقال عاشور من رعي الأغنام. انتقلت الأسرة إلى شقة مؤقتة مكونة من أربع حجرات، والأهم أنه شرع في تشييد دار للأسرة في خرابة أمام بنك الرهونات، واشترى فائز وكالة الفحم تاركا إدارتها لأخويه، فجلس ضياء وعاشور في حجرة الإدارة، رافلين في العباءة الفضفاضة، ناشرين من أعطافهما شذا المسك والعنبر.
تداخل الحلم في الحقيقة، وتداخلت الحقيقة في الحلم، وانبهرت الأعين وشخصت الأبصار. عند استبدال الثياب الفاخرة بالأسمال البالية شعر الأخوان بذهول ورهبة، ثم بسعادة مسكرة. خرجا إلى الطريق كأنهما يخوضان معركة. شد منظرهما الأبصار، أحدق بهما أناس من الحرافيش والصغار.
انهال عليهما طوفان متضارب من السخريات والبركات والعبث والجد والغمز والتهنئات. وما إن ارتفع الضحى حتى فاز الجاه بامتيازاته واستقر في مركزه.
وسلم الجميع بقضاء المقادر. وكم من قلوب أحرقها الحسد! وكم من قلوب دوخها الانبهار! وكم من قلوب ثملت بآمال مجهولة!
ووقف جليل العالم شيخ الزاوية ويونس السايس شيخ الحارة يتناجيان. قال يونس وهو يرمق عاشور: يقال إن هذا الفتى يشابه جده الأول.
فقال جليل: ثمة فرق هو ما بين الذهب الخالص والنحاس المطلي بالذهب!
13
واعترضت الطريق المنبسط عقبة كالحة، هي قراءة فاتحة شكرية وفتحية!
فرضت نفسها عليهم من أول يوم. وقال ضياء لأمه معاتبا: لم تسرعت يا أمي؟
فلم تدر حليمة بم تجيب. لم تعد سعيدة بالخطوبة ولا متحمسة لها، ولكنها تكره عادة أن تفعل ما تخجل منه، كما أن تقوى الله تملأ قلبها . وتمتمت: قسمة ونصيب!
فسالها بحدة: ماذا؟
فقالت باستسلام: يقول المثل «خذوهن فقيرات يغنكم الله». - ولكن الله قد أغنانا من قبل أن نأخذهن! - ألم يكونا قدم السعد؟
فتمتم ضياء في ضيق: إنه لعبث!
ولبث عاشور صامتا متجهما. إنه لم يعد سعيدا بالخطوبة، ولكنه يكره عادة أن يفعل ما يخجل منه - مثل أمه - تملأ التقوى قلبه. سألته حليمة: وأنت يا عاشور؟
فأجاب مغلوبا: لقد قرأنا الفاتحة. - فهتف ضياء: كلا، إنه قرار مؤسف لا يسر، ولكن كلا ثم كلا.
فقالت حليمة بحزم: افعل ما تشاء، بنفسك، ولا تعتمد علي.
14
وقابل ضياء ربيع الناجي عم يونس السايس شيخ الحارة فرجاه أن يحمل اعتذاره إلى محمد العجل. وتأمل شيخ الحارة وجه ضياء الصغير وقسماته الدقيقة ووسامته الشاحبة بلا معنى، وقال في نفسه إنه وغد حقا بالصورة والمضمون، ولكنه قال له مداهنا: إنه لعدل ما تفعل، ولن يلومك عليه إلا حاسد أو حاقد.
فقال ضياء مداريا خجله: ما باليد حيلة.
وعاشور، ماذا عنه؟
فقال ضياء بحنق: إنه طيب أحمق!
فضحك يونس السايس وقال: ستمتدحه ألسنة وهي تسخر من سذاجته!
15
وأثار فسخ خطوبة ضياء عاصفة من السخط والتهكم أسهم فيها الطيبون بطيبتهم، والحاقدون بحقدهم وحسدهم. وغطت نذالة ضياء على شهامة عاشور، فسرعان ما تجوهلت وانصبت اللعنات على الأسرة الخائنة التي تتجسد قسوتها وأنانيتها في أمثلة حية، وتذوب قداستها في أساطير غابرة لم يشهدها أحد.
وكان المعلم عاشور ربيع الناجي ماضيا إلى وكالة الفحم عندما ترامى إليه صوت غليظ ينادي بنبرة آمرة: عاشور!
رأى الفتوة حسونة السبع متربعا فوق أريكته وسط نفر من أتباعه، فمضى إليه بلا تردد، وأدى التحية اللائقة. ولم يدعه الفتوة للجلوس وقال له متحديا: إنكم أنذال يا آل الناجي!
أدرك عاشور ما وراء ذلك من سبب، وعجب لم لم يوجه سبه إلى أخيه. أدرك أنه يمتحن رجل الأسرة العملاق القوي. سرعان ما لاذ بنصيحة أمه ودهائه الفطري، فقال بأدب: ليغفر الله الذنوب! - بسرعة تنسون أصلكم، تنسون الجنون والدعارة، أليس محمد العجل أشرف منكم؟
فقال عاشور كاظما انفعالاته: إنه رجل شريف، وعما قريب سأنضم إلى أسرته. - كلا. - ولكنه الحق. - رفض الرجل النبيل أن تسعد إحدى ابنتيه على حساب الأخرى. - ولكن خطوبتي لم تفسخ! - بل فسخت من ناحيته، وها أنا أبلغك بقراره.
فصمت عاشور متجهما، فقال الفتوة: عليكم أن تعوضوه عما أصابه. - نفعل ما يراه فتوتنا صوابا.
16
وانقشعت السحابة المثقلة بالحقد والمرارة والندم. ومضت الأيام مترقرقة بالسعد والإقبال. غدت وجاهة ضياء وعاشور عادة يومية مألوفة. واستقرت الدار الفاخرة أمام بنك الرهونات. وحمل الدوكار حليمة البركة إلى مشاويرها. أما فائز ربيع الناجي صاحب الجاه وباعثه فكان يزور أهله ويتفقد ملكه على فترات متباعدة.
17
وعشقت الأسرة الجاه واستنامت إليه. عاشور نفسه فرح في أعماقه بفسخ خطوبته، وبخاصة أن فسخها لم يحمله إثما. وسعد بحياة النعيم فاعتبر أخاه فائز معجزة من معجزات الأسرة وعبقرية من عبقرياتها. وكان يتطلع بشغف إلى أقمار الأسر في العربات؛ إذ كان يحب الجمال كما يحب التكية، وكما يحب مجد أسرته الحقيقي الذي عبق الماضي بشذاه الطيب النقي. وكان يغدق بلا حساب على الفتوة وشيخ الحارة، وجدد الزاوية والسبيل والحوض والكتاب، وتصدق على الحرافيش. وفيما يتعلق بالحرافيش قالت له أمه: لا تثر مخاوف حسونة السبع، دعهم لي فإني أستطيع أن أوزع الصدقات في الخفاء!
