وقالت في شرود وهي تتأمل معملها بعين جديدة: نحن لا نرى دائما الأشياء التي نمتلكها.
وابتسم، فقفزت شفته العليا كاشفة عن أسنانه الكبيرة الصفراء وقال: هذا صحيح خاصة في حالة الزوجات والأزواج. وضحك ضحكة قصيرة ثم عاد وجلس على كرسيه، وظلت واقفة فقال لها: يبدو أنك مشغولة، هل أنا أعطلك؟ وجلست على كرسي بجوار الباب وهي تقول: كنت أجري بعض الأبحاث.
وابتسمت بغير سبب، ولعلها تذكرت شكل بويضة أمها، والتهمت نظراته الحدباء وجهها وقال: سأقول لك شيئا، هل تعرفين أنك تشبهين ابنتي؟ الابتسامة نفسها، العينان، القوام، كل شيء.
وأحست فؤادة بوقع نظراته فوق جسمها فصمتت مطرقة، وهمست لنفسها: إنه يريد أن يثرثر فحسب. وقال: حين رأيتك لأول مرة أحسست بهذا الشبه الغريب، وخيل إلي أنك قريبة مني، وربما هذا هو السبب الذي جعلني أصمم بيني وبين نفسي على أن أعطيك الشقة.
نعم؛ إنه يريد أن يثرثر، وها هو يذكر الشقة، ما الذي أتى به في هذا الوقت؟ لقد أفسد عليها لذة تحليل بول أمها.
وأكمل كلامه قائلا: فكرت في الأيام الماضية أن آتي وأساعدك في تجهيز المعمل، لكني خشيت أن تظني بي سوءا. النساء عندنا يسئن الظن بأي رجل يبدي رغبته في المساعدة، أليس كذلك؟
ولم ترد، كانت قد شردت فجأة في شيء آخر، تذكرت حادثة صغيرة وقعت لها وهي طفلة؛ كانت تلعب مع الأطفال في الشارع، وكان هناك الرجل العجوز الأبله الذي يتجول في الشوارع بغير هدف ويجري الأطفال خلفه يهللون: العبيط أهه! وكانت تجري خلفه مع الأطفال وتهلل معهم، وفي ذلك اليوم جرت خلفه أكثر من اللازم فابتعدت عن الأطفال واقتربت منه، واستدار إليها الرجل العجوز ونظر إليها نظرة مخيفة فارتعدت وخيل إليها أنه سيجري خلفها ويمسكها فأطلقت ساقيها للريح، وكفت من يومها عن الجري خلفه مع الأطفال، وكانت تختبئ بسرعة حين تراه، وقد خيل إليها أنه يخصها دون الأطفال بتلك النظرة المخيفة المرعبة.
لم تدر فؤادة لم تذكرت تلك الحادثة البعيدة، لكن عيني الرجل العجوز الأبله كانتا جاحظتين كهاتين العينين، وتلفتت حولها في المعمل، وكأنما اكتشفت فجأة أنها وحدها مع الساعاتي في الشقة، فشعرت بخوف غامض ونهضت، وهي تقول: لا بد أن أذهب الآن؛ فقد تذكرت شيئا هاما، ونهض الساعاتي قائلا: متأسف لأنني عطلتك، هل تودين أن أوصلك بعربتي؟ وقالت وهي تسرع وتفتح الباب: لا، أشكرك؛ فالمكان ليس بعيدا. وخرج من الباب فأغلقت الشقة بالمفتاح وأسرعت أمامه لتهبط السلم، فقال لها مندهشا: ألا تنتظرين المصعد؟ وقالت وهي تهبط السلم مسرعة: أفضل الهبوط على قدمي. •••
سارت في الشارع تتطلع إلى نوافذ المحلات، وكان الليل قد بدأ يهبط بثقله وكثافته على الأرض، وأضيئت أنوار الشارع والمحلات، لم تشعر برغبة في العودة إلى البيت، فسارت تحملق في الوجوه التي تمر بها، وكانت قد أدمنت تلك العادة الغريبة، عادة مقارنة الرجال بفريد، في ملامحهم، في حركاتهم، في أحجامهم، وأدمنت شيئا أغرب من هذا، وهو خلق تنبؤات مبتكرة والانسياق وراء احتمال تحققها، كانت تقول لنفسها مثلا وهي سائرة في الشارع: ستمر بي ثلاث عربات ملاكي يتبعها تاكسي، وسأنظر داخل التاكسي فأرى فريد جالسا، وكانت تبدأ في عد العربات التي تمر بها ولا تتحقق النبوءة فتعض شفتها السفلى، وتقول: ومن قال إنها يمكن أن تتحقق؟ إنها ليست إلا وهما، وتواصل سيرها، وبعد قليل تخطر لها نبوءة أخرى بشكل آخر.
ووصلت إلى نهاية شارع قصر النيل فوجدت جمعا من الناس يلتفون حول عربة، وسمعت الأصوات تقول: رجل مات، ووجدت نفسها تندفع بين الناس وتشق الزحام وهي تلهث وترتجف حتى وصلت إلى الرجل الممدود فوق الأرض، ونظرت في وجهه ولم يكن فريد، فعادت تخرج من بين الزحام بخطى بطيئة ثقيلة.
Bilinmeyen sayfa