ولكننا مع ذلك نجزم كل الجزم أن الروايات لم يكتبها باكون، وكتبها شكسبير دون غيره.
ودليلنا على ذلك طبيعة كل من الرجلين، كما تتجلى معزولة مفصولة في تواليف هذا وذاك.
فروايات شكسبير هي روايات الرجل الذي عاش كما عاش شكسبير، وأحس كما أحس شكسبير، وليست هي روايات باكون الذي لم تضطرب نفسه قط بخالجة من تلك الخوالج المقيمات المقعدات في نفوس الشعراء. وقد صدق كارليل حين قال: «إن كل ما تجده في باكون من الذكاء هو من طبقة دون ذاك: طبقة مادية إذا قيست إليه.» أي: إلى ذكاء شكسبير.
وفي شعر شكسبير ونثره - عدا هذا الفارق - عشرات من الإشارات الشخصية إلى ماضيه وحوادث زواجه، وخصوماته ومنافساته، وعلاقاته ببعض الرجال وبعض النساء، مما لا نظير له في سيرة باكون أو سيرة أحد من معاصريه، فضلا عن لغة الفقراء والعامة، التي تشيع فيمن حوله، ولا تشيع فيمن حول باكون من الخاصة المترفعين قليلي الخلطاء بين جمهرة العوام.
ومن أين مع هذا كان لباكون ذلك الوقت، الذي يتسع لكتابة هذه الروايات وهو مشغول بمناصبه وبحوثه ومساعيه ومطالب عيشه؟ ومن أين له بعد هذا كل ذلك العلم الدخيل بحرفة التمثيل، وأفانين المسرح، وترتيب مواقف الأبطال؟
إن السير هنري أرفنغ
Henry Irving
ثقة في هذا الباب؛ لأنه يحكم فيه حكم الممثل الدارس الخبير، ومن رأيه القاطع الذي استشهد له بكثير من الشواهد «أنه لا يستطيع غير الممثل أن يكتب تلك الروايات».
فأيا كان مقطع القول في هذه القضية، فليس مما يرضاه المؤرخ الناقد أن يجعل روايات شكسبير مناط الحكم على مكانة باكون الأديب، فهو لن يدخل إلى عالم الأدب آمنا مطمئنا إلا بمقالاته وفصوله الأخرى التي تشبهها في السياق والتعبير. •••
وقد كانت له مزية الرائد الأول في هذه المقالات، فإن فن المقالة اليوم في اللغة الإنجليزية فن كامل متقن مستفيض النتاج كثير الكتاب والقراء، ومن الكتاب عندهم من يسمون بالمقاليين؛ لأنهم لا يطرقون بابا من الكتابة غير باب المقالة على نمطها الحديث، الذي وصلت إليه بعد ثلاثة قرون في التعديل والتخصيص، والفصل بين أدب المقالة وغيره من نماذج الآداب. ولكنها قبل هذه القرون الثلاثة لم تكن شيئا معروفا باللغة الإنجليزية، ولم يكن لباكون فيها قدوة مترسمة من الأدباء الإنجليز، وإنما نظر فيها إلى الحكيم الفرنسي مونتين
Bilinmeyen sayfa