ووافق عاشور إذ كان يعلم أن ثورة الحرافيش لا تمحى من ذاكرة الفتوات!
ولعل ضياء كان أسعد الجميع. عشق الجاه بشغف وشراهة، نعم بالكبرياء في حجرة الإدارة، بالترف في دار الناجي الفاخرة، بالكارتة والدوكار. هام بالثياب الأنيقة والأطعمة الفريدة، اقتنى أجود أنواع البوظة والحشيش والأفيون والمنزول، عبد في أعماقه أخاه فائز، كما عبد رجال الأسرة الأخيار منهم والأشرار على السواء، وكان يقول متباهيا: المهم أن تخرق المألوف!
ولعل حليمة كانت أقرب الأسرة إلى القصد، ولكنها أيضا نعمت بالعز والجاه. وفي المواسم كانت تهرب الصدقات إلى الحرافيش، وغمرت أم فتحية وشكرية بخيرها حتى نسيت المرأة الإساءة وصارت من أقرب المقربات إليها.
18
وظل نداء خفي يدعو عاشور إلى ساحة التكية ليطرب مع الأناشيد ، كما كان يدعوه أحيانا إلى الخلاء حيث كان يرعى الأغنام. وكانت سعادته سماء تظهر في جنباتها قطع السحاب، وأحيانا تركض حتى تخفي وجه الشمس، وقد يدهمه في أعذب اللحظات قلق غامض فيفتر حماسه ويتساءل عما يعنيه ذلك.
ولاحظت حليمة ذلك فقالت له مرة: ما أضيع الرجل بلا زوجة يسكن إليها!
فقال بارتياح خفي: هو ذلك، ولكنه ليس كل شيء!
فسأله ضياء: ماذا تريد أكثر من ذلك؟
فقبل يده ظهرا وبطنا، ولكنه قال لنفسه إن إهانة الفتوة تستكن في جوفه مثل خنجر، وإنه لا يدري بأي وجه يلقى جده عاشور؟ وإن سعادته ينقصها شيء جوهري. تساءل: لم يساور القلق إنسانا وهبه الله النعمة والكمال؟
فأجابت أمه بلا تردد: إنه الشيطان يا بني! - حقا إنه الشيطان، ولكن أي شيطان؟!
19
وأعجب الشقيقان ضياء وعاشور بفتاتين من أعرق الأسر، فخطب ضياء سلمى الخشاب كريمة صاحب وكالة الخشب، كما خطب عاشور عزيزة العطار كريمة أكبر عطار في الحارة. وتبدى فائز في حفل الخطوبة في أبهة ملك الملوك.
ومضت الأيام مترقرقة بالسعد والإقبال.
20
وفي ذات ليلة جاء فائز في غير ميعاده.
كانت الأسرة مجتمعة في قاعة الجلوس، وثمة مدفأة كبيرة من النحاس تشتعل جمراتها. كانت الأم تسبح، وعاشور يدخن البوري، وضياء ينسطل، على حين عزفت في الخارج ريح باردة منذرة بالمطر.
جاء فائز في غير ميعاده؛ إذ كان يجيء عادة - إذا جاء - في الضحى مستعرضا أبهته ودوكاره. هب الجميع لاستقباله. وسرعان ما لاحظوا أن معجزة الأسرة فاتر النظرة متجهم الوجه. جلس على ديوان. أزاح العباءة عن منكبيه رغم شدة البرد. تساءلت بقلق: ما لك؟
فتمتم في خمول: لا شيء. - بل يوجد شيء يا بني!
فقال بلا مبالاة: وعكة.
وصمت وهو محط الأنظار فتجلى وجهه بالتصلب الذي كان يطالعهم به قديما قبل أن ينتصر على الحياة. قامت حليمة وهي تقول: أغلي لك كراوية.
وتمتم ضياء: وتنام!
وأسبل جفنيه مليا، ثم قال: لا مفر في بعض الأحيان من أن يحن الإنسان إلى بيته.
فقال عاشور: شتاء هذا العام لعين.
ألعن مما تتصورون. - وأنت تعمل بطاقة تفوق احتمال البشر.
فردد بغموض: احتمال البشر.
فقال ضياء: للإنسان حق في الراحة.
فقال بتسليم: قررت أن أحظى براحة عميقة.
وساد الصمت. ثم ما لبث أن نهض قائلا: سآوي إلى فراشي.
ومضى إلى مخدعه.
وجاءت حليمة بقدح الكراوية فمضت في إثره.
كان الشمعدان يضيء المخدع، وكان فائز راقدا فوق الفراش بملابسه.
قالت حليمة: لم لم تغير ملابسك؟
وسرعان ما سقط القدح من يدها، وصرخة ممزقة انطلقت من فيها.
21
وقفوا يحدقون بأعين تطفح بالذهول والجنون.
فائز شاخص البصر، ملقى الوجه بلا حول كأنه متجمد منذ ألف عام، يسراه مدلاة من حافة الفراش الوثير، تتكون تحتها بحيرة من دم فوق السجادة الشيرازي، وثمة خنجر منطرح فوق القفطان الكموني، ذو مقبض ذهبي.
جرى ضياء يفتش تحت الديوان والفراش والصوان في الحجرة المغلقة النوافذ وهو يصيح: مستحيل! ما معنى هذا؟!
وهتفت حليمة بصوت مبحوح: ليدركنا سيد الرسل!
وصرخ عاشور: الحلاق!
وغادر الحجرة بسرعة جنونية. وراحت حليمة تصوت، فصاح بها ضياء: إنه حي!
فصرخت: انتهى، لم فعلت بنفسك هذا يا بني؟!
سرعان ما جاء الحلاق، تبعه يونس السايس والشيخ جليل العالم، ثم رجال ونساء من آل الخشاب وآل العطار.
وتراجع الحلاق وهو يتمتم: سبحان من له الدوام!
اجتاحت الدار الأنيقة عاصفة من الجنون.
22
قبيل منتصف الليل جاء رجال السلطة، فباشروا التحقيق مع الأهل والخدم، وتفحصوا الأمكنة بدقة وعناية بالغة.
سأل المأمور: ما تفسير ذلك في تقديركم؟
فقالت حليمة: حتى أمس كان أسعد خلق الله. - أتعرفون أعداء له؟ - كلا. - ماذا كان يعمل؟ - كان رجل أعمال وسمسرة ومضاربات. - أين مكان عمله؟ - لا مكان محدد له، له دار في الدراسة عند مشارف الجبل. - ماذا تعرفون عن شركائه وعملائه؟ - لا شيء البتة! - كيف كان ذلك؟ - هو الحق بلا زيادة ولا نقصان!
23
أعلن أن فائز ربيع الناجي قد انتحر لأسباب لم يكشف التحقيق عنها بعد.
