Lübnan Gerçeği: Düşünceler ve Konuşmalar
الحقيقة اللبنانية: خواطر وأحاديث
Türler
لقد عرفت، كأي من خلق الله - من غمار الناس، فلا محل للتواضع الكاذب - حالات لذة وبهجة وهناء، مما تيسره لنا، أو تغدقه علينا، هذه الحياة الدنيا. لكن ما أعطانيه الكتاب العربي هو أبعد غورا وألصق بسويدائي، وأكثر شمولا وأبقى على الأيام، وأصفى جوهرا وأسمى من كل ما عداه. وليس في هذا الحكم إجحاف بأي حق، ولا نكران لأي جميل. كذلك أدخلت في الحساب، ومنذ البداية، قضية «السن» أيضا، سوى أني لا أعرف في حياتنا من المباهج والملاذ ما ليس يمازجه أو يعقبه كثمالة الكأس، شيء من الخيبة أو الندم أو القلق، خلا مباهج الكتاب وملاذه؛ الكتاب الجيد الذي تقرؤه أكثر من مرة، فكل مرة يزيدك لذة وابتهاجا.
كنت أفكر في الكتاب العربي، في متعته الباقية وجوهره الصافي، لما جائني نعي شيخنا الغلاييني - رحمه الله. لا أريد أن استبق الحوادث، فأذكر علامة بيروت وفقيد اللغة العربية، بما هو أهله، قبل أن تقام لإحياء ذكراه وتكريمها حفلة أو حفلات يتبارى فيها الشعراء والخطباء. لا، لكن هذا الكتاب العربي الذي كنت أفكر فيه، ليس يفترق في ذهني - وفي ذهني خاصة - عن صورة للغلاييني وهو فتى. هو في أول عهده بالتدريس، وأنا في أول عهدي بالدراسة؛ يعلمنا العربية فيجيد تعليمنا، ويؤدبنا بها فيحسن تأديبنا، بكل ما أوتيه من معرفة وإيمان. إني - وكثير أمثالي في هذا البلد - مدين للشيخ مصطفى الغلاييني، بأفضل ما عندي من معرفة وإيمان بلغة الضاد، ومدين له بما قد يكون خيرا من هذا كله؛ مدين له بالانطباع الأول، بالدفعة الأولى. وإن أنس لا أنس كيف كان - رحمه الله - يعلمنا العربية وقواعدها، في مؤلفاته وهي بعد مخطوطة، في حيز التأليف، قبل أن تصير «سلسلة الدروس العربية» المطبوعة والمتداولة في أيدي الألوف من الطلاب، في جميع الأقطار، فكأننا كنا نحضر مولد تلك الكتب النافعة، أو كأن لنا في وضعها حظا.
منذ نحو ثلاثة أعوام، نظمت ورزارة التربية والفنون الجميلة، سلسلة محاضرات أذيعت من محطة بيروت، في موضوع «الثقافة ومظاهرها المختلفة في لبنان»، وقد طلب يومذاك إلى فقيدنا الكبير أن يحدث المستمعين عن اللغة العربية ونصيب لبنان منها، فألقى - رحمه الله - محاضرة قيمة لا يزال أثرها في نفوس الكثيرين ممن سمعوها أو قرءوا نصها. في تلك المحاضرة أتى الغلاييني على تعداد عشرات الأسماء لأعلام اللبنانيين الذين كان لهم في تدريس العربية ونشر آدابها أوفر نصيب، مبتدئا بالشيخين محمد الحوت وناصيف اليازجي، ومنتهيا بالمعلمين جبر ضومط وأحمد عباس الأزهري. وهذه اليوم في تاج العربية الذي يزين مفرق لبنان، جوهرة جديدة فريدة. رحم الله أستاذنا الغلاييني بقدر ما أشرب قلوبنا من محبة للكتاب العربي.
لخمسة عشر عاما خلت، كنت أزاول المحاماة على طريقة خاصة؛ أعني: أتمرس بها كتمرس أبي الطيب المتنبي بالآفات، لا المحاماة تنقاد إلي صاغرة، ولا أنا أبش لها متزلفا، فكنت أدعو الله سرا وعلانية أن يصرفها عني بالتي هي أحسن؛ كي لا يكون من ذلك علي حجة، ولا سيما عند الذين لا شأن لهم معي، وهكذا الناس.
في ذلك الوقت العصيب أغارت مجلة «الكشاف» بخيلها ورجلها، وبين بكرة وضحاها احتلت مكتبي، كأنما ألهمت أن تملأ فراغه، مخافة أن يطير. وإذا قلت: «بخيلها ورجلها» فقد أسميت - لا أكثر ولا أقل - بهاء الدين الطباع مدير تلك المجلة، الذي كان والحمد لله، بمختلف حركاته وجميع أصواته، جيشا وحده. لكن لم يكن لهذا الجيش اللجب من العتاد، سوى قلب صادق شجاع، وهو على ما يظهر دون الكفاية.
