ومضت الأيام مرهقة وهو ينتظر. وكلما رجع إلى أم حسني أوصته بالصبر. تخيل أسباب التأخير وقلبه يغوص في الظلام، وراح يتردد على مقام الحسين.
وحدث في تلك الأيام أن تخلف عن العمل مدير الإدارة حمزة السويفي. وعلم بأنه لزم الفراش لارتفاع شديد في ضغط الدم. وزاد من الحرج العام أن الإدارة كانت بصدد إعداد الميزانية الجديدة. وقد عاده في مرضه، وجلس قرب فراشه طويلا، وأبدى من الحزن والإشفاق ما أطلق لسان الرجل بالثناء عليه والدعاء له أن يكفيه الله شر الأيام. وتذكر عثمان في جلسته أنه لم يزر سعفان بسيوني، وأنه ترك أخباره تنقطع عنه كأنه رحل. وقال مخاطبا حمزة السويفي: ارتح تماما، ولا تترك الفراش حتى تسترد عافيتك بالكامل، ولا تقلق من ناحية العمل فإني والزملاء في خدمتك ..
فشكره الرجل وتمتم في قلق: مشروع الميزانية!
فقال له بيقين: سيعد بإذن الله، كلهم تلاميذك ويعرفون من العمل تحت رياستك ما ينبغي عمله ..
أما في الوزارة فقد دار الحديث طويلا حول المريض ومرضه، قيل إنه ربما اضطر حمزة بك إلى التقاعد أو التنحي على الأقل عن مهامه الرئيسية. سمع تلك الأقوال باهتمام فخفق قلبه بسرور خفي تلقاه بسخط وقلق. كالعادة، ولكنه هيج أحلامه ومطامعه. وإذا بالمدير العام يصدر قرارا بتشكيل لجنة خاصة لإعداد الميزانية جعله مقررها. وتم اختياره عن دلالة لا تخفى على أحد. أجل لم يشك أحد في كفاءته ولا في حكمة القرار من هذه الناحية ولكن - قيل - ألم يكن اللائق أن تسند رئاستها إلى وكيل الإدارة محافظة على الشكل؟! أما هو فكرس كل قواه لإعداد المشروع حتى يبرز للوجود كاملا بلا هفوة واحدة. وتجلت مقدرته في توزيع العمل وتنظيمه ومتابعة المعلومات المطلوبة من إدارات الوزارة على حين تعهد هو بالموازنة الختامية وتحرير البيان. واقتضى العمل الاتصال المباشر بحضرة صاحب السعادة والاجتماع به ساعة كل يوم وأحيانا ساعتين، حتى حلت الألفة بينهما مكان الكلفة. وامتد الاجتماع يوما أربع ساعات فأمر له بقهوة، وقدم له سيجارة ولكنه اعتذر شاكرا لكونه غير مدخن. مرت أيام أترعت قلبه بالسعادة والزهو والأمل، ورضي الرجل عن عمله فشعر برضى الله وإقبال الدنيا. وأعد للمشروع مقدمة مثالية حازت إعجاب المدير بصفة خاصة فتربع على قمة النصر المبين.
ورجع حمزة السويفي إلى مكتبه مستردا صحته في اليوم الأخير لعمل اللجنة، وأعلن عثمان أفراحه فعانقه داعيا له بطول العمر. قال له: كنا كالضائعين فالحمد لله على سلامتك.
وتساءل الرجل: والمشروع؟ - أعد، وكتبت المقدمة، هما معروضان الآن على صاحب السعادة، وسوف تطلع عليهما غدا أو بعد غد، ولكن كيف حال الصحة؟ - الحمد لله، أجروا لي حجامة، ووصفوا لي رجيما دقيقا، والأمر لله من قبل ومن بعد. - ونعم بالله .. ما هي إلا سحابة صيف ..
ألف في خدمته الطويلة انقسام الشخصية والعذابات الأخلاقية. كما ألف الصدمات المتوقعة وغير المتوقعة. كهذه الصدمة مثلا. وجثم الفتور في أعماق قلبه حتى اليأس؛ ولذلك فعندما خلت درجة رابعة في الإدارة القانونية دفعه التوتر إلى الكلام. أول مرة تكلم فيها بلسانه بعد أن اعتاد الكلام بأفعاله وخدماته. وبفضل الجو الذي خلفه العمل بينه وبين صاحب السعادة قال له: لو تعطف حضرة صاحب السعادة بالموافقة فقد يرى أن أستغل ثقافتي القانونية في الإدارة القانونية ..
ولكن الرجل قال بلهجة حاسمة: كلا، الإدارة القانونية وقف على أصحاب امتيازات يحسن تجنب التعرض لها ..
آه .. كالعروس التي طال انتظاره لها. وامتعض ولكنه قال بخشوع: أمرك يا صاحب السعادة!
Bilinmeyen sayfa