وتلك دعوة صريحة من الغزالي إلى الإحاطة التامة بالعلوم كافة، وهي تنفي تهمة إهمال العلوم العقلية التي نسبت إليه؛ فهو يقرر أن مفسر القرآن لا بد وأن تتوفر فيه القدرة الكاملة على تفهم العلوم العقلية قبل الشرعية، حتى يستطيع أن يتفهم أغراض القرآن، ويستطيع أن يبرز للعالم ما فيه من عظمة وجلال وعلوم ومعارف.
ويقول الغزالي بعد أمثلة كثيرة شاملة: «ولو ذهبت أفصل ما تدل عليه آيات القرآن الكريم من تفاصيل وعلوم لطال الأمر وتشعب، فتفكر في القرآن والتمس غرائبه؛ لتصادف فيه مجامع علوم الأولين والآخرين.»
الغزالي وصفات التشبيه والتجسد
يقول الغزالي: إن الإنسان لا يحتمل الحقائق الروحية إلا مصبوبة في قالب الأمثال الخيالية، ومن هنا نفهم ما ورد في القرآن من آيات الصفات والتجسد.
فهي آيات للتقريب والفهم، لا للدلالة على صور وصفات، وبذلك ينفي الغزالي صفات التشبيه، ويقرر أن إدراك ذلك إنما يكون بإدراك المناسبة بين عالمنا وعالم الروح، فالمثال الجسماني مندرج تحت المعنى الروحاني.
ويضرب لذلك مثلا بالمنامات، وهي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، وكيف تكشف حقيقتها بأمثلة خيالية.
فقد روى بعضهم أنه شاهد في منامه أن في يده خاتما يختم به فروج النساء وأفواه الرجال، فقال له ابن سيرين: «أنت رجل تؤذن في رمضان قبل الصبح.» فقال: نعم. يقول الغزالي: «فانظر ختم الأفواه والفروج بالخاتم مشاركا للأذان قبل الصبح في روح الخاتم، وهو المنع، وإن كان مخالفا لصورته، وقس على ذلك ما ورد في القرآن والأحاديث والأمثال، فإنها تشتمل على كثير من هذا الجنس.» كقول الرسول - صلوات الله عليه وسلامه: «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن.» فإن روح الإصبع القدرة على سرعة التقليب، فإن قلب المؤمن بين الغواية والهداية، والله تعالى يقلب قلوب العباد كما يقلب الإنسان الأشياء بإصبعين، وكذلك سائر الأحاديث والآيات الموهمة للتشبيه والاستواء.
فمن عرف معنى الإصبع عرف بعد ذلك معنى القلم في قوله تعالى:
علم بالقلم ، ومعنى اليد في قوله تعالى:
يد الله فوق أيديهم .
Bilinmeyen sayfa