إهداء الكتاب
تمهيد
في حضرة الرئيس1
زيور باشا
عدلي يكن باشا
سعد زغلول باشا
عبد الخالق ثروت باشا
إبراهيم الهلباوي بك
الدكتور محجوب ثابت
الدكتور محجوب أيضا1
Bilinmeyen sayfa
الدكتور علي بك إبراهيم
أحمد لطفي السيد بك
إسماعيل سري باشا
عبد الحميد سعيد بك
فكري أباظة
أحمد مظلوم باشا
طلعت حرب بك
حافظ رمضان بك
إبراهيم وجيه باشا
حافظ إبراهيم بك
Bilinmeyen sayfa
هدى هانم شعراوي
إسماعيل صدقي باشا
علي الشمسي باشا
الشيخ أبو الفضل الجيزاوي
عزيز عزت باشا
أبو نافع باشا أو عمدة سان استفانو
شوقي
محمد محمود باشا
مختار «التمثال»
الشيخ1 ...
Bilinmeyen sayfa
شيخ السوق
إهداء الكتاب
تمهيد
في حضرة الرئيس1
زيور باشا
عدلي يكن باشا
سعد زغلول باشا
عبد الخالق ثروت باشا
إبراهيم الهلباوي بك
الدكتور محجوب ثابت
Bilinmeyen sayfa
الدكتور محجوب أيضا1
الدكتور علي بك إبراهيم
أحمد لطفي السيد بك
إسماعيل سري باشا
عبد الحميد سعيد بك
فكري أباظة
أحمد مظلوم باشا
طلعت حرب بك
حافظ رمضان بك
إبراهيم وجيه باشا
Bilinmeyen sayfa
حافظ إبراهيم بك
هدى هانم شعراوي
إسماعيل صدقي باشا
علي الشمسي باشا
الشيخ أبو الفضل الجيزاوي
عزيز عزت باشا
أبو نافع باشا أو عمدة سان استفانو
شوقي
محمد محمود باشا
مختار «التمثال»
Bilinmeyen sayfa
الشيخ1 ...
شيخ السوق
في المرآة
في المرآة
تأليف
عبد العزيز البشري
تريك المرايا الخلق فيهن ماثلا
وهذي تريك الخلق والنفس والطبعا
حافظ إبراهيم
إهداء الكتاب
Bilinmeyen sayfa
إلى هؤلاء السادة الذي بعثت القول فيهم، إنما استوحيت في هذه «المرايا» خلالكم، واستلهمت نزعات أنفسكم، فأنتم أحق الناس بأن تهدى إليهم. فمن أصاب نفسه في «مرآته» فأعجبته صورته، فليوجه الحمد لله تعالى الذي سواه على هذا، فليس لي من الأمر غير النقل والاحتذاء. والسلام عليكم ورحمة الله.
المخلص
محرر المرآة
تمهيد
سألني صديق لي كريم المنزلة عندي أن أتخير له صورا من تلك «المرايا» التي أرسلتها في «السياسة الأسبوعية»؛ ليطبعها ويسويها للناس كتابا. وتعذرت عليه دهرا لأنني إنما أعانيها على أنها بنت ساعتها وحديث يومها، لا على أنها مما يثبت في الزمان، لتردد الأنظار واعتياد الأفكار. وما برح يعتريني بإلحاحه الكريم ، ويملك علي مذاهب الحجج في مطاولته حتى لم أجد لي مفيضا من التسليم. فجمعت منها طائفة وضممت إليها ما كتب في هذا الباب شاعر مصر الكبير حافظ بك إبراهيم في حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل، وما كتب أديب آخر في حضرة صاحب الفضيلة شيخ الجامع الأزهر. وجعلت أعود على تلك «المرايا» بألوان التهذيب، فأرم ما رث بالطبع، وأستدرك ما عسى أن تكون قد فوتت العجلة من فنون المعاني، وأعالج ما أضعفت السرعة من القول وأوهت من نسج الكلام. وأضفت إلى هذه المجموعة طائفة أخرى من رسائل شتى كان قد جرى بها القلم، على أنها كلها مما يدخل في معنى تلك «المرايا» ويتصل بجنسها. ثم لقد اعتمدت من ألفاظ هذا الكتاب كل ما يحتاج إلى الضبط فضبطته بالشكل، وكل ما يحتاج إلى المراجعة ففسرته؛ تدريبا للناشئين على المنطق الصحيح. وأمدني بأصدق العون في هذا كله وفي تصحيح طبع الكتاب، الأديبان اللغويان الأستاذ أحمد زكي العدوي والأستاذ محمد صادق عنبر، وصلهما الله عن الأدب بخير الجزاء.
وصدرت كل «مرآة» بصورة صاحبها «الكاريكاتورية» من رسم الفنان الأشهر الأستاذ «سنتيز». أما صورة الغلاف فقد تفضل بوضعها الأستاذ الفنان المبدع مصطفى بك مختار محرم، مد الله في عمر أناملهما رحمة بالفن الجميل.
ولست أتحدث عن مطبعة دار الكتب، فإن كل آثارها تحدثك وحدها عما أوفى على الغاية من الدقة والجمال والإحسان. ولا يفوتني في هذا المقام أن أنوه بما لحضرة محمد نديم أفندي، ملاحظ المطبعة، من همة وخبرة يزينهما حسن الخلال.
وقد راعيت في ترتيب هذه «المرايا» تواريخ نشرها في «السياسة الأسبوعية»، فلا تأخذني، بعد هذا، بتقديم زيور باشا في «رجال السياسة» على سعد زغلول، ولا بتقديم الدكتور محجوب ثابت في «الطب» على علي بك إبراهيم، ولا بتقديم الأستاذ فكري أباظة في «الوطنية» على حافظ بك رمضان! •••
والغاية التي تذهب إليها «المرآة» هي تحليل «شخصية» من تجلوه من الناس، والتسلل إلى مداخل طبعه، ومعالجة ما تدسى من خلاله، ونفض هذا على القارئ في صورة فكهة مستملحة. وهذا النوع من البيان إنما ترويناه عن كتاب الغرب، وما فتئنا نقلدهم فيه تقليدا. على أن بعض كتاب العرب من أمثال الإمام الجاحظ قد سبقوا إلى شيء من هذا التصوير البياني، إلا أنهم لم يعدوا فيه تسقط هنات المرء والصولة عليها بألوان التندر والتطريف. أما التوسل بمظاهر خلال المرء إلى مداخل نفسه ومنازع طبعه، وإجراء هذا على أسلوب علمي وثيق
Hologigue ، فذلك ما لم أقع عليه في منادراتهم، ووجوه تطرفهم.