ورغم انتحاره فقد شيع في جنازة جليلة ودفن إلى جوار شمس الدين.
ومضت أيام المأتم الثلاثة والأسرة في الذهول لا تدري شيئا عن كارثتها الكبرى.
24
لماذا انتحر فائز ربيع الناجي؟
ظل التساؤل يشد قلوب الأسرة، يقرع وعيهم المترع بالحزن والذهول.
وها هي السلطة - كما يؤكد يونس السايس شيخ الحارة - جادة في البحث والتحري. ولكن كيف خيم عليهم الجهل حتى اللحظة الأخيرة؟ كيف أصابهم العمى فلم يروا شعاعا واحدا من النور؟ كان يغيب طويلا، ويحتفظ بكافة أسرار عمله لنفسه، ولكن زياراته المتقطعة المتباعدة كانت تملأ الدار بهجة وسرورا وأملا متواصلا في الحاضر والمستقبل. حتى آخر زيارة كان شخصا آخر، ماذا غيره؟ كيف صار الموت بغيته وملاذه؟!
وولولت حليمة قائلة: لقد حلت بنا اللعنة.
وتساءل ضياء: ما السر؟ أكاد أن أجن!
فقال عاشور: لن يكشف السر عما يسر؛ فالناس لا ينتحرون بلا سبب.
25
وتلاقت أفكار الشقيقين على تفقد دار الراحل كقراءة أولى لأسراره ومعاملاته ومصادر أمواله. وتم الاتفاق بينهما وبين السلطة على ذلك. كانت دارا ضخمة ذات فناء مترام من ناحية الجبل. ولفت الأنظار كثرة المخادع الوثيرة، ومخازن الخمور والمخدرات، وغزارة التحف والرياش. ولما فتحت الخزائن وجدت خالية تماما. لا عقد ولا خطاب ولا دفتر ولا مليم واحد.
وتبادل الشقيقان نظرات حائرة. تساءل عاشور: ما معنى هذا؟
وتساءل ضياء: أين ثروة المرحوم؟
وسأل عاشور المحقق: هل عرفتم جديدا من الأمر؟
فأجاب الرجل: لن يفلت منا خيط من الحقيقة.
26
رجع ضياء وعاشور من رحلتهما الاستكشافية الخائبة مذهولين. اشتد اللغز غموضا واكتنفته سحب دكناء فتوزعت القلوب الهواجس. حقا لقد أمن لهما شقيقهما الحياة قبل أن يذهب؛ فهما وأمهما الوارثون لوكالة الفحم ولدارين رائعتين، ولكن ماذا عن ثروة فائز، وماذا عن حياته المبهمة؟!
وتفكر ضياء، ثم قال: لعله فقد ثروته فانتحر.
فقال عاشور معترضا: ولم ينتحر وهو ما زال مالك الوكالة والدارين؟
فهز ضياء رأسه في حيرة وتمتم: ترى لم ينتحر المنتحرون؟!
27
واستأثر انتحار فائز باهتمام السكارى في البوظة. تساءل زين علباية الخمار: لم ينتحر رجل مثل فائز؟
فقال يونس السايس شيخ الحارة: ليس بسبب الإفلاس؛ فقد ترك ثروة تجعله من كبار أغنياء الحارة.
فقال له زين علباية بلهجة تحريض: لا شك أن عندك معلومات باعتبارك من رجال السلطة.
وعز على يونس أن يعلن إفلاسه، فقال بنبرة الحذر: إنهم يكتشفون جميع من كانت لهم صلة بالرجل.
عند ذاك قال حسونة السبع الفتوة متهكما: هناك سبب أقوى من الإفلاس.
واتجهت إليه الرءوس بكل إجلال فقهقه قائلا: الجنون! في دمائهم جنون موروث عن رجال ونساء، حتى كبيرهم الأول المقدس ألم يكن لقيطا ولصا؟!
28
ومضت حياة آل الناجي ثقيلة كئيبة. أجل الزفاف بطبيعة الحال، وواصل ضياء وعاشور حياتهما اليومية وقد انطفأت في نفسيهما جذوة الإبداع والسعادة، أما حليمة البركة فقد اعتزلت في جناحها، تجتر الأحزان وتتعزى بالعبادة.
29
وذات مساء - وكان الشتاء ما زال يسفع الحارة بسياطه - جاء عم يونس السايس إلى الدار، يسير بين يدي مأمور القسم وقوة من المخبرين. اجتمع المأمور وشيخ الحارة بالأسرة في قاعة الاستقبال، وسرعان ما سأل المأمور: لمن وكالة الفحم والداران؟
فأجاب ضياء: كانت ملك المرحوم وعنه ورثناها. - إلي بوثائق الملكية.
ذهب ضياء ثم رجع بصندوق فضي متوسط الحجم، فمضى المأمور يطالع الوثائق، ثم ردد عينيه بين حليمة وابنيها وقال: كل شيء ملك للغير.
لم يفقه أحد معنى لقوله، ولم تعكس وجوههم أي أثر، فقال يونس السايس: جميع ما في حوزتكم من تجارة وعقار ملك للغير، لم يكن ملكا لفائز، وبالتالي لا حق لكم فيه.
صرخ ضياء: ما معنى ذلك؟!
فقال شيخ الحارة: الأمر لله، عليكم أن تسلموا الدار والوكالة في الحال. - في الأمر خطأ ولا شك! - لقد باع فائز كل شيء، وقدم المالك الجديد المبايعة وهي صحيحة لا شك فيها!
تساءل عاشور بذهول: أحقا ما تقول؟
فقال المأمور بهدوء وحزم معا: لم نأت في هذه الساعة للمزاح. - إنه فوق ما يتصور العقل! - ولكنه الواقع الذي لا شك فيه.
فتساءل ضياء بفزع: إذن فأين ثمن البيع؟ - علم ذلك عند الله والمنتحر.
وسكت المأمور لحظات، ثم استدرك: لعله كان بيعا صوريا، ولعله تم خلال مقامرة جنونية. التحقيق ماض في سبيله القذر!
وقال ضياء: فوق ما يتصور العقل!
وقال عاشور: إنها جريمة تسمى السرقة!
فتساءل المأمور: لم انتحر بدل أن يبلغ عن السرقة؟
في الأمر جريمة يا حضرة المأمور. - بل سلسلة من الجرائم! ولكن لا بد أولا من التفتيش!
30
لبثت الأسرة تنتظر مهيضة تحت حكم الإعدام. رجع المأمور وهو يقول سلسلة من الجرائم، الجرائم البشعة. هلموا معنا.
تساءلت حليمة بصوت متهدج: إلى أين؟ - إلى القسم.
وقال يونس السايس ملاطفا: لا بد من استكمال التحقيق.
تساءل عاشور: أنحن متهمون؟
قال المأمور بحزم: صبرك، وما صبرك إلا بالله.
