كانت العينة خالية من الزلال، فلم تجمد الحرارة منها شيئا وأطفأت الموقد، وسكبت قطرة صغيرة من البول البارد فوق شريحة زجاجية وضعتها تحت الميكروسكوب، ونظرت من خلال عدسته فرأت تلك الدائرة الكبيرة تتحرك داخلها دوائر صغيرة مختلفة الأحجام والأشكال، وحركت المرآة لتضبط الضوء ولفت المسمار الجانبي الخاص بالعدسة المكبرة فاتسعت الدائرة الكبيرة وزادت عن المدار الذي تدور فيه عيناها، وكبرت الخلايا الدائرية الصغيرة المهتزة وبدت كحبات من العنب تطفو فوق ماء.
وركزت عينها على إحدى الخلايا، كان لها شكل البويضة بل إنها كانت بويضة فعلا، كانت تهتز ككائن حي وتتذبذب داخلها نويتان قاتمتان كالعينين، وأمعنت النظر فيهما، وخيل إليها أنهما تنظران إليها نظرة أليفة كنظرة أمها، وتذكرت أن هذه البويضة هي بويضة أمها، وأنها هي نفسها كانت هذه البويضة منذ ثلاثين سنة، لكن أمها لم تضعها في زجاجة وتغلق عليها بسدادة، كانت تتشبث بلحمها كما تتشبث القملة بجلدة الرأس، وكانت تأكل خلاياها وتمص دمها.
لم تدر فؤادة كيف استرسلت في أفكارها، وكيف تصورت بكثير من الاندهاش وعدم التصديق منظر أمها وهي مستلقية فوق السرير وإلى جوارها أبوها. لم تكن تخيلت من قبل أن أمها مارست تلك الأعمال التي تمارسها النساء قبل إنجاب الأطفال، لكنها كانت على يقين من أن أمها قد مارستها بدليل وجودها في الحياة، وحاولت أن تتصور شكل أمها في مثل هذا الموقف، وخيل إليها أنها كانت تظل بتلك الصورة التي عرفتها بها، الطرحة البيضاء تلتف حول رأسها، والجلباب الطويل فوق جسمها، والجورب الأسود الطويل في قدميها، والشبشب الصوفي أيضا. نعم؛ لقد تصورتها بكل تلك الأشياء راقدة فوق السرير بين ذراعي أبيها مطبقة شفتيها في صرامة وفوق جبينها العريض تكشيرة جادة، تؤدي واجبها الزوجي بالحركات الوقورة البطيئة نفسها التي تؤدي بها الصلاة.
وسمعت جرس الباب يرن، كانت قد سمعته منذ رأت البويضة لكنها ظنت أنه جرس الشقة المجاورة، أو جرس عجلة في الشارع، لكن الرنين تكرر واستمر فتركت الميكروسكوب وذهبت لتفتح الباب.
كانت الخلايا الدائرية لا تزال تهتز أمام عينيها حين وقع بصرها على العينين الجاحظتين تهتز داخلهما نويتان بارزتان سوداوان، وخيل إليها أنها لا تزال تنظر في الميكروسكوب فدعكت عينيها بيدها وهي تقول: تفضل يا أستاذ ساعاتي.
سار وراءها بجسمه الضخم إلى حجرة الانتظار في خطوات محرجة وكأنه لا يعرف سببا وجيها لمجيئه، وقال وهو يتلفت حوله إلى الكراسي المعدنية الجديدة: مبروك. ألف مبروك؛ لقد أصبح معملا جميلا جدا. وجلس على أحد الكراسي وهو يقول: فكرت أن أمر عليك قبل اليوم أكثر من مرة لأهنئك على المعمل الجديد لكنني خشيت أن ... وسكت لحظة وتذبذبت عيناه الجاحظتان من تحت النظارة السميكة ثم قال: لكني خشيت أن أزعجك.
وقالت في هدوء: أشكرك.
ورفع عينيه وقرأ الرقعة النحاسية فقال في دهشة: حجرة الأبحاث! ونهض وأدخل رأسه من باب الحجرة فرأى الأجهزة والأدوات والأنابيب والأحواض الجديدة فقال في سرور وإعجاب: هذا رائع! رائع! لقد أصبح معملا كيمياويا بمعنى الكلمة.
ونظرت حولها في شيء من الدهشة، لم تكن أحست بعد أنها تمتلك المعمل، أو أنه أصبح معملا كيمياويا بمعنى الكلمة، كان يخيل إليها أنه ليس كاملا وأن أشياء كثيرة تنقصه، فقالت بدهشة حقيقية: حقا! هل ترى أنه معمل كيمياوي؟!
ونظر إليها مندهشا، وقال: وأنت، ألا ترين ذلك؟
Bilinmeyen sayfa