Bilinmeyen sayfa
ولا يذهب عنك أن شأن الكاتب في هذا الباب كشأن المصور «الكاريكاتوري»؛ فهو إنما يعمد إلى الموضع الناتئ في خلال المرء، فيزيد في وصفه، ويبالغ في تصويره بما يتهيأ له من فنون النكات. وأنت خبير بأن مرد النكتة إلى خلل في القياس المنطقي بإهدار إحدى مقدماته أو بتزييفها أو بوصلها، بحكم التورية ونحوها، بما لا تتصل به في حكم المنطق المستقيم، فتخرج النتيجة على غير ما يؤدي إليه العقل لو استقامت مقدمات القياس. وهذا الذي يبعث العجب، ويثير الضحك والطرب. فالنكتة بهذا ضرب من أحلى ضروب البديع. ولا يعزب عنك كذلك أن «النكتة» إذا لم تكن محكمة التلفيق، متقنة التزييف، بحيث يحتاج في إدراكها إلى فطنة ودقة فهم، خرجت باردة مليخة لا طعم لها في مساغ الكلام.
ولعلك آخذي بأنني أسف أحيانا إلى العامية الشائهة فأوردها في درج الكلام. وعذري في ذاك ما تعرف من أننا نكتب بلغة، ونتناول أسبابنا الدائرة بلغة أخرى، وهيهات لك أن تجلي على القارئ صورة كاملة من حديث قوم في مناقلاتهم ومنادراتهم، وما تطارحوا من فنون النكات، إلا بأن تورده كما نطقوا به، وبخاصة إذا كان يجري في التعبيرات التي تشيع على ألسن الناس، وتذهب عندهم مذهب الأمثال، فإذا حاولت أن تؤدي هذا بفصيح اللغة؛ فسد الغرض، واختل نظم الكلام. وللإمام الجاحظ في هذا المعنى قول جليل، فراجعه إن شئت في كتابه «البخلاء». •••
وبعد، فالرأي ألا تتناول الأقلام بمثل هذا النوع من الحديث إلا أمرا يقوم على شأن عام ، على ألا تتره حقا، ولا تضيف إليه ما ليس له، وعلى ألا تتدسس إلى مكارهه، ولا تطلب من مستور هناته ما لا يتصل بالشأن العام. فإذا هي اعترته بعد هذا بألوان التندر؛ كان حقيقا بها ألا تصرف وجه القول إلى الرغبة في تهاونه والتهزؤ به والكيد له. وهذا ما تحريته فيما عالجت من هذه «المرايا»، فإن يكن قد ند القول بعض الحين، فإنني امرؤ ينبو على القلم، وتزل بي القدم، وإني أستغفر الله وأسأله العافية.
في حضرة الرئيس1
ملء السمع، ملء القلب، ملء البصر. لو حاول بكل جهده ألا يكون رجلا عظيما؛ ما استطاع، وهيهات لامرئ أن يملك عن نفسه ما شاء لها الله! وقد سوى الله له هذه العظمة من يوم مدرجه، فكان طالبا عظيما، وكان مدرها عظيما، وكان قاضيا عظيما، ثم تناهت إليه زعامة أمة، فهو فيها ملء السهل والجبل.
بحسبك أن تراه لتعرف أنه سعد، ولو لم يومئ إليك أحد بأنه سعد: وكيف يختلط عليك أمره وهذه يد القدرة قد دلت عليه بدلائل تنبئك بأنه، وإن كان من الناس، إلا أنه أعظم الناس.
بسطة في العلم والجسم، بسطة في العقل والحلم، وعزم تتزايل الجبال دون أن يتزلزل، ويقين تتحول الأرض عن مدارها ولا يتحول، ومنطق يصول في الجلى حتى لتحسبها الجحافل قد تداكت بسيوفها وعواليها، ويلطف في السمر حتى لتتمثل أسراب الكواعب، وسوست حليها، وتضوعت منها غواليها.
وما إن رأيت ولا سمعت برجل فسح الله تعالى له في البيان، وأمكنه من نواصي الحجة، كما فسح لسعد ومكن لسعد. ولقد تتقدم لمباراته في الأمر تظن أنك قد بلغت منه الغاية، ووقعت على الصميم، وتمنعت منه بالحصن القوي، فما هو إلا أن يرسل عليك الحجة حتى ترى أنه ملك الرأي عليك من جميع أقطارك، وإنك سرعان ما وقعت أسيرا في يديه تتقلب فيهما تقلبا، وهيهات لك الخلاص إلا بأن تنزل في أمرك على الإذعان والتسليم!
وإن أنس، لا أنس ليلة مضت من عشر سنين حاور فيها مستشارا كان في محكمة الاستئناف، معروفا بشدة الجدل، في مسألة فقهية، وكلما انحط الرجل فيها على رأي أزعجه سعد فطار إلى غيره، حتى إذا ظن أنه تمكن في أفحوصه
2
Bilinmeyen sayfa
ثار عليه بالحجة فوثب إلى سواه، وما زال به صدرا من الليل ينشره ويطويه، وينقله من رأي إلى رأي، ويحوله من قول إلى قول، حتى داخ الرجل ووهن، ولم يبق فيه فضل لحوار ولا جدل!
ولا أدري أكان ذاك من سعد مجرد تهد للرأي، وتعقب لموطن الصواب، أم أنه إنما كان يتلعب بالرجل تلعبا لينزله على معرفة قدره، ففي نفس ذلك المستشار غرور وفي أنفه ورم! أم هي المخيلة
3
تبعثها في النفس شدة التمكن من النفس، وإنه ليلذ لها أحيانا ألا تمتعك بذلك الواقع الذي اطمأننت به، والحق الذي استرحت إليه. فما هو إلا أن تصول بالحجة عليك حتى ترى أنك إنما كنت تقبض على الهواء، وأن صرحك الذي أقمته تفرق عنك تفرق الهباء، فتتولى منخذلا عن يقينك وقد ضربك الشك: أكنت مخدوعا عن الواقع؟ أم أن هذا الواقع دون قوة سعد فهو يصرفه بحجته كيف يشاء؟ لا أدري يومها ماذا كانت إربة الجبار. والله أعلم!