31
جرى التحقيق طويلا مرهقا، وعلى ذمته حجزت الأسرة في سجن القسم أسبوعا، ولكن ثبت بالدليل وشهادة الشهود أنه لم توجد علاقة بينهم وبين عمل فائز السري الخارجي، فثبتت براءتهم وأطلق سراحهم فرجعوا إلى الحارة، ثلاثة يركبهم الخزي والعار لا مأوى لهم.
32
وكانت الحقائق قد سبقتهم إلى الحارة مثل رائحة عفنة. عرف الكبير والصغير، الصديق والعدو، أن فائز بدأ مغامرته ببيع الكارو، أنه استثمر ماله في الدعارة والقمار والبرمجة والمخدرات. وكان يقامر بثروات خيالية، وفي حال الخسران كان يستدرج الغريم مستعينا بالنساء والمخدرات فيقتله ويستولي على النقود، ثم يواربه في فناء داره. وفي آخر مقامرة خسر أمواله جميعا، ثم اضطر إلى المقامرة بأملاكه في شكل عقد بيع صوري فخسرها أيضا. ولم يتمكن من قتل غريمه الذي فر بروحه وماله. ولما خسر كل شيء، وأصبح سره مهددا بالانفضاح انتحر. وقد تلقى رجال الأمن رسالة من مجهول لعله كان شريكا، وهي التي دلت السلطة على سر الجرائم ومدافن الضحايا. هكذا كشف الغطاء عن سر فائز المفزع، نجاحه وانتحاره!
33
رجعوا إلى الحارة، ثلاثة يركبهم الخزي والعار لا مأوى لهم. غدت حكايتهم نادرة الشامتين ومفزع المتخيلين. وأضرم نارها السبع وعلباية والعجل. وبقوة الحقد أمطرتهم الأفواه بصقا والأكف صفعا حتى هرولوا نحو القبو، ومنه تسللوا إلى الممر، ثم استقروا في القرافة.
وأراد الشيخ جليل شيخ الزاوية أن يتشفع لهم فقال: لاتزر وازرة وزر أخرى.
فصاح به حسونة السبع: اسكت يا كافر وإلا شنقتك بشال عمتك!
وكان آل الخشاب وآل العطار في مقدمة من تبرأ منهم.
34
أقامت الأسرة المطاردة في حجرة الرحمة بمدفن شمس الدين. في الجيوب قروش معدودة، وفي القلوب أسى جديد أنساهم أحزان الموت والإفلاس. تحجرت الأعين، حتى عينا حليمة البركة، جلسوا متقاربين، ينشدون النجاة من تلاصقهم، ويستدفئون بنبضات قلوبهم الشامل، وريح الشتاء تزمجر بين شواهد القبور. وإذا بضياء يصيح: الكلاب!
فقالت حليمة برجاء: فلنفكر بحالنا!
فقال ضياء بمرارة وسخرية: لم يبق أمامنا إلا أن نعمل ترابية.
فقالت الأم: معاشرة الجثث أطيب.
وتساءل عاشور بذهول: أقضي علينا حقا بهجر حارتنا؟
فقال له أخوه: ارجع لتغسل وجهك مرة أخرى ببصاقهم!
فقال عاشور بتحد: سنعيش حياتنا على أي حال. - لنرجع إلى التسول.
وكانت الريح تزمجر في الخارج بين شواهد القبور.
35
وفي اليوم التالي دخلوا في حال جديدة من الحزن امتازت بالهدوء والركود.
قالت حليمة البركة: لا وقت لدينا نضيعه.
فعلق ضياء على قوله بأنه لا وقت لديهم ولا مال ولا صديق ولا شيء، فتساءلت: أين يجدر بنا أن نذهب؟
فأجاب ضياء: بلاد الله لا حدود لها.
أما عاشور فقال: لنبق في المدفن غير بعيدين عن حارتنا حتى يتاح لنا الرجوع.
تمتم ضياء بازدراء: الرجوع؟! - أجل، لا بد من الرجوع ذات يوم، وأكثر من ذلك، لا حياة لنا إلا في حارتنا.
فحسمت حليمة الخلاف قائلة: لنبق هنا بعض الوقت على الأقل.
عند ذاك قال ضياء: لم أنم ليلة أمس. فكرت حتى سمع الأموات نبضات فكري، صدقت عزيمتي على قرار. - ما هو؟ - ألا أبقى هنا.
فتجاهلته أمه وقالت: عن نفسي أعود إلى ممارسة مهنتي السابقة في أطراف الحي البعيدة.
فقال عاشور: سأسرح بفاكهة.
تضايق ضياء من تجاهلهما رأيه، فراح يؤكده قائلا: سأذهب ولو اضطررت إلى الانفصال عنكما.
فسألته أمه: أين؟ وماذا تفعل؟
فقال مواصلا انفعاله: لا أدري، سأتحدى الحظ والقدر.
فتسألت بحزن: كما فعل الآخر؟
فصاح بإصرار: كلا! توجد سبل أخرى. - أعطني مثلا؟ - لست نبيا.
وقال له عاشور برقة: ابق معنا فما أحوج بعضنا إلى بعض .
فقال بإصرار نهائي: كلا، لقد قضي الأمر.
36
ودع ضياء أمه وأخاه وذهب. دمعت عينا حليمة وهي تودعه، ولكن لم يكن ثمة متسع للحزن. واستقبلت وعاشور حياة معاناة شاقة. سرحت بالمفتقة والمخلل كالمتسولات، وسرح عاشور بالفاكهة، عملاقا يحمل مقطفا. كأنما قد تعاهدا على الصبر وتجنب الشكوى وعدم نبش ذكرى ما مضى، ولكن الماضي لم يقتلع من أعماقهما. ذكرى الدار ذات الأجنحة، والعيش الرغيد، وأبهة الدوكار وحجرة الإدارة، ذكرى العباءة الفضفاضة والمسبحة القهرمانية وروائح المسك والعنبر والكلمات الطيبة، وعزيزة العطار باليشمك والابتسامة الهائمة، وإقبال يونس السايس مداهنا وقوله المأثور في الصباح: «صبحك الله بالسعادة يا من يشرق النور من جبهته.» آه يا فائز ماذا فعلت بنفسك وبنا؟!
حتى جلال المجنون لم يقتل ويدفن الجثث. ما هذه اللعنة التي تطارد ذرية صاحب الولاية والمعجزة؟
ودأب على قضاء وقت راحته في الخلاء حيث رعى الغنم، حيث لجأ عاشور صاحب العهد وتلقى النعم، ذلك الجد الذي أحبه وآمن بعهده، وعبد خيره وقوته. أليس هو مثله حبا في الخير وامتلاكا للقوة؟ ولكن ماذا فعل كلاهما بخيره وقوته؟ أما الجد فقد حدثت على يديه المعجزة، وأما هو فيسرح بالخيار والقثاء والرطب.