وكان أمين الريحاني يعطف على الكشفية، وكان هذا العطف يتجلى في أجمل صوره؛ مقالة يمد بها مجلتهم «الكشاف» كل شهر أو شهرين، لا يكاد ينقطع مدده، ولا حاجة إلى القول إن خير ما في أجزاء تلك المجلة، كان فصولا للريحاني من كتابه القيم «تاريخ نجد الحديث» قبل طبعه، بذلها بسخاء وأريحية لم أعرف لهما مثيلا عند كبار مؤلفينا. لكن ظللت زمنا نفسي تحدثني وهي فخور، بأنه إنما يفعل هذا إكراما لي، ثم لم ألبث حتى علمت أنه سخاء في الطبع وأريحية في الفطرة، شاء الريحاني أن يؤثر بهما «القلب الصادق الشجاع» عسى أن يثبت للملأ أن هذا وحده، رغم كل شيء، قد يكفي أحيانا. وأصبحت مجلة «الكشاف» ولها أمين الريحاني - ليس لها إلاه - وكفى!
الآن، وكأن ذلك العمر البعيد القريب سفينة عصفت بها أهواء وأنواء لا أدري أيهما كان أشد هولا، وقد تحطمت السفينة وضاعت حمولتها بين سمع الزمان وبصره، تعود بي الذكرى الأمينة إلى الحقبة السعيدة، هنيهات أنا منها في واحة المسافر بلغ منه الظمأ والعياء. في هذه الواحة لا أفتأ أتمثل الريحاني، كلما قدم بيروت من صومعته في الفريكة، مقبلا علينا بوجهه الطلق، فلا يستقر به المجلس حتى يسأل متلهفا: «كيف المجلة؟» ثم يلتف إلى الطباع قائلا بلهجة المعتذر: «وبهاء؟ كيف صحته؟» وترن في أنحاء الغرفة الضيقة، ضحكة بريئة لا تحفظ فيها ولا إسفاف، عادلة بين السخر الطاري، والوداد المقيم. أما بهاء الدين فيكون مشغولا عن الجواب بانتظار المدد الذي يأتيه، أغلب الأحيان، في صورة مقالة، أو فصل من كتاب لم يطبع، أو بعض فصل.
فمن تراث ذلك الزمن الرغد الذي تجده الذكرى اليوم، حتى كأني لم أبارحه قيد لحظة أو شبر؛ وريقات معدودات بخط الريحاني، لست أدري كيف ولماذا حفظتها، منذ نشرت في أحد أجزاء «الكشاف» سنة 1928، وها هي، بعد أن لبثت في درجي أعواما كالأسماء المنسية المطوية في غيابة الذاكرة، تنبعث فجأة وتطفو كحطام السفينة الغريقة بين السماء والماء؛ صحائف خطها قلم الريحاني، واضحة مثل نفسه، مستقيمة استقامة تفكيره، بذلك الخط المعروف المألوف لدى أرباب الصحف في العالمين القديم والجديد؛ خط وسط بين التربيع والتدوير. وهنا، على زوايا الوريقات الثمينة، لطخ أسود من بصمات مرتب الحروف الذي قرأها - ولا بد - متهجئا، فأنا أيضا ما زلت أقرأ هذه الصحائف بضرب من التهجئة الذهنية، لست أخرم من معانيها ومقاصدها معنى أو مقصدا، فلا أزداد إلا إعجابا بها. ثم تغلبني الذكرى، وترجع بي القهقرى، حتى إذا اكتنفني ذلك الماضي، علمت علم اليقين أني ما ادخرتها يومذاك، إلا لهذا الإعجاب الذي يعاودني الساعة، ممزوجا بالحنين.
تلك الصحائف مقالة عنوانها «في ربيع اليأس» هي عندي من أروع ما كتبه الريحاني، وأبقاه على وجه الأيام، حكى فيها حكاية نفسه، مهملا الفضول، نابذا القشور التي تلازم حياة أي إنسان مهما يكن عظيما، ولا سيما إذا كان عظيما. ترجمة حال بقلم صاحبها، متبلورة، صافية كالذهب الإبريز، بل لوحة رسم عليها المصور البارع خطوط آرائه في المجتمع والسياسة والدين، في المبدأ والمصير وما بينهما، وسط هالة من الذكريات الخاصة تنبض إحساسا، وتفيض قوة إيحاء. في هذه المقالة «فتح الريحاني - كما يقول - كتاب النفس، ليطلع قارئه العزيز على صفحة من صفحاته الشخصية الخصوصية». وهو كتاب لم يكن الريحاني، بوازع من الأنفة الحيية، ليفتحه إلا في النادر القليل، ولقد يخيل إلي حينا أنه إنما أنشأ هذا المقال الفذ خلال أزمة نفسانية لم نعرف مداها، انتقل فيها من شتاء اليأس إلى ربيعه، لكنه لم يخرج من اليأس، تتغير الفصول وتبقى الدنيا كما هي. وكان عزاء الريحاني في تلك الأزمة النفسانية أن «ليأسه - كما يقول - سلما لولبيا من الأشواق والآمال، وأنه وهو المقيم في وادي الفريكة، في هذا الزمان، زهرة من يأس الأنبياء؛ زهرة نورت، فذوت، فتناثرت أوراقها، ثم انتثرت من قلبها بذور الحياة، فحملتها الرياح إلى النواحي الأربع من الأرض».
لا أعرف من ترجم للريحاني بأصدق من هذا الكلام.
Bilinmeyen sayfa