وقال عنبر للشيخ رجب: «استنوا أنتم هنا، وأوعوا حد يتحرك.»
وتحرك هو، داخلا على سيده دخول طارق بن زياد، بعد فتح الأندلس، قائلا بصوت القائد الظافر: «حودنا العروسة، يا سيدي البيك.»
ونظر إليه البيك نظره إلى مخبول، ولم يفهم، وأخيرا بدا عليه أنه تذكر وأن أباه كان قد حدثه عن شيء كهذا، ولكن تلك المسائل كانت في الزمان الغابر، في أيامه الأولى، وأيام أبيه وجده الأكبر، أيام العز، الأيام التي يسمع أنه كان لديهم فيها ألف وخمسمائة فدان وأربعة آلاف رأس من الغنم، أين هو الآن من تلك الأيام؟! الأرض راحت، والعز راح، ومنزل الضيوف تهدم، والمحصول يرهن لعدة بنوك قبل جمعه وحصاده، ولم يبق من مظاهر المجد القديم إلا عنبر، آخر ما تبقى من عبيد العائلة، أيام أن كان للعائلة عبيد، وإذا بعنبر الأحمق هذا يحضر له ذلك الجيش من أهالي كفر العزب يستضيفهم، جيش جائع متهالك كل واحد فيه لا بد قد أجاع نفسه لعشوة الفرح حتى غارت وجنتاه!
وهكذا نزل البيه شتما وسبا ولعنا في خادمه وعنبر مذهول مدهوش من تصرف سيده، فطالما حود عرائس له ولأبيه، وطالما فرحوا به وبانتصاراته وجازوه عليها خير الجزاء، وإذا بجزائه هذه المرة علقة! الظاهر أن الأسياد فسدوا هم الآخرون كما فسد الزمان، وراحت السيادة مع العصر الذي ولى، وإلا فكيف يخاف البيك من تحويد العروسة؟! وكيف لا يفخر؟!
وظل البيه يضيق الخناق على خادمه حتى خيره بين أحد أمرين: إما صرف هؤلاء الناس كما أحضرهم وإما قتله رميا بالرصاص، ولم يجد عنبر بدا من اختيار الأولى، وعاد وقد تغيرت سحنته، وخبا الشرر في عينيه، وتدلدلت ملامحه وهو الذي سحب هذه المرة ناعما للشيخ رجب ولف كلامه في ملق كثير، محاولا أن يعتذر، ملقيا الذنب على نفسه، ومقسما بالله العظيم ثلاثا أن سيده لم يكن له علم بما حدث.
ولكن سيده مين، اعتدل الشيخ رجب فوق حمارته وانجعص إلى الوراء كما يفعل الأبطال المغاوير، واسترد الخمسمائة من أهل كفر العزب أنفاسهم الهاربة ووقفوا وراءه - ربما لأول مرة في حياتهم - وقفة رجل واحد يؤيدونه ويحبذونه مصرين على أنهم ضيوف السنديك بيك تلك الليلة، ما في ذلك كلام أو سلام، وأن كرامتهم لا يمكن أن تسمح بأن يهانوا على تلك الصورة، هي الحكاية إيه؟ لعب عيال؟!
وانقطع نفس عنبر وهو يجري رائحا عاديا بين الشيخ رجب وبين البيك، حاملا رأي كل منهما إلى الآخر، مخفيا رأي كل منهما في الآخر، آملا أن تنجح المفاوضات، ولكن المفاوضات لم تنجح، ولما تأكد للبيك أنه ما لم يستضفهم فسيفضحونه في طول البلاد وعرضها وسيضحكون عليه طوب الأرض، قبل الضيافة، وأمره إلى الله، وقضى ليلته حائرا واقفا على أقدامه باحثا عن ألحفة وأطباق وطعام يسد به مئات الأفواه المفتوحة الجائعة.
وكان أول شيء فعله في الصباح أن استغنى عن خدمات عنبر إلى الأبد، مفضلا أن يتنازل عن آخر مظاهر العز، ولا الحوجة للدواهي التي تأتي بها تلك المظاهر.
أما العزابوة فبعد أن شربوا قهوة الصباح ورشفوها بمزاج وأشعلوا السجائر أربعة وعشرين قيراطا، توكلوا على الله وامتطوا ركائبهم واستأنفوا طريقهم إلى بلد العريس، ودعواتهم تنهال على الشيخ رجب وحكمته، ومن كان منهم يشك في زعامته آمن وسلم وأصبح له أخلص المخلصين، وزيادة في التكريم أخروا جمل العروسة وأصروا على أن يجعلوا الشيخ رجب وحمارته على رأس موكبهم.
وما كاد الموكب يبتعد عن عزبة السنديك قليلا والضحكات والقرقعات الصاعدة من البطون الممتلئة ببلاش تتصاعد منه، حتى برز لهم عند الكوبري المتحرك جماعة من أهل الروضة، «اقف عندك يا جدع أنت وهو!» وقفوا، وتقدم الشيخ رجب مصطنعا نفس البراءة، يسأل، وما كادت كلمة: «حودوا» تفلت من فم أكبرهم سنا حتى كان الشيخ رجب قد حود حمارته ناحية البلدة فعلا ويده تشير لبقية الركب أن يتبعوه.
Bilinmeyen sayfa