والظاهر أن زيور باشا برغم حرصه على كل هذه المتملكات الواسعة، عاجز تمام العجز عن إدارتها وتوليها بالمراقبة والإشراف، وما دامت الإدارة المركزية فيه قد فشلت كل هذا الفشل، فأحرى به أن يبادر فيعلن إعطاء كل منها الحكم الذاتي على أن تعمل مستقلة بنفسها على التدرج في سبيل الرقي والكمال، وحسب عقله في هذا النظام الجديد، أن يتوافر على إدارة رجليه وحدهما، ولعله يستطيع أن يسيرهما في طريق الأمن والسلام! •••
وإني أورد عليك طائفة يسيرة تدلك على ما في هذه المجموعة الغريبة من ضروب المتناقضات التي تجزم منها بأن ذلك الخلق ليس شيئا واحدا، وإنما هو في الحقيقة عدة أشياء.
فزيور باشا معروف بالقناعة والتعفف عن الابتذال في إحراز الأموال، ولكنهم في الوقت نفسه يقولون إن جميع نفقات الولائم التي أقامها في مصر وفي أوروبا قد تناولها من «المصاريف السرية»، بينما هو يقبض من خزانة الدولة ألف جنيه لهذا الغرض في كل عام!
ومما يحسن ذكره في هذا الموضوع، ما تحدثوا به من أنه لما زار أوروبا في الصيف الماضي، طاف بجميع المفوضيات المصرية هناك، فسل كل ما فيها من «المصاريف السرية» حتى إذا علم أنه قد أتى على كل ما في مفوضية باريس من هذه الأموال، ولم يدع لها قرشا ولا بارة، أرسل تلغرافا إلى مفوضية لندن لتسعفه بكل ما عندها من النقود!
ولقد تعلم أحيانا عن زيور باشا حرصه على مصالح الدولة، على أنك إذا عاتبته على إسراف الحكومة في عهده وابتذالها لأموال الدولة بهذا الأسلوب الفادح، أجاب من فوره: «إن مصر غنية»
l’Egypte est riche .
ولقد تعرف في زيور باشا طيبة في القلب، وسلامة في الخلق، ثم لقد يظهر لك فيه من المكر، وترى له من أنواع الدس ما يعيا بمثله أخبث الشياطين . ولقد ذكروا أنه كلما التقى بسعدي، أنب قومه على اتفاقهم مع «ألد أعدائهم» الأحرار الدستوريين، وإذا أصاب حرا دستوريا، قال له: كيف يصح أن تتحدوا مع أولئك «المجانين المخربين»!
ولقد كان شديد الشكوى من نشأت باشا وبسطة يده في كل مصالح الحكومة، فإذا قيل له: وكيف لا تكفه عن هذا وأنت رئيس الحكومة؟ بسط كفيه ورفع رأسه إلى السماء وأجاب: وهل يستطيع أحد أن يعمل شيئا؟ فلما أقيل نشأت باشا من السراي، جعل زيور يقبل على كل من لقيه يتمدح بأنه هو الذي أخرجه، ووقى البلاد شرا عظيما!
وقد يعرف عنه بعض الناس قلة الخير، ومع ذلك فإن له صاحبا ورفيقا من رفقاء الصبا هو «ص بك غ»، وله ولد يطلب العلم في باريس، فعينه في مفوضية باريس في وظيفة غير موجودة!
وعلى هذا الصديق دين لبعثة المرسلين الأفريقيين في مصر، وقد استبهظ الربح، فوسط في الأمر صديقه زيور باشا الذي قصد إلى روما في تجواله بأوروبا في العام الماضي. ومع ما يعرف عن دولته من أنه خريج مدارس الجزويت، وأنه أخذ عنهم الدهاء والمكر وبعد غور النفس؛ فقد طلب مقابلة قداسة البابا نفسه، وخاطبه في الأمر، وسأله التخفيف من دين صاحبه. والبابا أحاله على وزير خارجيته الكاردينال جاسباري، وبعد أن سمع هذا من رئيس وزراء مصر، كل ما أراد أن يقول، هز كتفيه وقال له:
Bilinmeyen sayfa