وفي الليل دأب على التسلل إلى ساحة التكية. يتلفع بالظلام ويستضيء بضوء النجوم، يردد البصر بين أشباح التوت والسور العتيق، يقتعد مكان الناجي ويصغي إلى رقصات الأناشيد. ألا يبالي رجال الله بما يقع لخلق الله؟
متى إذن يفتحون الباب أو يهدمون الأسوار؟ يريد أن يسألهم لماذا ارتكب فائز جرائمه. حتى متى تشقى حارتنا وتمتهن؟ لم ينعم الأنانيون والمجرمون؟ لم يجهض الطيبون والمحبون؟ لم يغط في النوم الحرافيش؟
هذا والجو يمتلئ بالأناشيد:
ديدي كه بار جز جور وستم نداشت
بشكست عهد وز غم ماهيج غم نداشت
37
وقالت حليمة لنفسها إنه يبدو دائما منشغل البال، شارد اللب، فيم يحلم يا ترى؟ هل يمكن أن تمضي الحياة في معاناة متصلة بلا نسمة ترطبها؟ وسألته بحنان: ماذا يشغلك يا عاشور؟
فلم يجب، فتساءلت: ألا يحسن بنا أن نجد لك زوجة تؤنس وحشتك؟
فقال باسما: ما نجد اللقمة إلا بشق الأنفس. - إذن فهناك ما يكدر صفوك؟
فقال بصدق: كلا يا أمي.
فلتصدقه ولكن ماذا يشغله؟ في باطنه حياة كاملة مجهولة؛ لذلك تشعر بالغيرة كما تشعر بالخوف.
38
وضاق بأسراره ذات ليلة. كان الوقت ربيعا وقد طاب الجلوس في مكان غير مسقوف من المدفن. وانبسطت السماء متبرجة بما لا يحصى من نجومها.
كانا يتناولان عشاء من المش والخيار. وقال عاشور: أتساءل أحيانا عما يفعل ضياء.
فتنهدت حليمة وتمتمت: إنه نسينا تماما.
وغرق عاشور في الصمت فلم يسمع إلا صوت تمطقه ونباح الكلاب عند مشارف القرافة. ثم عاد يقول: أخاف أن يفعل كما فعل فائز من قبل.
فقالت الأم محتجة: لقد ضرب لنا المرحوم مثلا لا يمكن أن ينسى. - ولكننا ننسى دائما يا أمي. - أهذا ما يشغلك يا عاشور؟
فحنى رأسه بالإيجاب في ضوء هلال شاحب. مضى يتساءل: لم سقط فائز؟ لم جن جدنا جلال؟ لم يفترسنا حسونة السبع؟ - أليس عندنا من الهم ما يكفي؟ - إنه هم واحد متصل الحلقات.
فاستعاذت حليمة بالله وقالت: اسمه الشيطان. - أجل، ولكن لم يغرر بنا بلا عناء؟ - إنه ينهزم أمام المؤمنين.
ورجع للصمت وقد فرغ من العشاء وراح يدخن جوزة من المعسل، ونباح الكلاب في اشتداد حتى انقلب في بعض خيوطه إلى عواء. وقال بغتة: إليك رأيي يا أمي؛ الشيطان ينتصر بالتسلل من نقاط الضعف فينا.
فاستعاذت بالله من الشيطان الرجيم، فواصل عاشور قائلا: إليك رأيي أيضا؛ حبان يشكلان أضعف ما فينا؛ حب المال، وحب السيطرة على العباد.
فتمتمت حليمة: لعلهما شيء واحد. - ربما، المال والسيطرة. - حتى عهد جدك انتكس ...
فردد بغموض: جدي!
فحدجته بنظرة متسائلة، فتساءل بدوره: ماذا كان ينقصه؟ - ينقصه؟! - أعني لماذا انتكس؟ - لم يكن الذنب ذنبه.
فتمتم بعجلة: طبعا.
ولكنه تساءل في سره عما كان ينقصه، عما أفشل سعيه النبيل عقب وفاته أو عقب وفاة شمس الدين. ما دام يوجد خطأ فلا بد أن يوجد صواب. وإذا وجد الصواب مرة فيمكن أن يوجد مرة أخرى . وإذا كان قد انتكس بعد وجوده فيمكن أن نضمن له حياة لا تعرف الانتكاسة.
وعادت حليمة تتساءل: أليس لديك من الهم ما يكفيك وزيادة؟!
39
كلا، لم يقنع بما لديه من هم. وكيف يقنع من أدمن الوجود كل يوم ساعة في الخلاء وساعة أو ساعتين في ساحة التكية؟! كيف يقنع من ينطوي صدره على جذوة دائمة الاشتعال؟ كيف يقنع من تؤرقه الأحلام الملونة؟ كيف يقنع من بات يعتقد بألا جد له إلا عاشور الناجي؟
ورسم فوق رمال الخلاء طريقا، وتخيله على ضوء النجوم في ساحة التكية. وناجاه في تجواله ومنامه، حتى تجسد له كالسور العتيق قوة وصلابة وجلالا.
40
وتلكأ طويلا في سوق الدراسة. في سوق الدراسة يتصعلك كثيرون من حرافيش الحارة. لقد كان يتجنبه لذلك السبب، ومن أجل ذلك يتلكأ اليوم في جنباته. ومر أمام تجمعاتهم وهو ينادي مترنما بالخيار. سرعان ما عرفه بعضهم. هتف هاتفهم: المعلم عاشور!
وسخر صوت قائلا: أخو السفاح يسرح بالخيار!
وأقبل عاشور نحوهم يحمل البشاشة في قسماته الغليظة. مد يده وهو يقول: أترفضون هذه اليد مثل الآخرين؟
فصافحوه بحرارة وقال أحدهم: عليهم اللعنة!
وقال ثان: ما وجدنا منك إلا الخير. - وأمك الطيبة كيف حالها؟
فقال عاشور: برؤياكم رجعت روحي الشاردة إلى وطنها.
وقضى بينهم ساعة سعيدة مترعة بالحنين والبهجة. ومنذ ذلك اليوم لم ينقطع قط عن سوق الدراسة.
41
بلقاء الحرافيش اشتعلت النار في كيانه كله. تجمعت قواه الحيوية كلها، ودقت جدران قلبه تريد أن تنطلق. لا يمكن أن ينام من تضطرب جوانحه بهذه القوة كلها. إنه يتحدى المجهول كما تحداه فائز من قبل، وكما يتحداه ضياء اليوم، ولكنه يشق طريقا آخر، ويتطلع إلى آفاق أبعد. إنه يواجه المجهول ويصافحه ويرمي بنفسه في خضمه. كأنما كتبت عليه المغامرة والمقامرة وركوب المستحيل. إنه يحمل سرا عجيبا. ينبذ الأمن والسلامة، ويعشق الموت وما وراءه. ولقد رأى في منامه من اعتقد أنه عاشور الناجي. ورغم أنه كان يبتسم فقد سأله بنبرة عتاب واضحة: بيدي أم بيدك؟
وكررها مرتين فوجد عاشور نفسه يجيبه وكأنما أدرك ما يسأل عنه: بيدي!