وسعد قد علت به السن وشاب رأسه، على أنه، بسط الله في عمره، ما زال يمرح من فطنته القوية في أفتى الفتوة وأمرع الشباب. ولو كتب لك الظفر ساعة بمجلس هذا الذي دوت الدنيا كلها بمجده؛ لنعمت بما لا يلحقه الوصف من عذوبة طبع في عذوبة مجلس، وحديث كأنه قطع الروض رف
4
آسه ونسرينه، وتضوع ورده وياسمينه، وبديهة كأنه يقرأ منها في كتاب، وكأنها تستوحي الغيب فليس بينها وبين الغيب حجاب، ونادرة تشيع فيك الطرب، وتهزك من أعجاب ومن عجب، إذ هو فيما يرسل من القول، في جده ومزاحه، لا يعدو ما ينبغي له من تحشم ووقار.
وإنه ليقبل عليك بكل لطفه حتى يفرخ روعك، ويفسح لك في جوانب القول لتقول، وإنه ليباريك في منزعك، ويدارجك في حديثك، إلى أن يرسلك على سجيتك ويسترسل معك، حتى إذا اطمأننت إليه، وظننت أنك في مساجلة رجل مثلك ، خانته عبقريته، فوثب به ذهنه إلى ما لا يتعلق به ذهنك، فإذا أنت قد طرت كل مطير، وإذا الطبيعة تأبى برغمك ورغمه إلا أن تشعرك أنك في حضرة سعد زغلول!
يا لله من هذا الرجل! وإنه ليعرض في الأمر فيقول فيه مقالا، وإنك لتقدر له بادئ الرأي غاية ما تعاهد الناس من حجة، وأقصى ما تعارفوا من دليل، فإذا هو قد وقع في تدليله على ما لم تقع عليه ظنون الناس، وارتفع إلى ما لم تتعلق به أذهانهم، ففتح في المنطق فتحا جديدا وأتى بما يبهر ويروع، وكيف لسعد ألا يرتفع على مذهب حجة الناس، وقد رفعه الله على الناس؟
وسعد وافر الشعور بعظمته، مزدحم الشعور بأنه إنما يتحدث على آمال أمة، فهو مهما بارى المجلس في فنون أحاديثه، ومهما تدلى به السمر إلى تلك الأسباب الدائرة بين الناس، يرفه بذاك عن نفسه وعن صحبه، يطفر الفينة بعد الفينة إلى حديث الوطن، فيشك فيه معنى جليلا، ثم يعود فيصيب ما شاء الله من حديث القوم. أعلمت أن سعدا لا يصلح إلا للوطن، وأن الوطن لا يصلح إلا بسعد؟
Bilinmeyen sayfa
أريد أن أكتب عن سعد، ومن الغرور أن أظن بقلمي الوفاء بوصف سعد مهما تفرج له في جوانب البيان، فإن البيان إنما يجري في غايته إلى ما تعاهده الناس من الطبيعة ومن الناس! أما تلك النفحات الإلهية التي يرسلها الله تعالى في العصور الطوال ثنيا
5
بعد ثني ليقيل أهل الأرض الزلة، ويهديهم من الضلة، فذلك ما تعجز عنه اللغى ويقصر من دونه البيان.
وبعد، فإذا أردت أن تصف للناس سعدا، فلن تستطيع أن تصفه بأبرع من لفظة «سعد»، فقد جمعت من وجوه المعاني ما لا يبلغه الكلام، وإن قدرته العقول وتعلقت به الأفهام.
زيور باشا
أما شكله الخارجي، وأوضاعه الهندسية، ورسم قطاعاته ومساقطه الأفقية؛ فذلك كله يحتاج في وصفه وضبط مساحاته إلى فن دقيق وهندسة بارعة. والواقع، أن زيور باشا رجل - إذا صح هذا التعبير - يمتاز عن سائر الناس في كل شيء ، ولست أعني بامتيازه في شكله المهول طوله ولا عرضه ولا بعد مداه، فإن في الناس من هم أبدن منه، وأبعد طولا، وأوفر لحما، إلا أن لكل منهم هيكلا واحدا. أما صاحبنا فإذا اطلعت عليه، أدركت لأول وهلة أنه مؤلف من عدة مخلوقات لا تدري كيف اتصلت، ولا كيف تعلق بعضها ببعض، وإنك لترى بينها الثابت وبينها المختلج، ومنها ما يدور حول نفسه، ومنها ما يدور حول غيره، وفيها المتيبس المتحجر، وفيها المسترخي المترهل. وعلى كل حال فقد خرجت هضبة عالية مالت من شعابها إلى الأمام شعبة طويلة، أطل من فوقها على الوادي رأس فيه عينان زائغتان، طلة من يرتقب السقوط إلى قرارة ذلك المهوى السحيق!
وإنك لتجد ناسا يصفون زيور بالدهاء وسعة الحيلة، بينما ترى آخرين ينعتونه بالبساطة، وقد يتدلون به إلى حد الغفلة. كما تجد خلقا يتحدثون بارتفاع خلقه وتنزهه عن النقائص، إذ غيرهم ينحطون به إلى ما لا تجاوره مكرمة، ولا يسكن إليه خلق محمود!
كذلك زيور عند الناس مجموعة متباينة متناقضة متشاكسة، فهو عندهم كريم وبخيل، وهو شجاع ورعديد، وهو ذكي وغبي، وهو طيب وخبيث، وهو داهية وغر، وهو عالم وجاهل، وهو عف وشهوان، وهو وطني حريص على مصالح البلاد، وهو مستهتر بحقوق وطنه، يجود منها بالطارف والتلاد!
كل أولئك زيور، وكل هذا قد يضيفه الناس إلى زيور، فلا تكاد تسعهم مجالسهم بما يأخذهم فيه من الدهشة والاستغراب. وإذا كان هذا مما لا يمكن في الطبيعة أن يستقيم لرجل واحد فقد غلط الناس إذ حسبوا زيور رجلا واحدا. والواقع أنه عدة رجال، وعلى الصحيح هو عدة مخلوقات، لا تدري كما حدثتك، كيف اتصلت ولا كيف تعلق بعضها ببعض! فإذا أدهشك التباين في أخلاقه، وراعك هذا التناقض في طباعه، فذلك؛ لأن هذا الجرم العظيم الذي تحسبه شيئا واحدا مؤلف في الحقيقة من عدة مناطق، لكل منها شكله وطبعه وتصوره وحظه من التربية والتهذيب. فمنها العاقل ومنها الجاهل، ومنها الحكيم ومنها الغر ، ومنها الكريم ومنها البخيل، ومنها المصري ومنها الجركسي، ومنها الفرنسي، ومنها الإنجليزي، ومنها المالطي ... إلخ؛ كل منها يجري في مذهبه ويتصرف في الدائرة الخاصة به، فلا عجب إذا صدر عن تلك المجموعة الزيورية كل ما ترى من ضروب هذه المتناقضات!
