ووقعت الروضة في حيص بيص؛ إذ كان عليها لأول مرة أن تستضيف خمسمائة، هي التي لا يتعدى أهلها المائتين، وقد حاولوا الاعتذار بقولهم إنهم لم يكونوا على استعداد، ولكن الشيخ رجب كفاهم مئونة الخجل قائلا: «الموجود يا جماعة يسد.» •••
وهكذا ظل ركب العزابوة وعلى رأسه الشيخ رجب أبو شمعة تودعه بلدة لتستقبله بلدة أو عزبة أخرى، حتى ولو كان الذي يعترض الطريق رجلا واحدا، وحتى لو كان قد قال كلمته على سبيل المجاملة والترحيب لا أكثر ولا أقل.
ولم يصل الركب إلى بلدة العريس إلا بعد سبعة أيام قضاها العزابوة يأكلون ويشربون ويدخنون ويطعمون ركائبهم شعيرا وبرسيما وفولا.
ومن أيامها اضطر الشراقوة إلى تخفيف حدة كرمهم فتابوا عن تحويد العرائس وحرموا اعتراض مواكبها.
حادثة شرف
أعتقد أنهم لا يزالون يسمون الحب هناك: «العيب»، ولا بد أنهم لا يزالون أيضا يتحرجون عن ذكره علانية، ويتغامزون به، وإنما تلمحه في النظرات التائهة الحيرى، وفي وجنات البنات حين تحمر وتخضر وتنسدل عليها الأجفان.
والعزبة، كأي عزبة، لم تكن كبيرة، بضع عشرات من البيوت المبنية بحيث تكون ظهورها إلى الخارج، وأبواب الدور تفتح كلها على حوش داخلي واسع، حيث الساحة الصغيرة التي يقيمون فيها الأفراح، ويعلقون العجول المريضة إذا ذبحت لتباع بالأقة وبالكوم، والأحداث في العزبة قليلة ومعروفة، النهار يبدأ قبل مشرق الشمس وينتهي بعد مغيبها، والمكان المفضل هو عتبة البوابة الكبيرة؛ حيث الهواء البحري، وحيث يستحب النوم ساعة القيالة ولعب «السيجة»، الأحداث قليلة ومعروفة، بل تكاد تعرفها حتى قبل أن تقع، وتعرف أن هذه البنت المفعوصة التي تلعب الحجلة ستكبر بعد عدد من السنين، وسيصفو لونها الملبد، ثم يخرطها خراط البنات، وتتزوج، بالتأكيد واحدا من هؤلاء الصبية الذين يرتدون الجلاليب الممزقة على اللحم، ويستحمون في الترعة، وينطون كالقرود المسلسلة من فوق الكوبري.
غير أنه، أحيانا، تقع حوادث لا تكون معروفة، ولا يمكن التنبؤ بوقوعها، مثل ذلك اليوم الذي ترددت فيه الصرخات في الغيط، الصرخات الغامضة الغريبة التي ينشق عنها فضاء الريف الواسع أحيانا، فتدوي بطريقة مفاجئة ومرعبة ومستغيثة دون أن تعرف مصدرها، ولكنك لا بد تدرك منها أن شيئا مهولا قد وقع، ولا بد حينئذ أن تفيق فتجد نفسك تجري لتنجد أو على الأقل لتعرف الخبر.
غير أنه في تلك المرة لم يكن هناك ما يستدعي النجدة أو المساعدة، بل أكثر من هذا كان العائدون إلى العزبة يجدون حرجا كثيرا حين تسألهم النساء عما حدث.
ماذا يقولون؟ أيقولون: إنهم وجدوا فاطمة في الدرة مع غريب؟!
Bilinmeyen sayfa