فظل الناجي باسما، ولكنه توارى كالغاضب مخلفا وراءه الخلاء. وتساءل عاشور لدى استيقاظه عما عناه جده بسؤاله، وعما عناه هو بجوابه، وتحير طويلا ولكن قلبه امتلأ بإلهام التفاؤل والإقدام.
42
وذات يوم طرح هذا السؤال على الحرافيش في سوق الدراسة: ماذا يرجع حارتنا إلى عهدها السعيد؟
وأجاب أكثر من صوت: أن يرجع عاشور الناجي.
فتساءل باسما: هل يرجع الموتى؟
فأجاب أحدهم مقهقها، قال بثبات: لا يحيا إلا الأحياء. - نحن أحياء ولكن لا حياة لنا.
فسأل: ماذا ينقصكم؟ - الرغيف.
فقال عاشور: بل القوة!
الرغيف أسهل منالا. - كلا!
فسأله صوت: إنك قوي عملاق فهل تطمح إلى الفتونة؟
وقال آخر: ثم تنقلب كما انقلب وحيد وجلال وسماحة!
وقال ثالث: أو تقتل كما قتل فتح الباب.
فقال عاشور: حتى لو صرت فتوة صالحا فما يجدي ذلك؟ - نسعد في ظلك!
قال آخر: لن تكون صالحا أكثر من ساعة!
فتساءل عاشور: حتى لو سعدتم في ظلي فماذا بعدي؟ - ترجع ريمة لعادتها القديمة.
وقال رجل: لا ثقة لنا في أحد، ولا فيك أنت!
فابتسم عاشور قائلا: قول حكيم.
وقهقه الحرافيش فعاد عاشور يتساءل: ولكنكم تثقون في أنفسكم! - وما قيمة أنفسنا!
فتساءل عاشور باهتمام: أتحفظون السر؟ - نحفظه من أجل عيونك!
فقال عاشور بجدية: لقد رأيت حلما عجيبا، رأيتكم تحملون النبابيت.
وقهقهوا طويلا، ثم قال رجل مشيرا إلى عاشور: هذا الرجل مجنون ولا شك؛ لذلك فإني أحبه.
43
طرق طارق باب حجرة الرحمة. كان عاشور يجالس أمه عقب العشاء متدثرين ببطانيتين اتقاء برد الشتاء القارس. وفتح عاشور الباب فرأى على ضوء المصباح وجها يعرفه، وسرعان ما هتف: أخي ضياء!
وثبت حليمة البركة وضمته إلى صدرها. ذابوا دقائق في حرارة، ثم أفاقوا فجلسوا على الشلت يتبادلون النظرات. تجلى ضياء بعباءته الغامقة ومركوبه الأخضر ولاثته المنمنمة. تجلى بادي الصحة والسعادة. وانقبض قلب عاشور وثارت هواجسه. وختمت حليمة على ظنونها بابتسامة وحنان. وخرج ضياء من الصمت القصير قائلا: ما أطول الأيام!
ثم وهو يضحك: وما أقصر الأيام!
وتمتمت حليمة البركة وقد اغرورقت عيناها: نسيتنا تماما يا ضياء.
فقال ضياء بلهجة جمعت بين التشكي في ظاهرها والظفر في أعماقها: كانت الحياة شاقة فوق ما يتصور العقل.
وآن أوان التحدث عن «الحاضر»، ولكن حليمة وعاشور أحجما بادئ الأمر عن الخوض فيه. ذكرهما المنظر بمنظر سابق لا يمحى من الذاكرة، واستحوذ عليهما قلق خفي. وقرأ ضياء أفكارهما فقال: أخيرا أخذ الله بيدنا!
فتمتمت حليمة تملصا من حرج الصمت: الحمد لله.
وطالعته بوجه مستطلع، فقال بهدوء: إني اليوم مدير أكبر فندق ببولاق!
ونظر نحو عاشور متسائلا في مرح: ما رأيك؟
فقال عاشور بصوت لا حياة فيه: عظيم! - إني أقرأ ما يدور بخاطرك!
فتساءل عاشور: أليس الأمر مثيرا؟ - ولكنه عادي جدا، ومختلف جدا عن مأساة المرحوم. - ذلك ما أتوقعه. - لقد عملت في الفندق خادما، ثم عملت كاتبا لمعرفتي القراءة والكتابة، ثم حصل استلطاف بيني وبين كريمة صاحب الفندق.
سكت مليا ليغرز أقواله إلى عمق معقول، ثم واصل: خفت أن أطلب يدها من أبيها فأخسر كل شيء. ولكن وافاه الأجل، تزوجنا، أصبحت مدير الفندق وصاحبه الفعلي.
وتمتمت الأم: ليكتب الله لك التوفيق.
فرنا إلى عاشور مليا، ثم تساءل: أخالجك شك في أقوالي؟
فقال عاشور بعجلة: كلا. - إن مأساة فائز لا تريد أن تمحى من ذاكرتك. - لا يمكن أن تمحى أبدا. - لقد سلكت طريقا آخر. - الحمد لله. - تصدقني؟ - نعم.
فقال باعتزاز: لدى إقبال الدنيا سرعان ما تذكرت أمي وأخي.
فقالت حليمة البركة: ليحفظك الله. - ذلك أنني لم أتخل عن حلم قديم.
فتساءل عاشور: حلم قديم؟ - أن نرجع إلى حارتنا، أن نسترد جاهنا، أن نتلقى تحيات من بصقوا في وجوهنا.
فقال عاشور بحزم: تخل عن حلمك يا أخي. - حقا؟ ماذا تخاف؟ إن سحر النقود يصنع المعجزات. - لقد فقدنا الاحترام الحقيقي حتى ونحن أغنياء.
فتساءل باستياء: ما الاحترام الحقيقي؟
هل يفضي إليه بحلمه أيضا؟ ولكنه لم يجد فيه أي ثقة.
يمكن التفاهم مع الحرافيش، أما هذا الشخص الناجح المتهور فلا تفاهم معه.
أجاب بأسى: هو ما فقدناه من قديم.
رفع ضياء منكبيه استهانة وقال بضيق: على أي حال آن لكما أن تودعا هذه الحياة مع الأموات.
فقال عاشور بحزم: كلا. - كلا! ترفض معونتي؟ - نعم. - إنه الجنون بعينه. - المال مال زوجتك ولا شأن لنا به. - إنك تجرحني. - معذرة يا ضياء، دعنا فيما نحن فيه. - ما زلت تسيء بي الظن! - كلا، أعتقد أني واضح تماما.