لإنقاذ ما يمكن إنقاذه!
Bilinmeyen sayfa
والظاهر أن زيور باشا برغم حرصه على كل هذه المتملكات الواسعة، عاجز تمام العجز عن إدارتها وتوليها بالمراقبة والإشراف، وما دامت الإدارة المركزية فيه قد فشلت كل هذا الفشل، فأحرى به أن يبادر فيعلن إعطاء كل منها الحكم الذاتي على أن تعمل مستقلة بنفسها على التدرج في سبيل الرقي والكمال، وحسب عقله في هذا النظام الجديد، أن يتوافر على إدارة رجليه وحدهما، ولعله يستطيع أن يسيرهما في طريق الأمن والسلام! •••
وإني أورد عليك طائفة يسيرة تدلك على ما في هذه المجموعة الغريبة من ضروب المتناقضات التي تجزم منها بأن ذلك الخلق ليس شيئا واحدا، وإنما هو في الحقيقة عدة أشياء.
فزيور باشا معروف بالقناعة والتعفف عن الابتذال في إحراز الأموال، ولكنهم في الوقت نفسه يقولون إن جميع نفقات الولائم التي أقامها في مصر وفي أوروبا قد تناولها من «المصاريف السرية»، بينما هو يقبض من خزانة الدولة ألف جنيه لهذا الغرض في كل عام!
ومما يحسن ذكره في هذا الموضوع، ما تحدثوا به من أنه لما زار أوروبا في الصيف الماضي، طاف بجميع المفوضيات المصرية هناك، فسل كل ما فيها من «المصاريف السرية» حتى إذا علم أنه قد أتى على كل ما في مفوضية باريس من هذه الأموال، ولم يدع لها قرشا ولا بارة، أرسل تلغرافا إلى مفوضية لندن لتسعفه بكل ما عندها من النقود!
ولقد تعلم أحيانا عن زيور باشا حرصه على مصالح الدولة، على أنك إذا عاتبته على إسراف الحكومة في عهده وابتذالها لأموال الدولة بهذا الأسلوب الفادح، أجاب من فوره: «إن مصر غنية»
l’Egypte est riche .
ولقد تعرف في زيور باشا طيبة في القلب، وسلامة في الخلق، ثم لقد يظهر لك فيه من المكر، وترى له من أنواع الدس ما يعيا بمثله أخبث الشياطين . ولقد ذكروا أنه كلما التقى بسعدي، أنب قومه على اتفاقهم مع «ألد أعدائهم» الأحرار الدستوريين، وإذا أصاب حرا دستوريا، قال له: كيف يصح أن تتحدوا مع أولئك «المجانين المخربين»!
ولقد كان شديد الشكوى من نشأت باشا وبسطة يده في كل مصالح الحكومة، فإذا قيل له: وكيف لا تكفه عن هذا وأنت رئيس الحكومة؟ بسط كفيه ورفع رأسه إلى السماء وأجاب: وهل يستطيع أحد أن يعمل شيئا؟ فلما أقيل نشأت باشا من السراي، جعل زيور يقبل على كل من لقيه يتمدح بأنه هو الذي أخرجه، ووقى البلاد شرا عظيما!
وقد يعرف عنه بعض الناس قلة الخير، ومع ذلك فإن له صاحبا ورفيقا من رفقاء الصبا هو «ص بك غ»، وله ولد يطلب العلم في باريس، فعينه في مفوضية باريس في وظيفة غير موجودة!
وعلى هذا الصديق دين لبعثة المرسلين الأفريقيين في مصر، وقد استبهظ الربح، فوسط في الأمر صديقه زيور باشا الذي قصد إلى روما في تجواله بأوروبا في العام الماضي. ومع ما يعرف عن دولته من أنه خريج مدارس الجزويت، وأنه أخذ عنهم الدهاء والمكر وبعد غور النفس؛ فقد طلب مقابلة قداسة البابا نفسه، وخاطبه في الأمر، وسأله التخفيف من دين صاحبه. والبابا أحاله على وزير خارجيته الكاردينال جاسباري، وبعد أن سمع هذا من رئيس وزراء مصر، كل ما أراد أن يقول، هز كتفيه وقال له:
Bilinmeyen sayfa
Chi recevato paga
أي: «على من أخذ أن يدفع.» وكان على زيور باشا أن يعرف ذلك!
تلك بعض آثار هؤلاء الذين يدعونهم زيور باشا، فإذا تمثلوا شخصا وبدوا للعيون رجلا واحدا، فذلك مصداق قول أبي نواس:
ليس على الله بمستكر
أن يجمع العالم في واحد
وإن أهل مصر ليأخذون زيور باشا كله بما لا يحصى من الجرائم على القضية الوطنية، وإنهم ليعدون عليه سفهه في أموال الدولة واستهتاره بمصالحها. وإنهم ليحسبون عليه إيثاره الأهل والأقربين، والأصحاب والمحبين، وذوي أرحامهم بمناصب الدولة ومنافعها. وقد يكون لمجلس النواب مع هؤلاء الرجل شأن إذا أقبل يوم الحساب!
وإن ظلما أن يؤخذ البريء بجريرة الآثم، وإن عسفا أن يعاقب المظلوم بما أجرم الظالم، فقد يكون الذي اقترف كل هذه الآثام هو كوع زيور باشا الأيسر، أو القسم الأسفل من «لغده»، أو المنطقة الوسطى من فخذه اليمنى، أو غيرها من تلك الكائنات التي تجمعت في هيكله العظيم، فما شأن تلك المخلوقات كلها تجر إلى مواطن الاتهام، وتعاقب بما ارتكب بعضها من الجرائر والآثام؟!
