Montaigne
الذي سبقه إلى نشر مقالاته بسبع عشر سنة، ثم لم يكن بينهما من الوحدة فيها غير وحدة القالب دون سواه.
فمونتين فياض مسترسل كثير الأغراض متعدد الملامح الشخصية، قريب في أسلوبه إلى أساليب المقاليين المحدثين، ولكن باكون - على دأبه في جميع حالاته - كان أقرب إلى الاحتجاز والتركيز، ودسومة المادة الفكرية، واجتناب الألوان الشخصية، والملامح الخاصة التي تنم عليه وعلى الجانب الإنساني فيه.
ومما يقال في شروط المقالة الحديثة أنها ينبغي أن تكتب على نمط المناجاة، والأسمار وأحاديث الطريق بين الكاتب وقرائه، وأن يكون فيها لون من ألوان الثرثرة والإفضاء بالتجارب الخاصة، والأذواق الشخصية، وهذا هو الشرط الذي لم يستطعه باكون قط في عمل من أعماله الكتابية؛ لأن الجانب الإنساني فيه مكبوح لا ينطلق زمامه يوما من يديه، ولم ينس قط أنه «معلم وقور»، وأنه سائس مسئول، وأنه فقيه مطالب بالسمت والرصانة. ولم يحاول الرجل قط أن يكون غير ما كان، أو أن يخالف بالموضوع ظاهر العنوان، فإنه كتب مقالاته وذكر في عنوانها أنها نصائح مدنية وخلقية، فبر بوعده الذي تضمنه هذا الوصف الوجيز. وصدق من قال في وصف مقالاته - ولا سيما الأوائل منها: إنها أشبه الأشياء بالمذكرات التي يدونها صاحبها للمراجعة، وأقرب الكتابة إلى أسلوب «جوامع الكلم»، وأصول الحكم ورءوس العظات، وخليق بأسلوب باكون في هذا الفن خاصة أن يجلو الفارق العظيم بين سليقته، وسليقة شكسبير في المنظوم والمنثور، فما من صفحة من صفحات شكسبير تخلو من لمحة شخصية، ولون من ألوان حياته الداخلية، وما من صفحة في كتب باكون جميعا تنم على أثر من ذلك إلا بعد جهد جهيد في المراجعة والاستنباط، حتى هذا الفن الذي يتفتح طواعية في قديم الزمن وحديثه للمناجاة، والتبسط بين الكتاب والقراء!
ولم يكن لمقالات باكون أسلوب واحد بل أسلوبان؛ لأنه نشر منها في مبدأ الأمر عشرا (سنة 1597)، ثم زادها إلى ثمان وثلاثين سنة 1612، ثم بلغت بعد التهذيب والإضافة ثمانيا وخمسين في طبعة 1625؛ أي بعد ثماني عشرة سنة من ظهورها لأول مرة.
وقد لاحظ النقاد بحق أنها كانت في صيغتها الأخيرة أحفل بالبلاغة والزخرف وفنون التخيل والتشويق منها في صيغتها الأولى، واستطرد بعضهم من هذا إلى ملاحظة عجلى ليس فيها بصائب؛ لأنه حسب أن هذا الاختلاف بين أسلوب الشباب وأسلوب الشيخوخة ظاهرة مستغربة لا تجري مع المعهود من طبائع القرائح الإنسانية، فإن القرائح في الناس عامة أخصب بالخيال والرونق أيام الشباب، خلافا لما بدا من أسلوب باكون في حالتيه على رأي أولئك النقاد.
ولا حاجة هنا على ما نرى إلى مجاراتهم في اختراع بدعة غريبة من بدع القرائح الإنسانية عامة ، إذ المألوف في الواقع أن يكون الشباب أقرب إلى تكلف الوقار؛ لأنه مظنة الخفة، وأن تكون الشيخوخة أقرب إلى تكلف الخفة؛ لأنها مظنة الفتور والجمود.
وثمة سبب آخر نرجع إليه قبل الوثوب إلى البدع والخوارق التي لا تشاهد في جميع الأحوال.
فمما لا شك فيه أن باكون قد بدأ تجربته الأولى في فن المقالة، وهو مترفع عنه ناظر إليه نظرة المتحفظ الذي لا يوليه جهده من العناية والاحتفال، وقد كانت له قبل كتابة المقالات فصول تفيض بالتخيل والرونق، كما تفيض بها مقالاته الأخيرة بعد أن عاودها وهو معنى بها محتفل بتنميقها، فليس في قريحته من هذه الناحية ظاهرة جديدة أو غريبة تخالف المعهود والمألوف.
وإنما هو اكتراث بعد تهاون، وإقبال بعد تردد، وما كان هذا التحول من التردد إلى الإقبال بالمستغرب بعد شيوع المقالات، وتسابق الخاصة والعامة إلى مطالعتها والاستزادة منها، وتلاحق ترجماتها بالفرنسية واللاتينية والإيطالية في سنوات قليلة، فقد تغير تقدير باكون لمقالاته تبعا لتقدير القراء والنقاد، وبدا منه الارتياح إلى رواجها، والإعجاب بها في معارض شتى، فأشار مغتبطا إلى تكرار طبعها، وقال في خطابه إلى أسقف ونشستر: «إنه لا يجهل أن هذا الضرب من الكتابة يضيف إلى اسمه سمعة وسطوعا فوق ما استفاده من الكتب الأخرى مع قلة العناء فيه.» وقال في رسالته إلى دوق بكنجهام: «إن المقالات أروج أعماله؛ لأنها على ما يظهر أدنى إلى شواغل الناس وطواياهم.» وقدر لها أن تبقى ما بقيت الكتب في الدنيا، وإن كانت نسختها اللاتينية هي التي قدر لها هذا البقاء! لأنها اللغة العالمية التي يتفق عليها خاصة القراء.
Bilinmeyen sayfa