فقال باستياء باد: لن أترك أمي.
فقالت حليمة بعجلة: إنك ابن طيب، ولكنني لن أهجر أخاك. - أنت أيضا تسيئين بي الظن! - معاذ الله، ولكني لن أهجره، دع الأمور للزمن. - حتى متى تقيمين في مدفن بين الأموات؟! - لم نعد كما كنا فقراء دقة، حالنا تتحسن يوما بعد يوم.
فقال بقوة: بوسعي الآن أن أرجعكما مكرمين إلى حارتنا.
فقالت حليمة متوسلة بحرارة: دع الأمور للزمن.
حنى ضياء رأسه متمتما: يا لها من خيبة أمل!
44
وعقب انصراف ضياء قالت حليمة: صددناه بعنف يا عاشور.
فقال بإصرار: لم يكن من الأمر بد. - ألم تثق بأقواله؟ - لا. - إني أصدقه. - إني على يقين من انحرافه. - من ذا الذي لا يتعظ بعد مأساة فائز؟ - نحن، ما تاريخ أسرتنا إلا سلسلة من الانحرافات والمآسي والدروس الضائعة. - ولكني أصدقه. - كما تشائين.
وتفكرت قليلا، ثم قالت: حتى أسرارك لم تأتمنه عليها؟
فقال عاشور بأسف: لا، إنه لا يؤمن بما أومن به. - ألم يكن من المحتمل أن ينضم إليكم؟
فقال عاشور بهدوء: إنه لا يؤمن بما أومن به.
حقا لقد جاء ضياء في وقت غير مناسب؛ إذ كان عاشور يتوثب - بعد عناء طويل - للخطوة الحاسمة.
45
وذات يوم عجيب، والحارة تعاني حياتها اليومية المألوفة الكئيبة، والشتاء يولي مودعا، انحدر من تحت القبو رجل. عملاق الهيكل، يرفل في جلباب أزرق وطاقية بنية وبيده نبوت. سار بهدوء وثقة كأنه راجع من غيبة ساعة لا بضع سنين. رآه أول من رآه محمد العجل فمد إليه عينيه بذهول وتمتم: من؟ عاشور!
فقال له عاشور بهدوء: سلام الله عليك يا عم محمد.
سرعان ما شخصت إليه الأبصار بدهشة، من الدكاكين والنوافذ وأرجاء الحارة شخصت إليه. لم يلق بالا إلى أحد، وشق طريقه إلى المقهى.
وكان حسونة السبع متربعا فوق أريكته، وفي حاشيته جلس يونس السايس شيخ الحارة والشيخ جليل العالم شيخ الزاوية. دخل عاشور المقهى فاتجهت نحوه الأعين في ذهول. أما هو فمضى إلى ركن وهو يقول: السلام عليكم.
لم يسمع ردا. وواضح أن الفتوة انتظر منه تحية خاصة مشفوعة باستعطاف، ولكنه مضى إلى مقعد بلا مبالاة وجلس. سرعان ما توقع الناس أحداثا. ولم يطق السبع صبرا فسأله بخشونة: ماذا أرجعك يا ولد؟
فأجاب بهدوء: لا بد يوما أن يعود الإنسان إلى حارته.
فصاح به: ولكنك طردت منها منبوذا ملعونا.
فقال عاشور بهدوئه المطمئن: كان ظلما ولا بد للظلم من نهاية.
فتدخل الشيخ جليل قائلا: تقدم إلى فتوتنا واسأله العفو.
فقال عاشور ببرود: لم أجئ لطلب العفو.
فهتف يونس السايس: ما عرفناك مغرورا ولا وقحا.
فقال بسخرية: بالصدق نطقت.
عند ذاك نتر حسونة السبع ساقيه المتشابكتين نحو الأرض وسأله منذرا: علام تعتمد في رجوعك إن لم يكن على عفوي؟
فقال بصوت جهوري: اعتمادي على الله جل شأنه.
فصاح السبع: اذهب على قدميك وإلا ذهبت على نقالة.
فوقف عاشور وشد على نبوته. اندفع صبي القهوة خارجا مناديا رجال العصابة. هرع الآخرون إلى الحارة خوفا. انقض السبع بنبوته، وانقض عاشور بنبوته، فارتطم النبوتان بعنف جدار متهدم. ونشبت معركة غاية في الشدة والقسوة.
وجاء رجال العصابة من شتى الأنحاء فاختفى الناس من الحارة وأغلقت الدكاكين، وامتلأت النوافذ والمشربيات.
وإذا بمفاجأة تدهم الحارة كزلزال. مفاجأة لم يتوقعها أحد. تدفق الحرافيش من الخرابات والأزقة، صائحين، ملوحين بما صادفته أيديهم من طوب وأخشاب ومقاعد وعصي. تدفقوا كسيل فاجتاحوا رجال السبع الذين أخذوا، وبسرعة انقلبوا من الهجوم إلى الدفاع. وأصاب عاشور ساعد السبع فأفلت منه النبوت، عند ذاك هجم عليه وطوقه بذراعين، عصره حتى طقطق عظامه، ثم رفعه إلى ما فوق رأسه ورمى به في الحارة فتهاوى فاقد الوعى والكرامة.
أحاط الحرافيش بالعصابة، انهالوا عليهم ضربا بالعصي والطوب، فكان السعيد من هرب وفيما دون الساعة، لم يبق في الحارة إلا جموع الحرافيش وعاشور.
46
كانت معركة لم تسبق بمثيل من حيث عدد من اشترك فيها؛ فالحرافيش أكثرية ساحقة. وفجأة تجمعت الأكثرية واستولت على النبابيت فاندفعت في البيوت والدور والوكالات رجفة مزلزلة. تمزق الخيط الذي ينتظم الأشياء وأصبح كل شيء ممكنا، غير أن الفتونة رجعت إلى آل الناجي، إلى عملاق خطير، تشكل عصابته لأول مرة أكثرية أهل الحارة. ولم تقع الفوضى المتوقعة، التف الحرافيش حول فتوتهم في تفان وامتثال، وانتصب بينهم مثل البناء الشامخ، توحى نظرة عينيه بالبناء لا بالهدم والتخريب.
47
واجتمع بعاشور ليلا يونس السايس وجليل العالم. كانا واضحي القلق، وقال شيخ الحارة: المأمول ألا يقع ما يقتضي تدخل الشرطة.
فقال عاشور في استياء: كم من جرائم ارتكبت تحت بصرك وكانت تقتضي تدخل الشرطة.
فقال الرجل بلهفة: معذرة، إنك أدرى الناس بظروفنا، أود أن أذكرك أنك انتصرت بهم، ولكنك غدا ستقع تحت رحمتهم!
فقال عاشور بثقة: لن يقع أحد تحت رحمة أحد.
فقال الشيخ جليل العالم بإشفاق: لم يكبحهم في الماضي إلا التفرق والضعف!