إن الحق والعدل ليقضيان أن يؤلف مجلس النواب، إن شاء الله، لجنة تقوم بعمل التحقيق في جسم صاحب الدولة، فتسأل أعضاءه عضوا عضوا، وتحقق مع أشلائه شلوا شلوا، حتى يفرق منها بين المحسن والمسيء، ولا يخلط في العقوبة بين المجرم والبريء.
ولعل العضو الوحيد المقطوع ببراءته من كل ما ارتكب من الآثام هو مخ زيور باشا، فما أحسبه شارك ولا دخل في شيء من كل ما حصل! •••
وبعد، فإذا كان هناك وصف جامع وخلة مشتركة لهذه الخلائق التي تجمعت لجسم زيور باشا، حتى انتظمت فيه شعبا واحدا، فذلك أنه قسيس جزويتي في جلد رئيس وزراء مصري، فقد تربى زيور باشا في مدارس الجزويت كما قلت لك، وتخرج عليهم وتخلق بأخلاقهم. فإذا رأيت في طبعه سهولة، وفي نفسه بساطة، فذلك لبعد غوره حتى ليخفى عليك ما في نفسه من مكر ودهاء!
Bilinmeyen sayfa
وفيه صفة أخرى جامعة أيضا، هي شدة احترامه «للبرنيطة»، وعمله على إرضائها بكل الوسائل، فما عرف أن زيور رد في حياته طلبا «لبرنيطة» مهما كان حاملها في الناس، حتى لقد زعموا أن بعض كبار علمائنا الأعلام، مصابيح الدجى وعمد الإسلام، بعدما أعياه الكد والجهد وشدة الطلب، والسعي وطول الوقوف بالأبواب، والتردد بين مختلف الأحزاب، في سبيل وظيفة خالية، عزم أخيرا على لبس القبعة لعله يحظى في هذه الأيام
1
بمعونة زيور على إفتاء الديار أو مشيخة الإسلام، ومولانا الشيخ المذكور بوجه خاص، لا يعدم ألف فتوى من الشريعة، تحل له هذه الذريعة.
عدلي يكن باشا
أسمر اللون في شحوب، إلا أن ما يخالط سمرته من صفرة حلو مستعذب. يمتاز بقليل من الطول وكثير من العرض، فهو بعيد ما بين الكتفين حتى لتعرفه موليا كما تعرفه مقبلا. مستوي معارف الوجه، حديد البصر، إذا قدر لك أن يحدق فيك، شعرت أن نظره لا يستقر على سطحك، بل إنه ليتغلغل في أطوائك، ويصل من نفسك إلى كل ما تضن به على الابتذال، وادع ساكن، تتجلجل الدنيا من حوله وهو ثابت ثبات الهرم الأكبر. ولقد تجلس إليه تحدثه في شئون الدنيا، فتطالعه بأجل أحداثها، فلا يتقبض ولا يختلج،
1
إلا أنه يستلقي على كرسيه ثم يدس يسراه في جيبه ويدير بيمناه رزمة من المفاتيح. وتحسب أن ذهنه ليس عندك، إذ هو عندك كله لا يفوته من حديثك قليل ولا كثير.
وكانت لجنة الدستور، وزاره بمحضري رجل من أعضائها، فسأله: ماذا صنعتم اليوم؟ فقال له: كنا نتناقش في موضوع «كذا». فاستوى عدلي على كرسيه، ولبث ساعة يتدفق بالحديث في ذلك الموضوع، ويورد كل مذاهب علماء الدستور فيه، يعلل كل رأي، ويوجه كل مذهب في بلاغة وفصاحة قول ودقة تعبير، وخرجنا وصاحبي يضرب كفا بكف، ويزعم لي أنه لو حلف بكل مؤثمة من الأيمان أن عدلي كان حاضر لجنتهم، ما حنث ولا أثم!
شديد القصد في حديثه، فإذا أذن الله وتكلم، فهو حلو الحديث، رخيم الصوت، بارع المطلع، رائع المقطع، يصيب المحز ويقع من فوره على اللباب. تشعر أنه خلص إلى الغاية، وأصاب من النزاع، دون أن يعلق بقوله شيء من وضر الجدل، وما لا تدعو إليه حاجة الكلام.
لا معني بكل شيء ولا
Bilinmeyen sayfa
كل عجيب في عينه بعجيب
لعل عدلي قد جاوز الستين، وأحلف بدوري أن مصر لو كانت عاشت عيشا طبيعيا خاليا من الأحداث والعظائم، ما كان له في الدنيا أثر، ولا جرى له على لسان جمهرة المصريين ذكر ولا خبر، فلقد نجم عدلي باشا في مناصب الحكومة كما نجم غيره من الناس موظفا صغيرا في وزارة الداخلية، وما برح يتقلب في فنون الأعمال العامة حتى أصبح وكيل مديرية، فمديرا، فمحافظا للعاصمة، فمديرا لديوان الأوقاف ، فمتقاعدا في داره، فوكيلا للجمعية التشريعية، فوزيرا للمعارف، لا يمتاز في شيء من ذلك إلا بالنبل والكبر على الصغائر، والترفع عن سفساف الأمور، وكل ما كان له فيما عالجه من الأعمال من صحة الرأي، وصدق التدبير، وحسن التنظيم، فما كان ليذكر له شيء منها إلا بألسن من شارفوه ومن عملوا معه. أما عظمة عدلي وأما شهرته الخالدة على الزمان، فهو مدين بهما للجلى وللأحداث العظام، فلولا جسيمات الأمور؛ لكان عدلي رجلا مدرجا في عداد سائر الرجال.
ولقد كان وزيرا للمعارف في وزارة رشدي باشا في سنة 1918، وتهادنت الدول المحتربة الهدنة العامة، وشمرت لعقد الصلح، وتوقع المتطيرون أن تكون مصر من حصة إنجلترا في سلب تركيا المقهورة، فنهض رشدي ومعه صاحبه عدلي وناجيا الإنجليز بأنهما يريدان أن يشخصا إلى إنجلترا؛ ليراجعاها في حقوق مصر التي ضحت بما ضحت من الرجال والأموال في نصرة قضية الحلفاء. وتثاقل الإنجليز عنهما وتعللوا باشتغال ساستهم عن لقائهما بالاستعداد لمؤتمر الصلح، وخاف رشدي وعدلي أن تفلتهما الفرصة، وكرها الصبر على الهضيمة، فنفخا في الحركة الوطنية من روحهما القوى، وراحا يؤازران الوفد المصري ويشدان عضده من جهة، ويشرعان الإضراب للموظفين، ويستحمسان الجمهرة من جهة أخرى، حتى كان من أمر النهضة المصرية في سنة 1919 ما كان. وتلك أولى عزائم عدلي التي يحصيها له الجمهور.
وهبط ملنر مصر والوفد قائم في باريس، ودارت اللجنة هاهنا وهاهنا لعل أحدا يعاطيها أو يقاولها، فاستمسك الناس كلهم عنها، ولم يواتها منهم أحد، فعاذت في النهاية بالثلاثة الأعلام: رشدي وعدلي وثروت، فصارحوها بأنها إن أرادت الجد، فلا تفاوض في شأن مصر غير الوفد، فلتمض إلى باريس فهناك الحديث، أما في مصر فلن تجد مهما طال بها المقام، ثلاث قطط تحدثها في شأن البلاد!
وانكفأت لجنة ملنر إلى لندن، واستشرفت حقا لمفاوضة الوفد، إذ الوفد لا يتحول إلى لندن دون أن يستبين موضع خطوه، ويريد، وبين يديه رجاء أمة، أن يعرف فيم مذهبه وأين يقع حديثه، وكيف تكون غاية أمره. فدارت الأنظار كل مدار ، فلم تقع لهذا المهم إلا على عدلي، فدعاه الوفد فلبى الدعاء وشخص إلى باريس فلندن، فمهد الطريق، ووطأ أكناف السياسة هناك، وكان خير معوان للوفد على أداء مهمه الخطير.
وألف الوزارة في صدر سنة 1921، وشخص إلى لندن في وفد رسمي، وفاوض كرزن وأدلى إليه بحقوق مصر وأمانيها كلها، وأبى أن ينزل على ما أراد الإنجليز أن ينزلوا مصر عليه، فقطع المفاوضة، وعاد من فوره مرفوع الرأس، موفور الكرامة. وما كادت تستقر قدمه، حتى استقال من منصب الوزارة استقالته الكريمة النبيلة.
واليوم وقد تحرجت الأمور، وتصدت القوة بكل ما عندها لتنال مصر، فلا يلتفت زعيمها الأكبر إلا إلى صديقه عدلي. وكذلك كان شأن عدلي دائما تلتفت مصر إليه كلما نزلت بها الأحداث الجسام.
وبعد، فلقد تحسب عدلي رجلا عظاميا تلقى المجد عن آبائه العظام الفاتحين. والواقع أن عدلي يكن رجل عصامي بأجمع معاني الكلمة، وقد لا يعدله في عصاميته هذه رجل آخر في البلاد.
فأنت تعرف أنه ابن نعمة، نشأ في الحسب، وتقلبت أعطافه في الترف، وأغناه الله عن طلب العلم وكدح الذهن ومطاولة حوادث الدهر، ولداته
2
Bilinmeyen sayfa
كثير، وأكثرهم - وبخاصة في الزمن الذي نجم فيه عدلي - لا يقع على هواه إلا على مهارشة الديكة، ونطاح الكباش والملاعبة بالحمام، ومعاشرة المتبطلين، والافتنان في وجوه اللذات، والغباء الكامل عن كل ما يعني البلاد، فهل صدقتني أن عدلي رجل عصامي حقا؟ إذ خرج عن هذه البيئة، فكون نفسه كل هذا التكوين، وعارك من الحوادث ما عارك حتى أصبح من أعظم الذخائر التي تعتد للجلى في البلاد؟ وحسبه ما وصفه به صحفي من أكبر الصحفيين في أوروبا: إنك حين تلقى عدلي باشا فكأنك في حضرة أعظم الوزراء في «دوننج استريت»
3
أو في «كيدروسيه».
4
وإن من يعرفون عدلي ليعدون له عيوبا، ويحصون عليه آثاما وذنوبا، وسبحان من تفرد بالكمال.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
فهم يحسبون على طباعه أنه ما برح «ابن ذوات» فهو قليل الاتصال بالناس، شديد التحفظ بنفسه عنهم، لا يزورهم ولا يستزيرهم ولا يستريح إلى مجالستهم. ومهما توافى له إنسان وتعلق بحبه، فهو لا يطالعه بالهناء إذا دخلت عليه نعمة. ولا بالمواساة إذا مسه الضر. ولا يعوده إذا مرض، ولا يشيع جنازته إذا مات! وإذا طلبه صاحبه لحاجة عامة أو خاصة حيره وشتت سعيه، فإذا أراده في البيت قالوا له في «الكلوب»، وإذا وثب إلى «الكلوب» قالوا في البيت. ويحلفون على أن اقتحام قلعة للألمان وقت الحرب العظمى أيسر من زيارته في بيته!
ولو قد كتب لي أن أصبح هيئة سياسية، واحتجت في شأن البلاد إلى سعي عدلي باشا، لوكلت به «عصبة» من أولاد البلد، أولي القوة والفتوة، فتسلموه في صباح كل يوم، وأرادوه على المشي ساعتين في الأحياء الوطنية، وأكرهوه على أن يفشي السلام، ويومئ بالتحية لكل من لقيه؛ حتى إذا جهد به ردوه فأجلسوه في البهو، وفتحوا الأبواب بين يديه، وكلما دخل عليه زائر بعثوا وجهه بالهشاشة، ويديه بالتحية، ولسانه بنحو: «أهلا وسهلا ومرحبا. زارنا النبي. شرفتنا. آنستنا ...» إلخ، ثم صفق بيديه فدعا بالقهوة وعرض على الزائر «نرجيلة»، فإذا ردها، قدم له سيجارة فسيجارة فثالثة. فإن كان الضيف موظفا سأله عن عمله ودرجته ومرتبه، وأظهر له التوجع على تأخره وتقدم أقرانه، وإن كان زارعا أقبل عليه فسأله عن القطن وما عسى أن يكون قد اعتراه من الآفات، والمناوبات وشح المياه ومناطق الأرز وإطفاء الشراقي وسعر كيلة البرسيم اليوم! ... وإذا حضر وقت الغداء - وهنا الكلام - وهم الضيف بالانصراف، أمسك بطرف ثوبه وعزم عليه ليتغدين معه. وحلف جاهدا أنه لا يجد في ذلك كلفة، ولا يتجشم في سبيله مشقة. وأنا بعد ذلك ضامن لدولة الباشا أن الضيف منصرف غير لابث، معتلا بالمرض وضعف البنية، أو بالضيف ينتظره في داره، أو غير ذلك من وجوه التعاليل، ولا يحتمل الباشا من هذه «الكركبة» كلها إلا حسن الذكر وسيرورة الأخبار، بما له من رائع الآثار، فإذا ذكرت الشجاعة قالوا إنه عنتر عبس ، وإذا ذكر الحلم حلفوا أنه الأحنف بن قيس، وإذا عرض حديث المكارم، أقسموا أنه أجود من حاتم، فإذا كان الكلام في الفصحاء والمقاول زعموا أنه أخطب من سحبان وائل.