فقال عاشور بثقة أشد: إني أعرفهم خيرا منك، عاشرتهم في الخلاء طويلا، والعدل خير دواء.
فتردد يونس السايس قليلا، ثم تساءل: والسادة والأعيان ماذا يكون مصيرهم؟
فقال عاشور بقوة ووضوح: إني أحب العدل أكثر مما أحب الحرافيش وأكثر مما أكره الأعيان.
48
ولم يتوان عاشور ربيع الناجي ساعة واحدة عن تحقيق حلمه، ذلك الحلم الذي جذب به الحرافيش إلى ساحته، ولقنهم تأويله في الخلاء، وحولهم به من صعاليك ونشالين ومتسولين إلى أكبر عصابة عرفتها الحارة.
سرعان ما ساوى في المعاملة بين الوجهاء والحرافيش، وفرض على الأعيان إتاوات ثقيلة حتى ضاق كثيرون بحياتهم فهجروا الحارة إلى أحياء بعيدة لا تعرف فتوة ولا فتونة. وحتم عاشور على الحرافيش أمرين؛ أن يدربوا أبناءهم على الفتونة حتى لا تهن قوتهم يوما فيتسلط عليهم وغد أو مغامر، وأن يتعيش كل منهم من حرفة أو عمل يقيمه لهم من الإتاوات . وبدأ بنفسه فعمل في بيع الفاكهة، وأقام في شقة صغيرة مع أمه، وهكذا بعث عهد الفتوة البالغ أقصى درجات القوة وأنقى درجات النقاء. ولم يجد الشيخ جليل العالم بدا من الثناء عليه، والجهر بالتنويه بعدالته، وكذلك يونس السايس فعل، ولكنه ارتاب في ضميرهما، ولم يشك في أنهما يتحسران على الهبات التي كانت تتسرب إليهما من الأعيان، وعند توزيع الإتاوات بين أفراد العصابة الهاربة.
وما لبث الشيخ جليل العالم أن هجر الحارة فعين مكانه الشيخ أحمد بركات. ولما كان يونس السايس معينا من قبل السلطة فقد تعذر عليه هجرها، وكان يغمغم وهو منفرد بنفسه في دكانه: لم تبق في الحارة إلا الزبالة!
وكان يفضي بذات نفسه إلى زين علباية الخمار، فيتساءل الرجل في قلق: حتى متى تدوم هذه الحال؟
فيقول يونس السايس: لا أمل مع بقاء الوحش على قيد الحياة.
ثم يتنهد مواصلا: لا شك أن أناسا مثلنا تناجوا بما نتناجى به الآن على عهد جده الأول، فاصبر وما صبرك إلا بالله.
49
وجدد عاشور الزاوية والسبيل والحوض والكتاب، وأنشأ كتابا جديدا ليتسع لأبناء الحرافيش، ثم أقدم على ما لم يقدم عليه أحد من قبل، فاتفق مع مقاول على هدم مئذنة جلال. وقد كان يصد السابقين عن ذلك خوفهم من إغضاب العفاريت التي تسكنها، ولكن الفتوة الجديد لم يخف العفاريت، وقام وهو في الحارة عملاقا كالمئذنة، ولكنه في الوقت نفسه مستقر للعدل والنقاء والطمأنينة. ولم يبدأ بتحدي أحد من فتوات الحارات، ولكنه كان يؤدب من يتحداه ويجعل منه عظة للآخرين، فتهيأت له السيادة بلا معارك.
50
واعتقدت حليمة البركة أنه آن له أن يفكر في ذاته. وجاءه ضياء أخوه سعيدا، وفي نيته أن يستعيد وكالة الفحم، وأن يصير كبير الأعيان في كنف أخيه الفتوة، ولكنه لم يلق منه تشجيعا، فاضطر إلى الاستقرار في فندقه.
واقترحت حليمة عليه أن يتزوج قائلة: ما زال في حارتنا نفر من الأعيان الطيبين الذين لم يفرطوا فيها.
فتذكر عاشور موقف أسرتي الخشاب والعطار بامتعاض شديد، وقال لأمه: أشعر يا أمي أنك تطمحين إلى حياة أفضل مما نحن فيه.
فقالت المرأة بصدق: ليس العدل أن تظلم نفسك!
فقال بقوة محتجا ورافضا: لا.
قالها بقوة. ليست قوة الرفض الحقيقي، بل قوة يداري بها ضعفا يحس به أحيانا في أعماق خواطره؛ فكم يحن أحيانا إلى رغد العيش والجمال، كما يحلم بحياة الدور والمرأة الناعمة! لذلك قال لا بعنف وقوة. وقال لها: لن أهدم بيدي أعظم ما شيدت من بناء شامخ!
وأصر أن يجيء الرفض من ذاته لا حذرا من الحرافيش. إنه يريد أن يتفوق على جده نفسه. لقد اعتمد جده على نفسه على حين خلق هو من الحرافيش قوة لا تقهر، ولقد مال مرة جده مع هواه، وسوف يصمد هو مثل السور العتيق.
ومرة أخرى قال بقوة: لا!
51
وتم له أعظم نصر، وهو نصره على نفسه. وتزوج من بهية بنت عدلات الماشطة بعد مشاهدة واستقراء من جانبه. وعندما اقتلعت مئذنة جلال من جذورها أحيت الحارة ليلة رقص وطرب. وعقب منتصف الليل ذهب إلى ساحة التكية لينفرد بنفسه في ضوء النجوم ورحاب الأناشيد. تربع فوق الأرض مستنيما إلى الرضا ولطافة الجو. لحظة من لحظات الحياة النادرة التي تسفر فيها عن نور صاف، لا شكوى من عضو أو خاطرة أو زمان أو مكان، كأن الأناشيد الغامضة تفصح عن أسرارها بألف لسان، وكأنما أدرك لم ترنموا طويلا بالأعجمية وأغلقوا الأبواب. •••
وسبح في الظلام صرير فرنا إلى الباب الضخم بذهول. رأى هيكله وهو ينفتح بنعومة وثبات، ومنه قدم شبح درويش كقطعة متجسدة من أنفاس الليل. مال نحوه وهمس: استعدوا بالمزامير والطبول، غدا سيخرج الشيخ من خلوته، ويشق الحارة بنوره، وسيهب كل فتى نبوتا من الخيزران وثمرة من التوت، استعدوا بالمزامير والطبول. •••
عاد إلى دنيا النجوم والأناشيد والليل والسور العتيق. قبض على أهداب الرؤية فغاصت قبضته في أمواج الظلام الجليل. وانتفض ناهضا ثملا بالإلهام والقدرة، فقال له قلبه لا تجزع فقد ينفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة.
وهتفت الحناجر شادية :
دوش وقت سحر أز غصه نجاتم دارند
وأندر آن ظلمت شب آب حياتم دارند
Bilinmeyen sayfa