فأما إذا ظل سابحا في السماء، فما أقل حظ أهل الغبراء من عدلي باشا في الزعماء.
Bilinmeyen sayfa
سعد زغلول باشا
رزقه الله بسطة في الرزق والجاه، فهو ملء العيون، ملء الصدور. بلغ في دنياه ما دون التحية،
1
وأدرك ما وراء الأمنية. إذا غشي مجلسا وفيه قوم جلوس، رأى القوم أنفسهم وقوفا ولم يريدوا، وتنحوا عن الصدر ولم يقصدوا، وخاطبوه بالرياسة ولم يتعمدوا، ورأى سعد نفسه رئيسا ولم يتطلع. فما جلس سعد مجلسا فأقيم عنه لغيره. وكذلك كان يقول الأحنف عن نفسه. فسعد طالب العلم الخامل الذي لا يعرفه غير شجرائه، وسعد الزعيم النابه الذي تعرفه الأعاظم والعظائم سواء.
إذا وقف سعد يخطب الناس، وثبت الألفاظ من مكامنها، وأسفرت المعاني عن وجوهها، وتغايرت في السبق إلى ذهنه ولسانه، فلو أن كاتبا كتب ما يرتجله ذلك الخطيب؛ لوقعت منه على أسلوب سري رائع ينقطع دونه تنميق الأقلام. فإذا جلس سعد إلى الإنشاء، وقعت منه على أسلوب لا يغبط عليه كاتبه، فلو أن حالفا حلف أن سعدا الخطيب هو غير سعد الكاتب لبرت يمينه.
يطلع سعد على الناس وهم يرتقبون طلعته ارتقاب المدلج
2
الحائر طلوع القمر، فيدانيهم وهو يكاد يتهدم ضعفا، على وجهه تجاعيد من أثر السنين، فلا يكادون يتلقونه بالتهليل والتصفيق حتى ترى ذلك الشيخ وقد طوى ماضيه القهقرى فالتقى بشبابه وكأنما وثب من الشيخوخة إلى الصبا، وإذا بتلك التجاعيد وقد امحت، وتلك الأسارير وقد أشرقت، فيخطبهم ما يشاء، حتى إذا أفاق من سكرة ضعفه وأسكر سامعيه بخمر فصاحته، انكفأ بين التصفيق والهتاف إلى داره، فقضى فيها ساعة أو ساعتين من ساع الشباب، ثم عاوده الضعف شيئا فشيئا حتى يدخل في شيخوخته كما كان. ومن لم يعرف ذلك الرجل العظيم الذي علت سنه وتكامل تمييزه ولم يلابسه في أطوار حياته، لا يشك في أنه إنما كان يتمارض «أو يتصنع المرض كما يقولون.»
ارتاح سعد لمهنة المحاماة لأجل الخطابة، وارتاح للزعامة لأجل الخطابة، وهو يرتاح لكل ما فيه منفذ للخطابة. ولا غرو، فقد من الله عليه بموهبة عظيمة لا يمن بها على كثير من عباده، فهي لا تفتأ تتطلع للظهور فأنى أصابت منفذا أطلت منه، فلو أنك عرضت على سعد ملك الرشيد على أن يهجر الخطابة لنأى عنه بجانبه، ولرجع مهرولا إلى الزعامة، فإن أفلتته فإلى المحاماة.
نقل إلي بعض خاصته الذين يحجبون بابه أنه استأذن يوما لوفد من الوفود، وكان سعد في ذلك اليوم لقس
Bilinmeyen sayfa
3
النفس، متبرما بالناس لكثرة ما لاقى منهم، فقال له: اعتذر، فقال إنهم يلحون، قال: فأذن لهم على أن يسلموا وقوفا وينصرفوا، فأدى إليهم الرسالة ودخلوا، وأقسم لي الحاجب أنهم لبثوا في حضرته ساعة وبعض ساعة وهو لا ينقطع عن الخطابة.
كنت بحضرته يوما، وقد مثل أمامه وفد من الوفود فمد بصره إليهم، وقال: من خطيبكم؟ فلما لم يصب فيهم خطيبا كاد يعرض عنهم لولا حاجته إلى مناصرتهم.
لذلك تقربت إليه الوفود بالخطباء، وشاع في نفوس النشء حب الخطابة تشبها بسعد، فكثرت الخطباء، وفي كثرتهم مظهر من مظاهر النهضة الوطنية المباركة، فسعد مدرسة لا تقفل أبوابها، يؤمها الطلاب من أنحاء القطر.
إنه يتشدد في الحق ولا يترخص فيما يعتقد أنه حق، ذلك كان شأنه قبل الزعامة، فلما ملك يومه وأصبح الزعيم الأكبر، أبت عليه طبيعة السياسة أن يأخذ دائما بذلك التشدد، فهو إذا وقفت به الحربية بين الصواب وبين هوى العامة، لا يلبث أن يعدل إلى الثانية تمكينا لسلطانه عليهم. يفعل ذلك، وهو يعدها في نفسه على نفسه قبل أن يعدها خصومه عليه.
ودعاك حسدك الرئيس وأمسكوا
ودعاك خالقك الرئيس الأكبرا
خلفت صفاتك في العيون كلامه
كالخط يملأ مسمعي من أبصرا
نزل سعد إلى ميدان السياسة وهو يظن أنها كالقضاء سبيلها الحق والعدل، فلما خاض غمارها ورأى ما راعه فيها من أساليب المداجاة وأفانين الخداع هم بالنكوص. لولا أن إيمانا رسخ في قلبه ويقينا ملأ أنحاء نفسه ، أن صاحب الحق هو صاحب الغلب، حملاه على الثبات فتدرع بهما، ووطن نفسه على الكفاح، وقصاراه أن يشهد بعينه دستور مصر وقد سلم لمصر، وأن يرى وطنه مستقلا تحت ظل الله، فهو يعمل لهذا المقصد الأسمى. ولشد ما يتكئ في هذا العمل على نفسه، وما كان ذلك لضعف في ثقته بمن حوله، ولكنه رجل قد بني على الجد والعمل.
Bilinmeyen sayfa
أبت الناس إلا أن سعدا ضيق الصدر. وكيف لا يضيق صدره وإن كان رحيبا وهو مدفوع بحكم الزعامة أن يقابل كل من يصبه عليه أفق السياسة من الزائرين والقاصدين. وفيهم ثقيل الظل جامد النسيم، والملح الذي يكاد يستل بإلحاحه خيط النخاع، والمتربح بزيارته، وذلك الذي تخرج من حديثه ركضا إلى طبيب الآذان، وذلك الذي يقتلع الكلام من فمه اقتلاعا حتى لكأن نفسك تطلع منه على حشرجة، لا على استماع حديث. دع الجاهل المتصدر، والأمي الذي يدعي فهم ما غاب عن بسمرك من السياسة، وما خفي على نابليون في تعبئة الجيوش من الكياسة. وإن جلسة واحدة إلى الشيخ «فا ...» لتبغض الحلم إلى الأحنف، ولتزهد الزعيم في كرسي الزعامة. ولو أن أعداءنا فطنوا لذلك، لرموا سعدا في كل يوم بمثل هذا البغيض حتى يفر من الميدان، ونخسر بفراره قضية الأوطان.
دخل عليه ذات يوم في داره بمسجد وصيف شاب من المفتونين، فسلم عليه سلام الأكفاء، وجلس معه على بساط المساواة، ولم يحتشم ذلك المفتون في جلسته، فقد جعل يصفر بفمه ويلاعب الجو بسلسلة ذهبية كانت في يده، ولما قضى شهوته من العبث بحضرة ذلك الشيخ الجليل، التفت إليه وقال: يقولون إنك خشن الملمس، قريب الغضب، ولا أرى فيك إلا حليما. فأجابه سعد وعلى فمه ابتسامة الكاظم لغيظه: وكأنك ما جشمت نفسك السفر وجئت لي إلا لتستثير غضبي! قم فلست هناك.
وزاره في بدء الحركة الوطنية أحد المتطرفين، فتجادل في أمر من الأمور وحمي الجدال، فأغلظ المتطرف القول، فقال له سعد: أتجبهني بمثل هذا وأنت في بيتي ! قال: لم أكن في بيتك! قال: ففي بيت من إذن؟ قال: في بيت الأمة. فسري عن سعد وقال له: صدقت إنه بيت الأمة! ومن ذلك الحين أصبح بيت سعد بيت الأمة.
وإن صدرا يتسع لما يضيق عن بعضه صدر الدهر لخليق أن يسمى حامله حليما.
وهو كثير الذهاب بنفسه، ولم يجئه ذلك من ناحية الزهو كما يزعمون، ولكن جاءه من ناحية التمكن من النفس.
جلس إليه أحد أقرانه، وكانت بينهما وحشة لشيء قد بلغه عنه، فقال له سعد وهو يحاوره: اعلم يا هذا أنني معجب بنفسي، وكيف لا أعجب بنفسي وأنا لا أرى من يعمل غيري.
يسره أن يؤكل طعامه، وأن تغشى داره، ولكن قلما يسره أن يخالف رأيه، اللهم إلا إذا لمح بعين بصيرته أن من وراء تلك المخالفة إجماعا.
يجلس سعد إلى مناظره وفي يد مناظره الحجة قائمة، فلا يزال به يستلها من يده شعرة شعرة، حتى تصير الحجة في يد سعد فيقيمها على مناظره.
يسوءه النقد إلا إذا كان نزيها، وأنى لهذا البلد بالنقد النزيه! إن سعدا يكلف الناقدين شططا، أنسي أن نصيبه من ذلك نصيب كل نابغة مشهور، وكل عظيم مذكور. وقد جاء في الأمثال: إذا قيل عنك إنك نابغة، فودع الراحة.
نشأ سعد وفي ثوبه عظيم، كان في المحاماة رأس المحامين، وكان في القضاء رأس القضاة، وكان في الوزارة رأس الوزراء، ولم يكن في كل أولئك بالرئيس الرسمي، اللهم إلا في وزارته الأخيرة.
Bilinmeyen sayfa
فسعد عظيم وهو ابن عشرين، وفوق العظيم وهو ابن سبعين. وقد قال أديب من صفوة أدباء مصر:
عظماء الرجال أمثال الجبال، لا تنتقص الكهوف ما لها من العظمة والجلال.
حافظ إبراهيم
عبد الخالق ثروت باشا
لطيف الحجم، دقيق الجسم، لولا بدونة دخلت عليه في السنين الأخيرة، طلق الوجه، عذب الروح، فكه الحديث. ولو أنه قدر لك أن تصحبه عشرين عاما دون أن يقيض لك اسمه، ما عرفت قط أنك في صحبة هذا الذي لا يبلغه العجب.
ويترك في الدنيا دويا كأنما
تداول سمع المرء أنمله العشر
فلقد تحضر مجلسه ، فيقبل عليك يحدثك فلا يرتفع بك إلى نفسه، وإنما يتدلى بكل حديثه إلى نفسك، فتراه يدارجك في قولك، ويكلمك من جنس كلامك، ويباريك على قدر فهمك حتى تنصرف عنه وقد هيأ لك وهمك أنه مثلك، هذا إذا لطف الله بعقلك فلم يهيئ لك أنه دونك!
وإنه إذ يتحدث إليك لتختلج معارف وجهه حتى ليتمثل لك في شخص تلميذ في السنة الرابعة الابتدائية! وإن حدقتيه لتضطربان في حركة أفقية، على أنك لو تفطنت لأدركت أنها ليست حركة الحائر المتردد، بل إنها لحركة المتعرف المتقري الذي يريد أن يستل منك ذات نفسك. وإنه ليجسها من جميع أقطارها؛ ليبلوها أيها أهون عليه.
ولقد يخيل إليك لطف ثروت، وتبسطه في حديثه معك، أنك مستطيع أن تدسه في جيبك، إذ هو قد دسك من أول المجلس تحت نابه! فاحذره أطلق ما يكون وجها، وأنعم حديثا.
Bilinmeyen sayfa